امتدّت تجربة الطّاهر الهمّامي (1947-2009) الإبداعيّة على ما يزيد عن خمس وأربعين سنة، بدءا من المراسلات الأولى Sans titre-5لمجلّة الفكر سنة 1964، وقبلها محاولات عهد التّلمذة التي كانت منفتحة أكثر على هموم النّاس وأوجاعهم في العروسة مسقط رأسه وعلى قضايا أخرى وطنيّة وقوميّة.
وربّما كان التّحوّل الأهمّ في هذه التّجربة هو دخوله الجامعة التّونسيّة التي كانت في بداية تأسيسها وكانت تنشد حداثتها من خلال جهود بعض الأساتذة والباحثين، وفي مقدّمة هؤلاء الفقيدان صالح القرمادي (1933-1982) وتوفيق بكّار (1927-2017) الذي غادرنا منذ أيّام. ففي الجامعة تعرّف الطّاهر الهمّامي إلى أصوات جديدة مختلفة في الشّعر والنّقد وأصبحت كتاباته أكثر نضجا وانفتاحا على الأيديولوجيّ والسّياسيّ في تونس والوطن العربيّ والعالم.
والثّابت أنّ الهمّامي أحد أبرز منظرّي ومؤسّسي وشعراء حركة الطّليعة التّونسيّة. وهي حركة أدبيّة ثقافيّة ظهرت رسميّا سنة 1968 ولكن سرعان ما انفرط عقدها بداية من سنة 1972. وقد ظلّ طليعيّا إلى حين وفاته لا بالمعنى الاصطلاحيّ المرتبط بتسمية حركة الطّليعة وإنّما بالمعنى الفنّي والثّقافيّ والسّياسيّ. فأشعاره كلّها (مجموعة “الحصار” التي صدرت سنة 1972 وقدّم لها الأستاذ توفيق بكّار، و”الشّمس طلعت كالخبزة” 1973 التي صودرت وحجزت وتمّ استنطاقه بسببها من قبل فرقة مقاومة الإجرام، و”صائفة الجمر”1984، و”أرى النّخل يمشي” 1986، و”تأبّط نارا” 1994، و”اسكني يا جراح” 2004، و”مرثيّة البقر الضّحوك” 2005) آتية من المستقبل لا من الماضي، أي أنّها ضروب من التّجريب الجماليّ المنفتح على تفاصيل الحياة اليوميّة وعلى أسرار السّياسيّ الماثلة في كلّ شيء، إذ لا شيء خلو من الايديولوجيا أو السّياسة.
ولتلك النّصوص خلفيّتها الأيتيقيّة النّبيلة. فقد ظلّ الهمّامي وفيّا لرهاناته ولذاته ولِمَا آمن به من مبادئ رغم المحن التي ألمّت به والمضايقات المتعدّدة التي كانت تحاصره من جهات مختلفة، بل إنّه تحدّى مختلف العراقيل بإصراره على الكتابة في قضايا ومواضيع متعدّدة، فكأنّما كان ينشد نصّا جامعا أو يبحث عن خلاص مطلق ونهائيّ بالكتابة. واللاّفت أنّه كان يحلم بالثّورة لا بالمعنى الاجتماعيّ السّياسيّ فقط، وإنّما بالمعنى الجماليّ كذلك. فشرط الكتابة بالنّسبة إليه هو تفكيك السّائد وتعريضه للسّؤال وإعادة البناء على قاعدة أنّ السّؤال هو المدخل الأمثل إلى تأسيس المغاير والمختلف. وهذا ما جعل قصيدته مختبَرا جماليّا وإنسانيّا وفضاء للحريّة وحيّزا للنّقد بمعناه الواسع. ففيها يطرح الهمّامي كلّ أنواع الأسئلة على أنحاء مباشرة وغير مباشرة، وفيها يقاوم التّسلّط والخوف والقهر، ويدافع عن إنسانيّة الإنسان ونبل منزلته. يقول في قصيدة ” كوكتال في الهواء الطّلق” وهي أحد عشر عنوانا (11) داخليّا:
شكوى إلى “السيّد عبد العزيز العرويّ”
تحيّاتي، سيّدي
وبعد:
فإنّ قطار “القلعة الجرداء”
عربة هرمه
هرمه سوداء
سوداء وسخه
وسخة ضيّقه
كثيرة العواء والنّهيق
وفيها ينصب السّوق
بيضا مـسلــــــــــوق
ودجاجا ينـهـــــــــــق
وأرانب تـقـــــــــــــــــوق
وبعضنا مصلوب
وبعضنا مشنـــــوق
نـــــــــــــأتيــــــــه فجــــرا
ويـــــــأتينا شــــروق
وقد يخرج بنا من السكّة
أو يسقط في واد
قطار القلعة الجرداء
كلبة جرباء
وأضراس مصطكّه
نشّف أرياقنا
ويبّس العروق
تغوص القصيدة على المعنى في اليوميّ المعيش الذي بات من العناصر البانية للشّعر في تجربة الطّاهر الهمامّي لأنّ اليوميّ هو نحن، أي هو الإنسان في أبعاده المختلفة، وهو تراكم منفتح باستمرار على التّحوّلات المتعدّدة. وعلى هذا النّحو تصبح كتابته اليوميّ مقاومة لنسيان الوجود وصونا للقصيدة من أن تكون ارتجالا أو أن تُختزل في التّعبير عن وجدان أو إحساس، لتكون في المقابل إقامة دائمة وسط الأشياء أو وسط العالم تُحوِّلُ العابر إلى سؤال أبديّ وتقاوم فينا الميل إلى الطّمأنينة.
وعندما يغزو اليوميّ القصيدة فإنّها تصبح عملا نقديّا متعدّد المستويات. فهي نقد للذّائقة الجماليّة المهيمنة، ونقد لكلّ ما يمكن أن يتحوّل بالتّكرار والتّعاود إلى حقيقة، ونقد للسّلطة التي تسعى دائما إلى ترويض الإبداع لفائدتها أو تهميشه إن تمرّد عليها.
ولسنا نبالغ إذا أكّدنا أنّ الهمّامي ظلّ أكثر الشّعراء ترديدا لما تواتر من دوالّ موحية بالثّورة أو الرّفض والاحتجاج والتّشهير. يقول في مقطع بعنوان إفراج من قصيدة “مذكّرات على السّرير الأبيض”:
الفجر في الأبواب
يدقّ الفجر
يدقّ بقوّه
يتسلّل عبر مشانق الظّلمه
يبحث عن كوّه
يعيد الطّرق مرار
يرجّ الهوّه
الفجر في الأعتاب
يتكدّس ضوء وأزهار
يا آخر اللّيل
يا آخر اللّيل
يمْثُل الفجر في القصيدة بدلالاته المألوفة المتواترة، التي منها أنّه لحظة برزخيّة بين اللّيل والنّهار، وأنّه تباشير صباح جديد، وسير نحو النّور طاردا اللّيل بدلالاته التي باتت معلومة (الظّلام، الظّلم، القهر، الاستبداد، الخوف…) وقد ظلّ الهمّامي ينتظر الفجر ويحلم به، والطّريف أنّه لم ييأس ولم يفتر له عزم لأنّه آمن بالحريّة وبأنّ الواقع يتغيّر باستمرار، يغيّره الإنسان بطرائق شتّى. يقول في قصيدة “استشعار”:
كأنّ الغمامَ سينزلْ
كأنّ المياه ستهطلْ
كأنّ الرّياح …
ألا تسمعون؟
هي الأرض راحت تبدّل أثوابها
هو الوقت راح
ألا تسرعون؟
بـ”كأنّ” هذه – التي تكرّرت ثلاث مرّات – يكون القول إنشاء وضربا من الإيقاع وإعادة بناء للواقع على نحو مشتقّ من طبيعة الذّات في حالاتها المختلفة (الحالمة أو المحتجّة أو الثّائرة المتمرّدة). فـ”كأنّ” في هذا المُقتطع حدس. والحدس من شروط الإبداع. ففيه أو منه ينشأ الممكن والاحتماليّ والمتوقّع من الإنصات المرهف إلى حركة التّاريخ.
لم يتخلّ الطّاهر، إذن، عن أحلامه وحدوسه، ولم يقطع صلة خطابه بالمعيش اليوميّ. ولكنّه كان يحرص على أن يجعل بناء نصّه مدخلا إلى السّؤال والتّفكير في الممكن واقعا وإبداعا في آن معا. يقول في قصيدته “لحظة سقوط” من مجموعة “اسكني يا جراح”
يا أمّةً شبعتْ من جُــــبنها الأمـــمُ يخيفُها الحبرُ والقرطاسُ والقـلـــُم…
ابصمْ بخفّكَ لا تخجلْ فأنــتَ لـهــا تغــنى وتغنم من أخْـفافها البَهـــــمُ
كسّر يَرَاعَكَ لا تكتب علـــى ورق وأكتب بساقك، تحيا السّاق والقـدمُ
نرى فلسطين تنأى عن نواظـــرنا وحـــــولها ازدحم الـعقبان والرّخمُ
نرى العراق، نرى بـغدادنا رحلت وللـعــلوج بـها مـــغنى ومــــتَــــنَمُ
نــــــطقتُ مـتّهَمٌ ســـــكـتُّ مــتّهـمُ ضـحكتُ متّـهمُ بكيتُ مــــتّهـــــــمُ
تحاور هذه القصيدة قصيدتين لأبي الطّيب المتنبّي، الأولى مطلعها “من أيّة الطّرق يأتي مثلَكَ الكرمُ… أين المحاجمُ يا كافور والجلمُ؟”، أمّا الثّانية فهي التي مطلعها “وا حرّ قلباه ممّن قلبه شبمُ … ومن بجسمي وحالي عنده سقمُ”. وهذا يعني أنّ كتاباته منفتحة على نصوص أخرى كثيرة توزّعت بين التّراثيّ والحداثيّ. وهذا ما يُبقي قصيدته خلافيّة لأنّها قد فتحت لنفسها مسارات كتابيّة متعدّدة، فضلا عن أنّها لا تُخفي نسبها الايديولوجيّ – الاجتماعيّ ونزوعها المستمرّ إلى التّجريب ورغبتها في أن تُصنّف في خانة النّضال الثّقافيّ. ويمكن أن نشير إلى بعض المداخل التي تيسّر تأمّل شعريّتها والوقوف على مظاهر الحداثة فيها، وتلك المداخل هي:
– نزوع الخطاب في القصيدة إلى اليوميّ نزوعا لافتا يتوسّل بالبسيط والعاديّ في البناء الشّعريّ.
– تهجين خطابات أخرى متنوّعة وتوظيفها في اشتقاق الدّلالة وإنشاء الصّور.
– هيمنة معاجم الرّفض والتّمرّد والاحتجاج لإخراج الإنسان من سجن الصّمت وضيقه إلى رحابة الكلام والكتابة وتأمّل الواقع بصوت عال للتّخلّص من استبطان الخوف والهزيمة.
– الإنصات الدّائم للثّورة اسما وصدى وحلما، والمراوحة بين استبطائها واستعجالها بحسب ما تكون عليه الذّات من حالات مختلفة.
-* عمر حفيظ
وربّما كان التّحوّل الأهمّ في هذه التّجربة هو دخوله الجامعة التّونسيّة التي كانت في بداية تأسيسها وكانت تنشد حداثتها من خلال جهود بعض الأساتذة والباحثين، وفي مقدّمة هؤلاء الفقيدان صالح القرمادي (1933-1982) وتوفيق بكّار (1927-2017) الذي غادرنا منذ أيّام. ففي الجامعة تعرّف الطّاهر الهمّامي إلى أصوات جديدة مختلفة في الشّعر والنّقد وأصبحت كتاباته أكثر نضجا وانفتاحا على الأيديولوجيّ والسّياسيّ في تونس والوطن العربيّ والعالم.
والثّابت أنّ الهمّامي أحد أبرز منظرّي ومؤسّسي وشعراء حركة الطّليعة التّونسيّة. وهي حركة أدبيّة ثقافيّة ظهرت رسميّا سنة 1968 ولكن سرعان ما انفرط عقدها بداية من سنة 1972. وقد ظلّ طليعيّا إلى حين وفاته لا بالمعنى الاصطلاحيّ المرتبط بتسمية حركة الطّليعة وإنّما بالمعنى الفنّي والثّقافيّ والسّياسيّ. فأشعاره كلّها (مجموعة “الحصار” التي صدرت سنة 1972 وقدّم لها الأستاذ توفيق بكّار، و”الشّمس طلعت كالخبزة” 1973 التي صودرت وحجزت وتمّ استنطاقه بسببها من قبل فرقة مقاومة الإجرام، و”صائفة الجمر”1984، و”أرى النّخل يمشي” 1986، و”تأبّط نارا” 1994، و”اسكني يا جراح” 2004، و”مرثيّة البقر الضّحوك” 2005) آتية من المستقبل لا من الماضي، أي أنّها ضروب من التّجريب الجماليّ المنفتح على تفاصيل الحياة اليوميّة وعلى أسرار السّياسيّ الماثلة في كلّ شيء، إذ لا شيء خلو من الايديولوجيا أو السّياسة.
ولتلك النّصوص خلفيّتها الأيتيقيّة النّبيلة. فقد ظلّ الهمّامي وفيّا لرهاناته ولذاته ولِمَا آمن به من مبادئ رغم المحن التي ألمّت به والمضايقات المتعدّدة التي كانت تحاصره من جهات مختلفة، بل إنّه تحدّى مختلف العراقيل بإصراره على الكتابة في قضايا ومواضيع متعدّدة، فكأنّما كان ينشد نصّا جامعا أو يبحث عن خلاص مطلق ونهائيّ بالكتابة. واللاّفت أنّه كان يحلم بالثّورة لا بالمعنى الاجتماعيّ السّياسيّ فقط، وإنّما بالمعنى الجماليّ كذلك. فشرط الكتابة بالنّسبة إليه هو تفكيك السّائد وتعريضه للسّؤال وإعادة البناء على قاعدة أنّ السّؤال هو المدخل الأمثل إلى تأسيس المغاير والمختلف. وهذا ما جعل قصيدته مختبَرا جماليّا وإنسانيّا وفضاء للحريّة وحيّزا للنّقد بمعناه الواسع. ففيها يطرح الهمّامي كلّ أنواع الأسئلة على أنحاء مباشرة وغير مباشرة، وفيها يقاوم التّسلّط والخوف والقهر، ويدافع عن إنسانيّة الإنسان ونبل منزلته. يقول في قصيدة ” كوكتال في الهواء الطّلق” وهي أحد عشر عنوانا (11) داخليّا:
شكوى إلى “السيّد عبد العزيز العرويّ”
تحيّاتي، سيّدي
وبعد:
فإنّ قطار “القلعة الجرداء”
عربة هرمه
هرمه سوداء
سوداء وسخه
وسخة ضيّقه
كثيرة العواء والنّهيق
وفيها ينصب السّوق
بيضا مـسلــــــــــوق
ودجاجا ينـهـــــــــــق
وأرانب تـقـــــــــــــــــوق
وبعضنا مصلوب
وبعضنا مشنـــــوق
نـــــــــــــأتيــــــــه فجــــرا
ويـــــــأتينا شــــروق
وقد يخرج بنا من السكّة
أو يسقط في واد
قطار القلعة الجرداء
كلبة جرباء
وأضراس مصطكّه
نشّف أرياقنا
ويبّس العروق
تغوص القصيدة على المعنى في اليوميّ المعيش الذي بات من العناصر البانية للشّعر في تجربة الطّاهر الهمامّي لأنّ اليوميّ هو نحن، أي هو الإنسان في أبعاده المختلفة، وهو تراكم منفتح باستمرار على التّحوّلات المتعدّدة. وعلى هذا النّحو تصبح كتابته اليوميّ مقاومة لنسيان الوجود وصونا للقصيدة من أن تكون ارتجالا أو أن تُختزل في التّعبير عن وجدان أو إحساس، لتكون في المقابل إقامة دائمة وسط الأشياء أو وسط العالم تُحوِّلُ العابر إلى سؤال أبديّ وتقاوم فينا الميل إلى الطّمأنينة.
وعندما يغزو اليوميّ القصيدة فإنّها تصبح عملا نقديّا متعدّد المستويات. فهي نقد للذّائقة الجماليّة المهيمنة، ونقد لكلّ ما يمكن أن يتحوّل بالتّكرار والتّعاود إلى حقيقة، ونقد للسّلطة التي تسعى دائما إلى ترويض الإبداع لفائدتها أو تهميشه إن تمرّد عليها.
ولسنا نبالغ إذا أكّدنا أنّ الهمّامي ظلّ أكثر الشّعراء ترديدا لما تواتر من دوالّ موحية بالثّورة أو الرّفض والاحتجاج والتّشهير. يقول في مقطع بعنوان إفراج من قصيدة “مذكّرات على السّرير الأبيض”:
الفجر في الأبواب
يدقّ الفجر
يدقّ بقوّه
يتسلّل عبر مشانق الظّلمه
يبحث عن كوّه
يعيد الطّرق مرار
يرجّ الهوّه
الفجر في الأعتاب
يتكدّس ضوء وأزهار
يا آخر اللّيل
يا آخر اللّيل
يمْثُل الفجر في القصيدة بدلالاته المألوفة المتواترة، التي منها أنّه لحظة برزخيّة بين اللّيل والنّهار، وأنّه تباشير صباح جديد، وسير نحو النّور طاردا اللّيل بدلالاته التي باتت معلومة (الظّلام، الظّلم، القهر، الاستبداد، الخوف…) وقد ظلّ الهمّامي ينتظر الفجر ويحلم به، والطّريف أنّه لم ييأس ولم يفتر له عزم لأنّه آمن بالحريّة وبأنّ الواقع يتغيّر باستمرار، يغيّره الإنسان بطرائق شتّى. يقول في قصيدة “استشعار”:
كأنّ الغمامَ سينزلْ
كأنّ المياه ستهطلْ
كأنّ الرّياح …
ألا تسمعون؟
هي الأرض راحت تبدّل أثوابها
هو الوقت راح
ألا تسرعون؟
بـ”كأنّ” هذه – التي تكرّرت ثلاث مرّات – يكون القول إنشاء وضربا من الإيقاع وإعادة بناء للواقع على نحو مشتقّ من طبيعة الذّات في حالاتها المختلفة (الحالمة أو المحتجّة أو الثّائرة المتمرّدة). فـ”كأنّ” في هذا المُقتطع حدس. والحدس من شروط الإبداع. ففيه أو منه ينشأ الممكن والاحتماليّ والمتوقّع من الإنصات المرهف إلى حركة التّاريخ.
لم يتخلّ الطّاهر، إذن، عن أحلامه وحدوسه، ولم يقطع صلة خطابه بالمعيش اليوميّ. ولكنّه كان يحرص على أن يجعل بناء نصّه مدخلا إلى السّؤال والتّفكير في الممكن واقعا وإبداعا في آن معا. يقول في قصيدته “لحظة سقوط” من مجموعة “اسكني يا جراح”
يا أمّةً شبعتْ من جُــــبنها الأمـــمُ يخيفُها الحبرُ والقرطاسُ والقـلـــُم…
ابصمْ بخفّكَ لا تخجلْ فأنــتَ لـهــا تغــنى وتغنم من أخْـفافها البَهـــــمُ
كسّر يَرَاعَكَ لا تكتب علـــى ورق وأكتب بساقك، تحيا السّاق والقـدمُ
نرى فلسطين تنأى عن نواظـــرنا وحـــــولها ازدحم الـعقبان والرّخمُ
نرى العراق، نرى بـغدادنا رحلت وللـعــلوج بـها مـــغنى ومــــتَــــنَمُ
نــــــطقتُ مـتّهَمٌ ســـــكـتُّ مــتّهـمُ ضـحكتُ متّـهمُ بكيتُ مــــتّهـــــــمُ
تحاور هذه القصيدة قصيدتين لأبي الطّيب المتنبّي، الأولى مطلعها “من أيّة الطّرق يأتي مثلَكَ الكرمُ… أين المحاجمُ يا كافور والجلمُ؟”، أمّا الثّانية فهي التي مطلعها “وا حرّ قلباه ممّن قلبه شبمُ … ومن بجسمي وحالي عنده سقمُ”. وهذا يعني أنّ كتاباته منفتحة على نصوص أخرى كثيرة توزّعت بين التّراثيّ والحداثيّ. وهذا ما يُبقي قصيدته خلافيّة لأنّها قد فتحت لنفسها مسارات كتابيّة متعدّدة، فضلا عن أنّها لا تُخفي نسبها الايديولوجيّ – الاجتماعيّ ونزوعها المستمرّ إلى التّجريب ورغبتها في أن تُصنّف في خانة النّضال الثّقافيّ. ويمكن أن نشير إلى بعض المداخل التي تيسّر تأمّل شعريّتها والوقوف على مظاهر الحداثة فيها، وتلك المداخل هي:
– نزوع الخطاب في القصيدة إلى اليوميّ نزوعا لافتا يتوسّل بالبسيط والعاديّ في البناء الشّعريّ.
– تهجين خطابات أخرى متنوّعة وتوظيفها في اشتقاق الدّلالة وإنشاء الصّور.
– هيمنة معاجم الرّفض والتّمرّد والاحتجاج لإخراج الإنسان من سجن الصّمت وضيقه إلى رحابة الكلام والكتابة وتأمّل الواقع بصوت عال للتّخلّص من استبطان الخوف والهزيمة.
– الإنصات الدّائم للثّورة اسما وصدى وحلما، والمراوحة بين استبطائها واستعجالها بحسب ما تكون عليه الذّات من حالات مختلفة.
-* عمر حفيظ