في العام ١٩٨٨ قرأت الأعمال الشعرية لهارون هاشم رشيد لأتتبع صورة اليهودي فيها.
وأنا أقرأ عن حياته عرفت أنه أصدر في العام ١٩٧٠ رواية «سنوات العذاب» فكان، حسب ما أعرف، رابع شاعر فلسطيني يكتب الرواية؛ الأول هو إسكندر الخوري البيتجالي «الحياة بعد الموت» ١٩٢٠ والثاني هو محمد العدناني «في السرير» ١٩٤٦ والثالث هو يوسف الخطيب «عناصر هدامة» ١٩٥٨، وهذا دفعني إلى حث أحد طلابي وهو عمر قزق إلى كتابة رسالة ماجستير عن الشعراء الروائيين في الأدب الفلسطيني.
عبثاً نجحت في العام ١٩٨٨ في الحصول على «سنوات العذاب»، ومؤخراً قرأت مراجعة نقدية لها كتبها رائد حواري فسألته إن كان بالإمكان استعارتها.
كان هاجس قراءتها يلح عليّ لأنظر في صورة اليهود فيها وأرى إن كانت اختلفت عن صورتهم في أشعاره.
وأنا أتتبع صورة اليهود في شعره خلصت إلى الآتي:
«لا يختلف تصور رشيد في أشعاره كثيراً عن تصور طوقان والعبوشي والعدناني، وهو منذ ابتدأ يكتب الشعر حتى ١٩٦٧ لم يتصور اليهود سوى الأعداء. ويبدو أن تتبع هذا التصور في أشعاره كلها غير ذي جدوى. إنه يكرر باستمرار الأوصاف التي ينعتها بهم.... ولم تتغير لهجة رشيد هذه في تصور الذات والآخر إلا إثر هزيمة ١٩٦٧. لقد خف تغنيه بالعرب ككل متجانس، وأخذ يغني للفدائيين ممجداً بطولاتهم، رائياً فيهم البديل».
صورة الآخر تتجسد في الآتي. إنهم مجرمون ظالمون وذئاب ولصوص وسارقون مستلبون ومخادعون يدنسون أرض فلسطين وطغاة ومتغطرسون وأذلاء وبغايا ويشربون دم الأطفال.
وقد تغنى رشيد بالعرب حتى ١٩٦٧ فمجد بطولاتهم ومقاومتهم الاستعمار في الجزائر واليمن ومدح جمال عبد الناصر وتوجه نحو الوحدة العربية في غير قصيدة.
هل اختلف تصوره لليهود وللعرب في «سنوات العذاب»؟
الرواية التي تسردها منى، ابنة يافا التي كان عمرها في ١٩٤٨ أربع سنوات، يمتد زمنها الروائي حتى ١٩٥٦؛ عام احتلال إسرائيل قطاع غزة ويتوقف عند اللحظات التي تحرر فيها القطاع من الاحتلال - أي أن زمن جريان الأحداث يبعد عن زمن النشر١٤ عاماً، ولا أعرف بالضبط متى بدأ رشيد كتابة روايته ومتى انتهى منها.
إن نظرة على الإهداء تفصح عن تمجيده عبد الناصر وهو ما قرأناه في قصائده.
في تتبع صورة اليهود في الرواية لن نجد فيها أي اختلاف عن صورتهم في شعره سوى تجسيد الصفات وتفصيلها في مشاهد، وحتى الفكرة التي شاعت عنهم من أنهم يخطفون الأطفال ويشربون دمهم تظهر في الرواية.
اللافت بوضوح هو تلك الصورة التي تبرزها الرواية للفدائي الفلسطيني الذي قاوم احتلال قطاع غزة في ١٩٥٦، وهي صورة ظهرت باختصار في رواية كنفاني «ما تبقى لكم» ١٩٦٦.
هنا يطنب رشيد فيها ويخصص لها صفحات كثيرة، إلى جانب إبراز صورة للمرأة الفلسطينية الفدائية، وهذه الصورة لم نعثر عليها في رواية كنفاني التي أبرزت للمرأة صورة سلبية، فمنى وبعض الممرضات يمجدن الفدائي وينتمين إلى المقاومة، بخلاف مريم في «ما تبقى لكم».
السؤال الذي كان يلح علي وأنا أقرأ عن الفدائي والفدائية هو:
- هل أبرز رشيد هذه الصورة لهما بوحي مما كانت عليه المقاومة الفلسطينية بعد ١٩٦٧؟ - أي تأثير الزمن الكتابي على الزمن الروائي. أغلب الظن هو كذلك.
يمكن الإفادة عموماً من قراءة هذه الرواية في قراءة الرواية التاريخية التي كتبها فلسطينيون جدد عن فترة ١٩٤٨، مثل إبراهيم نصر الله صاحب «زمن الخيول البيضاء» ٢٠٠٧، ويمكن مقارنة صورة الفدائي فيها بالصورة التي ظهرت في روايات روائيين فلسطينيين وعرب مثل إلياس خوري «الوجوه البيضاء» ١٩٨١ وفواز حداد «المترجم الخائن» ٢٠٠٨ وحزامة حبايب «مخمل» ٢٠١٦.
عندما كتبت عن «زمن الخيول البيضاء» لاحظت تأثير الزمن الكتابي بوضوح، فالرواية التي توقفت عند العام ١٩٤٨ تستخدم مفردات ما كان الكتاب يستخدمونها في حينه مثل «القوات الإسرائيلية» و «إسرائيل» والدينار الأردني وما شابه. مثل هذا لا نعثر عليه في «سنوات العذاب» التي استخدم كاتبها مفردة اليهود والعصابات.
في رواية خوري تظهر للفدائي صورة إيجابية لا تختلف عن صورته في رواية رشيد، ولكنها مع مرور الأيام تختلف. ويمكن قول الشيء نفسه عن صورته في رواية حداد، وقد توقفت بالتفصيل أمامها في كتابي «الفلسطيني في الرواية العربية» ٢٠٢٢.
حزامة حبايب تسترجع في روايتها أيلول ١٩٧٠ وتكتب عن الفدائي في تلك الأيام.
تنجو حزامة في كتابتها عن أحداث أيلول من فخ تأثير اللحظة الراهنة على الزمن المسترجع، وهو ما لم ينجح فيه كثيرون من الكتاب الفلسطينيين الذين استرجعوا الماضي، إذ كتبوا عنه متأثرين بلحظة الكتابة.
مؤخراً أعدت قراءة رواية زكريا محمد «عصا الراعي» فالتفت إلى رأيه في تأثير الحاضر على رؤية الماضي، ورأيه يستحق كتابة.
«لذا فأنا أتذكر في هذه اللحظة ولا أقرأ، فيختلط الماضي والحاضر في كلامي» و «عليه أن يبحث عن الماضي. عن الحاضر في صورة الماضي. عن الماضي في صورة الحاضر».
حين نبحث عن صورة اليهودي في «سنوات العذاب» التي يتوقف زمنها عند العام ١٩٥٦ علينا أيضاً أن نبحث عن صورتهم في زمن الكتابة ١٩٧٠، وعليه قس.
عادل الأسطة
2023-09-03
وأنا أقرأ عن حياته عرفت أنه أصدر في العام ١٩٧٠ رواية «سنوات العذاب» فكان، حسب ما أعرف، رابع شاعر فلسطيني يكتب الرواية؛ الأول هو إسكندر الخوري البيتجالي «الحياة بعد الموت» ١٩٢٠ والثاني هو محمد العدناني «في السرير» ١٩٤٦ والثالث هو يوسف الخطيب «عناصر هدامة» ١٩٥٨، وهذا دفعني إلى حث أحد طلابي وهو عمر قزق إلى كتابة رسالة ماجستير عن الشعراء الروائيين في الأدب الفلسطيني.
عبثاً نجحت في العام ١٩٨٨ في الحصول على «سنوات العذاب»، ومؤخراً قرأت مراجعة نقدية لها كتبها رائد حواري فسألته إن كان بالإمكان استعارتها.
كان هاجس قراءتها يلح عليّ لأنظر في صورة اليهود فيها وأرى إن كانت اختلفت عن صورتهم في أشعاره.
وأنا أتتبع صورة اليهود في شعره خلصت إلى الآتي:
«لا يختلف تصور رشيد في أشعاره كثيراً عن تصور طوقان والعبوشي والعدناني، وهو منذ ابتدأ يكتب الشعر حتى ١٩٦٧ لم يتصور اليهود سوى الأعداء. ويبدو أن تتبع هذا التصور في أشعاره كلها غير ذي جدوى. إنه يكرر باستمرار الأوصاف التي ينعتها بهم.... ولم تتغير لهجة رشيد هذه في تصور الذات والآخر إلا إثر هزيمة ١٩٦٧. لقد خف تغنيه بالعرب ككل متجانس، وأخذ يغني للفدائيين ممجداً بطولاتهم، رائياً فيهم البديل».
صورة الآخر تتجسد في الآتي. إنهم مجرمون ظالمون وذئاب ولصوص وسارقون مستلبون ومخادعون يدنسون أرض فلسطين وطغاة ومتغطرسون وأذلاء وبغايا ويشربون دم الأطفال.
وقد تغنى رشيد بالعرب حتى ١٩٦٧ فمجد بطولاتهم ومقاومتهم الاستعمار في الجزائر واليمن ومدح جمال عبد الناصر وتوجه نحو الوحدة العربية في غير قصيدة.
هل اختلف تصوره لليهود وللعرب في «سنوات العذاب»؟
الرواية التي تسردها منى، ابنة يافا التي كان عمرها في ١٩٤٨ أربع سنوات، يمتد زمنها الروائي حتى ١٩٥٦؛ عام احتلال إسرائيل قطاع غزة ويتوقف عند اللحظات التي تحرر فيها القطاع من الاحتلال - أي أن زمن جريان الأحداث يبعد عن زمن النشر١٤ عاماً، ولا أعرف بالضبط متى بدأ رشيد كتابة روايته ومتى انتهى منها.
إن نظرة على الإهداء تفصح عن تمجيده عبد الناصر وهو ما قرأناه في قصائده.
في تتبع صورة اليهود في الرواية لن نجد فيها أي اختلاف عن صورتهم في شعره سوى تجسيد الصفات وتفصيلها في مشاهد، وحتى الفكرة التي شاعت عنهم من أنهم يخطفون الأطفال ويشربون دمهم تظهر في الرواية.
اللافت بوضوح هو تلك الصورة التي تبرزها الرواية للفدائي الفلسطيني الذي قاوم احتلال قطاع غزة في ١٩٥٦، وهي صورة ظهرت باختصار في رواية كنفاني «ما تبقى لكم» ١٩٦٦.
هنا يطنب رشيد فيها ويخصص لها صفحات كثيرة، إلى جانب إبراز صورة للمرأة الفلسطينية الفدائية، وهذه الصورة لم نعثر عليها في رواية كنفاني التي أبرزت للمرأة صورة سلبية، فمنى وبعض الممرضات يمجدن الفدائي وينتمين إلى المقاومة، بخلاف مريم في «ما تبقى لكم».
السؤال الذي كان يلح علي وأنا أقرأ عن الفدائي والفدائية هو:
- هل أبرز رشيد هذه الصورة لهما بوحي مما كانت عليه المقاومة الفلسطينية بعد ١٩٦٧؟ - أي تأثير الزمن الكتابي على الزمن الروائي. أغلب الظن هو كذلك.
يمكن الإفادة عموماً من قراءة هذه الرواية في قراءة الرواية التاريخية التي كتبها فلسطينيون جدد عن فترة ١٩٤٨، مثل إبراهيم نصر الله صاحب «زمن الخيول البيضاء» ٢٠٠٧، ويمكن مقارنة صورة الفدائي فيها بالصورة التي ظهرت في روايات روائيين فلسطينيين وعرب مثل إلياس خوري «الوجوه البيضاء» ١٩٨١ وفواز حداد «المترجم الخائن» ٢٠٠٨ وحزامة حبايب «مخمل» ٢٠١٦.
عندما كتبت عن «زمن الخيول البيضاء» لاحظت تأثير الزمن الكتابي بوضوح، فالرواية التي توقفت عند العام ١٩٤٨ تستخدم مفردات ما كان الكتاب يستخدمونها في حينه مثل «القوات الإسرائيلية» و «إسرائيل» والدينار الأردني وما شابه. مثل هذا لا نعثر عليه في «سنوات العذاب» التي استخدم كاتبها مفردة اليهود والعصابات.
في رواية خوري تظهر للفدائي صورة إيجابية لا تختلف عن صورته في رواية رشيد، ولكنها مع مرور الأيام تختلف. ويمكن قول الشيء نفسه عن صورته في رواية حداد، وقد توقفت بالتفصيل أمامها في كتابي «الفلسطيني في الرواية العربية» ٢٠٢٢.
حزامة حبايب تسترجع في روايتها أيلول ١٩٧٠ وتكتب عن الفدائي في تلك الأيام.
تنجو حزامة في كتابتها عن أحداث أيلول من فخ تأثير اللحظة الراهنة على الزمن المسترجع، وهو ما لم ينجح فيه كثيرون من الكتاب الفلسطينيين الذين استرجعوا الماضي، إذ كتبوا عنه متأثرين بلحظة الكتابة.
مؤخراً أعدت قراءة رواية زكريا محمد «عصا الراعي» فالتفت إلى رأيه في تأثير الحاضر على رؤية الماضي، ورأيه يستحق كتابة.
«لذا فأنا أتذكر في هذه اللحظة ولا أقرأ، فيختلط الماضي والحاضر في كلامي» و «عليه أن يبحث عن الماضي. عن الحاضر في صورة الماضي. عن الماضي في صورة الحاضر».
حين نبحث عن صورة اليهودي في «سنوات العذاب» التي يتوقف زمنها عند العام ١٩٥٦ علينا أيضاً أن نبحث عن صورتهم في زمن الكتابة ١٩٧٠، وعليه قس.
عادل الأسطة
2023-09-03