أحمد القنديلي - جمالية المكان في الشعر المغربي المعاصر - ج1

ج1

تقديم:
في تحديده لمعنى المكان، يقول الفراهيدي في كتاب العين: "والمكان اشتقاقه من كان يكون، فلما كثرت صارت الميم كأنها أصلية، فجمع على أمكنة" (1). وفي سياق آخر يقول: المكان "في أصل تقدير الفعل مَفْعَل لأنه موضوع الكينونة، غير أنه لما كثر أجروه في التصريف مجرى الفَعال" (2). ولأن المكان موضوع الكينونة، فمن الصعب تصور نص شعري لا يحتويه بصورة من الصور. إنه مكون بنيوي من مكونات الخطاب الشعري. وإذا كان جسد النص في حد ذاته مكانا، وإذا كان الشاعر في حد ذاته مكانا ما دام جسدا يكتب، فإننا حين نقرأ النص الشعري دون أن يباغتنا المكان -بشكل أو بآخر داخله-نكاد لا نجد النص ذاته. "إن العمل الأدبي حين يفتقد المكانية يفقد خصوصيته، وبالتالي أصالته"(3).
غير أن المكان لا يوجد في حد ذاته، فقد يوجد اللامكان مكانه. فإذا اعتبرنا المكان ملأً فاللامكان فراغ. ومؤكد أن ما قد يقوله الملء يقوله الفراغ صورة مضاعفة. إن اللامكان مكان مضاعف.
وعلى الرغم مما يمكن أن يكون من تشابه بين المكان الشعري والمكان الواقعي، بحكم تحكم الخلفية المرجعية في الكتابة كما في القراءة، فإن المكان الشعري يبقى في المقام الأول والأخير متخيلا تشكله اللغة الشعرية التي تخيل كل شيء. وإذا كان الحنين حافزا باطنيا – من بين حوافز أخرى تصنع الكتابة-فإن هذا الحنين حين يدفع الشاعر بقوة إلى استيعاد مكان ما دون غيره، فليس لكي يسترجعه؛ لأنه لا يستطيع ذلك، بل ليخلق منه مكانا آخر بسمات جديدة لا وجود لها في أي واقع. وهذا المكان الجديد يتحول بالرغم منه إلى كائن حي له روح يحيا بها، ويفعل به وفيه الزمن ما يفعله بكل شيء، ويقاوم مثلما يقاوم كل كائن حي من أجل قهر الموت. "إن المكان الذي ينجذب نحوه الخيال لا يمكن أن يبقى مكانا لا مباليا ذا أبعاد هندسية وحسب، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بشكل موضوعي فقط، بل بكل ما للخيال من تحيز"(4). ومن جهة أخرى يصعب تصور المكان فضاء للعيش الفردي أو الجماعي فقط، فبقدر ما يعيش الإنسان داخل المكان، يعيش المكان داخل الإنسان، أما إذا تعلق الأمر بالشاعر الذي ينقل إلينا المكان بواسطة اللغة الشعرية، فإنه لا ينقله إلا بعد عجنه مرتين: مرة بواسطة الذات بمختلف تحيزاتها، وأخرى بواسطة اللغة الشعرية بمختلف انزياحاتها. وخلاصة هذه العملية تجعلنا أمام مكان خاص هو المكان الشعري الذي لا يشبه أي مكان آخر.
وهناك مكان آخر لا يحفل به أي نوع أدبي آخر، الخطاب الشعري وحده يحفل به بقوة ملفتة، إنه المكان البصري أو الطباعي الذي لا يوجد أي شعر في العالم لا يأخذه بعين الاعتبار. وفيما يتصل بالقصيدة العربية استمر الاحتفال بالمكان بصورة نمطية فرضتها قوانين البيت الشعري وشطراه والقافية على الشاعر الذي لم تكن له القدرة على تجاوزها. يبتدئ البيت بفراغ يعقبه الشطر الأول يعقبه فراغ يعقبه الشطر الثاني الذي ينتهي بفراغ. ولقد استمر هذا الوضع الشعري من امرئ القيس إلى بدر شاكر السياب ونازك الملائكة.
ولأن القصيدة الشعرية العربية إلى حدود 1947 استمرت شفوية، فإن الفراغ الذي نتحدث عنه لم يكن بياضا في مقابل سواد، بل صمتا في مقابل كلام. إن "البيت، والحالة هذه، مصطلح غنائي إنشادي مرتبط بالشفوية الجاهلية" (5) التي استمرت تقاليدها قاهرة إلى حدود السياب ونازك. وحين تمكن الشاعر العربي من تجاوز هذه السلطة انفسح له مجال النظر ومجال القول، فتمكن تدريجيا من تجاوز الطابع الشفوي إلى الطابع الكتابي للقصيدة، ومن إعلاء شأن البياض والسواد بطريقة حرة جديدة وصولا إلى القصيدة البصرية التي اعتمدت على "توزيع الأبيات والأسطر والجمل والمقاطع الشعرية والكلمات بطريقة غير عادية داخل فضاء الورق، أو باعتماد أشكال وهيئات مبنية فن الرسم والتشكيل... وهي ظاهرة سبق إليها شعراء فرنسيون عدة، ومنهم أبولينيرفي ديوانه L’enchanteur Pourrissant المنشور سنة 1981"(6).
وتجدر الإشارة إلى أننا سنرجئ دراسة المكان البصري إلى سياق آخر، وسنكتفي بدراسة جمالة المكان الشعري في الشعر المغربي المعاصر. فكيف استحضره الشاعر المغربي؟ وكيف شكله؟ وما الدلالات الإضافية التي أغناه بها من أجل إضفاء سمات خاصة على القصيدة المغربية المعاصرة؟
الشاعر المغربي المعاصر وإشكالية بناء المكان:
من خلال استقرائنا لمجموعة من النصوص الشعرية المغربية المعاصرة برزت لنا مجموعة من الأمكنة الشعرية المهيمنة.
1- مكان الموت:
1-1- عبد الله راجع:
وهذا عصرك يا مهديُّ
فهل سجلت عن الأسماء المغدورة بين أبي رقراق
ودجلهْ
شيئا يتهجاه على الريق مواليد القرن الواحد
والعشرينْ(7).
يبدو المكان في هذا المقطع الشعري فسيحا جدا، يمتد من المحيط إلى الخليج، من أبي رقراق إلى دجلة، وعلى شساعته لا يبدو إلا مكانا للقتل، أما الأسماء المقتولة غدرا فجميعها مرادفة للشهيد المغربي المهدي بنبركة. يأخذ المخاطب المغدور هنا صفتي الشهيد والشاهد، فهو مطالب بتقديم لائحة الشهداء على امتداد هذا الفضاء الجغرافي الفسيح إلى أبناء القرن الواحد والعشرين من أجل تفادي النسيان على الأقل.

1-2- محمد عرش:
...
أسأل بائعة الورد
قرب محطة الحافلات:
أتعرفين إبراهيم أيْت حّو؟
فيختلط الدمع بالعطر:
ماتْ
كل شيء في مكانه
عدا عدّاد الكهرباء
يدل على انقطاع الضوء. (8)
في خاتمة هذا المقطع الشعري يرسم الشاعر فضاء خاليا مظلما ثابتا لا يتحرك؛ لأن لا أحد يوجد فيه ليحركه. أما السر فيكمن في خاتمة الحوار: لقد مات إبراهيم أَيْت حّو تاركا وراءه دمعا مختلطا بالعطر. يتكلم الشاعر بلغة حوارية تكاد تكون تقريرية، ولكنه إذ يقرر يترك تقريره يرسم بدل الشيء أثره الإيحائي الرهيب. إن هذا المزيج من الدمع والعطر لا يمكن أن تصدر منه إلا رائحة الموت، وهي الرائحة التي لا تترك خلفها إلى الفراغ المهول.
1-3- الزهرة المنصوري:
تنفيني جسوري في دفاتر الغياب
وحيدة كما أتيتُ
كحلم مغترب
كرجفة منسية في جفون الموتى. (9)
يقترن فضاء الموت في هذا النص بالنفي والغياب والوحدة والاغتراب والنسيان. إن هذا المعجم المترادف يفضي بالشاعرة إلى فضاء الموت/ جفون الموتى، غير أن الشاعرة لا تقيم فيه جثة هامدة، بل رجفة منسية خارج الحياة وخارج الموت معا وداخل عالم المأساة.
وفي سياق آخر تقول نفس الشاعرة:
حين تعشق الموتى، وتبني لهم خياما في صدرك المشرع للظلمة، أو في مراكب عارية... تكون قد دخلت حجابهم السميك وبهاء المتاهة. (10)
من فضاء الحياة من حيث هو فضاء عشق ترسل الشاعرة خطابها الشعري كي يسمعه الموتى. وبهذا العشق تسعى إلى استدراجهم إلى عالمها، غير أنها لا تلبث أن تجد نفسها مجرورة إلى عالمهم؛ لتدخل حجابهم السميك، ولتستمتع ببهاء متاهة الموت. وبهذه الدورة الكاملة يتحول موقع إرسال الشاعرة من فضاء الحياة إلى فضاء الموت، أي من فضاء الكلام إلى فضاء الصمت؛ الشيء الذي يفضي إلى استحالة الكتابة.
وفي نفس السياق تقول نفس الشاعرة:
مطر، غرفة يتسلل من ضوئها عطر رهيب، هي رائحة الموت؟ أعرفها؟ امتزاج الشمع والخزامى، الماء الثقيل، خراب الصمت، البياض وعراء الجسد …ربما كان هناك-في الغرفة؟ حلم "صغير" أو حكايا غادرتها ...أو طيور السنونو التي حلمت دوما أن أكونها. شغب طفلة اختلست امتداد الجسد في بياضه المخيف، وضوء هادئ لتفاصيل لا تحكى. (11)
تصف الشاعرة ما يستحيل وصفه، إنها تصف الموت، وإذا كان الموت عصيا على الوصف ما دام الموتى وحدهم يستطيعون وصفه بدقة، فقد حاولت الشاعرة وصف رائحته التي "تعرفها" والتي هي عبارة عن عطر رهيب. ولأن رهبة العطر هنا لا تقربنا من معنى الموصوف، فقد اتجهت الشاعرة إلى التشبيه. إن هذا العطر الرهيب يشبه رائحة الشمع الممزوج بالخزامى، ويشبه الماء الثقيل، ويشبه خراب الصمت. وكلها تشبيهات تقريبية تكاد تصل إلى الوضوح لتسقط في الغموض الذي يفضي إلى العجز عن الاستمرار في التكلم، وإلى استحالة الكتابة: "وضوء هادئ لتفاصيل لا تحكى."
1-4- أحمد المجاطي:
وتلتفتين لا يبقى مع الدم
غير نعامة ربداء
وليل من صريف الموت
قص جوانح الخيمة
تصبين القبور
وتشربين
فتظمأ الصحراء
ظمئنا
والردى فيك
فأين نموت ياعمهْ (12)
يتوجه الشاعر بالخطاب إلى القدس التي تلتفت غير مبالية بأي كلام. إنها في غاية القلق؛ لأنها وهي الجريحة وجدت نفسها لوحدها ليس حولها سوى نعامة ربداء تائهة خائفة، ولذلك لا تجد بدا من صب القبور وشربها ليبقى الشاعر وحده تائها لا يرغب في شيء غير الموت دون أن يجده، ودون
أن يجد المكان الذي يمكن أن يموت فيه.
تتجرع القدس الموت/ القبور واحدا تلو الآخر، وإذا كان من المستحيل تصور امرئ يموت إراديا، ثم يموت ثانية وثالثة، فإن الشاعر من فرط يأسه يرغب في ميتة واحدة ولا يجدها.
وفي سياق آخر يقول:
في اللحظة الأخيرة
إذا تلاشى الليل
في سعلته الضريرة
يرفض أن يغسلني الفجر
أو أن تشربني الغمامه
أبقى وراء السيف
والعمامه
ملقى
بلا قبر
ولا قيامه (13)
يعيش الشاعر لحظته الأخيرة وهو في حالة تشتت قصوى، يريد ان يغسله الفجر كي يتجدد عله يبدأ حياة جديدة، لكن الفجر يرفض. يريد أن تشربه الغمامة كي يختفي نهائيا، ولكن الغمامة ترفض. ولذلك يبقى هو وعتاده الحربي البارد/ السيف والعمامة، ملقى هناك على ظهر الثرى بدون قبر وبدون قيامة.
وكما رأينا في النموذج السابق، فإن الشاعر هنا يوجد خارج الحياة، وخارج الموت أيضا. إنه ميت ملقى على الأرض، ولكن بدون قبر، وتبعا لذلك بدون قيامة. إنه اليأس المطلق الذي يفقد كل شيء معناه. "فانت لا تجد في قصيدة السقوط حشوا ولا استطرادا ولا رخاوة، بل سلسلة من التحولات السريعة المتلاحقة المسددة في اتجاه واحد هو الضياع والعدم"(14).
1-5- محمد بنيس:
أيها الساكن في
حفرة صدري
من سيصاحب موتاي الليلة
قبل الفجر
إلى هضبات الضوء
ومن سيسلمني
شيئا
لعبور يتعهده اللمعان(15).
يتوجه الشاعر بالخطاب إلى كائن يقيم في حفرة صدره. وهذا الكائن ليس شيئا آخر غير الفراغ، فبالصدر حفرة يقيم فيها الموت الذي لا يتكلم. وبهذا المعنى فالشاعر لا يتكلم، إنه ميت. من يتكلم إذن؟ يتعلق الأمر بعجز اللغة عن التعبير عن تجربة ومعنى الموت. وحين يستفسر الشاعر عمن سيصاحب موتاه إلى هضبات الضوء لا ينتظر جوابا؛ لأنه يصدر سؤاله من عالم الموت، ولا أحد في عالم الحياة يمكن أن يسمعه. يتعلق الأمر مرة أخرى بسؤال عبثي غير ذي جدوى؛ لأنه سؤال غير منطوق وغير مسموع.
إن الشاعر وهو يتكلم يقيم في مكان برزخي متحرك تملؤه الأضواء، ويقيم فيه الموتى السابقون. أما موتى الشاعر فلا زالوا داخل فضاء الموت، ولم يتجاوزوه إلى فضاء البرزخ؛ لأنهم لم يجدوا من يحملهم إليه. ولذلك نجد الشاعر-وهو المحظوظ المقيم في البرزخ-في غاية الحزن، خارج الضوء، داخل العتمة بسبب غياب أصدقائه الموتى.
1-6- محمد الخمار الكنوني:
ها أنتم تحت الأرض
أ لبعث أو ميلاد آخر من هذا الرحم الأرضي؟
أأقول بعيدا؟
إن الأرض أمامي يا أهلي: موت في موت قبر في قبر
أأقول قريبا؟
فلتقم الأجداث لضوء الشمس
زهورا أو شجرا أو إنسانا(16).
برؤية جنائزية تستحضر روح صوفية شعر المعري، يتكلم الشاعر مستعجلا قدوم القيامة أو قدوم الحياة في دورة أبدية إلى ما لا نهاية. ولكن المعجم المهيمن يبقى حابلا برائحة الموت (تحت الأرض، الرحم الأرضي، الموت، القبر، الأجداث...) بحثا عن خلاص من الموت إلى ما بعده. غير أن هذا الذي بعد الموت يبقى محط تساؤل القصيدة. هل يتعلق الأمر بالبعث يوم القيامة، أم بميلاد آخر الآن؟ وإذا كان الجواب محسوما في شعر المعري، فإن الكنوني لا زال يتساءل، ولأنه يشاهد بكلتا عينيه الأجداث تملأ الرحب، فإنه يدعوها إلى القيام لتخرج من جديد إلى عالم الحياة زهورا أو شجرا أو بشرا. يتعلق الأمر بتناسخ ملتو لا يريد التعبير عن نفسه.
1-7- حسن المراني:
لا شيء غير الموت يا إنسان
الموت في دمشق
في بيروت
في عمّان
الموت في كابول في طهران
الموت في بغداد
في وجدة
في أسيوط
في تونس
في وهران(17)
بلغة يقينية جازمة يتحدث النص عن الموت في مختلف العواصم العربية والمغاربية والإسلامية، دون أن يرى غير ذلك لا الآن ولا غدا.
1-8- محمد الأشعري:
سلاما أيها المنفي في موت بلا شطآن
دعني أنبش القبر الذي ما جف بعد
وأعرض البدلة السوداء
والقميص الناصع
ورِتْقَ الخنجر الدامي
دعني أعيد ملامح الأشياء
حتى لا تموت وراء نسيان التفاصيل (18).
هذا النص مقطع من قصيدة بعنوان "نشيد السحاب المر"، وهي مرثية مهداة إلى الشهيد عمر بنجلون سنوات بعد اغتياله. الشهيد المرثي منفي في فضاء الموت، وهذا الفضاء حيز لا متناه لا تحده شطآن، ولأنه كذلك فإن المقيم فيه ليس شخصا مفردا، إنه شخص متعدد يوجد في كل زمان، وفي كل مكان، وتبعا لهذا فهو غير ميت، إنه حي، وغير نسبي، إنه مطلق. ولهذا السبب تجد في هذا المقطع كل شيء حي: القبر ما زال ثريا يرغب الشاعر في نبشه من أجل استخراج أشياء حية بداخله (البدلة السوداء، القميص الناصع البياض والخنجر الدامي) كي يبقيها خارج دائرة النسيان.
ما يتكلم في هذا المقطع هو الألم المتورِّم الذي يدفع الشاعر إلى الهذيان، فمن أجل تقريع الذاكرة وحضها على عدم النسيان، يبتعد الشاعر عن اللغة التي لن تقول إلا المستحيل، ويرتبط بالفعل الصعب الذي سيمنعه من النسيان: نبش القبر واستخراج ما به من أشياء لها وظيفة الشهادة الدائمة على حدث الاغتيال الذي يخضرّ كلما استمر الزمن.
1-9- عبد الله زريقة:
لا تفتحوا هذا الدولاب حتى أموت. فملابس الموتى هناك. وأخاف أن تسقط أزرارهم قرب رجليّ. أوقدوا النار حتى لا يقربني الموتى. فأنا أخشى الموت كثيرا؛ لأني أسكن في مقبرة.
ويأيها الناس الحاملون الشموع للموتى. تذكروني، فأنا الآخر ميت يحب الضوء. (19)
يخاف الشاعر من الموت والموتى لأنه حي ويرد أن يستمر إلى حين. ولكن أن ترادف الحياة الهلع من الموت، فهذا يعني أنها ليست حياة، إنها أقسى من الموت ذاته. وهذا ما عبر عنه الشاعر بعمق فني كبير: لأني أسكن في مقبرة.
ولأن الشاعر ليس حيا كما يجب، ولأنه ليس ميتا كما يجب، ولأنه يرغب في وضع هيّن فليكن هذا الوضع وضع موت ما: فأنا الآخر ميت يحب الضوء.
إنه الكلام المستحيل، يصدر من موضع يستحيل أن يصدر منه ليحكي عن موضوع مستحيل ما دام غير مدرَ ك وغير مجرَّب.
يتضح من خلال هذه النماذج أن معظم الشعراء تحدثوا بلغة تخييلية عن موضوع متخيل هو الموت. ولذلك فشلوا جميعهم في نقل حقيقة الموضوع؛ لأنهم تحدثوا بلغة المستحيل عن موضوع مجهول. يستطيع الشاعر أن يكتب بحذق عن المعيش، ولكنه يعجز تماما حين يتحدث عن اللا معيش. وفي هذا العجز المطلق تكمن جدارته الإبداعية.
2- المكان الفارغ:
2-1- محمد بنطلحة:
هل أسوّي الرمل؟ أم أنعى فراغ المنزل الصيفي بين سراب موّال يغادر هذه الدنيا وشمس قصيدة في البال تحرق ما أرى(20).
يستعيد الشاعر روح البكائية الطللية في الشعر الجاهلي للتعبير عن مأساة المكان الفارغ، ويساعده المعجم في ذلك (الرمل المسوى، المنزل الفارغ، يغادر الدنيا...) وبفراغ المكان تفرغ ذات الشاعر هي الأخرى، يقف صفر اليدين، يصاحبه اللا أحد وسط أرض محروقة. فهل يمكن في هذه الحالة الحديث عن استمرار صوت الشاعر في المكان؟
2-2- الزهرة المنصوري:
أنبت في زوايا الخواء
في حلم خبّأته يوما لتفاصيل
منافيها
وبعد طول الحنين
منحتني رماد الأمكنة (21)
لا تتحدث الشاعرة عن مكان محدد فارغ، بل عن عالم كامل كل أمكنته فارغة. وهذه الأمكنة كلها زوايا، وهذه الزوايا كلها مقفلة، باب كل زاوية هو الخواء. ولذلك لا يمكن لهذه الأبواب أن تفتح إلا على الهواء أو الهاوية، فلا يوجد مكان مادي خلفها أو قبالتها. وهذا ما انتهت إليه الشاعرة، فبعد طول الحنين لم تجد نفسها أمام أمكنة، بل أمام رمادها.
نحن إذن أمام طلل آخر يتحول فيه كل من العالم والشاعرة إلى فراغ مهول لا تفوح منه سوى ائحة واحدة هي رائحة الريح.
2-3- عبد الكريم الطبال:
أرمل
غائر الصوت
في الطابق الصفر
مستوحش
من رفوف رمادية
وبقايا دخان
لموقده الحجري
وسرير حزين
من سيدق
إذا ما انتهى سفر النمل
بين الترائب (22)
الأرمل من فقد زوجته، وهو المعدم الذي لا يجد ما يأكله، وفي سياق القصيدة هو المستوحش، وهو صاحب الصوت الغائر، وهو المقيم في الطابق الصفر. إنه المعزول في مكان فارغ ولا ينتظر من سيطرق بابه. غير أنه يستفسر عمن سيدق بابه بعد الموت لأنه آنذاك سيكون في أمس الحاجة إليه.
"إذا ما انتهى سفر النمل بين الترائب"
إن من يتكلم في هذا المقطع الشعري هو المكان الفارغ، إنه الفراغ المتكلم في عالم بدو آذان وبدون قلب.
2-4- إدريس علوش:
وأنا
المسافر في غفوة
الظهيرة إليك
كلما اعترتني ضوضاء العشق
أرحل إلى حلمتيك
فكل المدن فلوات
وقلبك أيتها الحبيبة
-منفى-(23)
يرنح العشق الشاعر فيسافر على عجل إلى حلمتي حبيبته، لكنه لا يصل، فالعالم كله فلاة، وقلب الحبيبة فلاة أخرى، وفي الفلاتين معا لا يوجد سوى الفراغ؛ الشيء الذي يعني أن بين الشاعر والحبيبة مسافة انفصال مأساوية.
2-5- خالد الذهيبة:
حين أنظر إلى الحجارة
وجراح الناس والرمال المنسية،
أحمل رموشي إلى دمعتها
حتى أجعل من ذهابي إلى الموت
عادة مستدامة(24)
الفراغ لا يفضي إلا إلى الموت، فحين يتحول العالم إلى فلاة (حجارة، جراح، رمال منسية...) لا يملك الشاعر إلا ان يغوص في قرارة الحزن ليستعد إلى الذهاب إراديا نحو الموت. غير أن الشاعر لم يفكر في الذهاب إلى الموت مرة واحدة لينتهي الأمر، إنه، وهو الحي المهموم بما يراه، يجعل الموت خبزا يوميا يأكل منه كل يوم. وبهذا المعنى يدخل ذاته قسرا في دائرة الفراغ ليستمر في الدوران إلى أن يرغب الموت في إيقاف حركته.
2-6- عبد الرحمان بوعلي:
ها هو الآن بين الشوارع
يرقب موعدنا من جديد
ها هو الآن بين الشوارع
يدخل من ثقب مقبرتي المشتهاة(25).
هذا المقطع جزء من قصيدة مهداة إلى الشاعر العراقي سعدي يوسف الذي عاش متجولا بين شوارع العالم. بين الشاعر المتكلم والشاعر الغائب برزخ يجعل كلا منهما بعيدا عن الآخر، غير انهما يترقبان معا موعدهما الموعود، الشاعر الغائب يطوف الشوارع هناك وهنالك بمفرده؛ الشيء الذي يعني أن الشوارع فراغ مرعب. أما الشاعر المتكلم فيقيم هو الآخر في مملكة الفراغ/ مقبرتي المشتهاة. وحين حان موعد اللقاء دخل الشاعر الغائب من ثقب مقبرة الشاعر المتكلم.
ومؤكد ان الطرفين لم يلتقيا، لقد تواجدا معا في فضاء برزخي واحد كما التزما بذلك، فلا أحد التقى صاحبه أو كلمه، فالفضاء فراغ يستحيل التكلم فيه لأنه بدون آذان.
2-7- محمد عنيبة الحمري:
جمالك ينعش القلب المتيم
والوصل قد يستحيل
أمامي كل المرافئ تهجرها الكائنات
أصيح بسجني حتى الممات
ولا يسمع الصوت إلا الغريب
مخافة رعب الديار(26).
أن يصيح الشاعر المتكلم القابع في سجنه الانفرادي حتى الممات دون أن يسمعه أحد، فهذا معناه أن ما يحيط به هو الفراغ المطلق الذي لا يملأه شيء سوى صفير الرياح. وحده الغريب -الذي يملأ الفراغ غربته هو الآخر-من يستطيع سماعه، ولكن لا قيمة لسماعه؛ لأنه لا يستطيع فعل شيء لإنقاذ صاحبه.
وفوق هذا العذاب الذي سببه الفراغ في السجن الانفرادي، فالمتكلم يعيش عذابا آخر، لقد استبد به عدو آخر هو الحب، ولكن وصل المحبوب مستحيل.
في حضور هذا الانفصال المطلق نجد أنفسنا أمام مأساة الفراغ المطلق الذي لا يستطيع الموت ذاته تمكين الشاعر من تجاوزها.
2-8- أحمد المجاطي:
أنا المنسي
يَسمرُ عند أبوابي نباح الليل
ويرقص في بصيص النجم
ظل من شياطين
تطاول ظل أجنحة الصقور
غفا على بسط البحيرة طحلب
ومشت على عيني
سحائب نشوة بالموت مبلولهْ(27).
عند مقالع الأشجار: في هذا الفضاء المقفر الفارغ يجد الشاعر نفسه منسيا في ليل بهيم ينبح ليثير في كيانه الخوف والفزع. وحين يحاول الشاعر أن يستهدي بنجم يرسل إليه بصيصا من الضوء عله يخفف من شدة ما ينتابه من رعب، لا يلبث أن يرقب ظل شياطين تسعى إلى دفع رعبه نحو حده الأقصى كي يلامس حدود الموت أو حدود الانتحار، في انتظار قدوم الصقور لتفتيت الجسد وجعله في لمح البصر أثرا بعد عين.
ليس أمام الشاعر في هذا الفراغ القاتل سوى الخضوع والاستسلام والتظاهر بالرضى من أجل تخفيف عنف اللحظة، واستقبال الموت بانتشاء قد يفك خيوط مأساة الإقامة المرعبة في هذا الفضاء المقفر المنسي.
2-9- محمد بنيس:
وتفتّح لي ما يوجد تحت السقف
ما ينهض خلف البابْ
وتعلق بي وهج الصوت المخنوقْ
بين القضبانْ
تحت السقفْ
خلف البابْ
فرأيت السجن يطل على سحب حنّتْ
لحديث البحرْ
ورأيتْ
فتدلى من شفتي شجرٌ
أقدام واقفةٌ
تتزاحم في الرئتين وفي العينين وفي ال
قدمينْ(28)
لقد انجر الشاعر في هذا المقطع الشعري إلى لغة السرد التي حملت معها محتوى عجائبيا عبر عن "تجربة حدود قصووية" (29) كما يرى تزيفيتان تودوروف، وقدم أشياء كثيرة مختلفة، متداخلة، منفصلة ومضطربة تثير الرعب في ذهن المتلقي وتدفعه دفعا إما إلى القيء أو إلى الهذيان. يتعلق الأمر إذن بدرجة عليا من درجات متعة القراءة.
يحكي الشاعر مستعملا بقوة أسلوب التكرار من أجل دفع المتلقي إلى تصديق ما رأى باعتباره ليس غريبا، وهذه عجائبية مضاعفة. كما استعمل بقوة أكبر التسكين ليس لضرورة إيقاعية كما يبدو، بل من أجل دفع المتلقي إلى القراءة المتأنية والتوقف مليّا نهاية كل سطر شعري (البابْ، المخنوقْ، القضبانْ، السقفْ، البحرْ، ورأيت...).
يوجد الشاعر المتكلم أمام فضاء سجني فارغ إلا من صوت مخنوق ينبعث منه بين القضبان تحت السقف وخلف الباب. وحين سمع ما سمع رأى ما رأى، لم ير شيئا بين القضبان وتحت السقف وخلف الباب، فلا شيء يمكن أن يُرى؛ لأن لا أحد خلف الباب، فما يوجد خلف الباب هو الصوت المخنوق الذي يسمع ولا يرى، ولأنه صوت حاد وحار يصعب سماعه، فقد تعلق وهجه بالشاعر واستقر في كيانه ليزلزله. وفي خضم هذا الزلزال رأى الشاعر شجرا يتدلى من شفته، وأقداما واقفة تتزاحم في رئتيه وفي عينيه وفي قدميه.
نحن امام لوحة عجائبية مرعبة تنفصل فيها القدمان عن الجسد وتتزاحم بعشوائية في الرئتين وفي العينين وفي القدمين. لنا أن نقف مليا أمام هذا المشهد لنتأمل كيف يصف الشاعر ما ألم به بسبب هول ما رأى وما سمع بين القضبان.
2-10- زهرة زيراوي:
تناءت أطراف الأرض بيننا
فاتسع الفراغ من حولي
ولأني لا أجرأ على حلكة الليل
اتكئ على روحي أسألها:
كيف أقطع دروبك
هذه الليلة؟
يتسلقني الليل
يمد انيابه باتجاهي (30).
عدوّان أسودان يواجهان الشاعرة في هذا المقطع الشعري. فلأن بعد المسافة اتسع بينها وبين المحبوب، وجدت نفسها داخل فضاء ليلي فارغ حلك سواده، فأمست من فرط الخوف غير قادرة على الإقامة فيه. ولأنها مجبرة على الإقامة داخل هذا الفضاء دون غيره، فإنها تستفهم استفهاما بلا غيا مرتعشا:
أتكئ على روحي أسألها:
كيف أقطع دروبك
هذه الليلة؟
تعرف جوابه. لقد استسلمت لليل لينهشها بأنيابه. وبهذا المعنى فالفضاء الفارغ الأسود فضاء للموت البطيئ، يستعجل المقيم فيه الموت ليتقي شر مقاومة القدر المأساوي الساخر دون أن يملك القدرة على ذلك.
وجوهر هذا المعنى هو ما تعبر عنه الشاعرة في سياق آخر من ديوانها باختزال شديد:
حتى تمر مياه النهر
في غضاريف الفؤاد الذي
مذ رحلت جف نبعه (31).
2-11- عبد الله زريقة:
وجدت العالم فارغا فارغا من أي امرأة أحط عليها ثعابين يدي
ووجدت قدميّ سلحفاتين كبيرتين فمشيت ببطء شديد
وكلس الجدران يلتصق بظهري
وشوك الوسادة في رقبتي
واللا شيء يغطي الشيء
والأرض لا تعرجات فيها
ها هّاه ها هّاهْ (32).
إن مجمل الصور المبثوثة في هذا المقطع الشعري تشخص الفراغ المطلق الذي لا يرادفه سوى الألم/ الشوك والعدم/ اللا شيء:
وشوك الوسادة في رقبتي
واللا شيء يغطي الشيء.
ما على الشاعر إلا أن يقاوم، تارة باللغة البشعة التي تحتفي بجمالية البشع وتارة بالسخرية من حيث هي الضحك الحانق على العالم.
ها هّاه ها هّاهْ
2-12- عبد الدين حمروش:
قال حلما
وانزوى في صمته الوثني
لم يعرف بأن الأرض تفرخ من خراب الوقت
مقبرة...
ومنفى... (33).
لم يحلم الشاعر ولم يقل شيئا. كل ما قاله عبر عنه في انزوائه وفي صمته الوثني أي في الفراغ المهول المفتوح على الخراب والعدم: مقبرة ومنفى.
3- المكان المؤلم:
3-1- عبد الله راجع:
أنت البحر وأنت كتابته حين على الرمل يجر خطاه
وأنت طريقي عبر المرتفعات الوحشية
صوب زمان تصبح فيه حروف اسمك زادي
أنت المجزرة الأعذب من نكهة مسك الليل(34).
يطفح هذا المقطع الشعري بآلام حادة، مصدرها لوعة العشق، وابتعاد المعشوق الذي يسعى الشاعر على تشبيهه بكل شيء ممكن يرفع من قدر جلاله وجماله. غير أن اللغة لا تقول إلا ما تريد هي ضدا على رغبة الشاعر. فالمعشوق بحر، والعلاقة بين الطرفين هي الامتداد مساحة وعمقا يكاد يتاخم حدود المطلق. ولكن هل يستطيع الشاعر الغوص في هذا البحر والاستمرار هناك إلى الأبد؟ وما نتيجة الاستمرار في الغوص إذا ما استطاع إلى ذلك سبيلا؟ والمعشوق أيضا كتابة البحر حين يجر خطاه على رمل الشاطئ، ومؤكد أن هذه الكتابة يتلوها المحو مباشرة؛ الشيء الذي يحولها مباشرة إلى سراب أو عدم يعقبهما التيه. والمعشوق أيضا طريق يعبره الشاعر نحو المرتفعات الوحشية، وحين يسلكه يسلك طريق الألم بحثا عن زمن يقيم فيه الفراغ القاتل، بحيث لا تبقى من المعشوق إلا حروف اسمه. والمعشوق أيضا مجزرة يتحول فيها الشاعر من جسد يترنح إلى جسد مسلوخ.
غير أن الشاعر يستعذب هذا السلخ لأن السالخ هو المعشوق. إن سبب الألم الحاد الذي يعاني من الشاعر، إنما يرجع إلى المكان البعيد الذي يصدر منه كتابته الشعرية. وهذا المكان يملأه الفراغ المهول الذي يحول المعشوق المخاطب إلى كائن متخيل يقيم في مكان ناء يصعب الوصول إليه.
3-2- محمد بنطلحة:
سيان يا حارس السجن أن يشمل المنع حتى
التوجع. حتى التفرغ للموت. سيان أن يشمل
العفو كل بريء من الذنب. سيان (35).
من شدة ما يعانيه الشاعر من ألم في فضائه المغلق/ السجن، لم تعد لديه إمكانية للتمييز بين الشيء وضده، فالأمران ولو تضادا يتساويان. وهذا ما تعبر عنه بقوة كلمة "سيان" التي تكررت في هذا المقطع القصير ثلاث مرات؛ الشيء الذي يجعلها الكلمة المفتاح أو البؤرة المتحكمة في بناء الدلالة. فأن يمنع حارس السجن سجينه من حق التوجع أو من حق التفرغ للموت، أو لا يمنعه، وأن يشمل العفو كل بريء أو لا يشمله فالأمر سيان. لقد وصل الألم إلى مداه، ولا معنى لأي فعل أيا كانت طبيعته.
3-3- الزهرة المنصوري:
وخليل حاوي:
قدح مكسور
قنينة فارغة لها شكل قزحي
خنجر وديع
يضحك يتململ
يرينا نداه القطني
ومائدة بعظام الفراشات الليلية (36).
لنا أن نتأمل فضاء به قدح مكسور وقنينة فارغة وخنجر وديع جميل لا يؤلم أحدا كما يبدو، ولكنه يهبنا بوداعته الرائعة مائدة عليها طعام لا تشم منه سوى رائحة الموت.
احتفت الشاعرة بقوة بلغة التشبيه. إن الشاعر خليل حاوي المرثي هنا هو القدح المكسور، والقدح المكسور ميت لأنه لم يعد قدحا بعد أن تكسر، وهو القنينة الفارغة، وهي الأخرى ميتة لأنها لم تعد قنينة بعد أن فرغت. وهو الخنجر الوديع الذي يسخر منا بوداعته كي يهبنا الموت.
لكل شيء في هذا الفضاء رائحة واحدة هي رائحة الموت القاسي الذي اختاره الشاعر المرثي بعدما شرب من قنينة الحياة كأسا تلو كأس، فلما فرغت القنينة كسر القدح تعبيرا عن مرارة غير قابلة للوصف.
لقد رغبت الشاعرة في التعبير عن حالها وهي ترثي شاعرا كبيرا احتج فانتحر، ولكنها لم تفلح في التعبير، فاكتفت بالإشارة عن طريق التشبيه. وفي فشلها هذا أفلحت في إبداع مرثية مخلخلة لذاتها ولذات المرثي ولذات المتلقي ولذات الوجود في نهاية المطاف. فمن الصعب هنا التمييز بين الراثي والمرثي. وما على المتلقي السيميائي في هذه الحالة إلا الاندماج في الطرفين معا إذا ما رغب في الاقتراب من هذه الدائرة المخَلخَلة التي أدخلتنا إليها الشاعرة.
3-4- محمد بنيس
هذا
موّالك ياسا
كن مقبرة الشه
داء تربّع في طبق الح
ناء فلا تسأل نصفي نار والنص
ف الآخر دخان من يسمعني
يتبع هذا الموال هناك تج
مع أحبابي حتى وشمتنا
ذاكرة الأيام
فقلنا أنت
لنا (37).
بنبرة تمجيدية ومؤلمة في ذات الوقت يتوجه الشاعر بخطابه إلى الشهيد الذي سيقيم في مقبرة الشهداء، يتجسد التمجيد في مجموعة من الكلمات (تربّع، الموال، الحناء...) ويتجسد الألم في أخرى (النار، الدخان، الأحباب...)، ولأن اللحظة لحظة احتفال خاص، فقد خاطب الشاعر الجميع من أجل السير خلف الموال/ الشهيد، ووحدهم الأحباب/أحباب الشاعر والشهيد معا لبوا النداء. ولحظة الاحتفال الخاص، بما يحف به من رهبة وجلال وألم... يتم الاحتفال الجماعي بالشهيد:
فقلنا أنت
لنا
إن فضاء المقبرة فضاء لألم استثنائي، ولكنه هنا مشوب بكل ما هو قدسي، بحيث يكاد يتحول إلى فرح استثنائي لا نكاد نعيشه إلا صحبة الشهداء.
وفوق كل هذا شخص هذا المقطع الشعري الفضاء المؤلم بكتابة شعرية متحشرجة بحيث إن أغلب الأسطر الشعرية ناقصة دلاليا وتركيبيا وعروضيا. أما إذا تعلق الأمر بالقراءة الشفوية فمن المؤكد أن الحشرجة ستكون مضاعفة.
3-5- زهرة زيراوي:
من ينسى الأجراس وهي تدق للصلاة
الشارع فارغ والقطة السوداء
تعبره
الرِّجل الرابعة جرفتها الدبابة العشرون بعد المائة
تستعيدني روحي ضارعة:
جِنين أيها الطيف الفلسطيني
يا قربانا من نور
دُلّني
كيف تسع اللغة نهرا من دماء؟ (38).
تقدم الشاعرة فضاء مشهديا لمخيم جنين المقاوم للاحتلال الصهيوني، وهو فضاء جنائزي: الأجراس تدق والشارع فارغ والدبابات تجرف الأرجل.
وخلف هذا المشهد الفارغ المؤلم، يتبدى مشهد آخر استشهادي حي، يقدم فيه الفلسطيني ذاته قربانا لفلسطين من أجل أن تبقى عصية على الانمحاء.
ولأن الشاعرة تعرف المعادلة القائمة بين قوة الدبابة الصهيونية وقوة البندقية الفلسطينية، لم تملك شيئا غير التألم:
دلني
كيف تسع اللغة نهرا من دماء؟
يتضح من خلال هذه النماذج أن الشاعر المغربي وهو يسعى إلى تشخيص المكان الذي يطفح بالألم، يتجه باللغة إلى حدودها القصوى من أجل أن تقول روح ما يريد قوله، ولكنه يستشعر عجزا خاصا يجعل كلامه مبحوحا، أو متعثرا يخترقه البياض أو الصمت وهنا تكمن جدارته الإبداعية.
وفي هذا الصدد لا يسعنا إلا أن نتبنى الخلاصة التي انتهى إليها عبد الله راجع بعد تحليله لعدد هائل من النصوص الشعرية المغربية المعاصرة، والتي مفادها أن " السمة البروميثيوسية وما رافقها من رموز دالة ظلت وراء الشاعر المغربي قانونا يحكم البنية الخيالية في النص الشعري سواء كان واعيا بذلك، أم غير واع، وأن هذه السمة تلخص في الوقت نفسه شهادة واستشهاد المبدع المغربي. "(39)
4- المكان المغلق:
4-1- عبد الكريم الطبال:
في الليلة التي تضيق بي رحابة المكان
ويشحب الوقت
ويرمد الرغيف فوق المائدة
يرتحل الصديق من زنزانة الإقامة
. . .
يقول لي:
أنت الذي أرسلتني
إلى الجهات المغلقة
. . .
فقلت: إنني مثلك
ياصنوي الفقيد
منحبس الكلام
محاصر في كل ذبذبة
لا فرق بين الدار والمنفى
وبين الأهل والأغراب (40).
النص حوار بين الشاعر وصديقه كما يبدو، فالطرفان مع يتحركان في فضاء فارغ مغلق. يلوم الصديق صاحبه الشاعر الذي أرسله إلى الجهات المغلقة التي عانى فيها ما عانى؛ ليرجع منحبسا وآسنا وأجرد. غير أننا حين نتأمل النص ونعيد قراءته، نكتشف أن الشاعر لا يحاور إلا ذاته التي تتحرك في فضاء فارغ مغلق. وحين ضاق المكان بهذه الذات المخنوقة، قامت برحلة متخيلة، وهجرت فضاءها المغلق؛ لتجد نفسه في فضاءات أكثر انغلاقا: الجهات المغلقة، الأنهار الآسنة، الحدائق الجرداء... وحين عادت إلى مكانها الأصلي عادت إلى الحصار الذي يتساوى فيه الشيء بضده: الدار/ المنفى، الأهل/ الأغراب...
4-2- عبد الرحمان بوعلي:
أيها القادم من ماء لماء
أيها الهائم في "الأرض الخراب"
اغلق الباب التي
أمست جحيما
والتي أمست منافيها
يباب
أغلق المذياع واكتب ما تبقى
من مزامير الجنون
ها هنا مقصلتي
أو طوطم الماء الزنيم
ها هنا:
سين
وجيم
ونون (41)
يمتص الشاعر رحيق قصيدة "الأرض الخراب" للشاعر ت. س. إليوت التي أحدثت تحولا كبيرا في الشعر العالمي، وضمنه العربي، تختزل حروف السين والجيم والنون دلالة المكان المغلق في هذا المقطع الشعري، ونفس الشيء بالنسبة للمعجم الذي يتضمن وحدات معجمية (الأرض الخراب، الماء، الباب المغلق، الجحيم، المنافي، اليباب، الجنون، المقصلة...) تحبل جميعها بدلالة الموت والهلاك. الموت هو الرائحة الوحيدة التي تتجول في أرجاء كل سطر شعري، وكأن المكان المغلق لا يحيل إلا عليها.
4-3- محمد عنيبة الحمري:
جمالك ينعش قلب المتيم
والوصل قد يستحيل
أمامي كل المرافئ تهجرها الكائنات
أصيح بسجني حتى الممات
ولا يسمع الصوت إلا الغريب
مخافة رعب الديار (42)
يتواجد الشاعر في سجنين مغلقين، سجن داخل سجن، والشاعر يقيم في الأول الذي يقيم في الثاني. أما السجن الأول فسجانه هو المحبوب، وأما الثاني فهو السجن المعروف، وسجانه هو العدو. وعلى الرغم من أن الشاعر على حافة اليأس لا يفقد الأمل في الوصل باعتباره معادلا للخروج من المكان المغلق:
والوصل قد يستحيل
لقد استبد الحب بالشاعر حتى أفقده عقله، ومع ذلك فهو يتمنى الوصل الذي قد لا يصل إليه. أما السجن الثاني فقد أحكم إغلاقه بحيث لم يعد أمام الشاعر إلا الصياح المستمر الذي لا يسمعه أحد. إن سماع الغريب هنا لا معنى له؛ لأنه لا يجدي نفعا، ذلك لأن الغريب هو الآخر إذا ما سمع الصياح لا يمكن أن يرد عليه إلا بصياح مضاعف.
وهكذا يتضح أن الصياح من قلب هذا المكان المغلق لا يستهدف البحث عن منقذ. المنقذ الوحيد الممكن الوجود هو الموت ولكن هذا المنقذ ذو قلب أصم لا يسمع أحدا، يأتي متى يريد.
4-4- محمد بنيس:
تقفون الآن
في منطقة تحت الأرض
أو فوق الأرض
تقفون الآن
بين الجدران المفروشة بالأسفلت
وحديد الصمت
تقفون الآن
في ساحات محدودة
بالأسوار
وزجاج الجنة والنار
تقفون الآن
في أقواس المنفى
بين الوطن المقطوع
وبريق العين إلى الوطن الموصول (43).
يعتمد الشاعر أسلوب الوصف لتشخيص حالة المناضلين المعتقلين داخل أسوار السجن، وضمن هذا الأسلوب يعتمد أسلوب التكرار بصورة ملفتة للنظر. إن جملة "تقفون الآن"تتكرر في هذا الحيز القصير أربع مرات. لقد اضطر الشاعر إلى اعتماد هذا الأسلوب ضمن أسلوب وصفي تقريري من أجل الإطناب في وصف حالة قد لا تكون معروفة لدى كل متلق. إن السجن فضاء مغلق ولا يمكن فتحه للتعرف على خباياه إلا بالوصف والتفصيل، المعتقلون داخله لا يجلسون، ولا يتكؤون على الأرائك، بل يقفون تحت الأرض أو فوقها، إن حرف أو هنا يسوي بين الوقوف تحت الأرض وفوقها، يفترشون الإسفلت والحديد وتحيط بهم أسوار لا حد لعلوها، ويقفون في فضاء برزخي هو المنفى بين وطن ووطن.
غير أن الشاعر حين كرر جملة "تقفون" حول المكان المغلق على مكان مفتوح، فالوقوف انتقال من حالة الجمود إلى حالة الحركة، ومن حالة الموت إلى حالة الحياة؛ الشيء الذي يعني أن السجان هو الذي يعيش حالتي الجمود والموت، فكأنه حين سجن مسجونيه لم يسجن إلا نفسه. ويتأكد هذا الأمر حين نتأمل اللغة التمجيدية التي كتب بها النص، والتي أسعفتها تفعيلة المتدارك في بلورة هالة المعنى.
4-5- ثريا ماجدولين:
سقط المساء على وجوه الأحبة
سقط السواد
لم تجئ نافذة إلينا
لم يدخل هواء (44).
ترسم الشاعرة لوحة سوداء سوادا مطلقا لعالم انغلق انغلاقا تاما بحيث لا وجود لأية نافذة يمكن أن يتسلل منها الضوء أو الهواء، يتعلق الأمر بعالم مقفل بعناية على من بداخله، إنه عالم الموت الأسود.
وفي نفس المنحى يتبلور المعنى في قصيدة الصمت للشاعر عبد الكريم الطبال:
يا سماء بلا أي باب
هنا ...
أهيئ مائدتي
وأعلق في السقف
مسرجتي
وأصفف في الرف
آخر ما أصدرته المقابر (45).
فبقدر ما يتسع العالم -بأرضه وسمائه-الذي يتحرك فيه الشاعر، بقدر ما يبدو أضيق من حجرة مغلقة. إن السماء المفتوحة دوما تبدو في هذا النص مغلقة وبلا باب. وما يضفي على الانغلاق طابعا جنائزيا عزلة الشاعر في حجرته المغلقة، وسعيه الحثيث إلى فتحها من خلال الحركات التي يقوم بها:
أهيئ مائدتي
وأعلق في السقف
مسرجتي
غير أن حركته لا تلبث أن تتوقف ليتجه كل شيء إلى الانغلاق التام:
وأصفف في الرّف
آخر ما أصدرته
المقابر
والتصفيف ليس تصفيفا للموتى فقط، بل تصفيف للذات ذاتها أيضا.
يتضح من خلال هذه النماذج أن المكان المغلق يحيل على دلالات تتشابك معه: السواد، الموت ... الشيء الذي يجعله منتجا لرؤية جنائزية لا ترى في الأفق شيئا غير الكوارث، غير أن جزءا من هؤلاء الشعراء أصر على طرق الأبواب المغلقة وعلى محاولة تكسيرها.
5- المكان المنتفض:
5-1- محمد بنطلحة:
وملء الشوارع أحذية وبنادق
أيها الزمن المغربي اشتعل في
في النوافذ والطرقات كما تشتهي (46).
أحذية وبنادق: هذا هو الشارع المغربي، وهذا هو الزمن المغربي. لنا ان نتصور الشوارع ملأى بالأحذية والبنادق، يتعلق المر ببنادق تصول في الشوارع، وتفعل الفعل الوحيد الذي يمكن أن تفعله/ القتل، وبدماء انتفضت فسالت لتملأ الشوارع دما وأحذية. أما الأحذية فهي نوعان: نوع ملبوس يمارس الرفس، ونوع مخلوع يقع عليه وعلى أصحابه فعل الرفس. غير أن الشاعر يبقى مبتهجا، إنه وهو يرى هذا المشهد يهتز كيانه ليهتف بصوت تمجيدي مرتفع:
أيه الزمن المغربي
اشتعل في النوافذ والطرقات كما تشتهي.
5-2- محمد السرغيني:
"أبو فكران"
ماتوا من أجل الماء ولولاهم مات الماء (47).
باختزال شديد يعبر هذا المقطع الشعري عن لحظة دموية في تاريخ المغرب الحديث حين سقط عدد هائل من الشهداء المغاربة من ساكنة مكناس في معركة بوفكران سنة 1937. لقد حاول المستعمر الفرنسي تحويل مجرى نهر بوفكران من أجل سقي أراضي المستوطنين الفرنسيين. وأمام هول هذا الحدث الذي كان سيؤدي إلى تفقير وتهجير الفلاحين المحيطين بالوادي، كانت الانتفاضة من أجل الإبقاء على وضعية نهر بو فكران كما كانت. لقد
ماتوا من أجل الماء ولولاهم مات الماء
لقد مات الرجال، وماتت النساء من أجل أن لا يموت الماء، وهب الموت حياة أبهى استمرت تلد الحياة.
يستطيع الشعر حين يتجه إلى الاختزال أن يقول كل شيء دفعة واحدة تخرجه من دائرة النسيان إلى ملكوت الخلود.
5-3- أحمد المجاطي:
كان القطار يفتت وجهي
يرسم في كل شق
هوية
تساءلت:
هل أنت عاشقتي
لمَ لم تزرعيني في رحم الأبدية
أو تزرعيني بين الترائب والصلب
ظلت عيونك شاخصة
كنت حبلى
احتوتني الزنازن
أبصرت أحباب قلبي
أبصرت أحباب قلبي
قتلى
وها أقبل الصيف يطرق بالشمس والدم
أبوابك المقفلة (48).
النص مقطع شعري من قصيدة بعنوان "الدار البيضاء" التي تحضر هنا مكانا منتفضا. يؤنسن الشاعر مخاطبَته، ويتوجه إليه بخطاب حابل بمعجم في غاية العنف (القطار يفتت وجهي، عيون شاخصة، الزنازن، أحباب قلبي، قتلى، الشمس، الدم، البواب المقفلة...)، وهذا ما يجعل البيضاء مجزرة حقيقية شخص بها الشاعر انتفاضة 1965. غير أن الشاعر كعادته يتحدث بنبرة كارثية تنم عن إحساس حاد بالعجز واليأس إلى درجة البحث عن الموت:
لمَ لم تزرعيني في رحم الأبدية
أو البحث من خلال هذا الموت عن حياة جديدة:
أو تزرعيني بين الترائب والصلب.
ويرجع سر هذه النبرة الكارثية إلى هول ما رآه الشاعر من مآس:
أبصرت أحباب قلبي
قتلى.
منعته من اعتماد أية لغة تهليلية ممكنة. غير أن الشاعر بهذا الوصف الجنائزي نقل الموصوف/ الشهداء أحباب القلب إلى درجة القداسة.
5-4- محمد بنيس:
صديقي العزيز
رأيتك في الجوع شهرا وفي السجن عاما
وفي الشرق عمرا وعبر ظفار شوارع
حيفا وسيغون عبر بنادق أسيا سماءِ
الشعوب وعبر روائح برلين والقاهرة
رأيتك حبا
تفجر في حبنا
فكنت السجين وكنت الطليق
وكنت على قبة الفاجعة
نوارا
ونورا
ومقبرة للعدو
وراية عائلتي الجائعهْ (49).
هذا النص مقطع من نص مطول بعنوان "والأيام مشتعلة أبدا". ومن خلال هذا العنوان باعتباره نصا موازيا يبدو الشاعر في غاية الابتهاج وهو يرى عددا هائلا من الأمكنة، تمتد من عُمان إلى فلسطين إلى الفيتنام إلى ألمانيا ثم إلى مصر ... وهي جميعها أمكنة تنتفض بقوة هائلة بحثا عن غد الحب والنور والنوار.
أرخ النص ب 19/03/1973 وهي إشارة دالة على تاريخ هيمن فيه المد التحرري عالميا بحثا عن وضع يتم فيه كنس مخلفات الاستعمار، وإنجاز مهام التحرر الوطني.
النص شهادة قاسية على وضع قاس كان يبحث عن الحرية والتحرر والرفاه الروحي والمادي. ولذلك جاء حابلا بالأمكنة التي لا يجب أن تنسى.
5-5- زهرة زيراوي:
أيتها الأرض
اتسعي للجثث، اتسعي للشهداء
إنهم صامدون يستشهدون
كالرماح العاتية يستشهدون
يرددون لله
"ما زاغ البصر وما طغى" (50).
في ندائها للأرض تستعمل الشاعرة أسلوب التمني بدلالة استلزامية هي التمني، تتمنى الشاعرة لو أن الأرض اتسعت كي تسع جثت الشهداء. فكأن الأرض ضاقت إلى هذا الحد الكارثي الذي يجعل إمكانية الدفن صعبة أو مستحيلة.
إن ما تراه الشاعرة فظيع ومروّع، غير أن الوجه الآخر للصورة يجعل الأرض وإن اتسعت إلى أي حد ممكن، فإنها لن تسع جثت الشهداء لسبب بسيط. فهذه الجثث ليست كالجثث، إنها رماح عاتية غير قابلة للدفن. وهذا التشبيه: "كالرماح العاتية يستشهدون" هو ما اختزلته الآية السابعة عشرة من سورة النجم التي استشهدت بها الشاعرة:
"ما زاغ البصر وما طغى"
لقد تفاعلت الشاعرة مع النص القرآني الذي يصف فيه الله نبيه محمدا وهو ثابت يرى ما يرى لحظة إسرائه دون أن يتجه نظره إلى أي شيء غير الذي أُريد له. وما ما يهمنا في هذا السياق هو أن الشاعرة حين اعتمدت هذا التناص بهذه الصورة بخلفية إيمانية، إنما رغبت في نقل الشهداء إلى مرتبة القديسين أو مرتبة الأنبياء.
5-6- ثريا ماجدولين:
الشوارع بحر يتدحرج
والنوافذ التي تشخص الآن نحوي
مليئة بالرصاص
. . .
قلت للعيون النائمة على حزنها
وللبساتين التي تعلق في الذاكرة:
إن الله ينزل من هالته
ينزوي للبكاء
إن الله يحتمي وراء السياج
ينزعنا من قشرته
ثم يمضي. . (51).
ترصد الشاعرة حركة المكان المنتفض بلغة تفصيلية تنتقل من الشوارع إلى النوافذ إلى العيون ثم إلى البساتين. أما الشوارع فهي بحر بشري يتدحرج، والتدحرج لا يكون نحو الانحدار؛ الشيء الذي يعني أن الشاعرة تتأمل المشهد وتتألم وهي ترى ما ترى من أهوال. وأما النوافذ فهي ملأى بالرصاص أعينها شاخصات نحو الشاعرة طلبا للعون أو النجدة.
تقف الشاعرة متذمرة ومكتوفة اليدين لا تملك من الأمر شيئا كي تغير هذه الصورة الأليمة. وأمام هذا الأمر المهول تهول الشاعرة الحدث لتجعله كونيا. لقد تأثر الله ذاته لما رأى، ولذلك نزل من ملكوته ليشرع في البكاء، ثم ليخلعنا من ذاته ليمضي بعيدا عنا، وليتركنا وحدنا في مواجهة المأساة. فلأن الله قلق علينا انزوى وبكى، ولأنه قلق منا ابتعد عنا ومضى. يتعلق الأمر بموقف متناقض: تعاطف لا متناه في مقابل قساوة مفرطة. والخلاصة أن الشاعرة تضعنا أمام مأساة قاسية يصعب تصورها.
5-7- عبد الله راجع:
فما أغرب ما تبصره العينان
شجرا يتحرك بالأذرع والسيقان
أمواجا تطلع من صدإ القصدير وقافلة
من طير أبابيل تفاوض سرا أفيال الأحباش
تقدم يا زمن البعثة كن بردا وسلاما
إنا ندخل باسمك مملكة المغضوب عليهم
ندخل تاريخ الطقس الفاتر
مضطهدين ومكبوتين ومتسعي فتحات الشرج
وندخله بالرأس المرفوع، تقدم (52).
كعادته في أغلب قصائده الشعرية، يمارس هذا الشاعر العنف على الذات من أجل ممارسة العنف على القصيدة الشعرية التي تتكفل هي الأخرى بممارسة عنفها الخاص على المتلقي. يتعلق الأمر بعنف الكتابة وبكتابة العنف، وهذا ما يفرض على المتلقي أن يصبر وهو يتلقى العنف من أجل تذوق الكتابة، ومن أجل فهمها كمتلق سيميائي.
ما يلولب المعنى في هذا المقطع الشعري من قصيدة مطولة بعنوان "نهايات الزمن الجاهلي" هو المعنى البذيء الذي يسكنه العنف:
إنا ندخل باسمك مملكة المغضوب عليهم
. . .
مضطهدين ومكبوتين ومتسعي فتحات الشرج
كيف يمكن استساغة المعنى هنا؟ وكيف يمكن تداوله مع الآخرين؟ لقد اختزل هذا المعجم البذيء المعنى إلى أقصى حد ممكن من أجل تكثيف صورة التعذيب الذي يطال المناضلين المعتقلين جراء مواقفهم. ومن أجل هذا تفاعل الشاعر نصيا مع التاريخ ومع النص القرآني
(طيرأبابيل،أفيال الأحباش، المغضوب عليهم، زمن البعثة...)، وأعاد صياغتهما بما يمكنه من بناء صورة غرائبية عصية على الإدراك للمكان المنتفض.
6- المكان المظلم:
6-1- إدريس علوش:
اكتشفت "باخوس"
حين أودعني قنينة
لولبية القطرات
كي أحتفي بها
جرعة/
جرعهْ
في صحة الغائبين قسرا
في غياهب العتمات(53).
يربط الشاعر علاقة صداقة مع إله الخمر باخوس، ولأن هذا الإله كريم، فقد أهدى للشاعر قنينة خمر خاصة عربون صداقة ومحبة، احتفى بها الشاعر وتجرعها بهدوء جرعة جرعة. وأثناء عملية التجرع انتقل الشاعر من عالم الحضور إلى عالم الغياب الذي لم يكن صوفيا ما ورائيا، لقد كان عالما حقيقيا يغيَّب فيه المناضلون قسرا. وفي هذا العالم/ السجن كان الظلام ملولبا يتكور فيه السواد على السواد. إنه غياهب العتمات.
6-2- الزهرة المنصوري:
حين يسكنني الغمام
وانثر في انمحائي بقايا الكلام
أجمع المكان في سماء لم ألمسها
ولم أحك لعتماتها شجوي
فباحت لي بغربتي
وتفرّد موتي (54).
يتحرك جسد الشاعرة صعودا ونزولا من مكان لآخر. تبدأ الحركة بإقامة الغمام في جسد الشاعرة، ثم بإقامة جسد الشاعرة في الغمام من أجل نثر ما يشبه ما ينثره الغمام. ولأن الشاعرة شاعرة، فإنها لا تنثر المطر أو الرذاذ، بل بقايا الكلام/ الشعر. وفي عملية النثر هذه تنمحي وتذوب. إنها لا تنثر إلا ذاتها.
واستمرار لحركة الصعود تتجه الشاعرة إلى ما فوق الغمام، إلى السماء، وهناك تستجمع المكان كله، لكنها لا تستطيع الإقامة فيه؛ لأنها لم تتمكن من لمسه. ولأن هذه السماء معتمة لم تتمكن الشاعرة من حكي شجوها لها. فمن شروط الحوار أن يرى المحاور محاوره، غير أن السماء تجيب الشاعرة بالرغم من كل شيء. لقد تفهمت غربتها التي تعادل موتها المتفرّد واحتضنتها.
إن حركة الشاعرة في هذا المقطع الشعري حركة من لا حركة له. إنها لا تتحرك إلا في دواخلها المعتمة حركة الموتى. يرادف المكان هنا القبر، وكأن الشاعرة تتكلم من داخله كلامه المغمّم المعتم الشجي، إنه ما تبقى من كلام، إنه الكلام الأخير.
6-3- محمد عنيبة الحمري:
كالسجين تخاطب ظلا
لتخلق رفقتك الضائعةْ
تتذكر كل الأحبة
آن يلفك الظلام
وسرعان ما تتقلص نفس الصور (55).
يوازي الشاعر بين مكانين: الأول مضيء هو الذي يمكن أن يرتسم فيه ظل ما، والثاني مظلم لا يرى فيه شيء. وما يجمع بين المكانين معا هو الفراغ.
الأول فارغ من الرفقة؛ الشيء الذي يدفع الشاعر المعزول إلى التوهم، يخاطب الظلال وكأنها أجسام حقيقية عله يستطيع الانفلات من العزلة التي تعادل الموت.
الثاني فارغ من الأحبة لأنه مظلم، ولأنه مظلم فهو ميت ويميت من يوجد بداخله. ليس أمام الشاعر إلا التذكر من أجل توهم حضور الأحبة من خلال الاسترجاع الداخلي، غير أن الشاعر وهو يسعى إلى الاسترجاع تتقلص الصور تدريجيا؛ لأنها شيئا فشيئا تبتعد لتغوص في الظلام المعادل للموت والعدم.
6-4- عبد الرحيم الخصار:
سأعبر من فج وعر باحثا عن مرج الوردة السوداء، تاركا خلفي كل هذا الضوء. أريد الظلام، أريد أن أنزل إلى قعره العميق، فقط لأن ظلي ممددا هناك كأي خطإ مُر. أريد أيضا أن أقتلع الوردة السوداء من البستان العاتي، سأمضغها بأضراس مستعارة، ربما تذيب مرارتها مرارتي. (56)
يصر الشاعر (سأعبر، أريد التي تكررت ثلاث مرات، سأمضغها...) بكامل قواه العقلية على العبور من دائرة الضوء إلى دائرة الظلام بحثا عن الوردة السوداء المرة من أجل مضغها وابتلاعها كي تذيب مرارتها مرارته.
الخطأ المُرّ هو مفتاح قراءة هذا المقطع، فهو الذي زلزل كيان الشاعر، ودفعه دفعا كي ينتقل من العالم العلوي حيث الأضواء والناس... إلى العالم السفلي حيث الظلام والفراغ. لقد نزل من المكان الذي يحتوي على الزمن مكثفا كما يرى باشلار إلى القبو من حيث "هو الهوية المظلمة للبيت" ومن حيث هو "الذي يشارك قوى العالم السفلي حياتها" (57).
لكن الشاعر لم يخف من هذه القوى، أو من غيرها، لقد قرر النزول إلى القبو، وأصر على ذلك عله يتمكن من نسيان الخطإ المر الذي ارتكبه. وبهذا الفعل حول ذاته إلى بطل مأساوي بكل ما في الكلمة من معنى. ففي القبو لن يجد الضوء/ الحياة كي يحيا، كما لن يجد الظلام المطلق/ الموت كي ينتهي. سيبقى معلقا هناك إلى الأبد.
وفي سياق آخر يقول الشاعرنفسه:
أعلق صوركِ على جدران تئن
ثم أجلس قبالتها صامتا
وأرفع كأسا في بيت
ساكنه الوحيد هو الظلام. (58)
ينتمي هذا المقطع إلى نص آخر، ولكن هل يتمم المقطع السابق الذي ينتمي هو الآخر إلى نص آخر؟ ليس الأمر بهذه البساطة، ولكن ما يمكن الجزم به أن النصوص تتصادى ليس داخل تجربة شاعر مفرد بل بين الشعراء فيما بينهم داخل زمن واحد، وداخل كل الأزمنة.
في هذا المقطع الشعري يغرق الشاعر في قبوه المظلم مرة أخرى، ويغلق عليه كل الأبواب، أنيسه الوحيد هو الكأس الذي يرفعه في سماء القبو تعظيما لمقامه الخاص، وفي هذا القبو يجلس الشاعر قبالة صور المحبوبة وقد علقها على الجدران المهترئة وهو صامت، ولكن لا ليتأملها تأمل المهووس بالعشق، فما يوجد داخل القبو هو الصمت والظلام. لقد زخرف الشاعر مأساته بحثا عن حل للخطإ المر الذي ارتكبه، ولكن دون جدوى.
خاتمة:
ثمة امكنة أخرى بدت لنا بارزة في المتن الشعري المغربي الذي درسناه، ولكننا لن ندرسها في هذا المقام من قبيل: المكان الغريب والمكان البارد والمكان العالي، والمكان الروحي، والمكان الشعري والمكان البرزخي، والمكان الكادح...
لقد كان بودنا أن ننطلق من نمذجة مسبقة (مكان عال/ مكان منخفض، مكان مظلم/ مكان مضيء...) كما فعل يوري لوتمان، من أجل مقاربة جمالية المكان في الشعر المغربي المعاصر، ولكننا آثرنا أن نعتمد منهجية استقرائية هي التي أفرزت لنا ما درسناه. ونعتقد أن هذه المنهجية اسعفتنا في التعرف على الفضاءات الدلالية التي يسبح فيها الشعر المغربي ويشرب منها. وتجدر الإشارة هنا إلى أننا لم نجد جملة شعرية واحدة ضاحكة تتحدث عن مكان مضيء، أو مملوء، أو مبهج. مجمل الأمكنة التي اكتشفناها ودرسناها تشتق فسيفساءها الدلالية من المأساوي الذي يطبع المتن الشعري المغربي بالتمزق والتشظي، فكأن الشاعر المغربي غير مطمئن، يكتب على مضض، أو يكتب خوفا من جهنم ما، وفي أحسن الأحوال رغبة في مواجهة جهنم ما. لقد " كان المعجم الطاغي والمهيمن، والذي تتردد مفرداته، شبه واحد لدى كل الشعراء: وطن، حلم، خوف، غضب، ولادة، موت، حياة، أمل، يأس، دم، جرح، ألم، حزن، حب، صمت، كلام، رفض... بالرجوع إلى سياقات هذه المفردات يتجلى واضحا أن الشاعر يعيش تجربة الوجود فيما هو يبحث عن ذاته في عالم (وطن) لم يولد بعد..." (59).

الهوامش:
(1) أبو عبد الرحمان الخليل بن احمد الفراهيدي: كتاب العين، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، دار مكتبة الهلال، الجزء الخامس ص: 410 القاهرة ب. ت.
(2) نفسه، ص: 378.
(3) غالب هلسا: مقدمة ترجمة كتاب غاستون باشلار"جماليات المكان"، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ص: 5-6 ط 2 1984.
(4) غاستون باشلار"جماليات المكان"، م. س ص:31.
(5) أدونيس: الشعرية العربية، دار الآداب، بيروت، ط 2 س.1989، ص: 22.
(6) ثريا ماجدولين: القصيدة البصرية والأثر الجمالي، مجلة الأدب المغاربي والمقارن، اعدد 12 سنة 2015، منشورات الرباط نت، ص:19.
(7) عبد الله راجع: ديوان سلاما وليشربوا البحار سلسلة الثقافة الجديدة ط 1 سنة 1981ن مطبعة الندلس البيضاء، ص: 45.
(8) محمد عرش: ديوان بنصف سماء، مؤسسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية، فاس المغرب، ط 1 سنة 2021، ص: 47.
(9) الزهرة المنصوري ديوان برقة العابر، منشورات وزارة الثقافة المغربية مطبعة دار المناهل سنة 2009، ص: 59.
(10) المرجع السابق، ص:63.
(11) المرجع السابق، ص:69.
(12) أحمد المجاطي، ديوان الفروسية، منشورات المجلس القومي للثقافة العربية، ط 1، سنة 1987، مطبعة النجاح البيضاء،ص: 58-59.
(13) المرجع السابق، ص: 65-66.
(14) المرجع السابق، ص: 135.
(15) محمد بنيس: ديوان هِبة الفراغ، دار توبقال للنشر، ط 1، س:1992، ص: 37.
(16) محمد الخمار الكنوني: ديوان رماد هسبريس، دار توبقال للنشر، ط 1، 1987، ص: 50.
(17) حسن الأمراني: ديوان الزمان الجديد، دار الأمان، الرباط ط 1، 1988، ص: 130.
(18) محمد الأشعري: ديوان سيرة المطر، دار النشر العربي الإفريقي، ط 1، 1988، ص: 30.
(19) عبد الله زريقة: ديوان فراشات سوداء، دار توبقال للنشر، ط 1، 1988، ص: 13.
(20) محمد بنطلحة: ديوان نشيد البجع، نشر فضاءات مستقبلية،مطبعة دار القرويين، ط 3، ص:73.
(21) الزهرة المنصوري: م. س ص:55.
(22) عبد الكريم الطبال: ديوان آخر المساء، مكتبة النهج شفشاون 1994، ص: 8.
(23) إدريس علوش: ديوان الطفل البحري، دار قرطبة للطباعة والنشر، 1990، ص:84.
(24) خالد الذهيبة: ديوان مخلوقات العزلة، منشورات وزارة الثقافة المغربية، دار المناهل، 2007، ص: 37.
(25) عبد الرحمان بوعلي: ديوان وردة للزمن المستحيل، المطبعة المركزية، وجدة المغرب 1984، ص:70.
(26) محمد عنيبة الحمري: الأعمال الشعرية، السفر الأول، نشر الفنك 2016، ص: 233.
(27) المرجع السابق، ص: 106.
(28) محمد بنيس: ديوان في اتجاه صوتك العمودي، سلسلة الثقافة الجديدة، مطبعة الأندلس، البيضاء، 1980، ص: 47.
(29) انظر: تزيفيتان تودوروف: موضوعات العجائبي: مدخل نظري: مجلة دراسات أدبية، لسانية، عدد 1، سنة 1987، ص:138.
(30) زهرة زيراوي: ديوان ولأني، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، 2012، ص:64.
(31) المرجع السابق، ص: 71.
(32) عبد الله زريقة: ديوان فراشات سوداء، م. س ص: 51-52.
(33) عبد الدين حمروش: ديوان وردة النار، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط 1993، ص: 20.
(34) عبد الله راجع: ديوان سلاما وليشربوا البحار، م. س، ص:61.
(35) محمد بنطلحة: ديوان نشيد البجع. م. س ص: 31.
(36) الزهرة المنصوري: ديوان برقة العابر، م. س ص:46-47.
(37) محمد بنيس: ديوان في اتجاه صوتك العمودي، م. س، ص:62.
(38) زهرة زيراوي: ديوان ولأني، م. س ص: 102.
(39) عبد الله راجع: القصيدة المغربية المعاصرة: بنية الشهادة والاستشهاد، منشورات عيون، الجزء الأول، 1987، ص: 308.
(40) عبد الكريم الطبال: ديوان البستان، مطبوعات طنجة، 1988، ص: 28-29.
(41) عبد الرحمان بوعلي: ديوان وردة للزمن المستحيل. م. س، ص: 65-66.
(42) محمد عنيبة الحمري: الأعمال الشعرية، السفر الأول. م. س، ص: 233.
(43) محمد بنيس: ديوان في اتجاه صوتك العمودي، م. س، ص:28.
(44) ثريا ماجدولين: ديوان أوراق الرماد، منشورات اتحاد كتاب المغرب، مطبعة المعارف الجديدة 1993، ص: 30.
(45) عبد الكريم الطبال: ديوان آخر المساء، م. س، ص: 83.
(46) محمد بنطلحة: ديوان نشيد البجع. م. س ص: 44.
(47) محمد السرغيني: ديوان ويكون إحراق أسمائه الآتية، منشورات عيون المقالات، مطبعة فضالة، المحمدية، 1987، ص: 61.
(48) أحمد المجاطي، ديوان الفروسية، م. س، ص: 83-85.
(49) محمد بنيس: ديوان في اتجاه صوتك العمودي، م. س، ص:43.
(50) زهرة زيراوي: ديوان ولأني، م. س ص: 35.
(51) ثريا ماجدولين: ديوان أوراق الرماد، م. س، ص: 37-38.
(52) عبد الله راجع: ديوان سلاما وليشربوا البحار، م. س، ص: 20.
(53) إدريس علوش: ديوان الطفل البحري، م. س، ص: 28.
(54) الزهرة المنصوري: ديوان برقة العابر، م. س ص:55-56.
(55) محمد عنيبة الحمري: الأعمال الشعرية، السفر الأول. م. س، ص: 171.
(56) عبد الرحيم الخصار: ديوان أخيرا وصل الشتاء، منشورات وزارة الثقافة المغربية، مطبعة المناهل،2004، ص: 46-47.
(57) غاستون باشلار"جماليات المكان"، م. س ص:46.
(58) عبد الرحيم الخصار: ديوان سباق المسافات القصيرة، مؤسسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية، المغرب، 2021، ص: 30.
(59) محمد الزاهيري: التجربة الشعرية بالمغرب خلال القرن العشرين: البحث عن تجربة شعرية مغربية، مجلة الثقافة المغربية، عدد 17، أكتوبر 2000، ص: 134.





أحمد القنديلي

الحوار المتمدن-العدد: 7716 - 2023 / 8 / 27 - 16:47





تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...