إلى الطّاهر الهمّامي في ذكراه.
لنصوص الطّاهر الهمّامي الشّعريّة خصيصة جامعة. فهي نصوص تشتقّ تمايزها واختلافها وشعريّتها من اليوميّLe quotidien الذي ينتظمها ويولّد صورها واستعاراتها ويضفر دلالاتها. وكان موريس بلانشو Maurice Blanchot قد خصّ اليوميّ بتأمّل رصين خلص فيه إلى أنّه عصيّ على أن يُحدّ أو يُحاصر أو يُختزل في تعريف بعينه من فرط تعاوده وتعوّدنا عليه إلى حدّ نتوهّم فيه أنّه تافه مبتذل بلا معنى. والحال أنّه منجم المعاني ومَعينها الذّي لا ينضب. ( L’entretien infini )
– شعريّة اليوميّ
ويكتسب اليوميّ ألفته من تكراره وتعاوده لأنّه -وهو يجري أماننا في كلّ يوم في صور متشابهة أو متماثلة- يجعلنا نذهل عمّا فيه من فظيع أو مربك أو جميل أو مختلف. ولكن للشّعراء حدوس. والحدس لا يأتي من الماضي، وإنّما من المستقبل ومن المفاجئ. وشاعر الحدس يعيد كتابة السّائد والمتعاود والمألوف ليزرع بهما الشكّ ويخلخل اليقين ويربك الطّمأنينة الكاذبة.
فتخييلُ الواقع والغوص على الرّاسب في ذاكرة الكلمات وإيقاظها من سباتها الدّلاليّ من فرط تداولها ونظم حالات الذّات اللاّنهائيّة في أنماط من الكتابة، بالانفتاح على الذّاتيّ والسّياسيّ والجماليّ والتّاريخيّ واليوميّ… إنّما هي تقاطعات تجعل المعيش تجربة فريدة متمايزة عندما نعيد تأمّلها بعيني الشّاعر. فحينها تكفّ الكتابة عن أن تكون رصدا لحالة أو تعبيرا عن انفعال لتصبح صيغة وجود منفتحة على المجهول، وعلى المستقبل باستمرار.
والنّاظر في كتابات الطّاهر الشّعريّة يمكنه أن يدرك بيسر أنّ قصيدته حيّز لليوميّ والحادث والتّافه والمهمّش والمبتذل، وأنّها تُرَدِّدُ لغات وأصواتا ولهجات شتّى، ولكنّها تبني لنفسها ضروبا من الإيقاع غير الوزنيّ وبغير العلامات اللّغويّة وتمارس حريّتها في أن تُكتب خارج الخانات والتوقّعات… لذلك فإنّها تربك الذّائقة التّقليديّة وتقلق السّلطة، أيّ سلطة. يقول في قصيدة كوكتال في الهواء الطّلق وهي أحد عشر عنوانا(11) داخليّا:
1-شكوى إلى “”السيّد عبد العزيز العرويّ””
تحيّاتي، سيّدي
وبعد:
فإنّ قطار’’القلعة الجرداء‘‘
عربة هرمه
هرمه سوداء
سوداء وسخه
وسخة ضيّقه
كثيرة العواء والنّهيق
وفيها ينصب السّوق
بيضا مـسلــــــــــوق
ودجاجا ينـهـــــــــــق
وأرانب تـقـــــــــــــــــوق
وبعضنا مصلوب
وبعضنا مشنـــــوق
نـــــــــــــأتيــــــــه فجــــرا
ويـــــــأتينا شــــروق
وقد يخرج بنا من السكّة
أو يسقط في واد
قطار القلعة الجرداء
كلبة جرباء
وأضراس مصطكّه
نشّف أرياقنا
ويبّس العروق
2- مالا لا*) !
” ………………………………………
……………………………………….
………………………………………. “
وتعود الأغنية
حتّى يقلق الحاضرون
فيتقيّأ البعض
وينتحر البعض
ويموت ويحيا البعض..45
وتتواصل القصيدة في عناوينها الدّاخليّة التّسعة الباقية: 3- سوق عكاظ، 4- قافلة تسير، 5 – قصيدة بصريّة، 6- لمَ تزقزق العصافير؟، 7 – + – ؟ !، 8- المزعجات، 9- غلاء المعيشة، 10- فراغ يملؤه القارئ، 11- استدراك في “حظّك اليوم”.
تحتفي هذه القصيدة باليوميّ بدءا من اسمي العلم( 1-القلعة الجرداء وهي منطقة في الشّمال الغربيّ التّونسيّ،،، 2-عبد العزيز العرويّ الذّي كان يسمعه التّونسيّون في حكايات عن القيم والأخلاق كان يسردها بالدّارجة للاعتبار والوعظ) وصولا إلى “حظّك اليوم” مرورا بالأغنية الشّهيرة ’’مالا…لا‘‘ التّي تتغنّى بالجمال. و’’قافلة تسير‘‘(البرنامج الإذاعيّ الذّي كان جزءا من ذاكرة التّونسيّين الشّعبيّة) و’’غلاء المعيشة‘‘…
ولا نظنّ أنّ إدراج هذا المتعدّد من المرجعيّ المألوف في حياة التّونسيّين، وإلصاق تذكرة القطار أو نموذج لها في القصيدة، أو توظيف الرّموز الرّياضيّة أو الفراغات المتقابلة أفقيّا وعموديّا أو حشر كلمات فرنسيّة بين الكلمات العربيّة…، لا نظنّه إلاّ من رهانات شعراء الطّليعة أو بعضهم على الأقلّ. فالشّارع وملفوظاته وعباراته المسكوكة من العناصر البانية للشّعر خاصّة في تجربة الطّاهر الهمامّي. واليوميّ بالنّسبة إليه ليس غفلا من المعنى أو هو حالات ساذجة لا تتطلّب استشكالا ولا تستدعي تفكيرا.
إنّ اليوميّ، بالنّسبة إليه، هو الإنسان في أبعاده المختلفة. وليس أشكل من الإنسان -الكائن بين المرئيّ واللاّمرئيّ، بين المعلوم والمجهول، بين العاديّ والمفاجئ، بين الواقعيّ والخياليّ… وليس اليوميّ إلاّ تراكما منفتحا باستمرار على التّحوّلات، وهو الذّات-الأنا في اختلافها وحالاتها اللاّنهائيّة.
وعلى هذا النّحو تصبح كتابة اليوميّ مقاومة لنسيان الوجود، وصونا للقصيدة من أن تكون ارتجالا أو أن تُختزل في التّعبير عن وجدان أو إحساس، لتكون في المقابل إقامة دائمة وسط الأشياء أو وسط العالم تحوّل العابر إلى سؤال أبديّ وتقاوم الميل إلى الطّمأنينة وتقلق الفكر الذّي استبعدته الشّعريّة العربيّة، أحيانا، باختزالها الشّعر في الشّعور والإيقاع في الوزن-الأذن.
وعندما يغزو اليوميّ القصيدة فإنّها تصبح عملا نقديّا متعدّد المستويات. فهي نقد للذّائقة الجماليّة المهيمنة، ونقد لكلّ ما يمكن أن يتحوّل بالتّكرار والتّعاود إلى حقيقة، ونقد للسّلطة التّي تسعى دائما إلى ترويض الإبداع لفائدتها أو تهميشه إن تمرّد عليها.
إنّ تأمّل اليوميّ في سطحيّته وعمقه ومأساويّته وتفاهته من ثوابت القصيدة الطّليعيّة، كما أنّ التّخفّف من الاستعارات البعيدة واللّغة التّي لا تحيل إلاّ على ذاتها من ثوابتها كذلك، إضافة إلى الحلم بالثّورة، بل إنّه سمتها التّي ميّزتها آنذاك. وليس من المهمّ كثيرا أن تحيلنا هذه القصيدة على خارج نصّيّ- على قطار القلعة الجرداء الذّي كان يستقلّه الطّاهر الهمّامي فعلا في طريق عودته من تونس العاصمة إلى قريته ’’العروسة‘‘ المثبت اسمها في التّذكرة، وإنّما المهمّ أنّها حوّلت كلّ العناصر التّي ساهمت في بنائها إلى دوالّ نابضة بفائض معنويّ لم يكن لها قبل أن تتشكّل في القصيدة.
فليست الوقائع هي ما ميّز هذه القصيدة، وإنّما هو العكس تماما. فهذه القصيدة هي التّي أنشأت قطار القلعة الجرداء و’’نصبت السّوق‘‘ وأطلقت الأصوات متقاطعة فيها ونوّعت البضاعة والرّوائح… وهي لا تنشد الوصف والاحتجاج والتّشهير بقدر ما تنشد التّأسيس لرؤى أخرى جماليّة تهدم تصوّرات تقليديّة مستقرّة للشّعر والصّورة والإيقاع وما هو من الشّعر وما ليس منه… والتّأسيس لتلك الرّؤى يمكن أن يبدأ من إلغاء كثير من الثّنائيّات المعطّلة (هذه كلمة شعريّة،،، وهذه كلمة غير شعريّة./ الاستعارة في كلام الشّعراء،،، الكلام المتداول يوميّا بين النّاس خال من الاستعارات./ النّثر أرضيّ وواقعيّ،،، أمّا الشّعر فمتعال متسام./ …)
وبهذا المعنى فإنّ هذه القصيدة لم تعد تحيل على خارج فقط بقدر ما أصبحت محيلة على ذاتها. وهي ليست صوت احتجاج على السّلطة السّياسيّة فحسب، وإنّما هي قصيدة تؤسّس للاختلاف في تمثّل الشّعر والفنّ عامّة، ولكنّها تؤسّس لما هو أبعد كذلك، لوعي مغاير بإنسانيّة الإنسان وبضرورة تغيير الواقع أو تغيير زوايا النّظر إليه على الأقلّ حتّى لا يُظنّ أنّ صوره تلك هي الممكن الوحيد أو هي القدر المطلق الذّي لا يتغيّر.
– شعريّة الثّورة
إنّ الحلم بالثّورة والتّبشير بها من ثوابت القصيدة الطّليعيّة التّي تمرّدت على الأشكال الثّابتة في الشّعر، ولسنا نبالغ إذا أكّدنا أنّ الهمّامي ظلّ أكثر الشّعراء الطّليعيّين ترديدا لما تواتر من دوالّ موحية بالثّورة أو الرّفض والاحتجاج على السّلطة والتّشهير بها. يقول في مقطع بعنوان إفراج من قصيدة ’’مذكّرات على السّرير الأبيض‘‘(1969)
-الفجر في الأبواب
يدقّ الفجر
يدقّ بقوّه
يتسلّل عبر مشانق الظّلمه
يبحث عن كوّه
يعيد الطّرق مرار
يرجّ الهوّه
الفجر في الأعتاب
يتكدّس ضوءا وأزهار
يا آخر اللّيل
يا آخر اللّيل.
يمْثُل الفجر في القصيدة بدلالاته المألوفة المتواترة، التّي منها أنّه لحظة برزخيّة بين اللّيل والنّهار، وتباشير صباح جديد، وسير نحو النّور طاردا اللّيل بدلالاته التّي باتت معلومة( الظّلام، الظّلم، القهر، الاستبداد، الخوف… )
وتشعّ من هذا المُقتطع صور يلعب فيها التّكرار والتّسكين والتّوازي التّركيبيّ أدوار الخيوط النّاظمة لما تعدّد مختلفا أو مؤتلفا. فقد ظلّ الهمّامي ينتظر الفجر، والطّريف أنّه لم ييأس ولم يفتر له عزم لأنّه آمن بالحريّة وبأنّ الواقع يتغيّر باستمرار، يغيّره الإنسان بطرائق شتّى. وهذا الإنسان الذّي يُغيّر هو الذي يسمّيه الطّاهر صديقا بصرف النّظر عن لونه أو جنسه أو دينه أو لغته، فالجامع بين الطّاهر وأصدقائه هو الإنسانيّة والحلم بالحريّة. يقول في قصيدة ’’أصدقائي‘‘ (1969)
– سيبقى أصدقائي
يطرقون سمع هذا العالم
ويملؤون شوارعه الكبيره
***
إن جاز أن أُنْـفَـى
وينتهي غنائي
سيبقى أصدقائي
يشوّشون هذا العالم
يكسّرون أبوابه الحديديّة
يحطّمون أسواره
ينفُذون إلى الدّاخل
يعملون فيه المعاول
سيبقَوْن يحملون المشاعل.
ليست هذه الكتابة إلاّ كتابة التزام ترفض أن يكون الإبداع خارج دائرة الصّراع. وليس الصّراع صراعا طبقيّا سياسيّا فقط، وإنّما هو صراع من أجل المعنى. فسؤال الشّعر، إذن، لم يعد سؤالا فنيّا أو جماليّا فحسب، بل غدا حيّزا يؤسّس لمبدأ الصّداقة الجامع بين الأنا والآخر انطلاقا من وعي حداثيّ يؤمن بأنّ الآخر شرط وجود للأنا، وأنّ العالم يتّسع للجميع على قاعدة المشترك الإنسانيّ.
وها هنا يتجلّى الاختلاف بين شعر قد يُعاب عليه الوضوح –كما هو شأن هذه القصيدة-ولكنّه يؤسّس لقيم إنسانيّة نبيلة، وشعر تحتشد فيها الصّور ويجنح فيه الخيال ولكنّه لا يجرؤ على رفض الظّلم واستعباد الإنسان وسلبه حرّيته.
إنّ مبدأ الصّداقة- وقد جسّدته أفعال مسندة إلى الجمع في صيغة المضارع- هو الذّي ينتظم القصيدة ويجعلها تمتح من داخل الفنّ ومن خارجه في آن معا. فتشويش العالم (يشوّشون هذا العالم) إعادة ترتيب له باستحضار الآخر الذّي لا يمكن أن يتأسّس وجود أو تكون لغة أو يظهر معنى دون أن يكون هو مشاركا في ذلك. وهكذا فإنّ هذه القصيدة على ما فيها من وضوح صارخ، تفتح باب الحريّة وتذكّر بأنّ الإنسان إمكانات لا حدّ لها.
ويقول في مقطع آخر من قصيدة بعنوان Défense d’entrer:
– أستمع إلى طلق النّار
في السّاحات
أستمع إلى قلبي يدقّ
أشاهد الطّرقات
إلى العنقْ
في الدّم والعرقْ
(…) وهذا الدّم
في الشّرايين
لا يتمّ الدّوره
إلاّ باندلاع شيء
اسمه ……..
إنّ الفراغ أصل في النصّ، ولكن من اليسير معرفة اسم ذاك الشّيء، وهو الثّورة. فهي البذرة الدلاليّة المتشظّية على أنحاء شتّى داخل قصائد الهمّامي. تتجلّى صورها وأسماؤها، في كلّ قصيدة، على ضروب مختلفة فيها من التّماثل بقدر ما فيها من التّفاصل، وفيها من الائتلاف بقدر ما فيها من الاختلاف. والواقع أنّ استحضارها بدوالّ متنوّعة وعلامات لغويّة وغير لغويّة قد غدا سمة مائزة لنصّ الهمّامي بصرف النّظر عن السّياقات التّي قد تكون من قوادح الكتابة ومن بواعثها. فقد عاد الشّاعر إلى كتابة الموزون وإلى البحث عن طرائق لعقد علاقات تناصيّة مع قصائد من عيون الشّعر العربيّ القديم، ولكن ظلّت الثّورة من ثوابت قصيدته. يقول الطّاهر في’’ مرثيّة البقر الضّحوك وتباريح أخر‘‘ (2005) تحت عنوان” استشعار”:
-كأنّ الغمام سينزل
كأنّ المياه ستهطل
كأنّ الّرياح …
ألا تسمعون ؟
هي الأرض راحت تبدّل أثوابها
هو الوقت راح
ألا تسرعون؟
بـ’’كأنّ‘‘ هذه-التّي تكرّرت ثلاث مرّات- يكون القول في مقام التّوهّم، وهو مقام بلاغيّ. ولكنّنا لا نحسبه من الأصناف التّقليديّة في البلاغة. فـ’’كأنّ‘‘ ها هنا لا تفيد التّشبيه -وإن دأبت بعض كتب البلاغة على نعتها بأنّها أداة للتّشبيه وتوكيده. وقد زادها عبد القاهر في دلائل الإعجاز معنى التّوهّم- وإنّما تفيد شيئا آخر هو الادّعاء. والادّعاء -في ما نميل إليه- ضرب من الإيقاع والإنشاء للواقع على نحو مشتقّ من طبيعة الذّات في حالاتها المختلفة (الحالمة أو الثّائرة).
فـ’’كأنّ‘‘ في هذا المُقتطع نوع من حدس المفاجئ. وحدس المفاجئ والمباغت من شروط الإبداع. فحدوس الشّعراء أقوى من إكراهات التّاريخ، أحيانا، لأنّها مشتقّة ممّا ترسيه الذّات من علاقات حميمة مع الآخر والواقع. ففي تلك العلاقات الحميمة ينشأ الممكن والاحتماليّ والمتوقّع من الإنصات المرهف إلى إيقاع اليوميّ الذّي يوهمنا بفقدانه للمعاني الكبرى، والغوص على الإنسانيّ في العارض والطارئ. فقد تحجب الألفةُ المختلفَ ويتلف التّعاودُ المفاجئَ ويجعل المربك مأنوسا. ولكن يظلّ الشّاعر المسكون بالممكن يسائل البداهات وينبش السّاكن ويزعزع الاطمئنان الكاذب.
لم يتخلّ الطّاهر، إذن، عن أحلامه وحدوسه، ولم يقطع صلة خطابه بالمعيش اليوميّ. ولكنّه كان يحرص على أن يجعل بناء نصّه مدخلا إلى السّؤال والتّفكير في الممكن واقعا وإبداعا في آن معا. فهو يركّب ويهجّن باستمرار لأنّ التّهجين توقيع بالمختلف للحدّ من سلطة الواحد النّمطيّ المتكرّر. ففصحى المتنبّي يمكن أن تحتضن ’’الدّارجة التّونسيّة‘‘ وأن تصهرها في متخيّلها فتوقظ ذاكرتين، ذاكرة المتنبّي يعاني قلق الوجود وعنت اللّغة، وذاكرة الشّاعر يعاني انحسار الأحلام وتراجع كثيرين عن رغبتهم في تغيير الواقع واستسلامهم لسلطته القاهرة. وبين الذّاكرتين يمتدّ خيط رفيع هو خيط الألم النّبيل.
ففي قصيدة بعنوان ’’ذات الهمّة‘‘(1993) نقرأ ما يلي:
وإذا كانت النّفوس صـــــغارا تعبت في علاجــها الأفــــهام
شاب قرني وما رأيت طحيـنا كـــالذّي منـــــه هــــذه الأيّــــــام
عشـــرات من الدّمــــــــــــاء تبــخـّرْ نَ وصرحٌ من الأماني حطام
تنزلق الدّارجة (طحين هو ما يُطحن من الحبوب أي هو الدّقيق، ولكنّ الطّحين في الدّارجة التّونسيّة هو الذلّ والهوان والصَّغَار) داخل فصحى أبي الطيّب، ولكنّ الضّمنيَّ غيرُ المصرّح به. فمعجم القيم غير معجم الأشياء، والطّحين-الدّقيق المأكول غير الأكل بـــــ’’الطّحين‘‘-الهوان والجبن والذلّ.
وها هنا نشير إلى أنّ علاقة الهمّامي باللّغة علاقة لعب يتنزّل فيها الهزليّ منزلة الدّال المشعّ على ما حوله من تموّجات دلاليّة يشتقّ فيها الشّاعرُ الهزليَّ من المفارقات القائمة بين الدّال والمدلول والسّياقات والمقاصد…
إنّ الهوان والسّقوط والجبن وكلّ المعاني الهجائيّة-إذا جاز لنا أن نستعمل عبارة غرضيّة تقليديّة- يمكن أن تُختزل في تلك الكلمة التّي استدعاها الطّاهر من معجم اليوميّ المتداول. ونعني ’’الطّحين‘‘ الذي تعدّدت صوره وأسبابه حتّى غدا قدرا أو كأنّه قدر العرب دون سواهم من الأمم. ويقول في قصيدته ’’لحظة سقوط‘‘ من مجموعة ’’اسكني يا جراح‘‘ (2004)
يا أمّة شبعت من جُــــبنها الأمــــمُ يخيفها الحبر والقرطاس والقـــــلــــــُم…
ابصم بخفّك لا تخجل فأنت لـهـــا تغــنى وتغنم من أخـــــفافها البَهــــــــمُ
كسّر يَرَاعَكَ لا تكتب علــــى ورق وأكتب بساقك، تحيا السّاق والقــــــــدم
نرى فلسطين تنأى عن نواظــــرنا وحــــولها ازدحم الــعقبان والــــــّرخمُ
نرى العراق، نرى بـغدادنا رحـلت وللـعـــلوج بـــها مـــغنى ومـــغــتــــنم
نـطقتُ مـتّهمٌ سـكـتُّ مــتّهــــــــــمٌ ضــــحكتُ متّـــهمٌ بكيتُ مــــتّهــــــــمُ
بين كتابات الطّاهر تفاوت في البناء لا يخطئه المتأمّل، وبينها كذلك عقود من الزّمن. ولكن أليس ما تنبّأت به السّابقة هو ما تقوله اللاّحقة؟
2-6-3- شعريّة السّخريّة
يبدو اهتمام النّظريّة الأدبيّة بالسّخرية (L’ironie) ضعيفا أو محدودا، قياسا إلى الموضوعات (les Thèmes) التّي تأسّست عليها النّظرية أو التّي اتّسعت لها في سياق التّطوّر التّاريخيّ. ولعلّ السبب الأهمّ لذلك هو أنّ أرسطو لم يول الملهاة أو الكوميديا (يمكن أن نعتبرها الاسم الجامع للسّخرية والهزل والتّهكّم والمعابثة واللّعب اللّفظي والذّهني) العناية نفسها التّي أولاها للمأساة (التّراجيديا) أو الملحمة.
فالملهاة [بالنسبة إليه] هي محاكاة الأراذل من النّاس، لا في كلّ نقيصة، ولكن في الجانب الهزليّ الذي هو قسم من القبيح. ولا نجد بعد هذا الشّاهد، في كلام أرسطو، ما يستحقّ الذّكر متعلّقا بالملهاة. وهو ما نبّه إليه جيرار جينات (G. Genette) في حديثه عن الأجناس والأنواع الأدبيّة.
ويبدو أنّ هذا السّبب التّاريخيّ قد أثّر تأثيرا بالغا في الدّرس الإنشائيّ المتعلّق بالخطاب السّاخر. فظلّ هذا الخطاب مرتهنا في محاولات تحديده وفي دراسة آليّاته التي يُبنى بها، إلى ما يبذله الفلاسفة وعلماء النّفس وعلماء الاجتماع من جهود في التّأمّل والبحث.
والسّخريّة، من وجهة نظر فلسفيّة، موقف وطريقة في التّعبير لا صورا بلاغية فقط. وهذا ما يجعلها موصولة بما هو قيميّ-أخلاقيّ لذلك فإنّ الخطاب السّاخر ذو وظيفة اجتماعيّة، هي الحدّ أو التّقليص من التّعارض بين المعيش والمنشود.
وقد تأمّل البلاغيّون السّخرية من جهة ما تتحقّق به من آليّات وكيفيّات. فنظروا في علاقتها بالاستعارة والتّشبيه والكناية والتّورية واللّعب اللّغوي (بالأضداد أو المشترك…) ولماّ كانت هذه الأساليب ممّا تُبنى به الخطابات على اختلاف أنواعها (الخطاب النثريّ، السّرديّ، الشّعريّ، الصّحافيّ، السياسيّ،… ) فإنّ السّخرية يمكن أن تصبح مكوّنا محتملا أو افتراضيّا لكلّ خطاب.
ولكن هل يعني هذا أنّ كلّ خطاب هو خطاب ساخر؟
نسارع إلى الإجابة بالنّفي، لأنّ خطاب السّخرية خطاب مفارقة وتعارض لا خطاب مطابقة أو تماثل. ونحسب أنّ هذه الخلاصة الأخيرة (السّخرية مفارقة وتعارض) تصلح، كذلك، لوصف خطابات أخرى قريبة من خطاب السّخرية، كالفكاهة والمزاح والاستهزاء وغيرها. فكلّ هذه الأنواع يمكن أن تُبنى بالآليّات نفسها. ولكننّا نزعم أنّ ما يرسم بينها الحدود هو الخلفيّة التي توجّه الخطاب وتراقبه. فقد يقف الأمر في الفكاهة أو المزاح عند حدود الضّحك أو الإضحاك، أمّا في السّخريّة فإنّنا إزاء درجة في الوعي وطريقة في الإدراك والتمثّل، خصيصتها الفريدة أنّها تجمع بين الهدم والبناء.
والشّاعر مسكون بثنائيّة الهدم والبناء. وهي ثنائيّة العقل السّاخر الذّي يحتال بشتّى الطّرق كي يوقع العقول الجديّة في ارتباك وينزع عنها وقارها ويفقدها ثقتها بنفسها.
وقد جعل الهمّامي السّخريّة استراتيجيّة كتابيّة مثلما تمّت الإشارة إلى ذلك سابقا، وأجراها في نصوصه بطرائق متنوّعة. فهو قد أدخل مثلا ’’الدّارجة‘‘ و’’الفرنسيّة‘‘ إلى القصيدة عن قصد ماحيا الفروق بين اللّغات واللّهجات وذاكراتها في ضرب من التّهجين الذّي يتيح للخطاب أن يتكلّم بأصوات متعدّدة. يقول في مقطع آخر من قصيدة بعنوان Défense D’entrer( أي الدّخول ممنوع وهي عبارة كثيرا ما تُعلّق على أبواب المكاتب لأسباب معيّنة)
– كان يأكل في البيرو
ويشرب في البيرو
ويلعب في البيرو
على حبال عدّه
وقد يخونه التّدبير
فيرمي السّاق على البيرو58
إنّ عبارة Défense D’entrer ليست عبارة تنبيه أو منع فقط، وإنّما هي حجاب يخفي وراءه أسرارا تروم القصيدة كشفها. وكثيرا ما يقترن’’البيروBureau‘‘ بالسّلطة في أذهان النّاس. وليست العبارة-العنوان إلاّ تكريسا لسلطة السّلطة وخطابا للتّرهيب والتّخويف لأنّه خطاب قوّة وإلزام. ولكنّ العقل السّاخر لا يعبأ بأيّ سلطة أو إلزام لذلك ألفيناه يحوّل الدّاخل إلى خارج ويعدّد في فضاء مفتوح هو فضاء القصيدة ما يُفترض أنّه سرّ يحويه فضاء مغلق(المكتب- البيرو) ويبدو أنّ ’’Bureau‘‘ قريبة، صوتيّا، من البير(البئر) وقد كان الشّاعر منتبها إلى ذلك وقاصدا إلى التّوقيع بالأصوات:
-كان لا يخرج من البيرْ
ولا يراه أحدْ
وكان الخوفُ كأنّه التّقديرْ
في عيون بوّابيه
وكانوا حذقوا الكذب والكلام النّزيه
يقلب التّوقيع بالأصوات المراتب فيصبح في الأسفل ما كان عاليا أو ما يفترضُ أن يكون عاليا. وتتهاوى القوّة في عبارة Défense D’entrer لتؤول إلى سقوط للرّمزيّ الذّي لا معنى ولا قيمة للحياة بدونه.
إنّ التّناقض بين الرّمزيّ واليوميّ هو المولّد للهزليّ. والعقل السّاخر يولي كبير الاهتمام للعابر الزّائل لأنّه عقل تفكيكيّ شاكّ رافض لأيّ سلطة حتّى سلطة الكلمات ذاتها. فهو يعابثها بتقويض دلالاتها المستقرّة أو بالغوص على المنسيّ فيها بما يمكن أن يوسّع دلالة السّخريّة فيها.
وقد وقفنا، في نصّ آخر بعنوان ’’شكّب‘‘ على مظاهر ممّا كنّا نشير إليه وعلى تقاطع لافت بين السّخرية والاحتجاج والرّفض في خطاب يعوّل على الدّارجة فيرتقي ببعض مفرداتها إلى مرتبة الدّال السّياسي:
شكّب، شكّب
لا تتعب يا أبتي شكّب
لَصّ
حيّه
عقرب
شكّب شكّب
فلربّ أتتك الخبزة ’’ باردة‘‘ وأفقت الصّبح على جاه
منصب
شكّب
وتشمّم رائحة الإبط، الجورب
شكّب
ولربّ أحبّك ربّك يوما وطلبت الموت
فلبّى المطلب.
’شكّب‘‘ فعل يحيل في الدّارجة التّونسيّة على لعبة ورق ( شكبّه) والفعل ’’ شكّب‘‘ ليس من الفصحى. أمّا مادّة (شكّب) فهي موجودة. ومنها الشّكبان وهي الشّباك62.
وبهذا الجسر الممدود بين الدّارجة والفصحى تصبح ’’الشكبّة‘‘و ’’شكّب‘‘ و’’الشّكبان‘‘ و’’الشّباك‘‘ أحواضا دلاليّة متراشحة بما يمكن أن يتتالى من معان متعلّقة بمادتي (شبك) و(شكب) كالخلط والتّلبيس والتربّص والخديعة والمخاتلة والإيقاع بالآخر …
وما يثير الانتباه حقّا في هذا الشّاهد ليس هذه الدّلالات فحسب، وإنّما اللّعب اللّغويّ على ما له صلة بلعبة الورق (الشكبّة) ونعني ’’اللّصّ‘‘ و’’الحيّة‘‘ -وهما في الأصل اسمان لورقتي لعب- واستثمار فائضهما الدّلاليّ في السّخريّة. فقد عدلت بهما القصيدة من سياق اللّعب-الهزل إلى سياق الجدّ بغاية التّشهير والاحتجاج. فــ’’اللّصّ‘‘ و’’الحيّة‘‘ كفّا عن أن يكونا ورقتي لعب، ليصبحا دالّين على السّقوط الرّمزيّ. فلصّ(سارق ) وحيّة (أفعى ) يسترفدان كثيرا من الدّلالات السّلبيّة قيميّا. وقد أضاف إليهما الشّاعر ( عقرب ) ليثبّت السّلبيّ ويؤكّده. القصيدة، إذن، لعبة ورق، ولعب بالكلام ولكنّه لعب جادّ. يقول الشّاعر:
– شكّب
فلربّ أتتك الخبزة ’’باردة‘‘
وأفقت الصّبح على جاه أو منصب.
أو لسنا نعيش في مجتمعات ’’اللّصّ‘‘ و’’الحيّة‘‘ و’’العقرب‘‘؟ مجتمعات محكومة بالولاء لصاحب السّلطة أيّا كان نوعها وبالطّاعة والجبن والطّمع والتّقليد والخوف من المغامرة والسّؤال.
إنّ قصيدة الهمّامي ’’قلقة‘‘ و ’’مفاجئة‘‘ و’’مربكة‘‘ لأنّها ولدت تنشد الاختلاف وأرادت أن تظلّ كذلك. فالبناء بالهزليّ وإدراج اليوميّ في القصيدة والتّوقيع بغير الوزن والدّفاع عن إنسانيّة الإنسان والرّغبة في الوصول إلى المتلقّي دون تشويش على مقاصد الخطاب من المتباعدات المتنافرات، ولكنّها تأتّت للهمّامي في أغلب قصائده التي لم يتحوّل فيها الخطاب إلى شعارات ولم يهيمن فيها التّصريح على التّلميح… وقد ظلّت السّخرية هي الميسم الأجلى في تجربة هذا الشّاعر. ولعلّ أهمّ الآليات التّي تحقّقت بها السّخرية هي المنسيّ في ذاكرة الكلمات سواء كانت ’’دارجة‘‘ أم فصحى. فهو الذّي يؤسّس لجسور دلاليّة بين اللّغات واللّهجات وبين الكلمة ومثيلات لها في الثّقافة والذّاكرة والخرافة والمعيش والمتخيّل. والثّابت أنّ هذه الجسور الدّلاليّة لها وجوه أخرى منها التّضمين والتّداخل النّصّي الغيريّ أو الذّاتيّ… والهمّامي يوظّف هذه التّقاطعات فيعدّل مساراتها الأصلية حينا، ويشحنها أحيانا أخرى بدلالات جديدة. وهو في كلّ ذلك مصرّ على اختلافه وربط نصّه بالواقع.
3- الأشكال أم المقاصد؟
نتأمّل قصيدة عناق، وهي من مجموعته الأولى ’’حصار‘‘
تقرآن قصائدي
وتجهلان مقاصدي
يا قارئي
ويا قارئتي
حطّما قشرة الأشياء
مرّةً
جرّبا الإعياء
جرّبا اكتساح الظّلمه مرّةً
واتركا الضّياء.
إنّ الدّعوة إلى تأسيس عقد جديد للقراءة صريحة في هذه القصيدة. ولعلّها صادرة عن وعي بما قد يكون من المتلقّي إزاء هذا النّوع من الشّعر من تهوين أو تهميش. فالمتلقّي محكوم بعادات ثقافيّة وجماليّة يعسر عليه أن يتخلّى عنها أو يتحرّر منها دفعة واحدة. ومثلُ هذا الشّعر’’غير العموديّ والحرّ‘‘ يقاوم من أجل أن يَثبُتَ بعد أن أعلن قطيعته مع الموروثين التّقليديّ والرّومنطيقيّ وتجربة الشّعر الحرّ. وأجلى مظاهر القطيعة هي التّحرّر من القوالب الوزنيّة لا عن عجز أو جهل وإنّما عن قصد.
واللاّفت في هذه الدّعوة هو الحديث عن المقاصد. فهل تخلو كتابةٌ من مقاصدَ حتّى ينبّهنا الهمامّي إلى أنّ له مقاصد؟ وهل المتلقّي معنيّ أصلا بالبحث في مقاصد الشّاعر؟ أوليس النصّ- القصيدة هي وحدها التّي تعني المتلقّي بصرف النّظر عن مقاصد صاحبها؟
تردّنا هذه الأسئلة إلى ما كان يدور من حوارات داخل حركة الطّليعة وخارجها عن الكتابة وعلاقتها بالمجتمع والمعيش وعلاقة الكاتب بنصّه وكيفيّات القراءة،،، ولهذه القضايا- كما هو معلوم- صلات بما كان يفد على تونس من مناهج وتصوّرات نظريّة حديثة تتعلّق بالكتابة والنّقد عامّة آنذاك.
3-1- المعنى وإيقاع الذّات
يرفض الهمّامي القراءة الشّكلانيّة ( الشّكلانيّون الرّوس) التّي تقصر أدبيّة النصّ على أنماط بنائه وتبالغ في تقدير الصّنعة فيه وتعمد إلى إضعاف صلته بالسّياقات الحافّة بإنتاجه حتّى كأن لا أثر للحياة والتّاريخ فيه، وهذا ما دعاه إلى أن ينبّه على أنّ للقصائد مقاصد( تقرآن قصائدي،،، وتجهلان مقاصدي) فالمقاصد بالنّسبة إلى الشّاعر هي التّي تصنع فروق التّمايز والاختلاف بين النّصوص، وليست الأشكال.
ومن بين المقاصد في ’’غير العموديّ والحرّ‘‘ تغيير عادات القراءة والتلقّي بتغيير العادات في الكتابة. ولنا أن نشير من خلال هذه القصيدة ( ممثّلة لـ’’غير العموديّ والحرّ‘‘ ) إلى قضيّة شكليّة-جماليّة-إيقاعيّة هي موضوع نقاش إلى اليوم. وهي قضيّة ’’البيت الشّعريّ‘‘ وتسميته. وقد طُرحت فيها فرضيّات أخرى كثيرة ( شطر، سطر، جملة إيقاعيّة…) ولكنّها ليست مقنعة.
ويكفينا رأي لوتمان الذّي يقول فيه: يكتشف الباحث باندهاش- بعد أن يكون قد نظر في كلّ الإمكانات-أنّ الشّكل الطّباعيّ يكاد يكون العلامة الوحيدة المطلقة بالنّسبة إلى البيت.
فالبيت اليوم يُكتب ليُقرأ لا لينشد فقط. وتجاهل الشّكل الطّباعيّ تجاهل للذّات واختياراتها في بناء الصّفحة الشّعريّة، وإلغاء لما يمكن أن يكون من تداخل المكانيّ (الصّفحة-الطّباعة) والزّمانيّ (الصّوت) وما قد يرشح به ذاك التّداخل من دلالات كثيرة أو قليلة. ونحن نزعم أنّ بناء الصّفحة على أنحاء مختلفة تهدم الشّكل النّمطيّ( التّقابل بين الشّطرين، أو التّسلسل العموديّ) إنّما هو آليّة من آليّات الكتابة يهدف إلى تبئير موطن أو مَوَاطنَ فيها لتحقيق مقاصد بعينها.
وفي هذه القصيدة تتلاحق الأبيات متفاوتة طولا وقصرا ويعمد الشّاعر إلى التّبئير لإظهار الإبدال الذّي أنشأه في الوقفات التّي لم تعد عروضيّة -وزنيّة. وإنّما غدت وقفات بياض، تعتمد التّجانس الصّوتي(قصائدي ،،، مقاصدي،،، الأشياء،،، الإعياء،،، الضّياء) والتّكرار في آن معا( قارئي،،، قارئتي) والتّناظر التّركيبيّ والتّوازي الزّمنيّ في صيغ الأفعال (تقرآن،،، تجهلان،،، حطّما،،، جرّبا،،، اتركا) وعزل الكلمات ( تخصيص’’مرّة‘‘ بفضاء معزول في مناسبتين) للتّنبيه إلى ضرورة تغيير العادات في التّلقّي:
والغاية من هذا كلّه هي تأسيس علاقات جديدة مع النّصوص لأنّ الشّاعر قد غيّر عاداته الكتابيّة وتصوّره للشّعر ووظيفته في الحياة،،، ونحسب أنّ الشّعر في هذه القصيدة ليس في التّوازي أو التّناظر أو في غير ذلك من الظّواهر الأسلوبيّة، وإنّما في استعارة تصوّريّة أنشأها الهمّامي للقصيدة وهي التّالية:
القصيدة ليل،،،
إذن، القصيدة ليل (’’جرّبا اكتساح الظّلمه‘‘) رغم وضوحها لأنّ بناءها بـ’’اليوميّ‘‘ Le quotidien معجما وصورا وإيقاعات يخفي وراءه دلالات متعدّدة تتجاوز الإبداعيّ إلى السّياسيّ والاجتماعيّ والرّمزيّ.
وكان النّاقد جمال الدّين بالشّيخ يرى أنّ الحداثة قد انتشرت في جميع أنحاء العالم العربيّ، ولكن على أنحاء متفاوتة. وأنّ ما يسترعي الانتباه أكثر هو غزوُ الأحداثِ اليوميّةِ القصيدةَ. فقد تخلّت (أي القصيدة) عن التّجريد الجزيل وعن’’الغرض‘‘ وأعادت اكتشاف الواقع في مظاهره الأكثر بساطة.
وقد ذكر ابن الشّيخ الطّاهر الهمّامي من بين الأسماء التّي انخرطت في الحداثة الشعريّة وأعادت بناء علاقتها مع تراثها على النّقد والمساءلة.
وإشارة ابن الشّيخ المتعلّقة بالإبدالات التّي عرفتها القصيدة تذّكر بأنّ سؤال الشّعر ليس له جواب نهائيّ مكتمل لأنّ القصيدة ليست إلاّ إمكانا مفتوحا على المتحوّل والمستحدث باستمرار… إذ لا يمكن أن نؤسّس لأيّ إبدال في الممارسة الشّعرية ما لم تُطرح أسئلة ’’الشّعر‘‘ و’’الشّعريّة‘‘ و’’الإيقاع‘‘ و’’الذّات‘‘و’’التّاريخ‘‘ و’’الواقع‘‘ و’’المعنى‘‘ و’’طرائق البناء والتّشكيل‘‘…
ونحسب أنّ الهمّامي يعيد طرح هذه الأسئلة باستمرار، فيما هو يوثّق الصّلة بين القصيدة وسياقاتها إنشاء وتلقّيا. فقيمة الإبداع بالنّسبة إليه مشتقّة من قدرة المبدع على الإنصات إلى الواقع أو المعيش، في إطار رؤية تقوم على أنماط من السّخرية التّي لا تُخطئها القراءة المتأنيّة في كلّ النّصّوص تقريبا، وفي نصوصه الأخيرة على وجه التّحديد.
خــــــاتمة
الثّابت أنّ حركة الطّليعة قد فتحت أفقا للشّعر جديدا في تونس. فهيمنة التّقليديّة في أشكال متنوّعة من المديح السّياسيّ قد أربكت نزعات تجديديّة أخرى كنزعة الالتزام التّي كانت تستلهم البيّاتي والسيّاب وغيرهما، أو النّزعة العاطفيّة الذّاتيّة التّي جسّدتها قصائد الحبّ المتأثّرة بنزار قبّاني، لذلك كان ظهور الطّليعة حدثا لافتا لما تميّزت به من جرأة على النّموذج وسلطة التّقليد.
فالقصيدة الطّليعيّة باتت منفتحة على معاجم وخانات أقصاها الشّعر التّقليديّ، وعلى سجلاّت خطابيّة تلتقط من اليوميّ الفظيعَ والمؤلمَ والمربكَ والهزليَّ، إذا كان الطّليعيّ يروم الاحتجاج والتّشهير، والعاصف والعنيف والقويّ والعنيد، إذا كان يريد التّبشير بالثّورة. وهذا يعني أنّها قصيدة جمعت بين بعدين مزدوجين متداخلين: بعد ايديولوجيّ ثابت، وبعد كتابيّ فنّي وجماليّ، هو حيّز التّجريب والتّمايز.
ولم يكن الشّكل أو تنظيم الصّفحة الشّعريّة بأقلّ شأنا من المضمون الثّوريّ بالنّسبة إلى الطّليعيّين لذلك ألفيناهم يسترفدون من العلامات كلّ ما توقّعوا أو تصوّروا أنّه يوسّع المعنى والإيقاع ويوثّق الصّلة بين الذّات وخطابها وواقعها. فقد أدركوا أنّ كلّ ما يمارسه الشّاعر من تنويع أو يضيفه أو يخرج به عن المتعاود المتواتر الذّي بات مشتركا، إنّما يدخل في خانة الذّاتيّ يُنسب إلى صاحبه فيُعرف به أو يدخل في إيقاعه الذّاتيّ. والواقع أنّ شعراء الطّليعة لم يكفّوا عن البحث في ما يمكن أن يؤسّس لذواتهم.
وقد سعينا في هذا العمل إلى أن نضيء تجربة نعتبرها قد انخرطت في حداثة شعريّة ثانية، في الشّعر التّونسيّ المعاصر، بوعي ولتحقيق مقاصد فصلت بين التّقليديّ والحداثيّ. وحاولنا في قراءتنا للنّصوص أن نصلها بالسّياقات التّي أنشأتها أو التّي ساهمت في إثراء دلالتها وأن نشير إلى الإنسانيّ فيها، لأنّ الأدب الذّي دافع عنه الطّليعيّون عامّة هو المتحوّل الموصول بالحياة والإنسان والتّاريخ. وهذه السّمات هي التّي تؤسّس للاختلاف في الكتابة وتؤثّر الواقع.
ولا شكّ في أنّ الاختلاف في شأن شعر الطّليعة، سيظلّ قائما لأنّ شعريّته ممّا لم تتعوّد عليه الذّائقة الأدبيّة. وقصيدة الطّاهر تحديدا ستظلّ خلافيّة لأنّها قد فتحت لنفسها مسارا تريد أن تتحرّر فيه من الانتماء إلى ماض شعريّ مهما كان اسمه، ثمّ إنّها لم تخف نسبها الايديولوجيّ-الاجتماعيّ ونزوعها المستمرّ إلى التّجريب ورغبتها في أن تُصنّف في خانة النّضال الثّقافيّ. ويمكن أن نشير إلى بعض المداخل التّي تيسّر تأمّل شعريّتها والوقوف على مظاهر الحداثة فيها، وتلك المداخل هي:
– نزوع الخطاب في القصيدة إلى اليّوميّ نزوعا لافتا يتوسّل بالبسيط والعاديّ في البناء
– تهجين خطابات أخرى متنوّعة وتوظيفها في اشتقاق الدّلالة وإنشاء الصّور.
-هيمنة معاجم الرّفض والتّمرّد والاحتجاج لإخراج الإنسان من سجن الصّمت وضيقه إلى رحابة الكلام والكتابة وتأمّل الواقع بصوت عال للتّخلّص من استبطان الخوف والهزيمة.
– الإنصات الدّائم للثّورة اسما وصدى وحلما، والمراوحة بين استبطائها واستعجالها بحسب ما تكون عليه الذّات من حالات مختلفة.
وما من شكّ في أنّ حداثة حركة الطّليعة لها حدودها وعوائقها الذّاتيّة والموضوعيّة. ولكن يمكن أن نؤكّد أنّها أرست تقاليد جديدة في كتابة الشّعر والتّنظير له وأنّها أوّل حركة أدبيّة في تونس مهّدت أو دافعت عن أطروحاتها بالبيانات والنّصوص، وأنّها طرحت أسئلة مستحدثة في الأدب وأجناسه المختلفة مستأنِفةً ما كان قد شرع فيه أبو القاسم الشّابي في تونس.
لنصوص الطّاهر الهمّامي الشّعريّة خصيصة جامعة. فهي نصوص تشتقّ تمايزها واختلافها وشعريّتها من اليوميّLe quotidien الذي ينتظمها ويولّد صورها واستعاراتها ويضفر دلالاتها. وكان موريس بلانشو Maurice Blanchot قد خصّ اليوميّ بتأمّل رصين خلص فيه إلى أنّه عصيّ على أن يُحدّ أو يُحاصر أو يُختزل في تعريف بعينه من فرط تعاوده وتعوّدنا عليه إلى حدّ نتوهّم فيه أنّه تافه مبتذل بلا معنى. والحال أنّه منجم المعاني ومَعينها الذّي لا ينضب. ( L’entretien infini )
– شعريّة اليوميّ
ويكتسب اليوميّ ألفته من تكراره وتعاوده لأنّه -وهو يجري أماننا في كلّ يوم في صور متشابهة أو متماثلة- يجعلنا نذهل عمّا فيه من فظيع أو مربك أو جميل أو مختلف. ولكن للشّعراء حدوس. والحدس لا يأتي من الماضي، وإنّما من المستقبل ومن المفاجئ. وشاعر الحدس يعيد كتابة السّائد والمتعاود والمألوف ليزرع بهما الشكّ ويخلخل اليقين ويربك الطّمأنينة الكاذبة.
فتخييلُ الواقع والغوص على الرّاسب في ذاكرة الكلمات وإيقاظها من سباتها الدّلاليّ من فرط تداولها ونظم حالات الذّات اللاّنهائيّة في أنماط من الكتابة، بالانفتاح على الذّاتيّ والسّياسيّ والجماليّ والتّاريخيّ واليوميّ… إنّما هي تقاطعات تجعل المعيش تجربة فريدة متمايزة عندما نعيد تأمّلها بعيني الشّاعر. فحينها تكفّ الكتابة عن أن تكون رصدا لحالة أو تعبيرا عن انفعال لتصبح صيغة وجود منفتحة على المجهول، وعلى المستقبل باستمرار.
والنّاظر في كتابات الطّاهر الشّعريّة يمكنه أن يدرك بيسر أنّ قصيدته حيّز لليوميّ والحادث والتّافه والمهمّش والمبتذل، وأنّها تُرَدِّدُ لغات وأصواتا ولهجات شتّى، ولكنّها تبني لنفسها ضروبا من الإيقاع غير الوزنيّ وبغير العلامات اللّغويّة وتمارس حريّتها في أن تُكتب خارج الخانات والتوقّعات… لذلك فإنّها تربك الذّائقة التّقليديّة وتقلق السّلطة، أيّ سلطة. يقول في قصيدة كوكتال في الهواء الطّلق وهي أحد عشر عنوانا(11) داخليّا:
1-شكوى إلى “”السيّد عبد العزيز العرويّ””
تحيّاتي، سيّدي
وبعد:
فإنّ قطار’’القلعة الجرداء‘‘
عربة هرمه
هرمه سوداء
سوداء وسخه
وسخة ضيّقه
كثيرة العواء والنّهيق
وفيها ينصب السّوق
بيضا مـسلــــــــــوق
ودجاجا ينـهـــــــــــق
وأرانب تـقـــــــــــــــــوق
وبعضنا مصلوب
وبعضنا مشنـــــوق
نـــــــــــــأتيــــــــه فجــــرا
ويـــــــأتينا شــــروق
وقد يخرج بنا من السكّة
أو يسقط في واد
قطار القلعة الجرداء
كلبة جرباء
وأضراس مصطكّه
نشّف أرياقنا
ويبّس العروق
2- مالا لا*) !
” ………………………………………
……………………………………….
………………………………………. “
وتعود الأغنية
حتّى يقلق الحاضرون
فيتقيّأ البعض
وينتحر البعض
ويموت ويحيا البعض..45
وتتواصل القصيدة في عناوينها الدّاخليّة التّسعة الباقية: 3- سوق عكاظ، 4- قافلة تسير، 5 – قصيدة بصريّة، 6- لمَ تزقزق العصافير؟، 7 – + – ؟ !، 8- المزعجات، 9- غلاء المعيشة، 10- فراغ يملؤه القارئ، 11- استدراك في “حظّك اليوم”.
تحتفي هذه القصيدة باليوميّ بدءا من اسمي العلم( 1-القلعة الجرداء وهي منطقة في الشّمال الغربيّ التّونسيّ،،، 2-عبد العزيز العرويّ الذّي كان يسمعه التّونسيّون في حكايات عن القيم والأخلاق كان يسردها بالدّارجة للاعتبار والوعظ) وصولا إلى “حظّك اليوم” مرورا بالأغنية الشّهيرة ’’مالا…لا‘‘ التّي تتغنّى بالجمال. و’’قافلة تسير‘‘(البرنامج الإذاعيّ الذّي كان جزءا من ذاكرة التّونسيّين الشّعبيّة) و’’غلاء المعيشة‘‘…
ولا نظنّ أنّ إدراج هذا المتعدّد من المرجعيّ المألوف في حياة التّونسيّين، وإلصاق تذكرة القطار أو نموذج لها في القصيدة، أو توظيف الرّموز الرّياضيّة أو الفراغات المتقابلة أفقيّا وعموديّا أو حشر كلمات فرنسيّة بين الكلمات العربيّة…، لا نظنّه إلاّ من رهانات شعراء الطّليعة أو بعضهم على الأقلّ. فالشّارع وملفوظاته وعباراته المسكوكة من العناصر البانية للشّعر خاصّة في تجربة الطّاهر الهمامّي. واليوميّ بالنّسبة إليه ليس غفلا من المعنى أو هو حالات ساذجة لا تتطلّب استشكالا ولا تستدعي تفكيرا.
إنّ اليوميّ، بالنّسبة إليه، هو الإنسان في أبعاده المختلفة. وليس أشكل من الإنسان -الكائن بين المرئيّ واللاّمرئيّ، بين المعلوم والمجهول، بين العاديّ والمفاجئ، بين الواقعيّ والخياليّ… وليس اليوميّ إلاّ تراكما منفتحا باستمرار على التّحوّلات، وهو الذّات-الأنا في اختلافها وحالاتها اللاّنهائيّة.
وعلى هذا النّحو تصبح كتابة اليوميّ مقاومة لنسيان الوجود، وصونا للقصيدة من أن تكون ارتجالا أو أن تُختزل في التّعبير عن وجدان أو إحساس، لتكون في المقابل إقامة دائمة وسط الأشياء أو وسط العالم تحوّل العابر إلى سؤال أبديّ وتقاوم الميل إلى الطّمأنينة وتقلق الفكر الذّي استبعدته الشّعريّة العربيّة، أحيانا، باختزالها الشّعر في الشّعور والإيقاع في الوزن-الأذن.
وعندما يغزو اليوميّ القصيدة فإنّها تصبح عملا نقديّا متعدّد المستويات. فهي نقد للذّائقة الجماليّة المهيمنة، ونقد لكلّ ما يمكن أن يتحوّل بالتّكرار والتّعاود إلى حقيقة، ونقد للسّلطة التّي تسعى دائما إلى ترويض الإبداع لفائدتها أو تهميشه إن تمرّد عليها.
إنّ تأمّل اليوميّ في سطحيّته وعمقه ومأساويّته وتفاهته من ثوابت القصيدة الطّليعيّة، كما أنّ التّخفّف من الاستعارات البعيدة واللّغة التّي لا تحيل إلاّ على ذاتها من ثوابتها كذلك، إضافة إلى الحلم بالثّورة، بل إنّه سمتها التّي ميّزتها آنذاك. وليس من المهمّ كثيرا أن تحيلنا هذه القصيدة على خارج نصّيّ- على قطار القلعة الجرداء الذّي كان يستقلّه الطّاهر الهمّامي فعلا في طريق عودته من تونس العاصمة إلى قريته ’’العروسة‘‘ المثبت اسمها في التّذكرة، وإنّما المهمّ أنّها حوّلت كلّ العناصر التّي ساهمت في بنائها إلى دوالّ نابضة بفائض معنويّ لم يكن لها قبل أن تتشكّل في القصيدة.
فليست الوقائع هي ما ميّز هذه القصيدة، وإنّما هو العكس تماما. فهذه القصيدة هي التّي أنشأت قطار القلعة الجرداء و’’نصبت السّوق‘‘ وأطلقت الأصوات متقاطعة فيها ونوّعت البضاعة والرّوائح… وهي لا تنشد الوصف والاحتجاج والتّشهير بقدر ما تنشد التّأسيس لرؤى أخرى جماليّة تهدم تصوّرات تقليديّة مستقرّة للشّعر والصّورة والإيقاع وما هو من الشّعر وما ليس منه… والتّأسيس لتلك الرّؤى يمكن أن يبدأ من إلغاء كثير من الثّنائيّات المعطّلة (هذه كلمة شعريّة،،، وهذه كلمة غير شعريّة./ الاستعارة في كلام الشّعراء،،، الكلام المتداول يوميّا بين النّاس خال من الاستعارات./ النّثر أرضيّ وواقعيّ،،، أمّا الشّعر فمتعال متسام./ …)
وبهذا المعنى فإنّ هذه القصيدة لم تعد تحيل على خارج فقط بقدر ما أصبحت محيلة على ذاتها. وهي ليست صوت احتجاج على السّلطة السّياسيّة فحسب، وإنّما هي قصيدة تؤسّس للاختلاف في تمثّل الشّعر والفنّ عامّة، ولكنّها تؤسّس لما هو أبعد كذلك، لوعي مغاير بإنسانيّة الإنسان وبضرورة تغيير الواقع أو تغيير زوايا النّظر إليه على الأقلّ حتّى لا يُظنّ أنّ صوره تلك هي الممكن الوحيد أو هي القدر المطلق الذّي لا يتغيّر.
– شعريّة الثّورة
إنّ الحلم بالثّورة والتّبشير بها من ثوابت القصيدة الطّليعيّة التّي تمرّدت على الأشكال الثّابتة في الشّعر، ولسنا نبالغ إذا أكّدنا أنّ الهمّامي ظلّ أكثر الشّعراء الطّليعيّين ترديدا لما تواتر من دوالّ موحية بالثّورة أو الرّفض والاحتجاج على السّلطة والتّشهير بها. يقول في مقطع بعنوان إفراج من قصيدة ’’مذكّرات على السّرير الأبيض‘‘(1969)
-الفجر في الأبواب
يدقّ الفجر
يدقّ بقوّه
يتسلّل عبر مشانق الظّلمه
يبحث عن كوّه
يعيد الطّرق مرار
يرجّ الهوّه
الفجر في الأعتاب
يتكدّس ضوءا وأزهار
يا آخر اللّيل
يا آخر اللّيل.
يمْثُل الفجر في القصيدة بدلالاته المألوفة المتواترة، التّي منها أنّه لحظة برزخيّة بين اللّيل والنّهار، وتباشير صباح جديد، وسير نحو النّور طاردا اللّيل بدلالاته التّي باتت معلومة( الظّلام، الظّلم، القهر، الاستبداد، الخوف… )
وتشعّ من هذا المُقتطع صور يلعب فيها التّكرار والتّسكين والتّوازي التّركيبيّ أدوار الخيوط النّاظمة لما تعدّد مختلفا أو مؤتلفا. فقد ظلّ الهمّامي ينتظر الفجر، والطّريف أنّه لم ييأس ولم يفتر له عزم لأنّه آمن بالحريّة وبأنّ الواقع يتغيّر باستمرار، يغيّره الإنسان بطرائق شتّى. وهذا الإنسان الذّي يُغيّر هو الذي يسمّيه الطّاهر صديقا بصرف النّظر عن لونه أو جنسه أو دينه أو لغته، فالجامع بين الطّاهر وأصدقائه هو الإنسانيّة والحلم بالحريّة. يقول في قصيدة ’’أصدقائي‘‘ (1969)
– سيبقى أصدقائي
يطرقون سمع هذا العالم
ويملؤون شوارعه الكبيره
***
إن جاز أن أُنْـفَـى
وينتهي غنائي
سيبقى أصدقائي
يشوّشون هذا العالم
يكسّرون أبوابه الحديديّة
يحطّمون أسواره
ينفُذون إلى الدّاخل
يعملون فيه المعاول
سيبقَوْن يحملون المشاعل.
ليست هذه الكتابة إلاّ كتابة التزام ترفض أن يكون الإبداع خارج دائرة الصّراع. وليس الصّراع صراعا طبقيّا سياسيّا فقط، وإنّما هو صراع من أجل المعنى. فسؤال الشّعر، إذن، لم يعد سؤالا فنيّا أو جماليّا فحسب، بل غدا حيّزا يؤسّس لمبدأ الصّداقة الجامع بين الأنا والآخر انطلاقا من وعي حداثيّ يؤمن بأنّ الآخر شرط وجود للأنا، وأنّ العالم يتّسع للجميع على قاعدة المشترك الإنسانيّ.
وها هنا يتجلّى الاختلاف بين شعر قد يُعاب عليه الوضوح –كما هو شأن هذه القصيدة-ولكنّه يؤسّس لقيم إنسانيّة نبيلة، وشعر تحتشد فيها الصّور ويجنح فيه الخيال ولكنّه لا يجرؤ على رفض الظّلم واستعباد الإنسان وسلبه حرّيته.
إنّ مبدأ الصّداقة- وقد جسّدته أفعال مسندة إلى الجمع في صيغة المضارع- هو الذّي ينتظم القصيدة ويجعلها تمتح من داخل الفنّ ومن خارجه في آن معا. فتشويش العالم (يشوّشون هذا العالم) إعادة ترتيب له باستحضار الآخر الذّي لا يمكن أن يتأسّس وجود أو تكون لغة أو يظهر معنى دون أن يكون هو مشاركا في ذلك. وهكذا فإنّ هذه القصيدة على ما فيها من وضوح صارخ، تفتح باب الحريّة وتذكّر بأنّ الإنسان إمكانات لا حدّ لها.
ويقول في مقطع آخر من قصيدة بعنوان Défense d’entrer:
– أستمع إلى طلق النّار
في السّاحات
أستمع إلى قلبي يدقّ
أشاهد الطّرقات
إلى العنقْ
في الدّم والعرقْ
(…) وهذا الدّم
في الشّرايين
لا يتمّ الدّوره
إلاّ باندلاع شيء
اسمه ……..
إنّ الفراغ أصل في النصّ، ولكن من اليسير معرفة اسم ذاك الشّيء، وهو الثّورة. فهي البذرة الدلاليّة المتشظّية على أنحاء شتّى داخل قصائد الهمّامي. تتجلّى صورها وأسماؤها، في كلّ قصيدة، على ضروب مختلفة فيها من التّماثل بقدر ما فيها من التّفاصل، وفيها من الائتلاف بقدر ما فيها من الاختلاف. والواقع أنّ استحضارها بدوالّ متنوّعة وعلامات لغويّة وغير لغويّة قد غدا سمة مائزة لنصّ الهمّامي بصرف النّظر عن السّياقات التّي قد تكون من قوادح الكتابة ومن بواعثها. فقد عاد الشّاعر إلى كتابة الموزون وإلى البحث عن طرائق لعقد علاقات تناصيّة مع قصائد من عيون الشّعر العربيّ القديم، ولكن ظلّت الثّورة من ثوابت قصيدته. يقول الطّاهر في’’ مرثيّة البقر الضّحوك وتباريح أخر‘‘ (2005) تحت عنوان” استشعار”:
-كأنّ الغمام سينزل
كأنّ المياه ستهطل
كأنّ الّرياح …
ألا تسمعون ؟
هي الأرض راحت تبدّل أثوابها
هو الوقت راح
ألا تسرعون؟
بـ’’كأنّ‘‘ هذه-التّي تكرّرت ثلاث مرّات- يكون القول في مقام التّوهّم، وهو مقام بلاغيّ. ولكنّنا لا نحسبه من الأصناف التّقليديّة في البلاغة. فـ’’كأنّ‘‘ ها هنا لا تفيد التّشبيه -وإن دأبت بعض كتب البلاغة على نعتها بأنّها أداة للتّشبيه وتوكيده. وقد زادها عبد القاهر في دلائل الإعجاز معنى التّوهّم- وإنّما تفيد شيئا آخر هو الادّعاء. والادّعاء -في ما نميل إليه- ضرب من الإيقاع والإنشاء للواقع على نحو مشتقّ من طبيعة الذّات في حالاتها المختلفة (الحالمة أو الثّائرة).
فـ’’كأنّ‘‘ في هذا المُقتطع نوع من حدس المفاجئ. وحدس المفاجئ والمباغت من شروط الإبداع. فحدوس الشّعراء أقوى من إكراهات التّاريخ، أحيانا، لأنّها مشتقّة ممّا ترسيه الذّات من علاقات حميمة مع الآخر والواقع. ففي تلك العلاقات الحميمة ينشأ الممكن والاحتماليّ والمتوقّع من الإنصات المرهف إلى إيقاع اليوميّ الذّي يوهمنا بفقدانه للمعاني الكبرى، والغوص على الإنسانيّ في العارض والطارئ. فقد تحجب الألفةُ المختلفَ ويتلف التّعاودُ المفاجئَ ويجعل المربك مأنوسا. ولكن يظلّ الشّاعر المسكون بالممكن يسائل البداهات وينبش السّاكن ويزعزع الاطمئنان الكاذب.
لم يتخلّ الطّاهر، إذن، عن أحلامه وحدوسه، ولم يقطع صلة خطابه بالمعيش اليوميّ. ولكنّه كان يحرص على أن يجعل بناء نصّه مدخلا إلى السّؤال والتّفكير في الممكن واقعا وإبداعا في آن معا. فهو يركّب ويهجّن باستمرار لأنّ التّهجين توقيع بالمختلف للحدّ من سلطة الواحد النّمطيّ المتكرّر. ففصحى المتنبّي يمكن أن تحتضن ’’الدّارجة التّونسيّة‘‘ وأن تصهرها في متخيّلها فتوقظ ذاكرتين، ذاكرة المتنبّي يعاني قلق الوجود وعنت اللّغة، وذاكرة الشّاعر يعاني انحسار الأحلام وتراجع كثيرين عن رغبتهم في تغيير الواقع واستسلامهم لسلطته القاهرة. وبين الذّاكرتين يمتدّ خيط رفيع هو خيط الألم النّبيل.
ففي قصيدة بعنوان ’’ذات الهمّة‘‘(1993) نقرأ ما يلي:
وإذا كانت النّفوس صـــــغارا تعبت في علاجــها الأفــــهام
شاب قرني وما رأيت طحيـنا كـــالذّي منـــــه هــــذه الأيّــــــام
عشـــرات من الدّمــــــــــــاء تبــخـّرْ نَ وصرحٌ من الأماني حطام
تنزلق الدّارجة (طحين هو ما يُطحن من الحبوب أي هو الدّقيق، ولكنّ الطّحين في الدّارجة التّونسيّة هو الذلّ والهوان والصَّغَار) داخل فصحى أبي الطيّب، ولكنّ الضّمنيَّ غيرُ المصرّح به. فمعجم القيم غير معجم الأشياء، والطّحين-الدّقيق المأكول غير الأكل بـــــ’’الطّحين‘‘-الهوان والجبن والذلّ.
وها هنا نشير إلى أنّ علاقة الهمّامي باللّغة علاقة لعب يتنزّل فيها الهزليّ منزلة الدّال المشعّ على ما حوله من تموّجات دلاليّة يشتقّ فيها الشّاعرُ الهزليَّ من المفارقات القائمة بين الدّال والمدلول والسّياقات والمقاصد…
إنّ الهوان والسّقوط والجبن وكلّ المعاني الهجائيّة-إذا جاز لنا أن نستعمل عبارة غرضيّة تقليديّة- يمكن أن تُختزل في تلك الكلمة التّي استدعاها الطّاهر من معجم اليوميّ المتداول. ونعني ’’الطّحين‘‘ الذي تعدّدت صوره وأسبابه حتّى غدا قدرا أو كأنّه قدر العرب دون سواهم من الأمم. ويقول في قصيدته ’’لحظة سقوط‘‘ من مجموعة ’’اسكني يا جراح‘‘ (2004)
يا أمّة شبعت من جُــــبنها الأمــــمُ يخيفها الحبر والقرطاس والقـــــلــــــُم…
ابصم بخفّك لا تخجل فأنت لـهـــا تغــنى وتغنم من أخـــــفافها البَهــــــــمُ
كسّر يَرَاعَكَ لا تكتب علــــى ورق وأكتب بساقك، تحيا السّاق والقــــــــدم
نرى فلسطين تنأى عن نواظــــرنا وحــــولها ازدحم الــعقبان والــــــّرخمُ
نرى العراق، نرى بـغدادنا رحـلت وللـعـــلوج بـــها مـــغنى ومـــغــتــــنم
نـطقتُ مـتّهمٌ سـكـتُّ مــتّهــــــــــمٌ ضــــحكتُ متّـــهمٌ بكيتُ مــــتّهــــــــمُ
بين كتابات الطّاهر تفاوت في البناء لا يخطئه المتأمّل، وبينها كذلك عقود من الزّمن. ولكن أليس ما تنبّأت به السّابقة هو ما تقوله اللاّحقة؟
2-6-3- شعريّة السّخريّة
يبدو اهتمام النّظريّة الأدبيّة بالسّخرية (L’ironie) ضعيفا أو محدودا، قياسا إلى الموضوعات (les Thèmes) التّي تأسّست عليها النّظرية أو التّي اتّسعت لها في سياق التّطوّر التّاريخيّ. ولعلّ السبب الأهمّ لذلك هو أنّ أرسطو لم يول الملهاة أو الكوميديا (يمكن أن نعتبرها الاسم الجامع للسّخرية والهزل والتّهكّم والمعابثة واللّعب اللّفظي والذّهني) العناية نفسها التّي أولاها للمأساة (التّراجيديا) أو الملحمة.
فالملهاة [بالنسبة إليه] هي محاكاة الأراذل من النّاس، لا في كلّ نقيصة، ولكن في الجانب الهزليّ الذي هو قسم من القبيح. ولا نجد بعد هذا الشّاهد، في كلام أرسطو، ما يستحقّ الذّكر متعلّقا بالملهاة. وهو ما نبّه إليه جيرار جينات (G. Genette) في حديثه عن الأجناس والأنواع الأدبيّة.
ويبدو أنّ هذا السّبب التّاريخيّ قد أثّر تأثيرا بالغا في الدّرس الإنشائيّ المتعلّق بالخطاب السّاخر. فظلّ هذا الخطاب مرتهنا في محاولات تحديده وفي دراسة آليّاته التي يُبنى بها، إلى ما يبذله الفلاسفة وعلماء النّفس وعلماء الاجتماع من جهود في التّأمّل والبحث.
والسّخريّة، من وجهة نظر فلسفيّة، موقف وطريقة في التّعبير لا صورا بلاغية فقط. وهذا ما يجعلها موصولة بما هو قيميّ-أخلاقيّ لذلك فإنّ الخطاب السّاخر ذو وظيفة اجتماعيّة، هي الحدّ أو التّقليص من التّعارض بين المعيش والمنشود.
وقد تأمّل البلاغيّون السّخرية من جهة ما تتحقّق به من آليّات وكيفيّات. فنظروا في علاقتها بالاستعارة والتّشبيه والكناية والتّورية واللّعب اللّغوي (بالأضداد أو المشترك…) ولماّ كانت هذه الأساليب ممّا تُبنى به الخطابات على اختلاف أنواعها (الخطاب النثريّ، السّرديّ، الشّعريّ، الصّحافيّ، السياسيّ،… ) فإنّ السّخرية يمكن أن تصبح مكوّنا محتملا أو افتراضيّا لكلّ خطاب.
ولكن هل يعني هذا أنّ كلّ خطاب هو خطاب ساخر؟
نسارع إلى الإجابة بالنّفي، لأنّ خطاب السّخرية خطاب مفارقة وتعارض لا خطاب مطابقة أو تماثل. ونحسب أنّ هذه الخلاصة الأخيرة (السّخرية مفارقة وتعارض) تصلح، كذلك، لوصف خطابات أخرى قريبة من خطاب السّخرية، كالفكاهة والمزاح والاستهزاء وغيرها. فكلّ هذه الأنواع يمكن أن تُبنى بالآليّات نفسها. ولكننّا نزعم أنّ ما يرسم بينها الحدود هو الخلفيّة التي توجّه الخطاب وتراقبه. فقد يقف الأمر في الفكاهة أو المزاح عند حدود الضّحك أو الإضحاك، أمّا في السّخريّة فإنّنا إزاء درجة في الوعي وطريقة في الإدراك والتمثّل، خصيصتها الفريدة أنّها تجمع بين الهدم والبناء.
والشّاعر مسكون بثنائيّة الهدم والبناء. وهي ثنائيّة العقل السّاخر الذّي يحتال بشتّى الطّرق كي يوقع العقول الجديّة في ارتباك وينزع عنها وقارها ويفقدها ثقتها بنفسها.
وقد جعل الهمّامي السّخريّة استراتيجيّة كتابيّة مثلما تمّت الإشارة إلى ذلك سابقا، وأجراها في نصوصه بطرائق متنوّعة. فهو قد أدخل مثلا ’’الدّارجة‘‘ و’’الفرنسيّة‘‘ إلى القصيدة عن قصد ماحيا الفروق بين اللّغات واللّهجات وذاكراتها في ضرب من التّهجين الذّي يتيح للخطاب أن يتكلّم بأصوات متعدّدة. يقول في مقطع آخر من قصيدة بعنوان Défense D’entrer( أي الدّخول ممنوع وهي عبارة كثيرا ما تُعلّق على أبواب المكاتب لأسباب معيّنة)
– كان يأكل في البيرو
ويشرب في البيرو
ويلعب في البيرو
على حبال عدّه
وقد يخونه التّدبير
فيرمي السّاق على البيرو58
إنّ عبارة Défense D’entrer ليست عبارة تنبيه أو منع فقط، وإنّما هي حجاب يخفي وراءه أسرارا تروم القصيدة كشفها. وكثيرا ما يقترن’’البيروBureau‘‘ بالسّلطة في أذهان النّاس. وليست العبارة-العنوان إلاّ تكريسا لسلطة السّلطة وخطابا للتّرهيب والتّخويف لأنّه خطاب قوّة وإلزام. ولكنّ العقل السّاخر لا يعبأ بأيّ سلطة أو إلزام لذلك ألفيناه يحوّل الدّاخل إلى خارج ويعدّد في فضاء مفتوح هو فضاء القصيدة ما يُفترض أنّه سرّ يحويه فضاء مغلق(المكتب- البيرو) ويبدو أنّ ’’Bureau‘‘ قريبة، صوتيّا، من البير(البئر) وقد كان الشّاعر منتبها إلى ذلك وقاصدا إلى التّوقيع بالأصوات:
-كان لا يخرج من البيرْ
ولا يراه أحدْ
وكان الخوفُ كأنّه التّقديرْ
في عيون بوّابيه
وكانوا حذقوا الكذب والكلام النّزيه
يقلب التّوقيع بالأصوات المراتب فيصبح في الأسفل ما كان عاليا أو ما يفترضُ أن يكون عاليا. وتتهاوى القوّة في عبارة Défense D’entrer لتؤول إلى سقوط للرّمزيّ الذّي لا معنى ولا قيمة للحياة بدونه.
إنّ التّناقض بين الرّمزيّ واليوميّ هو المولّد للهزليّ. والعقل السّاخر يولي كبير الاهتمام للعابر الزّائل لأنّه عقل تفكيكيّ شاكّ رافض لأيّ سلطة حتّى سلطة الكلمات ذاتها. فهو يعابثها بتقويض دلالاتها المستقرّة أو بالغوص على المنسيّ فيها بما يمكن أن يوسّع دلالة السّخريّة فيها.
وقد وقفنا، في نصّ آخر بعنوان ’’شكّب‘‘ على مظاهر ممّا كنّا نشير إليه وعلى تقاطع لافت بين السّخرية والاحتجاج والرّفض في خطاب يعوّل على الدّارجة فيرتقي ببعض مفرداتها إلى مرتبة الدّال السّياسي:
شكّب، شكّب
لا تتعب يا أبتي شكّب
لَصّ
حيّه
عقرب
شكّب شكّب
فلربّ أتتك الخبزة ’’ باردة‘‘ وأفقت الصّبح على جاه
منصب
شكّب
وتشمّم رائحة الإبط، الجورب
شكّب
ولربّ أحبّك ربّك يوما وطلبت الموت
فلبّى المطلب.
’شكّب‘‘ فعل يحيل في الدّارجة التّونسيّة على لعبة ورق ( شكبّه) والفعل ’’ شكّب‘‘ ليس من الفصحى. أمّا مادّة (شكّب) فهي موجودة. ومنها الشّكبان وهي الشّباك62.
وبهذا الجسر الممدود بين الدّارجة والفصحى تصبح ’’الشكبّة‘‘و ’’شكّب‘‘ و’’الشّكبان‘‘ و’’الشّباك‘‘ أحواضا دلاليّة متراشحة بما يمكن أن يتتالى من معان متعلّقة بمادتي (شبك) و(شكب) كالخلط والتّلبيس والتربّص والخديعة والمخاتلة والإيقاع بالآخر …
وما يثير الانتباه حقّا في هذا الشّاهد ليس هذه الدّلالات فحسب، وإنّما اللّعب اللّغويّ على ما له صلة بلعبة الورق (الشكبّة) ونعني ’’اللّصّ‘‘ و’’الحيّة‘‘ -وهما في الأصل اسمان لورقتي لعب- واستثمار فائضهما الدّلاليّ في السّخريّة. فقد عدلت بهما القصيدة من سياق اللّعب-الهزل إلى سياق الجدّ بغاية التّشهير والاحتجاج. فــ’’اللّصّ‘‘ و’’الحيّة‘‘ كفّا عن أن يكونا ورقتي لعب، ليصبحا دالّين على السّقوط الرّمزيّ. فلصّ(سارق ) وحيّة (أفعى ) يسترفدان كثيرا من الدّلالات السّلبيّة قيميّا. وقد أضاف إليهما الشّاعر ( عقرب ) ليثبّت السّلبيّ ويؤكّده. القصيدة، إذن، لعبة ورق، ولعب بالكلام ولكنّه لعب جادّ. يقول الشّاعر:
– شكّب
فلربّ أتتك الخبزة ’’باردة‘‘
وأفقت الصّبح على جاه أو منصب.
أو لسنا نعيش في مجتمعات ’’اللّصّ‘‘ و’’الحيّة‘‘ و’’العقرب‘‘؟ مجتمعات محكومة بالولاء لصاحب السّلطة أيّا كان نوعها وبالطّاعة والجبن والطّمع والتّقليد والخوف من المغامرة والسّؤال.
إنّ قصيدة الهمّامي ’’قلقة‘‘ و ’’مفاجئة‘‘ و’’مربكة‘‘ لأنّها ولدت تنشد الاختلاف وأرادت أن تظلّ كذلك. فالبناء بالهزليّ وإدراج اليوميّ في القصيدة والتّوقيع بغير الوزن والدّفاع عن إنسانيّة الإنسان والرّغبة في الوصول إلى المتلقّي دون تشويش على مقاصد الخطاب من المتباعدات المتنافرات، ولكنّها تأتّت للهمّامي في أغلب قصائده التي لم يتحوّل فيها الخطاب إلى شعارات ولم يهيمن فيها التّصريح على التّلميح… وقد ظلّت السّخرية هي الميسم الأجلى في تجربة هذا الشّاعر. ولعلّ أهمّ الآليات التّي تحقّقت بها السّخرية هي المنسيّ في ذاكرة الكلمات سواء كانت ’’دارجة‘‘ أم فصحى. فهو الذّي يؤسّس لجسور دلاليّة بين اللّغات واللّهجات وبين الكلمة ومثيلات لها في الثّقافة والذّاكرة والخرافة والمعيش والمتخيّل. والثّابت أنّ هذه الجسور الدّلاليّة لها وجوه أخرى منها التّضمين والتّداخل النّصّي الغيريّ أو الذّاتيّ… والهمّامي يوظّف هذه التّقاطعات فيعدّل مساراتها الأصلية حينا، ويشحنها أحيانا أخرى بدلالات جديدة. وهو في كلّ ذلك مصرّ على اختلافه وربط نصّه بالواقع.
3- الأشكال أم المقاصد؟
نتأمّل قصيدة عناق، وهي من مجموعته الأولى ’’حصار‘‘
تقرآن قصائدي
وتجهلان مقاصدي
يا قارئي
ويا قارئتي
حطّما قشرة الأشياء
مرّةً
جرّبا الإعياء
جرّبا اكتساح الظّلمه مرّةً
واتركا الضّياء.
إنّ الدّعوة إلى تأسيس عقد جديد للقراءة صريحة في هذه القصيدة. ولعلّها صادرة عن وعي بما قد يكون من المتلقّي إزاء هذا النّوع من الشّعر من تهوين أو تهميش. فالمتلقّي محكوم بعادات ثقافيّة وجماليّة يعسر عليه أن يتخلّى عنها أو يتحرّر منها دفعة واحدة. ومثلُ هذا الشّعر’’غير العموديّ والحرّ‘‘ يقاوم من أجل أن يَثبُتَ بعد أن أعلن قطيعته مع الموروثين التّقليديّ والرّومنطيقيّ وتجربة الشّعر الحرّ. وأجلى مظاهر القطيعة هي التّحرّر من القوالب الوزنيّة لا عن عجز أو جهل وإنّما عن قصد.
واللاّفت في هذه الدّعوة هو الحديث عن المقاصد. فهل تخلو كتابةٌ من مقاصدَ حتّى ينبّهنا الهمامّي إلى أنّ له مقاصد؟ وهل المتلقّي معنيّ أصلا بالبحث في مقاصد الشّاعر؟ أوليس النصّ- القصيدة هي وحدها التّي تعني المتلقّي بصرف النّظر عن مقاصد صاحبها؟
تردّنا هذه الأسئلة إلى ما كان يدور من حوارات داخل حركة الطّليعة وخارجها عن الكتابة وعلاقتها بالمجتمع والمعيش وعلاقة الكاتب بنصّه وكيفيّات القراءة،،، ولهذه القضايا- كما هو معلوم- صلات بما كان يفد على تونس من مناهج وتصوّرات نظريّة حديثة تتعلّق بالكتابة والنّقد عامّة آنذاك.
3-1- المعنى وإيقاع الذّات
يرفض الهمّامي القراءة الشّكلانيّة ( الشّكلانيّون الرّوس) التّي تقصر أدبيّة النصّ على أنماط بنائه وتبالغ في تقدير الصّنعة فيه وتعمد إلى إضعاف صلته بالسّياقات الحافّة بإنتاجه حتّى كأن لا أثر للحياة والتّاريخ فيه، وهذا ما دعاه إلى أن ينبّه على أنّ للقصائد مقاصد( تقرآن قصائدي،،، وتجهلان مقاصدي) فالمقاصد بالنّسبة إلى الشّاعر هي التّي تصنع فروق التّمايز والاختلاف بين النّصوص، وليست الأشكال.
ومن بين المقاصد في ’’غير العموديّ والحرّ‘‘ تغيير عادات القراءة والتلقّي بتغيير العادات في الكتابة. ولنا أن نشير من خلال هذه القصيدة ( ممثّلة لـ’’غير العموديّ والحرّ‘‘ ) إلى قضيّة شكليّة-جماليّة-إيقاعيّة هي موضوع نقاش إلى اليوم. وهي قضيّة ’’البيت الشّعريّ‘‘ وتسميته. وقد طُرحت فيها فرضيّات أخرى كثيرة ( شطر، سطر، جملة إيقاعيّة…) ولكنّها ليست مقنعة.
ويكفينا رأي لوتمان الذّي يقول فيه: يكتشف الباحث باندهاش- بعد أن يكون قد نظر في كلّ الإمكانات-أنّ الشّكل الطّباعيّ يكاد يكون العلامة الوحيدة المطلقة بالنّسبة إلى البيت.
فالبيت اليوم يُكتب ليُقرأ لا لينشد فقط. وتجاهل الشّكل الطّباعيّ تجاهل للذّات واختياراتها في بناء الصّفحة الشّعريّة، وإلغاء لما يمكن أن يكون من تداخل المكانيّ (الصّفحة-الطّباعة) والزّمانيّ (الصّوت) وما قد يرشح به ذاك التّداخل من دلالات كثيرة أو قليلة. ونحن نزعم أنّ بناء الصّفحة على أنحاء مختلفة تهدم الشّكل النّمطيّ( التّقابل بين الشّطرين، أو التّسلسل العموديّ) إنّما هو آليّة من آليّات الكتابة يهدف إلى تبئير موطن أو مَوَاطنَ فيها لتحقيق مقاصد بعينها.
وفي هذه القصيدة تتلاحق الأبيات متفاوتة طولا وقصرا ويعمد الشّاعر إلى التّبئير لإظهار الإبدال الذّي أنشأه في الوقفات التّي لم تعد عروضيّة -وزنيّة. وإنّما غدت وقفات بياض، تعتمد التّجانس الصّوتي(قصائدي ،،، مقاصدي،،، الأشياء،،، الإعياء،،، الضّياء) والتّكرار في آن معا( قارئي،،، قارئتي) والتّناظر التّركيبيّ والتّوازي الزّمنيّ في صيغ الأفعال (تقرآن،،، تجهلان،،، حطّما،،، جرّبا،،، اتركا) وعزل الكلمات ( تخصيص’’مرّة‘‘ بفضاء معزول في مناسبتين) للتّنبيه إلى ضرورة تغيير العادات في التّلقّي:
والغاية من هذا كلّه هي تأسيس علاقات جديدة مع النّصوص لأنّ الشّاعر قد غيّر عاداته الكتابيّة وتصوّره للشّعر ووظيفته في الحياة،،، ونحسب أنّ الشّعر في هذه القصيدة ليس في التّوازي أو التّناظر أو في غير ذلك من الظّواهر الأسلوبيّة، وإنّما في استعارة تصوّريّة أنشأها الهمّامي للقصيدة وهي التّالية:
القصيدة ليل،،،
إذن، القصيدة ليل (’’جرّبا اكتساح الظّلمه‘‘) رغم وضوحها لأنّ بناءها بـ’’اليوميّ‘‘ Le quotidien معجما وصورا وإيقاعات يخفي وراءه دلالات متعدّدة تتجاوز الإبداعيّ إلى السّياسيّ والاجتماعيّ والرّمزيّ.
وكان النّاقد جمال الدّين بالشّيخ يرى أنّ الحداثة قد انتشرت في جميع أنحاء العالم العربيّ، ولكن على أنحاء متفاوتة. وأنّ ما يسترعي الانتباه أكثر هو غزوُ الأحداثِ اليوميّةِ القصيدةَ. فقد تخلّت (أي القصيدة) عن التّجريد الجزيل وعن’’الغرض‘‘ وأعادت اكتشاف الواقع في مظاهره الأكثر بساطة.
وقد ذكر ابن الشّيخ الطّاهر الهمّامي من بين الأسماء التّي انخرطت في الحداثة الشعريّة وأعادت بناء علاقتها مع تراثها على النّقد والمساءلة.
وإشارة ابن الشّيخ المتعلّقة بالإبدالات التّي عرفتها القصيدة تذّكر بأنّ سؤال الشّعر ليس له جواب نهائيّ مكتمل لأنّ القصيدة ليست إلاّ إمكانا مفتوحا على المتحوّل والمستحدث باستمرار… إذ لا يمكن أن نؤسّس لأيّ إبدال في الممارسة الشّعرية ما لم تُطرح أسئلة ’’الشّعر‘‘ و’’الشّعريّة‘‘ و’’الإيقاع‘‘ و’’الذّات‘‘و’’التّاريخ‘‘ و’’الواقع‘‘ و’’المعنى‘‘ و’’طرائق البناء والتّشكيل‘‘…
ونحسب أنّ الهمّامي يعيد طرح هذه الأسئلة باستمرار، فيما هو يوثّق الصّلة بين القصيدة وسياقاتها إنشاء وتلقّيا. فقيمة الإبداع بالنّسبة إليه مشتقّة من قدرة المبدع على الإنصات إلى الواقع أو المعيش، في إطار رؤية تقوم على أنماط من السّخرية التّي لا تُخطئها القراءة المتأنيّة في كلّ النّصّوص تقريبا، وفي نصوصه الأخيرة على وجه التّحديد.
خــــــاتمة
الثّابت أنّ حركة الطّليعة قد فتحت أفقا للشّعر جديدا في تونس. فهيمنة التّقليديّة في أشكال متنوّعة من المديح السّياسيّ قد أربكت نزعات تجديديّة أخرى كنزعة الالتزام التّي كانت تستلهم البيّاتي والسيّاب وغيرهما، أو النّزعة العاطفيّة الذّاتيّة التّي جسّدتها قصائد الحبّ المتأثّرة بنزار قبّاني، لذلك كان ظهور الطّليعة حدثا لافتا لما تميّزت به من جرأة على النّموذج وسلطة التّقليد.
فالقصيدة الطّليعيّة باتت منفتحة على معاجم وخانات أقصاها الشّعر التّقليديّ، وعلى سجلاّت خطابيّة تلتقط من اليوميّ الفظيعَ والمؤلمَ والمربكَ والهزليَّ، إذا كان الطّليعيّ يروم الاحتجاج والتّشهير، والعاصف والعنيف والقويّ والعنيد، إذا كان يريد التّبشير بالثّورة. وهذا يعني أنّها قصيدة جمعت بين بعدين مزدوجين متداخلين: بعد ايديولوجيّ ثابت، وبعد كتابيّ فنّي وجماليّ، هو حيّز التّجريب والتّمايز.
ولم يكن الشّكل أو تنظيم الصّفحة الشّعريّة بأقلّ شأنا من المضمون الثّوريّ بالنّسبة إلى الطّليعيّين لذلك ألفيناهم يسترفدون من العلامات كلّ ما توقّعوا أو تصوّروا أنّه يوسّع المعنى والإيقاع ويوثّق الصّلة بين الذّات وخطابها وواقعها. فقد أدركوا أنّ كلّ ما يمارسه الشّاعر من تنويع أو يضيفه أو يخرج به عن المتعاود المتواتر الذّي بات مشتركا، إنّما يدخل في خانة الذّاتيّ يُنسب إلى صاحبه فيُعرف به أو يدخل في إيقاعه الذّاتيّ. والواقع أنّ شعراء الطّليعة لم يكفّوا عن البحث في ما يمكن أن يؤسّس لذواتهم.
وقد سعينا في هذا العمل إلى أن نضيء تجربة نعتبرها قد انخرطت في حداثة شعريّة ثانية، في الشّعر التّونسيّ المعاصر، بوعي ولتحقيق مقاصد فصلت بين التّقليديّ والحداثيّ. وحاولنا في قراءتنا للنّصوص أن نصلها بالسّياقات التّي أنشأتها أو التّي ساهمت في إثراء دلالتها وأن نشير إلى الإنسانيّ فيها، لأنّ الأدب الذّي دافع عنه الطّليعيّون عامّة هو المتحوّل الموصول بالحياة والإنسان والتّاريخ. وهذه السّمات هي التّي تؤسّس للاختلاف في الكتابة وتؤثّر الواقع.
ولا شكّ في أنّ الاختلاف في شأن شعر الطّليعة، سيظلّ قائما لأنّ شعريّته ممّا لم تتعوّد عليه الذّائقة الأدبيّة. وقصيدة الطّاهر تحديدا ستظلّ خلافيّة لأنّها قد فتحت لنفسها مسارا تريد أن تتحرّر فيه من الانتماء إلى ماض شعريّ مهما كان اسمه، ثمّ إنّها لم تخف نسبها الايديولوجيّ-الاجتماعيّ ونزوعها المستمرّ إلى التّجريب ورغبتها في أن تُصنّف في خانة النّضال الثّقافيّ. ويمكن أن نشير إلى بعض المداخل التّي تيسّر تأمّل شعريّتها والوقوف على مظاهر الحداثة فيها، وتلك المداخل هي:
– نزوع الخطاب في القصيدة إلى اليّوميّ نزوعا لافتا يتوسّل بالبسيط والعاديّ في البناء
– تهجين خطابات أخرى متنوّعة وتوظيفها في اشتقاق الدّلالة وإنشاء الصّور.
-هيمنة معاجم الرّفض والتّمرّد والاحتجاج لإخراج الإنسان من سجن الصّمت وضيقه إلى رحابة الكلام والكتابة وتأمّل الواقع بصوت عال للتّخلّص من استبطان الخوف والهزيمة.
– الإنصات الدّائم للثّورة اسما وصدى وحلما، والمراوحة بين استبطائها واستعجالها بحسب ما تكون عليه الذّات من حالات مختلفة.
وما من شكّ في أنّ حداثة حركة الطّليعة لها حدودها وعوائقها الذّاتيّة والموضوعيّة. ولكن يمكن أن نؤكّد أنّها أرست تقاليد جديدة في كتابة الشّعر والتّنظير له وأنّها أوّل حركة أدبيّة في تونس مهّدت أو دافعت عن أطروحاتها بالبيانات والنّصوص، وأنّها طرحت أسئلة مستحدثة في الأدب وأجناسه المختلفة مستأنِفةً ما كان قد شرع فيه أبو القاسم الشّابي في تونس.