لا تخطئ عين قارئ مجموعة "إليكَ أيها الوطن، إليكِ أيتها الحبيبة" (1976)، للشاعر البحريني سعيد العويناتي (1950 - 1976)، مسار اشتغال جل نصوصه، فهي تستلهم مقولها الشعري من سياق الألم والمكابدة، وفي نبرة احتجاجية واضحة تشجب الأحوال وتستشرف الآتي. يَسير ذلك إلى جنب مع سيرة الشاعر الذي امتدّت إليه يد القتل تحت التعذيب، في أواسط سبعينيات القرن الماضي، وهو في عزِّ شبابه وتلمّسه الطريق إلى القصيدة.
من هنا كانت شعرية الرفض والاحتجاج أهم سمة تطبع محتوى نصوصه، إلى جانب الحضور القوي للذات واستنادها إلى السرد، لكنه سردٌ مختلفٌ، يُشَعْرِنُ محكيّه ويلبسه مظاهر الحميمية الرومانسية، وأهم لمحة فنية تلم خيوط هذه النصوص، وتجعلها ذات ميسم شعري متفرد يمكن اختزالها في قصيدة "التفتيش" التي يقول فيها الشاعر:
"في تمام العاشرة
فتشوا بعض أزاهير الحديقة
وجدوا الماء يغني
والعصافير على غصن الشجر
ضحكت زهرتنا الحمراء،
كان القمر الوحشي
يستأنس في الليل الصلاة
وأبي في وسط الحوش
يدير الأغنيات،
وأخي الأصغر يتلو بعض آيات من الذكر الحكيم
وصغار الدار في الأرصفة الدنيا يغنّون الحياة
وأنا متّكئ أقرأ "تولستوي" أحلى الذكريات
في تمام العاشرة
دخل الجند الحديقة..
فتشوا عن بقعة الضوء
ولكن الحقيقة..
وقفت متحدة
وقفت كل أزاهير الحديقة
وقفت كل العصافير الصغيرة
وقف الماء، ونور القمر الطالع وحشيا
وقالوا:
..............
..............
وقف الجندي في الحال
وأقعى مثل من يسرق ضحكات الطفولة...".
بهذه الكلمات التي تمزج ما بين تصوير مشهد عنف يمارس ضد الحياة وما بين الحياة التي تنساب حميمية في حضن الطبيعة، يتمكن الشاعر من تجسيد حسه الرافض، وإعلان احتجاجه على ما يجري في بلده تحت جنح الليل. وعبر هذه البلاغة الشعرية المنسابة في السرد، والمتمكنة من اقتناص اللحظات المنفلتة والمفرطة في كشف المفارقات، يستطيع العويناتي أن يؤثر في متلقيه، ويجعله يدرك فداحة ما يجري من حوله.
إننا أمام أسرة تحيا حياتها اليومية البسيطة في وئام مع الطبيعة والعالم من حولها، وإذا بحملة تفتيش تفسد كل شيء في هذا المشهد. تهدم لحظة الصفاء والسكينة والانسجام الحاصل بين الإنسان والطبيعة بفرمانات غبية، إلى درجة جعلت أشياء الطبيعة تحتج وتنتفض ضد ما يحدث قبل الإنسان.
إن شعرية الرفض والاحتجاج، هنا، ليست خطابية النبرة كما ألفنا في الشعر السياسي، وإنما هي بشكل ما تأمليَّة وتصويرية، تقول مشاعر المبدع وأحاسيسه في لغة إيحائية خالصة، ومن خلال الأشياء المرتبطة بالكائن وبوجوده وحياته.
ونجد في قصيدة "انتهاء عصر النخيل" نفس حالة الرفض والاحتجاج، يقول في أحد المقاطع الدالة في القصيدة:
"..أنت يا نخل بلادي
ها هو العصر جفاك
وغزتك الردة السوداء
والقحط وأوباء الشقاء
وتعريت لأن الغرباء،
أصبحوا سادة العصر،
فاشتاقوا لذبحك،
ولذا أشعلوا النار، وأعماهم رنين الذهب العاقر
في دنيا الظلام..".
تمضي القصيدة على هذه النبرة، بحيث يخاطب الشاعر نخل بلاده، مسترجعاً ذكريات طفولته، وذكريات قريته، وما يمثله النخل للقروي في وطن مُستباح. سكينة واتزان يسمان لغة القصيدة، رغم اللاطمأنينة التي تذبح قلب الشاعر وتؤجج مشاعره الفياضة بالغضب.
على هذا الشكل يبني الشاعر سعيد العويناتي شعرية رفضه واحتجاجه على مشاهد البشاعة، ما جعل جلاديه ينهون حياته ببشاعة، وليغادر عالمنا في مطلع تجربته الشعرية الواعدة شاباً في السادسة والعشرين. إن جل قصائد الديوان تحتفي بالشهادة وتستشرف الاستشهاد رغم أنها تتيح إمكانية لأمل ضئيل في الحياة. يقول الشاعر في القصيدة المعنونة بـ "الطريق المؤدي إلى المهرجان":
"هتفنا الأهازيجَ والنايُ لونٌ يبعثرُ ألحانَهُ
في المساءِ استمعنا الحكايا
حروفٌ تُمزِّقُ إغفاءة الخوفِ فينا،
اقتحمنا حدودَ اجتياحاتنا
والهُتافُ يُعاوِدُ ذكر المجاعةِ
والنَّارِ والظُّلمةِ المُستقرَّةِ بين الشَّواطئِ
هذا طريقٌ يُعَمِّقُ فينا صدى الحلمِ
يخطو بنا،
يكشِفُ الزَّيفَ من وجه طاقيةِ الصَّولجانِ المُخثَّرِ بالظِّل".
من هنا كانت شعرية الرفض والاحتجاج أهم سمة تطبع محتوى نصوصه، إلى جانب الحضور القوي للذات واستنادها إلى السرد، لكنه سردٌ مختلفٌ، يُشَعْرِنُ محكيّه ويلبسه مظاهر الحميمية الرومانسية، وأهم لمحة فنية تلم خيوط هذه النصوص، وتجعلها ذات ميسم شعري متفرد يمكن اختزالها في قصيدة "التفتيش" التي يقول فيها الشاعر:
"في تمام العاشرة
فتشوا بعض أزاهير الحديقة
وجدوا الماء يغني
والعصافير على غصن الشجر
ضحكت زهرتنا الحمراء،
كان القمر الوحشي
يستأنس في الليل الصلاة
وأبي في وسط الحوش
يدير الأغنيات،
وأخي الأصغر يتلو بعض آيات من الذكر الحكيم
وصغار الدار في الأرصفة الدنيا يغنّون الحياة
وأنا متّكئ أقرأ "تولستوي" أحلى الذكريات
في تمام العاشرة
دخل الجند الحديقة..
فتشوا عن بقعة الضوء
ولكن الحقيقة..
وقفت متحدة
وقفت كل أزاهير الحديقة
وقفت كل العصافير الصغيرة
وقف الماء، ونور القمر الطالع وحشيا
وقالوا:
..............
..............
وقف الجندي في الحال
وأقعى مثل من يسرق ضحكات الطفولة...".
بهذه الكلمات التي تمزج ما بين تصوير مشهد عنف يمارس ضد الحياة وما بين الحياة التي تنساب حميمية في حضن الطبيعة، يتمكن الشاعر من تجسيد حسه الرافض، وإعلان احتجاجه على ما يجري في بلده تحت جنح الليل. وعبر هذه البلاغة الشعرية المنسابة في السرد، والمتمكنة من اقتناص اللحظات المنفلتة والمفرطة في كشف المفارقات، يستطيع العويناتي أن يؤثر في متلقيه، ويجعله يدرك فداحة ما يجري من حوله.
إننا أمام أسرة تحيا حياتها اليومية البسيطة في وئام مع الطبيعة والعالم من حولها، وإذا بحملة تفتيش تفسد كل شيء في هذا المشهد. تهدم لحظة الصفاء والسكينة والانسجام الحاصل بين الإنسان والطبيعة بفرمانات غبية، إلى درجة جعلت أشياء الطبيعة تحتج وتنتفض ضد ما يحدث قبل الإنسان.
إن شعرية الرفض والاحتجاج، هنا، ليست خطابية النبرة كما ألفنا في الشعر السياسي، وإنما هي بشكل ما تأمليَّة وتصويرية، تقول مشاعر المبدع وأحاسيسه في لغة إيحائية خالصة، ومن خلال الأشياء المرتبطة بالكائن وبوجوده وحياته.
ونجد في قصيدة "انتهاء عصر النخيل" نفس حالة الرفض والاحتجاج، يقول في أحد المقاطع الدالة في القصيدة:
"..أنت يا نخل بلادي
ها هو العصر جفاك
وغزتك الردة السوداء
والقحط وأوباء الشقاء
وتعريت لأن الغرباء،
أصبحوا سادة العصر،
فاشتاقوا لذبحك،
ولذا أشعلوا النار، وأعماهم رنين الذهب العاقر
في دنيا الظلام..".
تمضي القصيدة على هذه النبرة، بحيث يخاطب الشاعر نخل بلاده، مسترجعاً ذكريات طفولته، وذكريات قريته، وما يمثله النخل للقروي في وطن مُستباح. سكينة واتزان يسمان لغة القصيدة، رغم اللاطمأنينة التي تذبح قلب الشاعر وتؤجج مشاعره الفياضة بالغضب.
على هذا الشكل يبني الشاعر سعيد العويناتي شعرية رفضه واحتجاجه على مشاهد البشاعة، ما جعل جلاديه ينهون حياته ببشاعة، وليغادر عالمنا في مطلع تجربته الشعرية الواعدة شاباً في السادسة والعشرين. إن جل قصائد الديوان تحتفي بالشهادة وتستشرف الاستشهاد رغم أنها تتيح إمكانية لأمل ضئيل في الحياة. يقول الشاعر في القصيدة المعنونة بـ "الطريق المؤدي إلى المهرجان":
"هتفنا الأهازيجَ والنايُ لونٌ يبعثرُ ألحانَهُ
في المساءِ استمعنا الحكايا
حروفٌ تُمزِّقُ إغفاءة الخوفِ فينا،
اقتحمنا حدودَ اجتياحاتنا
والهُتافُ يُعاوِدُ ذكر المجاعةِ
والنَّارِ والظُّلمةِ المُستقرَّةِ بين الشَّواطئِ
هذا طريقٌ يُعَمِّقُ فينا صدى الحلمِ
يخطو بنا،
يكشِفُ الزَّيفَ من وجه طاقيةِ الصَّولجانِ المُخثَّرِ بالظِّل".