عباس محمود العقاد - النماذج والأفراد في الأدب

أشرت في مقالي السابق إلى رأي (لونارد وولف) في كتابه (بعد الطوفان) وخلاصته أن الشعراء والقاصين كانوا يرسمون للناس قبل القرن السابع عشر نماذج من طوائف وجماعات، أما بعد القرن السابع عشر وانتشار الديمقراطية فقد أصبح أبطال القصص (أفراداً) مستقلة قلما تتكرر في غمار السواد. وعلاقة الديمقراطية بهذا التغير الواضح أن المساواة قد خولت الفرد حرية الظهور فبرزت الخصائص واستحقت من الشعراء والكتاب عناية لم تكن تستحقها حين كان الجمهور أرقاماً متكررة على نموذج واحد، أو حين كان النبلاء طرازاً مرسوم المراسم لا يختلف فيه إنسان عن إنسان

أشرت إلى هذا الرأي وقلت إنني سأعود إليه ببعض الشرح والتعليق في مقال آخر؛ وأظن أن تاريخ الآداب لا يفهم حق فهمه إلا بتجلية هذا الرأي وأمثاله والوقوف على مبلغ ما فيها من الحقيقة والتمييز بين الأدب القديم والأدب الحديث، لأن تاريخ الآداب إن هو إلا المعالم التي نميز بها عصراً من عصر وطريقة من طريقة وموضوعاً من موضوع، سواء أكان هذا الموضوع بطلاً موصوفاً في رواية أو قصيدة، أم كان عاطفة إنسانية يصورها الراوي والشاعر حسبما يراه

لقد كان اليونان يصورون الإنسان لأنه يستحق النظر إليه ويقولون: إذا كنت لا تجد من ينظر إليك فكيف تجد من يصورك؟ وعلى هذا كان تصويرهم مقصوراً على الجميل والنبيل والرائع والمشهور، وهي الصورة التي تسترعي الأنظار وتشغل الخواطر وتفعم النفوس بالفتنة والإعجاب

كان ذلك شعارهم في عالم التصوير الفني، فهل تغير اليوم هذا الشعار؟

لا. لم يتغير، ولم يزل من دأب القاصين والشعراء والرسامين والمثالين والكتاب المسرحيين أن يصوروا ما يستحق النظر، وأن يقولوا كما كان اليونان الأقدمون يقولون: إذا كنت لا تجد من ينظر إليك فيكف تجد من يصورك؟!

لم يتغير شعار الفن القديم، وإنما تغير الذين يستحقون النظر فأصبح الدميم والسقيم والوضيع والخامل مستحقين أن ينظر إليهم الناظر، وأن يبحث فيهم الباحث، وأن يتناوله التشريح، وأن يتعلق بعرفانهم عرفان أخلاق الإنسان وأطوار الجماعات وأدواء الأجسام وآفات الضمائر، وأصبح الهمل المنبوذون أهلاً للدرس والفحص والمراقبة مذ أصبحت جثة الميت أهلا للعناية بها ومراقبة الأدواء والأدوية فيها. فإذا قال القائل الحديث: كيف تجد من يصورك وأنت لا تجد من ينظر إليك؟ فهو معبر عن رأي الأقدمين والمحدثين على حد سواء؛ ولكنه إذا سأل: من الذي يستحق النظر أو من الذي يستحق التصوير؟ فهنا يظهر الخلاف ويتبين الفارق بين شعار الفن القديم وشعار الفن الحديث

وقد أصاب (لونارد وولف) حين قرن بين هذا التغيير وبين الديمقراطية، وأصاب أكثر من ذلك حين قال: إن الأديان فتحت باب هذا التغيير حين عرفّت الإنسان أن له روحاً مستقلاً بحسابه، منفرداً بثوابه وعقابه، معدوداً أمام الله خلقاً لا يفنى في غمار الخليقة، ولا يزال له ميزانه وكتاب حسناته وسيئاته لا يختلط بميزان غيره ولا بكتابه

وتلك في الحقيقة هي أول خطوة خطاها الإنسان في إظهار (الفرد) وتمييزه من غمار الجنس كله أو الطائفة برمتها

فمنذ أصبح الإنسان (فرداً) معزولاً في حكم الدين، لا اختلاط بين حسناته وسيئاته وبين حسنات الآخرين وسيئاتهم، ولا التباس بين ثوابه وثوابهم وعقابه وعقابهم؛ هنالك أصبحت كل نفس بما كسبت رهينة، وأصبحت كل نفس حقيقة بالمحاسبة والإحصاء والمراقبة، ورسخت جذور الديمقراطية في التاريخ فلم يبق إلا أن تظهر لها على وجه الأرض فروع وأوراق وثمار

وغاية الفرق بين الفردية الدينية والفردية الديمقراطية أن حساب الدين إنما يكون في الآخرة فلا ضرورة لفرز الأفراد في هذا العالم الأرضي ولا لتمييزهم بالخصائص الدنيوية وما يتصل بها من الخلائق الاجتماعية والملامح الفكرية والأطوار السياسية

أما الديمقراطية فلا مناص فيها من التمييز بهذه المزايا ولا من فرز الناس على حسب ما يتراءى بينهم من فوارق الدنيا وعلامات الحياة وشياتها. ومن ثم بدأ التحليل النفسي بعد ظهور الديمقراطية ولم يبدأ تواً بعد ظهور الأديان؛ وكان من دواعي ظهوره مع الديمقراطية عدا ما تقدم أنها جاءت على أثر النهضة العلمية وعلى أثر انتشار العلوم والمباحث في أطوار الناس مجتمعين ومنفردين، فتيسر التحليل النفسي الذي لم يكن ميسوراً قبل ذلك في صدر المسيحية أو في صدر الإسلام، وأمكن التفريق بين الأفراد في الطائفة الواحدة والجنس الواحد، لأنهم من جهة قد ملكوا الحرية التي يبرزون بها خصائصهم ونزواتهم، وينطلقون بها مع أهوائهم ورغباتهم؛ ومن جهة أخرى قد وجدوا من يدرسهم ويطبق عليهم قواعد العلوم ويصوب إليهم مجاهر النقد والملاحظة. ولم تكن أسباب ذلك كله مهيأة عند ما جاءت الأديان بدعوة الفردية الدينية وجعلت كل إنسان (روحاً) له حسابه وكتابه وليس بالقطرة المنسية في الغمار

على أن العبقريات الرفيعة قد سبقت نهضة الديمقراطية إلى تمييز (الخصائص الفردية) على اختلافها ولو كانت في أوضع النفوس وأهونها وأبشع مياسمها. فكان المصور العظيم (ليوناردو دافنشي) يتعقب المشوهين والمسخاء في الطرقات ويغريهم بالخمر والمال، حتى يتكشفوا عن سرائر نفوسهم، ويخرجوا من حجاز الكلفة والمهابة، فيرقص منهم من يرقص، ويهذي منهم من يهذي، ويقهقه منهم من يقهقه؛ وتزداد بذلك بشاعة وجوههم وفسولة طبائعهم، وهو ناظر إليهم يترقب لمحة عارضة فيسجلها بقلمه دون أن يقطع عليهم مجانتهم وخلاعتهم. وكان شكسبير يصور عشرات النساء وكل واحدة منهن امرأة غير سائر بنات حواء في حبها وبغضها وحيلتها وكيدها وكلامها وسلوكها، حتى لا مشابهة بين صاحبة هملت وصاحبة عطيل وصاحبة مكبث وبنات الملك لير إلا في صفة الأنوثة التي تشمل جميع النساء

أما من عدا هذه الطبقة من العبقريين فأبطالهم كما قال (لونارد وولف) نماذج يشترك في صفاتها المئات والألوف، فحسن التاجر البصري مثلاُ هو تاجر كسائر التجار، وهو عنوان طائفة وليس بفرد من الأفراد، وكذلك عجيب وغريب وغيرهما من أبطال ألف ليلة وليلة، هم نماذج للفرسان والأمراء، وللأخيار والأشرار وللشيوخ والشبان، لا تحس فرقاً بين أحدهم وبين غيره من أبناء قبيله وعامة أقرانه وزملائه، ولا مشابهة بينهم وبين أبطال القصص الحديثة - ولاسيما التحليلية منها - حيث ترى البطل فرداً ليس بالمتكرر وليس بالشائع بين أبناء صنعته وإخوان طرازه، وإن شابههم في صفة من الصفات فبمقدار ما يستدعيه اتفاق الصناعة واتفاق البيئة دون أن يفنى معهم في الغمار أو يغيب وراء العنوان

يلوح لي أن هذا الرأي الذي أجملته وتصرفت في تفسيره بما أخلى المؤلف من تبعاته - هو على الجملة رأي صواب لا غنى عنه في نقد الفنون والآداب

ولكني أفضل أن أقول إن التحليل النفسي لم يكن نتيجة الديمقراطية وإنما كانت الديمقراطية والتحليل النفسي معاً نتيجة شيء آخر: هو انتهاء الكشوف الظاهرة وابتداء الكشوف الباطنة، أو هو انتهاء السياحات الجغرافية وابتداء السياحات النفسية الإنسانية

ففي الوقت الذي ظهرت فيه القصة التحليلية كان الإنسان قد فرغ من كشف الأرض ووصل إلى أقصى مجاهل العالم المعمور

ولم تكن هناك قصة تحليلية قبل كشف الهند وكشف أمريكا وكشف المجاهل الآسيوية والأفريقية

فلما كشف كل هذه الأصقاع ووقف حب الاستطلاع والتماس الغرائب، من هذه الناحية، بدأ الالتفات إلى دخائل النفس وأخذت غرائب الأخلاق في الظهور، وأخذت العناية بها والتوفر على درسها في التقدم والشيوع

لقد كان معظم الرواية القديمة رواية رحلات ورحالين وكان الإنسان مشغولا بكشف (المكان) الذي يحيط به ويغريه بسحره ووعوده ومجازفاته، فكان شغفه بالاستطلاع والإحاطة بالدنيا مستغرقاً كله أو جله في هذه الناحية، وكان أمامه من العالم شيء يستوفيه ويستكمله ولا يزال له متعقباً متأثراً حتى ينتهي به إلى مداه

ولم يكن مجرد اتفاق ولا مصادفة أن تمت الكشوف الجغرافية وبدأت الكشوف النفسية في عصر واحد، فقد فرغ الإنسان من كشف الظاهر فانقلب إلى كشف الباطن، وعرف العجائب من البقاع المجهولة، فانثنى إلى العجائب من الخلائق الخفية، وكان هذا هو الترتيب الطبيعي المعقول في تاريخ الكشف والاستطلاع، فإن الاهتداء إلى المكان أسهل وأوجب من الاهتداء إلى سرائر الأخلاق، والعلم الذي يحتاج إليه المرء في سياحة جغرافية أقل من العلم الذي يحتاج إليه في سياحات الضمير، إذ هو في الواقع ملتقى جميع العلوم ومشتجر الفلسفات والديانات والمذاهب أجمعين

لقد بدأت الديمقراطية وبدأ التحليل النفسي معاً بعد كشف الأمريكتين وكشف الهند وكشف المجاهل الآسيوية والأفريقية، ولولا انكشاف الأرض للإنسان لبقي مشغولاً بالمجهول منها عن سرائره وخصائصه وما يتميز به الأفراد من حقوق وواجبات عباس محمود العقاد



مجلة الرسالة - العدد 230
بتاريخ: 29 - 11 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...