«لا بُدَّ مع ذلك أن يسمع الإنسان أقاويل المختلفين في كلِّ شيء يفحص عنه، إن كان يجب أن يكون من أهل الحق». أبو الوليد بن رشد
نستطيع أن نقول إنَّ ابن رشد فيلسوف “الفصل” بلا منازع. فهو يرى أوَّلاً في شخصه “شخصَّيتين ثقافيَّتين” متمايزتين: الفيلسوف والفقيه، ثمَّ هو ينادي بالفصل بين ما للعلماء «أهل الفطر الفائقة»، وما للعامَّة، وأخيراً فهو يدعو إلى الفصل بين هذه العامَّة، وبين الخوض في المسائل الكلاميَّة.
فيما يخصُّ النقطة الأولى، نحن نعلم أنَّ صاحب “فصل المقال” يُشكِّل حالة تكاد تكون متفرِّدة في تاريخ الفلسفة في الإسلام، وهي جمْعُهُ بين الفقه والفلسفة. فقد كان شارحُ أرسطو في الوقت ذاته مصنِّفاً لـ”بداية المجتهد ونهاية المقتصد”، يمارس القضاء، ويتمتَّع بمكانة اجتماعية لم يكن ليستمدَّها من حيث هو فيلسوف. كما حاول ردَّ الفلسفة إلى أصولها، وانتقاد مختلف التحريفات التي تعرَّضت لها من قِبَل فلاسفة الإسلام وشُرَّاح أرسطو.
لم يكن ابن رشد ينظر إلى هذا الجمع بين الفقه والفلسفة على أنَّه “توفيق”، على نحو ما دعا إليه المتقدِّمون عليه. إلا أنَّه لم يكن يرى فيه كذلك ما يمكن أن ننعته بالفصام. إذ إنَّ المقصد في نظره واحد سواء في الدين أو في الفلسفة. فـ«الحقّ لا يضاد الحقّ» والحقيقة واحدة. الاختلاف فقط في من يتوجَّه إليه كلا الخطابين؛ الديني والفلسفي: الشريعة خطاب للناس كافة، أمَّا الفلسفة فهي علم يختصُّ بعقول متميزة هي عقول «الراسخين في العلم»، «أهل الفطر الفائقة».
وعلى رغم ذلك فليس هناك تعارض حقيقي بين المجالين، بل هو مجرَّد تعارض ظاهري. ومهمَّة الفيلسوف هي رفع هذا التعارض عن طريق التأويل: و«نحن نقطع قطعاً أنَّ كلَّ ما أدَّى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، أنَّ ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهذه قضيَّة لا يشكُّ فيها مسلم». إنَّنا إذاً أمام فقيه يشعر بأنَّ نظرة أهل الفلسفة إلى صناعتهم لا تكفي لتعطيها الشرعيَّة، لذا فهو يلجأ إلى إصدار فتوى في المسألة و«بيان حكم الشرع في علوم الأوائل»، ليؤكد أنَّ الدين يوجب النظر العقلي: «وإذا تقرَّر أنَّ الشرع أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئاً أكثر من استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه، […] فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي».
لا يكتفي ابن رشد بإثبات ضرورة الفلسفة اعتماداً على منطق الفلاسفة كما فعل المتقدِّمون، وإنَّما بالرُّجوع إلى المنطق الأصولي. قد يقال كيف تؤسّس صناعة ظنيَّة معرفةً برهانية؟ لكن لا ينبغي أن ننسى أنَّ هذا التأسيس يتمُّ من طرف فقيه يتمتَّع بـ”وجاهة اجتماعيَّة”.
ومع ذلك فإنَّ فيلسوفنا يتشبَّث بـ”الفصل” بين الشَّريعة والفلسفة. فما للفلسفة للفلسفة، وما للشَّرع للشَّرع. الفلسفة لها نظامها المعرفي، لها منطقها. وعيب أصحاب الكلام أنَّهم لم يحترموا هذا “الفصل”، ولم يبقوا على التعارض القائم بين المنطق البرهاني الذي تعتمده الفلسفة والخطاب الجدلي السفسطائي الذي اعتمدوه هم، حيث لم يكن هدفهم بناء الحقيقة وإنَّما التأثير في الخصم وهدم آرائه، «أوقعوا الناس في شنآن وتباغض وحروب، ومزَّقوا الشَّرع وفرَّقوا الناس».
لهذا الانتقاد للمتكلمين وجهان: الأوَّل معرفي، إذ إنَّ العلم الذي يدَّعونه ليس علماً بمقياس الفلسفة، والوجه الثاني يتعلق بالنتائج السياسيَّة التي تنجم عن تعميم قضايا الكلام ليخوض فيها عامَّة الناس. ذلك أنَّ علم الكلام هو نقطة تماس الدين بالسياسة، إنَّه المجال الذي يسمح للدين بأن “يتسيَّس”، فتغدو المسائل الكلامية قضايا سياسيَّة يتصارع حولها “العامَّة”، وهم بالتحديد غير مهيَّئين للخوض في هذه المسائل المعقَّدة، وسرعان ما يقعون في خلافات مفتعلة. لذا وجب «إبطال علم الكلام» لأنَّه منفذ العوام إلى قضايا خِلافيَّة وصراعات سياسيَّة، ومن هنا حملة ابن رشد على الأشاعرة، وعلى الغزالي بصفة أخص.
كيف نسوِّغ هجوم فيلسوفنا على الغزالي في هذه النقطة بالذات ونحن نعلم أنَّ “حجَّة الإسلام” كان قد دعا، هو كذلك، إلى «إلجام العوام عن علم الكلام»، ورأى أنَّه ينبغي أن يترك العامَّة «على سلامة عقائدهم التي اعتقدوها، وتعليمهم الكلام ضرر محض في حقهم، إذ ربَّما يثير لهم شكَّاً، ويزلزل عليهم الاعتقاد»؟
لا اختلاف بين ابن رشد والغزالي في الموقف من العامَّة: فلا علاقة لهؤلاء بالعلم، اللَّهمَّ إلا بالعلم الديني في حدوده الضروريَّة التي يحتاجها المرء ليستقيم دينه. الاختلاف بينهما هو ما يخصُّ من يعنيه كلٌّ منهما بالعلماء. فابن رشد لا يعترف للغزالي بالعلم. فهو في نظره لا يقرُّ له قرار، إذ «لم يلزم مذهباً من المذاهب في كتبه، بل هو مع الأشعريَّة أشعري، ومع الصوفيَّة صوفي، ومع الفلاسفة فيلسوف». لا يعمل فيلسوف قرطبة هنا إلا على ترديد ما سبق أن قاله فلاسفة الأندلس قبله كابن باجة الذي كتب: «وهذا الرجل يبين من أمره أنَّه غالط ومغلط بخيالات الحق»، أو كابن طفيل: «وأمَّا كتب الشيخ أبي حامد الغزالي فهي بحسب مخاطبته للجمهور: تربط في موضع، وتحلُّ في آخر، وتكفر بأشياء، ثم تحلّلها». بل إنَّ ابن رشد يذهب حتى الطعن في مدى اطّلاع صاحب “مقاصد الفلاسفة” على الفلسفة في أصولها: «فإنَّه لم ينظر الرجل إلا في كتب ابن سينا، فلحقه القصور في الحكمة من هذه الجهة».
قد يردُّ البعض بأنَّ الاختلاف بين المُفكِّرَيْن لا يعود أساساً لسوء اطلاع هذا وتبحُّر ذاك، وإنَّما لسبب أعمق، وهو نظرة كُلٍّ منهما إلى الخطاب: فالغزالي ينظر إلى الخطاب في مفعوله (les effets de vérité du discours)، أمَّا شارح المعلم الأول فيكتفي بالنظر إليه في تماسكه وانسجامه المنطقي وحقيقته (La vérité du discours). الغزالي ينشغل بـ”نظام الخطاب”، أمَّا ابن رشد فبانتظامه. يعتمد شارح أرسطو على ما يقوله المعلم الأول في تصنيفه للخطاب، ويرى أنَّه لا ينبغي الخلط بين مستويات الخطاب بل يجب “الفصل” بينها. الخطاب البرهاني ليس من مستوى العامَّة، بل من اختصاص العلماء، وهؤلاء هم الفلاسفة «أهل الفطر الفائقة»، «الراسخون في العلم»، القادرون على التأويل بمعناه العام وليس فحسب بمعناه الفقهي. أمَّا العامَّة فيكفيها الخطاب الجدلي الذي يُقنع الجمهور باعتماده على مقدِّمات مشهورة.
أمَّا بالنسبة إلى الغزالي فليس المهمُّ هو: ما هو أكثر الخطابات حقيقة؟ ومن هو العالِم الذي يتوفَّر على أكثر الصناعات برهاناً؟ لذا فهو لم يكن ليكتفي بالانتظام المنطقي معياراً للحقيقة، لم يقتصر على الوقوف عند الصلاحيَّة المنطقيَّة للخطاب، بل أراد محاسبته من وجهة نظر مفعوله: فعندما يستعرض في “المنقذ” أصناف الطالبين ويقوم بتحليل مختلف الطرق التي انتُهجت في المعرفة، فإنَّه لا يعرض لهذه الطرق من حيث هي مناهج معرفة، وإنَّما يسأل الخطاب، كما يقول، من وجهة «الآفات التي تتولَّد عنه»، فهذه الطرق، في نظر حجَّة الإسلام، حتى وإن كانت تؤدي إلى معارف صادقة في ذاتها، فإنَّ الآفات التي تتولد عنها قد تقود إلى الضلال. وهذا لا يصدق على الفلسفة وحدها، وإنَّما حتى على المعارف الرياضيَّة التي قد تجرُّ البعض «إلى أن يكفر بالتقليد المحض»، أو المنطق الذي «ربَّما ينظر فيه من يستحسنه ويراه واضحاً فيظنّ أنَّ ما يُنقل عن أصحابه من الكفريات مؤيد بمثل تلك البراهين». فالضلال ليس بالضرورة أفكاراً خاطئة، كما أنَّ «الشبهة إذا انتشرت» فإنَّها تعمل عمل الحقيقة.
إنَّ حياة الحقيقة وانتشار الأفكار وانتصارها لا يتوقَّفان في نظر الغزالي على صدقها المنطقي، وإنَّما على السلطة التي تروّج لها. العلم كما يقول “الإحياء” «لا يُذَمُّ لعينه»، والكلام يتخذ معناه من المنبر الذي يصدر عنه. «فإذا نسبت الكلام وأسندته إلى قائل حَسُن فيه اعتقادُهم قبلوه وإن كان باطلاً، وإن أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردُّوه وإن كان حقاً، فأبداً يعرفون الحقَّ بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق». هذا ما يؤكده كتاب “الفضائح”: «فالشيء إذا نسب إلى مشهور بالفضل، يغلب على الطبع التشوُّق إلى التشبُّه به، فكم من طوائف رأيتهم اعتقدوا محض الكفر تقليداً لأفلاطون وأرسطوطاليس وجماعة من الحكماء قد اشتهروا بالفضل وداعيهم إلى ذلك التقليد وحبّ التشبه بالحكماء». إنَّ الألفاظ ذاتها تنطوي على مفعول يتجاوزها كألفاظ. ولعلَّ هذا هو ما يفسِّر إلحاح حجَّة الإسلام على ترجمة لغة المنطق ونقلها إلى لغة “القسطاس المستقيم” نظراً للإيحاء الذي لتلك الألفاظ ووقعها على الآذان والعقول، فقيمة اللفظ ليست في ذاته وفي ما يحمله من معنى، وإنَّما في مفعوله وما يتولَّد عنه.
لعلَّ هذا هو ما يفسِّر كون الغزالي «لا يبقى على حال»، كما يؤاخذه على ذلك ابن رشد. ذلك أنَّه لم يكن ليرى مانعاً في أن يعمد إلى قوَّة الأسلوب وغموضه في بعض الأحيان، وإلى براعة الجدل فلا «ينهض ذابَّاً عن مذهب مخصوص»، بل «يجعل الفرق إلباً واحداً على أعدائه. فإنَّ سائر الفرق ربَّما خالفونا في التفاصيل، وهؤلاء يتعرَّضون لأصول الدين، فلنتظاهر عليهم، فعند الشدائد تذهب الأحقاد».
لم يكن فيلسوف قرطبة ليقنع بهذا الدور المشاغب للفلسفة، ولا ليقتنع بأنَّ هذا هو دور العقل ولا هو دور العالِم، إذ «العالِم بما هو عالم، إنَّما قصده طلب الحق، لا إيقاع الشكوك وتحيير العقول». لذا فقد ظلَّ يعتقد أنَّ ما يقوله الغزالي مجرَّد «أقاويل كلها في غاية الوهن والضعف»، ولا أدلّ على ذلك من كونه سعى هو نفسه في “المنقذ” إلى أن يقيم، إلى جانب الطرق التي يعرضها، طريقاً أخرى للمعرفة مصدرها نور النبيئين والصديقين «فأدوات العبادات كما يقول، مُقدّرة من جهة الأنبياء لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء، بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص بنور النبوَّة لا ببضاعة العقل». إنَّه جحود للعقل كان ابن باجة قد ردَّ عليه قبل ابن رشد عندما كتب: «وهذه الغاية التي ظنُّوها إذاً لو كانت صادقة […] لبقي أشرف أجزاء الإنسان فضلاً لا عمَل له، وكان وجودُه باطلاً».
خلاصة القول إذاً إنَّ صاحب “فصل المقال” كان يتشبث بأنَّ طريق الحقيقة هي الفلسفة بمنطقها البرهاني، وأنَّها تتجسَّد في الخطاب المتماسك الذي يراعي قواعد المنطق ويتولد بفعل آلياته. هذه الحقيقة قيلت واكتملت مع أرسطو. ما يتبقَّى على الفيلسوف هو تطهير فلسفة المعلم الأوَّل ممَّا علق بها من شوائب جرَّاء مختلف التأويلات التي أعطاها إيَّاها الشُّرَّاح، بمن فيهم فلاسفة الإسلام المتقدِّمون. ومن حيث هو فقيه، فقد تجنَّد لبيان حكم الشرع الإسلامي في علوم الأوائل و«بالتخصيص الفلسفة وعلوم المنطق»، بهدف إعطاء شرعيَّة للحقيقة الفلسفيَّة في عالم الإسلام، وإثبات كون «الحكمة صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة». وعلى رغم ذلك فلا ينبغي الخلط بين المجالات، بل تلزم مراعاة “الفصل” بينها: الفصل بين الفقه والفلسفة، بين الأقاويل السفسطائيَّة والجدليَّة وبين الأقاويل البرهانيَّة، بين الجمهور وعلم الكلام، بين ما للعامَّة وما للخاصَّة.
نستطيع أن نقول إنَّ ابن رشد فيلسوف “الفصل” بلا منازع. فهو يرى أوَّلاً في شخصه “شخصَّيتين ثقافيَّتين” متمايزتين: الفيلسوف والفقيه، ثمَّ هو ينادي بالفصل بين ما للعلماء «أهل الفطر الفائقة»، وما للعامَّة، وأخيراً فهو يدعو إلى الفصل بين هذه العامَّة، وبين الخوض في المسائل الكلاميَّة.
فيما يخصُّ النقطة الأولى، نحن نعلم أنَّ صاحب “فصل المقال” يُشكِّل حالة تكاد تكون متفرِّدة في تاريخ الفلسفة في الإسلام، وهي جمْعُهُ بين الفقه والفلسفة. فقد كان شارحُ أرسطو في الوقت ذاته مصنِّفاً لـ”بداية المجتهد ونهاية المقتصد”، يمارس القضاء، ويتمتَّع بمكانة اجتماعية لم يكن ليستمدَّها من حيث هو فيلسوف. كما حاول ردَّ الفلسفة إلى أصولها، وانتقاد مختلف التحريفات التي تعرَّضت لها من قِبَل فلاسفة الإسلام وشُرَّاح أرسطو.
لم يكن ابن رشد ينظر إلى هذا الجمع بين الفقه والفلسفة على أنَّه “توفيق”، على نحو ما دعا إليه المتقدِّمون عليه. إلا أنَّه لم يكن يرى فيه كذلك ما يمكن أن ننعته بالفصام. إذ إنَّ المقصد في نظره واحد سواء في الدين أو في الفلسفة. فـ«الحقّ لا يضاد الحقّ» والحقيقة واحدة. الاختلاف فقط في من يتوجَّه إليه كلا الخطابين؛ الديني والفلسفي: الشريعة خطاب للناس كافة، أمَّا الفلسفة فهي علم يختصُّ بعقول متميزة هي عقول «الراسخين في العلم»، «أهل الفطر الفائقة».
وعلى رغم ذلك فليس هناك تعارض حقيقي بين المجالين، بل هو مجرَّد تعارض ظاهري. ومهمَّة الفيلسوف هي رفع هذا التعارض عن طريق التأويل: و«نحن نقطع قطعاً أنَّ كلَّ ما أدَّى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، أنَّ ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي، وهذه قضيَّة لا يشكُّ فيها مسلم». إنَّنا إذاً أمام فقيه يشعر بأنَّ نظرة أهل الفلسفة إلى صناعتهم لا تكفي لتعطيها الشرعيَّة، لذا فهو يلجأ إلى إصدار فتوى في المسألة و«بيان حكم الشرع في علوم الأوائل»، ليؤكد أنَّ الدين يوجب النظر العقلي: «وإذا تقرَّر أنَّ الشرع أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئاً أكثر من استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه، […] فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي».
لا يكتفي ابن رشد بإثبات ضرورة الفلسفة اعتماداً على منطق الفلاسفة كما فعل المتقدِّمون، وإنَّما بالرُّجوع إلى المنطق الأصولي. قد يقال كيف تؤسّس صناعة ظنيَّة معرفةً برهانية؟ لكن لا ينبغي أن ننسى أنَّ هذا التأسيس يتمُّ من طرف فقيه يتمتَّع بـ”وجاهة اجتماعيَّة”.
ومع ذلك فإنَّ فيلسوفنا يتشبَّث بـ”الفصل” بين الشَّريعة والفلسفة. فما للفلسفة للفلسفة، وما للشَّرع للشَّرع. الفلسفة لها نظامها المعرفي، لها منطقها. وعيب أصحاب الكلام أنَّهم لم يحترموا هذا “الفصل”، ولم يبقوا على التعارض القائم بين المنطق البرهاني الذي تعتمده الفلسفة والخطاب الجدلي السفسطائي الذي اعتمدوه هم، حيث لم يكن هدفهم بناء الحقيقة وإنَّما التأثير في الخصم وهدم آرائه، «أوقعوا الناس في شنآن وتباغض وحروب، ومزَّقوا الشَّرع وفرَّقوا الناس».
لهذا الانتقاد للمتكلمين وجهان: الأوَّل معرفي، إذ إنَّ العلم الذي يدَّعونه ليس علماً بمقياس الفلسفة، والوجه الثاني يتعلق بالنتائج السياسيَّة التي تنجم عن تعميم قضايا الكلام ليخوض فيها عامَّة الناس. ذلك أنَّ علم الكلام هو نقطة تماس الدين بالسياسة، إنَّه المجال الذي يسمح للدين بأن “يتسيَّس”، فتغدو المسائل الكلامية قضايا سياسيَّة يتصارع حولها “العامَّة”، وهم بالتحديد غير مهيَّئين للخوض في هذه المسائل المعقَّدة، وسرعان ما يقعون في خلافات مفتعلة. لذا وجب «إبطال علم الكلام» لأنَّه منفذ العوام إلى قضايا خِلافيَّة وصراعات سياسيَّة، ومن هنا حملة ابن رشد على الأشاعرة، وعلى الغزالي بصفة أخص.
كيف نسوِّغ هجوم فيلسوفنا على الغزالي في هذه النقطة بالذات ونحن نعلم أنَّ “حجَّة الإسلام” كان قد دعا، هو كذلك، إلى «إلجام العوام عن علم الكلام»، ورأى أنَّه ينبغي أن يترك العامَّة «على سلامة عقائدهم التي اعتقدوها، وتعليمهم الكلام ضرر محض في حقهم، إذ ربَّما يثير لهم شكَّاً، ويزلزل عليهم الاعتقاد»؟
لا اختلاف بين ابن رشد والغزالي في الموقف من العامَّة: فلا علاقة لهؤلاء بالعلم، اللَّهمَّ إلا بالعلم الديني في حدوده الضروريَّة التي يحتاجها المرء ليستقيم دينه. الاختلاف بينهما هو ما يخصُّ من يعنيه كلٌّ منهما بالعلماء. فابن رشد لا يعترف للغزالي بالعلم. فهو في نظره لا يقرُّ له قرار، إذ «لم يلزم مذهباً من المذاهب في كتبه، بل هو مع الأشعريَّة أشعري، ومع الصوفيَّة صوفي، ومع الفلاسفة فيلسوف». لا يعمل فيلسوف قرطبة هنا إلا على ترديد ما سبق أن قاله فلاسفة الأندلس قبله كابن باجة الذي كتب: «وهذا الرجل يبين من أمره أنَّه غالط ومغلط بخيالات الحق»، أو كابن طفيل: «وأمَّا كتب الشيخ أبي حامد الغزالي فهي بحسب مخاطبته للجمهور: تربط في موضع، وتحلُّ في آخر، وتكفر بأشياء، ثم تحلّلها». بل إنَّ ابن رشد يذهب حتى الطعن في مدى اطّلاع صاحب “مقاصد الفلاسفة” على الفلسفة في أصولها: «فإنَّه لم ينظر الرجل إلا في كتب ابن سينا، فلحقه القصور في الحكمة من هذه الجهة».
قد يردُّ البعض بأنَّ الاختلاف بين المُفكِّرَيْن لا يعود أساساً لسوء اطلاع هذا وتبحُّر ذاك، وإنَّما لسبب أعمق، وهو نظرة كُلٍّ منهما إلى الخطاب: فالغزالي ينظر إلى الخطاب في مفعوله (les effets de vérité du discours)، أمَّا شارح المعلم الأول فيكتفي بالنظر إليه في تماسكه وانسجامه المنطقي وحقيقته (La vérité du discours). الغزالي ينشغل بـ”نظام الخطاب”، أمَّا ابن رشد فبانتظامه. يعتمد شارح أرسطو على ما يقوله المعلم الأول في تصنيفه للخطاب، ويرى أنَّه لا ينبغي الخلط بين مستويات الخطاب بل يجب “الفصل” بينها. الخطاب البرهاني ليس من مستوى العامَّة، بل من اختصاص العلماء، وهؤلاء هم الفلاسفة «أهل الفطر الفائقة»، «الراسخون في العلم»، القادرون على التأويل بمعناه العام وليس فحسب بمعناه الفقهي. أمَّا العامَّة فيكفيها الخطاب الجدلي الذي يُقنع الجمهور باعتماده على مقدِّمات مشهورة.
أمَّا بالنسبة إلى الغزالي فليس المهمُّ هو: ما هو أكثر الخطابات حقيقة؟ ومن هو العالِم الذي يتوفَّر على أكثر الصناعات برهاناً؟ لذا فهو لم يكن ليكتفي بالانتظام المنطقي معياراً للحقيقة، لم يقتصر على الوقوف عند الصلاحيَّة المنطقيَّة للخطاب، بل أراد محاسبته من وجهة نظر مفعوله: فعندما يستعرض في “المنقذ” أصناف الطالبين ويقوم بتحليل مختلف الطرق التي انتُهجت في المعرفة، فإنَّه لا يعرض لهذه الطرق من حيث هي مناهج معرفة، وإنَّما يسأل الخطاب، كما يقول، من وجهة «الآفات التي تتولَّد عنه»، فهذه الطرق، في نظر حجَّة الإسلام، حتى وإن كانت تؤدي إلى معارف صادقة في ذاتها، فإنَّ الآفات التي تتولد عنها قد تقود إلى الضلال. وهذا لا يصدق على الفلسفة وحدها، وإنَّما حتى على المعارف الرياضيَّة التي قد تجرُّ البعض «إلى أن يكفر بالتقليد المحض»، أو المنطق الذي «ربَّما ينظر فيه من يستحسنه ويراه واضحاً فيظنّ أنَّ ما يُنقل عن أصحابه من الكفريات مؤيد بمثل تلك البراهين». فالضلال ليس بالضرورة أفكاراً خاطئة، كما أنَّ «الشبهة إذا انتشرت» فإنَّها تعمل عمل الحقيقة.
إنَّ حياة الحقيقة وانتشار الأفكار وانتصارها لا يتوقَّفان في نظر الغزالي على صدقها المنطقي، وإنَّما على السلطة التي تروّج لها. العلم كما يقول “الإحياء” «لا يُذَمُّ لعينه»، والكلام يتخذ معناه من المنبر الذي يصدر عنه. «فإذا نسبت الكلام وأسندته إلى قائل حَسُن فيه اعتقادُهم قبلوه وإن كان باطلاً، وإن أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردُّوه وإن كان حقاً، فأبداً يعرفون الحقَّ بالرجال، ولا يعرفون الرجال بالحق». هذا ما يؤكده كتاب “الفضائح”: «فالشيء إذا نسب إلى مشهور بالفضل، يغلب على الطبع التشوُّق إلى التشبُّه به، فكم من طوائف رأيتهم اعتقدوا محض الكفر تقليداً لأفلاطون وأرسطوطاليس وجماعة من الحكماء قد اشتهروا بالفضل وداعيهم إلى ذلك التقليد وحبّ التشبه بالحكماء». إنَّ الألفاظ ذاتها تنطوي على مفعول يتجاوزها كألفاظ. ولعلَّ هذا هو ما يفسِّر إلحاح حجَّة الإسلام على ترجمة لغة المنطق ونقلها إلى لغة “القسطاس المستقيم” نظراً للإيحاء الذي لتلك الألفاظ ووقعها على الآذان والعقول، فقيمة اللفظ ليست في ذاته وفي ما يحمله من معنى، وإنَّما في مفعوله وما يتولَّد عنه.
لعلَّ هذا هو ما يفسِّر كون الغزالي «لا يبقى على حال»، كما يؤاخذه على ذلك ابن رشد. ذلك أنَّه لم يكن ليرى مانعاً في أن يعمد إلى قوَّة الأسلوب وغموضه في بعض الأحيان، وإلى براعة الجدل فلا «ينهض ذابَّاً عن مذهب مخصوص»، بل «يجعل الفرق إلباً واحداً على أعدائه. فإنَّ سائر الفرق ربَّما خالفونا في التفاصيل، وهؤلاء يتعرَّضون لأصول الدين، فلنتظاهر عليهم، فعند الشدائد تذهب الأحقاد».
لم يكن فيلسوف قرطبة ليقنع بهذا الدور المشاغب للفلسفة، ولا ليقتنع بأنَّ هذا هو دور العقل ولا هو دور العالِم، إذ «العالِم بما هو عالم، إنَّما قصده طلب الحق، لا إيقاع الشكوك وتحيير العقول». لذا فقد ظلَّ يعتقد أنَّ ما يقوله الغزالي مجرَّد «أقاويل كلها في غاية الوهن والضعف»، ولا أدلّ على ذلك من كونه سعى هو نفسه في “المنقذ” إلى أن يقيم، إلى جانب الطرق التي يعرضها، طريقاً أخرى للمعرفة مصدرها نور النبيئين والصديقين «فأدوات العبادات كما يقول، مُقدّرة من جهة الأنبياء لا يدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقلاء، بل يجب فيها تقليد الأنبياء الذين أدركوا تلك الخواص بنور النبوَّة لا ببضاعة العقل». إنَّه جحود للعقل كان ابن باجة قد ردَّ عليه قبل ابن رشد عندما كتب: «وهذه الغاية التي ظنُّوها إذاً لو كانت صادقة […] لبقي أشرف أجزاء الإنسان فضلاً لا عمَل له، وكان وجودُه باطلاً».
خلاصة القول إذاً إنَّ صاحب “فصل المقال” كان يتشبث بأنَّ طريق الحقيقة هي الفلسفة بمنطقها البرهاني، وأنَّها تتجسَّد في الخطاب المتماسك الذي يراعي قواعد المنطق ويتولد بفعل آلياته. هذه الحقيقة قيلت واكتملت مع أرسطو. ما يتبقَّى على الفيلسوف هو تطهير فلسفة المعلم الأوَّل ممَّا علق بها من شوائب جرَّاء مختلف التأويلات التي أعطاها إيَّاها الشُّرَّاح، بمن فيهم فلاسفة الإسلام المتقدِّمون. ومن حيث هو فقيه، فقد تجنَّد لبيان حكم الشرع الإسلامي في علوم الأوائل و«بالتخصيص الفلسفة وعلوم المنطق»، بهدف إعطاء شرعيَّة للحقيقة الفلسفيَّة في عالم الإسلام، وإثبات كون «الحكمة صاحبة الشريعة وأختها الرضيعة». وعلى رغم ذلك فلا ينبغي الخلط بين المجالات، بل تلزم مراعاة “الفصل” بينها: الفصل بين الفقه والفلسفة، بين الأقاويل السفسطائيَّة والجدليَّة وبين الأقاويل البرهانيَّة، بين الجمهور وعلم الكلام، بين ما للعامَّة وما للخاصَّة.