••
"مصر يا أم العجايب
شعبك أصيل
والخصم غايب
خلى بالك من الحبايب"
كان هذا هو النداء، أو الرجاء، أو الدعاء من الشيخ سيد درويش - لمصر التي أحبها، وكتب، ولحن، وغنى، وعاش لها. ومات من أجل عزتها، وحريتها، واستقلالها، وكرامتها.
لقد كان ذلك العبقري يتمنى - ونحن نحتفل بمئويته - أن نواجه بقوة، وعزم، خصومه الذين هاجموه، وسرقوه ولم يكتفوا بذلك بل حاولوا نفي عنه موهبته الجبارة في كتابة الشعر والأغاني، واعتبروها وكأنها طيف خيال لم يمر.. وكأنها حلم كاذب لا يسر!
كان سيد درويش يتمنى - وهو الذي أسعدني، ومازال يسعدنا- منذ أكثر من 100 عام - بعبقريته النادرة، ووطنيته الصادقة أن نقول لمن سرق أشعاره - ومنها وفى مقدمتها - كلمات "بلادي بلادي - لكِ حبي وفؤادي" الذي هو نشيدنا القومي منذ عام 1979 - ونسبها لنفسه - مع ما يقرب من 15 قصيدة غنائية أخرى- دون أن يهتز ضميره، أو يجرفه حنينه لزمن (العيش والملح) الذي عاشه مع الشيخ سيد وبديع خيري وبيرم التونسي.
وقام - بجرأة يحسد عليها - وبدل وغير - وأقولها بالأدلة والبراهين والوثائق والقرائن - فى الكلمات ونسبها إلى نفسه.
وبدلًا من أن يكون نشيدنا القومي الذي كانت - ومازالت - أقدامنا ترتعش، وقلوبنا ترتجف عندما نسمعه منذ أن كنا أطفالًا صغارًا في طابور المدرسة فوق هذه الصغائر والضغائن إلا أننا - ومن سوء الحظ - وجدنا أنفسنا أمام هذه الواقعة المحزنة وإن كان السارق - للأمانة في هذا السياق- لم يكن يعلم الغيب عندما نسب الأنشودة - كان اسمها أنشودة مصطفى كامل لأنه استوحاها من خطاباته الوطنية - أنها ذات يوم ستتحول إلى نشيد قومي!
لكنه كان يعلم باليقين أنها كلمات سيد درويش ومن أشعاره الكثيرة التى كتبها بنفسه ولحنها أيضاَ!
وهذا ما يدعو للعجب في مصر أم العجايب!
•••
إن روح الشيخ سيد درويش القلقة، والثائرة، والصابرة، مازالت تناجينا، وتسألنا - رحل في 15 سبتمبر عام 1923 - لماذا نحن صامتون، وخائفون، ومرتعشون، ولا نتكلم - إلا البعض منا - وهم الذين كتبوا، وصرخوا، وهتفوا، ونشروا، كلما سمحت لهم الظروف بالقول والنشر، وأكدوا: "إن أشعار (بلادي - بلادي لكِ حبي وفؤادي) من تأليف وتلحين الشيخ سيد درويش وليس كما هو متعارف عليه باسم الشاعر الزجال محمد يونس القاضي، بعدما ارتكبت فى حق الشيخ سيد جريمة لا يسقطها الزمن ولا ينساها الشعر ولا ينساها الأرشيف الصحفي ولا تنساها المصادر البحثية الجادة!
•••
( القاهرة – 2023)
ومع احتفالات المئوية التي انطلقت باحتفالية كبيرة من مسرح نقابة الصحفيين المصرية بدأت - مثل الكثير غيري - أعيد قراءة بعض الكتابات والدوريات والكتب التي تناولت سيرة سيد درويش.
وأثناء تحضيري للظهور في لقاء تلفزيوني على شاشة الفضائية المصرية برنامج (السامر) الذي يعده الأديب شريف عبدالمجيد وجدت بين كتبي -المركونة - كتابًا مذهلًا عنوانه (سيد درويش - حياته - وآثار عبقريته) الكتاب قام بتأليفه مؤرخ المؤرخين الموسيقيين في مصر والوطن العربي الدكتور محمود أحمد الحفني - والد الدكتورة رتيبة الحفني وهو أول مصري وعربي يحصل على الدكتوراه في الموسيقى- وصدر الكتاب عام 1962 عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي.
في الكتاب - الذي أراه وثيقة دامغة لا تقبل الجدل أو الشك- يثُبت لنا الدكتور الحفني أن كلمات (بلادي بلادي) تأليفًا وتلحينًا للشيخ سيد درويش، وليست لأى شاعر آخر!.. وهنا نسأل كيف استطاع الشاعر/ الزجال محمد يونس القاضي (1888 - 1969) أن يضع اسمه عليها وينسبها لنفسه منذ عام 1968؟
وهو الذي ظل يهاجم الشيخ سيد منذ عام 1926 في مجلة المسرح - أي بعد رحيل الشيخ بثلاث سنوات كما جاء في كتاب (من أجل أبي - سيد درويش)؟
هذا السؤال طاردني في يومي وهاجمني في نومي وقلت لنفسي: "ماذا نقول لأطفالنا إذا ما عادوا من مدارسهم وسألونا: من الذي كتب نشيد بلادي؟ هل نقول يونس القاضي، كما تقول أوراق جمعية المؤلفين والموسيقيين، أم نقول سيد درويش كما تقول الحقائق، والوثائق، والمطبوعات المعاصرة للشيخ وزمنه وفنه؟!".
أم نقول كما قالت الكاتبة الكبيرة سناء البيسي - وغيرها الكثير من الكتاب والصحفيين والباحثين - عندما كتبت مقالًا في صحيفة الأهرام - كبرى الصحف المصرية في "شهر نوفمبر 2014" - قالت فيه: "عندما سألتني حفيدتي عن كاتب هذا النشيد قلت لها - بعدما سألت - "إنه بديع خيري"!
وبديع خيري أصلًا لم يكتبه وعندما أذاعت الإذاعة اسمه على الكلمات عام 1936 ذهب بنفسه للإذاعة وقال لهم: "هذه ليست كلماتي"! .
ومنذ ذلك التاريخ ظل النشيد في الإذاعة بدون صاحب، ومن أجل الإجابة على السؤال السابق ذكره بدأت رحلة البحث بتجميع الكتب والدراسات والصحف والمجلات التي تناولت هذا الأمر ومنها (كتاب سيد درويش - للدكتور محمود أحمد الحفني - وكتاب من أجل أبي - حسن درويش - وكتاب - الدكتور جمال عبد الحي - السيد درويش - فنان الشعب) ومن الصحف والمجلات (صحيفة الأهرام - 1923 - صحيفة السياسة 1923 - مجلة تياترو المصورة - 1925 - مجلة الإذاعة - 1957 - مجلة آخر ساعة - 1963 - الأخبار - 1966) وفى نفس السياق تواصلت مع الدكتور نبيل بهجت - وهو باحث حقق في تراث بديع خيري - عن طريق الصديق الكاتب مصطفى طاهر - الصحفي فى الأهرام - وفى الحديث بيننا قال لي الدكتور: "إن الدكتورة إيمان مهران - باحثة أيضًا في التراث الشعبي - أصدرت كتابًا عن هيئة قصور الثقافة المصرية عام 2012 - وأنت ما عليك إلا الاتصال بها إذ لم تكن قد قرأت الكتاب"! .
قلت: نعم لم أقرأ الكتاب، قال: "إن الكتاب يحتوي على وثيقة - لاحظ مصطلح وثيقة - تؤكد أن كلمات (بلادي - بلادي) من تأليف محمد يونس القاضي وليس سيد درويش"!.
قلت: كيف ذلك.. وأستاذ الأساتذة في التأريخ الموسيقي محمود أحمد الحفني قال في كتابه الموثق والمحقق والمدقق منذ عام 1962 - ( ويونس القاضي على قيد الحياة ولم يعلق أو يعترض) - إنها تأليفًا وتلحينًا للشيخ سيد درويش ونشر أبياتها كاملة في كتابه؟!
رد الدكتور بهجت قائلًا: "ما قاله الدكتور الحفني يُعد شهادة" ثم أردف قائلًا:" لكن في كتاب الدكتور إيمان مهران ستجد وثيقة (ثم أكد وشدد - قائلًا: "وثيقة يا أستاذ.. عارف يعني إيه وثيقة"؟) وفي المنهج العلمي - على افتراض أنني صحفي لا علاقة لي بالبحث العلمي- وهذا بطبيعة الحال صحيح - تكون (الوثيقة) هي التي يعتد بها أما الشهادة فلا تعد مستندًا يعتد به"!.
كان حديثنا - عبر الهاتف - في الهزيج الأخير من الليل، حيث يتواجد هو في أمريكا وأنا في القاهرة!
•••
(القاهرة - شارع قصر العيني)
في الصباح ذهبت إلى منفذ بيع الهيئة العامة لقصور الثقافة!
- "حضرتك الكتاب الذي تسأل عنه صدر سنة كام؟ وما هو عنوانه"؟
- قلت: اسمه "الشيخ محمد يونس القاضي - مؤلف النشيد الوطني.
- لاحظ هنا عنوان الكتاب والذي اعتقد أنه يريد أن يؤكد للقارئ على أمر ما يحتاج المزيد من التأكيد!
- قالت الموظفة: "لا والله يا أستاذ ده طبعة تعتبر قديمة.. لذلك أنصحك بالبحث عنه لدى باعة الكتب القديمة.. في الطريق من شارع قصر العيني إلى وسط البلد التقيت بالصدفة بالكاتب الصحفي يسري حسان - وهو متخصص في الكتابة المسرحية ورئيس تحرير مجلة مسرحنا- في الشارع (طلعت حرب) قلت له عن تلك القضية. قال: "أكتب فيها طبعًا.. وهذه كلمات سيد درويش، كما أكد الدكتور الحفني وإذا احتاجت أي شيء اطلبنى"...
ثم ودعني في عجلة من أمره وواصلت أنا طريقي في رحلة البحث.
والتي بدأتها بالاتصال بالدكتورة أيمان مهران - كان الدكتور نبيل بهجت قد أرسل لي رقم هاتفها - وطلبت منها نسخة من الكتاب(pdf) بعدما فشلت في العثور على نسخة ورقية وحسنا فعلت، حيث أرسلته على الفور!
•••
(القاهرة - أخبار اليوم)
في اليوم التالي توجهت إلى أرشيف مؤسسة أخبار اليوم وهناك جئت بالأرشيف الصحفي للأساتذة( نجيب الريحاني وبديع خيري ويونس القاضي وسيد درويش وملف الأغنية الوطنية) وقبل أن انتهى من البحث أرشدني محمود عوضين وكيل وزارة الثقافة الأسبق قائلاَ: الناقد والباحث المسرحي أحمد عبد الرازق أبو العلا كاتب على صفحته اليوم في نفس القضية.. اتصل به" وبالفعل اتصلت به فقال: "قولًا واحدًا لا جدال فيه.. كلمات بلادي.. بلادي هي من تأليف وألحان الشيخ سيد درويش" ثم قال: "إن محمد يونس القاضي نسبها لنفسه عام 1968 بعدما مات الجميع" (سيد درويش مات 1923 - بيرم التونسي مات 1961 - وبديع خيري مات 1966) ثم أرسل أبو العلا لي إعلانا كان منشوراً في صحيفة السياسة، يؤكد أنها كلمات وألحان سيد درويش.!
( ويونس القاضي كان على قيد الحياة ولم يعلق أو يعترض)
وعندما نشرت مجلة ( التياترو المصورة) عام 1925 إنها تأليف سيد درويش( كان يونس القاضى على قيد الحياة ولم يعلق أو يعترض) وعندما نشر نقولا الملا - وهو صديق مقرب من الشيخ سيد- في مجلة الإذاعة العدد( 1175) الصادر في عام( 1957) وأكد في كلامه أنها كلمات وألحان سيد درويش حتى عندما كانت تذيعها الإذاعة باسم بديع خيري بالخطأ عام 1936 ( لم يعترض القاضى أو يعلق)
•••
(المعادي - في المساء)
عدت إلى البيت بعدما طبعت كتاب الدكتورة إيمان مهران وجلست أقرأ صفحاته فوجدت فيه ما يدعوا للدهشة والعجب والتساؤل حيث تضم الصفحة رقم( 182) منه قائمة أغانٍ تحت عنوان (أشهر الأغاني التي ألفها يونس القاضي وتلحين سيد درويش)
وفيها أكثر من 15 أغنية على أنها من كلمات محمد يونس القاضي وهي - كما جاء ذكرها ونشرها مع بعض مقاماتها الموسيقية في كتاب الدكتور الحفني من تأليف وتلحين سيد درويش. والكارثة الأعظم أنني عثرت بين صفحات الكتاب في صفحة رقم (61 ) على صورة من الوثيقة التي أحالني إليها الدكتور نبيل بهجت - والكاتبة - فوجدتها عبارة عن ورقة كتبها الشاعر محمد يونس القاضي بنفسه لنفسه لغرض ما في نفسه!
ونسب فيها الكلمات إلى نفسه على أنها - كما يقول الكتاب - الدليل الدامغ والمنطقي - ولا عرف أي منطق هذا - الذي يؤكد بدليل مادى وقانوني أنها كلماته وبذلك حصل - أي بهذه الوثيقة الدليل- على حق الأداء العلني - المادي والمعنوي - من جمعية المؤلفين والملحنين بعدما قام القاضي (في 26 يناير 1923- أكرر التاريخ مرة أخرى - 26 يناير 1923) - أي قبل وفاة سيد درويش بتسجيل الوثيقة بالمحكمة المختلطة - ولا أعرف.. لماذا المحكمة المختلطة بالتحديد؟
ونحن هنا لسنا أمام نزاع قضائي أصلًا! وعلى افتراض ذلك فنحن لسنا أمام أطراف نزاع بينهم أحد من الأجانب يستدعى الذهاب إلى المحكمة المختلطة.. وكتاب الدكتورة إيمان مهران يؤكد - فى هوامشه - إن الكلمات مسجلة فى مبنى مصلحة الشهر العقارى الرئيسى بوسط القاهرة منذ 1923 مع العلم أن هذه المصلحة أنشئت أصلاَ عام بموجب القانون 114 لسنة 1946؟
وبعدما فرغت من الكتاب وقرأت ما في الوثيقة - كما أرشدني الدكتور نبيل بهجت والدكتورة إيمان مهران- طبعت هذه الوثيقة وجلست اتفحص ما فيها من شرح وقول، فوجدتها لا تحمل أي أختام حكومية - ناهيك عن قضائية - ولا تحتوي على أي توقيع لأي موظف - ناهيك عن عدم وجود رقم صادر أو وارد - من المحكمة أو من أي مصلحة حكومية ولا يوجد على هذه الوثيقة أي شعار حكومي - ناهيك عن اسم أو "لوجو" المحكمة - ولا بها ما يدل على أن صاحبها محمد يونس القاضي، كان قد مر أصلاَ حتى أمام (عرضحالجى) كان جالساَ أمام أي محكمة سواء كانت عادية أو شرعية أو مدنية أو مختلطة في ذلك الحين.. وحتى يفضح الأمر نفسه بنفسه، قام محمد يونس القاضي بتغيير الكلمات الأصلية التي كتبها سيد درويش، والتي نهتف بها جميعًا إذا ما أعلن عن بدء النشيد الوطني في كل مناسبة قومية وأقحم فيها كلمات أخرى ضعيفة، وركيكة، وكاشفة لتلك المهزلة الإبداعية والتاريخية التى مر عليها ما يقرب من 55 عاماً!
وإليكم الكلمات الأصلية، كما نشرتها مجلة (التياترو المصورة) في مارس - عام 1925. وكتبت إنها كلمات سيد درويش. تقول الكلمات الحقيقية:
" بلادي - بلادي
لكِ حبي وفؤادي
مصر يا أم البلاد
أنت قصدي والمراد
وعلى كل العباد
كم لنيلك من أيادي
مصر أولادك كرام
أوفياء يرعوا الزمام
وستحظى بالمرام
باتحادكم واتحادي
مصر يا أرض النعيم
سدت بالمجد القديم
مقصدي دفع الغريم
وعلى الله اعتمادي
مصر أنت أغلى درة
فوق جبين الدهر حرة
يا بلادي عيشي حرة
واسعدي رغم الأعادي"
وأما الكلمات الدخيلة والتى تم تسجيلها باسم الشاعر محمد يونس القاضي في جمعية المؤلفين، التي كان هو أول رئيس لها من 1926 وحتى 1937 (وكان مسماه الوظيفي وقتها رقيب على الأغاني) وجاء تسجيلها بعدما قدم للجمعية الوثيقة سابقة الذكر والتي لا أصل لها كما سبق وذكرنا - بعدما ادعى على غير الحقيقة أنه سجلها في المحكمة المختلطة وبالتالى في جمعية المؤلفين والملحنين سنة 1968- ثم أعادت أسرته - فيما أظن - تسجيلها مرة أخرى عام 1975 بعد رحيله (وإعادة التسجيل هنا تستدعي الدهشة والتساؤل والعجب)!
أما الكلمات التي تم تحريفها وتغييرها جاءت كالتالي:
" بلادي - بلادي
لكِ حبي وفؤادي
مصر يا ست البلاد
أنت غايتي والمراد
وعلى كل العباد
كم لنيلك من أيادي"
ثم يغير في الكلمات كالتالي:
" أنت لي نعم الوطن
اشتري صفو الزمن
أدفع الروح له ثمن
" وعلى الله اعتمادي"
ثم يكمل :
كل أولادك جنودك
أوفياء يصونوا عهودك
قصدهم تكسير قيودك
باتحادهم واتحادي
ثم يعود للأصل عند الشيخ سيد:
" مصر أنت أغلى درة
في جبين الدهر غرة
يا بلادي عيشي حرة
واسعدى رغم الأعادي"
ولقد حرر تلك الوثيقة وقدمها للمحكمة المختلطة -حسب قوله- في 26 يناير 1923 حسبما تقول الوثيقة.
•••
(رملة بولاق - دار الوثائق)
في اليوم التالي ذهبت إلى دار الكتب، وجئت بالذي يحسم الشك ويصل بنا إلى اليقين وهي صفحة كاملة من مجلة (التياترو المصورة)
الصادرة في (مارس - سنة 1925)
التي نشرت كلمات النشيد ونوتته الموسيقية وكتبت أعلى الصفحة:
" طلب منّا الكثيرون وضع هذه القطعة الموسيقية وهي من (تأليف) (وتلحين) الموسيقي الكبير المرحوم سيد درويش.. لينضم هذا الدليل القاطع إلى ما سبق من مصادر بحثية، وجادة، ودقيقة، ومحققة، بالوثائق، والحقائق، ناهيك عن إعلان صحيفة السياسة عام 1923 وهي تعلن عن عرض غنائي للشيخ سيد درويش يغني فيه أنشودة (بلادي بلادي) ويؤكد الإعلان على الأنشودة الثانية التي كتبها ولحنها للزعيم سعد زغلول.
-------
-------
وبعد ذلك - وقبل ذلك - وهل بذلك حسم الأمر؟! من وجهة نظري نعم! لماذا نعم؟! حسنا هذا سؤال طيب في زمن ليس كذلك!
لأننا سنصاب بالدهشة، والحيرة، والعجب
لأن الشيخ سيد درويش - فيما يبدو - كان بينه وبين ربه مدد، لأنك سوف تندهش عندما تعرف إن اليوم الذي أكد عليه الشاعر محمد يونس القاضي - ومن بعده كتاب الدكتورة إيمان مهران - أنه ذهب فيه إلى المحكمة المختلطة - حسبما تشير المصادر الداعمة لوجهة نظره وبناء على ذلك سجل الكلمات في جمعية المؤلفين والملحنين - كان هذا اليوم يا سادة. كان ماذا؟
الإجابة: كان (عطلة رسمية)؟
ولماذا عطلة رسمية؟ حسنا هذا سؤال طيب - في زمن ليس كذلك - لأنه كان (يوم جمعة)!
فهل فتحت المحكمة أبوابها في يوم عطلتها الرسمية - يوم الجمعة - حتى يسجل الشاعر محمد يونس القاضي كلمات النشيد؟ الذي هو أصلاً تسجيل لا أصل ولا سند له ولا يوجد له أي رقم وارد أو صادر أو رقم مسلسل أو أي أختام قضائية أصلًا!
إن القضية واضحة وضوح الشمس وإن كانت وزارة الثقافة المصرية قد صمت آذانها، وأغلقت عيونها، ودفاترها، ودوائرها، وملفاتها، وتركت هذه المأساة - التى قد تصل إلى حد المهزلة - طيلة هذه السنوات الماضية تعبث بمشاعرنا القومية، والروحية، والوطنية - لكونه النشيد القومي- فإن الأمر الآن يتطلب منها ومنا - أن تقوم الوزارة بتُشكل لجنة علمية، وبحثية، محايدة للوصول إلى الحق وتصويب الخطأ.
وهذا إن لم يكن من أجل سيد درويش - وهو يستحق منا إعادة حقه المسلوب ورد الاعتبار إلى اسمه وإبداعه الشعرى - فعلى الأقل من أجل الوطن وندائه ونشيده الوطني الذي يسكن أرواحنا.
وحتى نجد - بحق وصدق- ما نرد به على أطفالنا إذا ما سألونا ذات يوم عندما يعودن من مدارسهم الصباحية:"من الذي كتب "نشيد بلادي" الذي نتغنى به في طابور المدرسة؟"
فنجد في هذه اللحظة ما نرد به عليهم، ونقول لهم: "سيد درويش سيد الموسيقى العربية!
وسنجد أيضًا ما نرد به إذا ما طاردتنا روح سيد درويش !
ونجد ما نرد به على أرواحنا ونحن نهتف به في مناسباتنا القومية التي نقف فيها في خشوع وخضوع نغني "بلادي بلادي.. لكِ حبي وفؤادي".
ونجد ما نذكّر به (مصر أم العجايب) ونقول لها كما جاء فى رائعة من روائع الشيخ سيد درويش :
" آدي اللى صار ..
وآدي اللى كان
يا مصر...
يا أم العجايب
شعبك أصيل
والخصم غايب
خلى بالك من الحبايب"
.........
.........
وسيد درويش...سِيدى الحبايب!
خيري حسن
----------------------
• • ينُشر السبت - 23 - سبتمبر - 2023 فى صحيفة " الوفد" .
المصادر:
كتاب :
( سيد درويش - حياته وآثاره وعبقريته ) د. محمود أحمد الحفني - الطبعة الأولى- 1962 - وزارة الإرشاد القومي.
كتاب:
(من أجل أبي - سيد درويش )
حسن درويش - الهيئة العامة للكتاب - 1992. الطبعة الأولى.
كتاب - (السيد درويش فنان الشعب) د. جمال عبدالحي - المركز القومي للمسرح والموسيقى والتراث الشعبي.
كتاب:( حكاية يونس القاضي - كاتب وزجال وصحفي) - طبعة بمناسبة مئوية الثورة السعدية - الطبعة الأولى كان اسم الكتاب (مؤلف النشيد القومي) - د. إيمان مهران طبعة ثانية 2019
الدوريات والصحف والمجلات:
- صحيفة( الأهرام )أعداد سنة - 1923
- صحيفة (السياسة) - أعداد سنة 1923
- صحيفة (الأخبار) - فبراير - 1966
- مجلة( التياترو المصورة) - أعداد سنة 1925
- مجلة( المسرح) - عدد فبراير - 1972
- مجلة( الإذاعة )- عدد مارس - 1957
مجلة( آخر ساعة) - مايو - 1963
"مصر يا أم العجايب
شعبك أصيل
والخصم غايب
خلى بالك من الحبايب"
كان هذا هو النداء، أو الرجاء، أو الدعاء من الشيخ سيد درويش - لمصر التي أحبها، وكتب، ولحن، وغنى، وعاش لها. ومات من أجل عزتها، وحريتها، واستقلالها، وكرامتها.
لقد كان ذلك العبقري يتمنى - ونحن نحتفل بمئويته - أن نواجه بقوة، وعزم، خصومه الذين هاجموه، وسرقوه ولم يكتفوا بذلك بل حاولوا نفي عنه موهبته الجبارة في كتابة الشعر والأغاني، واعتبروها وكأنها طيف خيال لم يمر.. وكأنها حلم كاذب لا يسر!
كان سيد درويش يتمنى - وهو الذي أسعدني، ومازال يسعدنا- منذ أكثر من 100 عام - بعبقريته النادرة، ووطنيته الصادقة أن نقول لمن سرق أشعاره - ومنها وفى مقدمتها - كلمات "بلادي بلادي - لكِ حبي وفؤادي" الذي هو نشيدنا القومي منذ عام 1979 - ونسبها لنفسه - مع ما يقرب من 15 قصيدة غنائية أخرى- دون أن يهتز ضميره، أو يجرفه حنينه لزمن (العيش والملح) الذي عاشه مع الشيخ سيد وبديع خيري وبيرم التونسي.
وقام - بجرأة يحسد عليها - وبدل وغير - وأقولها بالأدلة والبراهين والوثائق والقرائن - فى الكلمات ونسبها إلى نفسه.
وبدلًا من أن يكون نشيدنا القومي الذي كانت - ومازالت - أقدامنا ترتعش، وقلوبنا ترتجف عندما نسمعه منذ أن كنا أطفالًا صغارًا في طابور المدرسة فوق هذه الصغائر والضغائن إلا أننا - ومن سوء الحظ - وجدنا أنفسنا أمام هذه الواقعة المحزنة وإن كان السارق - للأمانة في هذا السياق- لم يكن يعلم الغيب عندما نسب الأنشودة - كان اسمها أنشودة مصطفى كامل لأنه استوحاها من خطاباته الوطنية - أنها ذات يوم ستتحول إلى نشيد قومي!
لكنه كان يعلم باليقين أنها كلمات سيد درويش ومن أشعاره الكثيرة التى كتبها بنفسه ولحنها أيضاَ!
وهذا ما يدعو للعجب في مصر أم العجايب!
•••
إن روح الشيخ سيد درويش القلقة، والثائرة، والصابرة، مازالت تناجينا، وتسألنا - رحل في 15 سبتمبر عام 1923 - لماذا نحن صامتون، وخائفون، ومرتعشون، ولا نتكلم - إلا البعض منا - وهم الذين كتبوا، وصرخوا، وهتفوا، ونشروا، كلما سمحت لهم الظروف بالقول والنشر، وأكدوا: "إن أشعار (بلادي - بلادي لكِ حبي وفؤادي) من تأليف وتلحين الشيخ سيد درويش وليس كما هو متعارف عليه باسم الشاعر الزجال محمد يونس القاضي، بعدما ارتكبت فى حق الشيخ سيد جريمة لا يسقطها الزمن ولا ينساها الشعر ولا ينساها الأرشيف الصحفي ولا تنساها المصادر البحثية الجادة!
•••
( القاهرة – 2023)
ومع احتفالات المئوية التي انطلقت باحتفالية كبيرة من مسرح نقابة الصحفيين المصرية بدأت - مثل الكثير غيري - أعيد قراءة بعض الكتابات والدوريات والكتب التي تناولت سيرة سيد درويش.
وأثناء تحضيري للظهور في لقاء تلفزيوني على شاشة الفضائية المصرية برنامج (السامر) الذي يعده الأديب شريف عبدالمجيد وجدت بين كتبي -المركونة - كتابًا مذهلًا عنوانه (سيد درويش - حياته - وآثار عبقريته) الكتاب قام بتأليفه مؤرخ المؤرخين الموسيقيين في مصر والوطن العربي الدكتور محمود أحمد الحفني - والد الدكتورة رتيبة الحفني وهو أول مصري وعربي يحصل على الدكتوراه في الموسيقى- وصدر الكتاب عام 1962 عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي.
في الكتاب - الذي أراه وثيقة دامغة لا تقبل الجدل أو الشك- يثُبت لنا الدكتور الحفني أن كلمات (بلادي بلادي) تأليفًا وتلحينًا للشيخ سيد درويش، وليست لأى شاعر آخر!.. وهنا نسأل كيف استطاع الشاعر/ الزجال محمد يونس القاضي (1888 - 1969) أن يضع اسمه عليها وينسبها لنفسه منذ عام 1968؟
وهو الذي ظل يهاجم الشيخ سيد منذ عام 1926 في مجلة المسرح - أي بعد رحيل الشيخ بثلاث سنوات كما جاء في كتاب (من أجل أبي - سيد درويش)؟
هذا السؤال طاردني في يومي وهاجمني في نومي وقلت لنفسي: "ماذا نقول لأطفالنا إذا ما عادوا من مدارسهم وسألونا: من الذي كتب نشيد بلادي؟ هل نقول يونس القاضي، كما تقول أوراق جمعية المؤلفين والموسيقيين، أم نقول سيد درويش كما تقول الحقائق، والوثائق، والمطبوعات المعاصرة للشيخ وزمنه وفنه؟!".
أم نقول كما قالت الكاتبة الكبيرة سناء البيسي - وغيرها الكثير من الكتاب والصحفيين والباحثين - عندما كتبت مقالًا في صحيفة الأهرام - كبرى الصحف المصرية في "شهر نوفمبر 2014" - قالت فيه: "عندما سألتني حفيدتي عن كاتب هذا النشيد قلت لها - بعدما سألت - "إنه بديع خيري"!
وبديع خيري أصلًا لم يكتبه وعندما أذاعت الإذاعة اسمه على الكلمات عام 1936 ذهب بنفسه للإذاعة وقال لهم: "هذه ليست كلماتي"! .
ومنذ ذلك التاريخ ظل النشيد في الإذاعة بدون صاحب، ومن أجل الإجابة على السؤال السابق ذكره بدأت رحلة البحث بتجميع الكتب والدراسات والصحف والمجلات التي تناولت هذا الأمر ومنها (كتاب سيد درويش - للدكتور محمود أحمد الحفني - وكتاب من أجل أبي - حسن درويش - وكتاب - الدكتور جمال عبد الحي - السيد درويش - فنان الشعب) ومن الصحف والمجلات (صحيفة الأهرام - 1923 - صحيفة السياسة 1923 - مجلة تياترو المصورة - 1925 - مجلة الإذاعة - 1957 - مجلة آخر ساعة - 1963 - الأخبار - 1966) وفى نفس السياق تواصلت مع الدكتور نبيل بهجت - وهو باحث حقق في تراث بديع خيري - عن طريق الصديق الكاتب مصطفى طاهر - الصحفي فى الأهرام - وفى الحديث بيننا قال لي الدكتور: "إن الدكتورة إيمان مهران - باحثة أيضًا في التراث الشعبي - أصدرت كتابًا عن هيئة قصور الثقافة المصرية عام 2012 - وأنت ما عليك إلا الاتصال بها إذ لم تكن قد قرأت الكتاب"! .
قلت: نعم لم أقرأ الكتاب، قال: "إن الكتاب يحتوي على وثيقة - لاحظ مصطلح وثيقة - تؤكد أن كلمات (بلادي - بلادي) من تأليف محمد يونس القاضي وليس سيد درويش"!.
قلت: كيف ذلك.. وأستاذ الأساتذة في التأريخ الموسيقي محمود أحمد الحفني قال في كتابه الموثق والمحقق والمدقق منذ عام 1962 - ( ويونس القاضي على قيد الحياة ولم يعلق أو يعترض) - إنها تأليفًا وتلحينًا للشيخ سيد درويش ونشر أبياتها كاملة في كتابه؟!
رد الدكتور بهجت قائلًا: "ما قاله الدكتور الحفني يُعد شهادة" ثم أردف قائلًا:" لكن في كتاب الدكتور إيمان مهران ستجد وثيقة (ثم أكد وشدد - قائلًا: "وثيقة يا أستاذ.. عارف يعني إيه وثيقة"؟) وفي المنهج العلمي - على افتراض أنني صحفي لا علاقة لي بالبحث العلمي- وهذا بطبيعة الحال صحيح - تكون (الوثيقة) هي التي يعتد بها أما الشهادة فلا تعد مستندًا يعتد به"!.
كان حديثنا - عبر الهاتف - في الهزيج الأخير من الليل، حيث يتواجد هو في أمريكا وأنا في القاهرة!
•••
(القاهرة - شارع قصر العيني)
في الصباح ذهبت إلى منفذ بيع الهيئة العامة لقصور الثقافة!
- "حضرتك الكتاب الذي تسأل عنه صدر سنة كام؟ وما هو عنوانه"؟
- قلت: اسمه "الشيخ محمد يونس القاضي - مؤلف النشيد الوطني.
- لاحظ هنا عنوان الكتاب والذي اعتقد أنه يريد أن يؤكد للقارئ على أمر ما يحتاج المزيد من التأكيد!
- قالت الموظفة: "لا والله يا أستاذ ده طبعة تعتبر قديمة.. لذلك أنصحك بالبحث عنه لدى باعة الكتب القديمة.. في الطريق من شارع قصر العيني إلى وسط البلد التقيت بالصدفة بالكاتب الصحفي يسري حسان - وهو متخصص في الكتابة المسرحية ورئيس تحرير مجلة مسرحنا- في الشارع (طلعت حرب) قلت له عن تلك القضية. قال: "أكتب فيها طبعًا.. وهذه كلمات سيد درويش، كما أكد الدكتور الحفني وإذا احتاجت أي شيء اطلبنى"...
ثم ودعني في عجلة من أمره وواصلت أنا طريقي في رحلة البحث.
والتي بدأتها بالاتصال بالدكتورة أيمان مهران - كان الدكتور نبيل بهجت قد أرسل لي رقم هاتفها - وطلبت منها نسخة من الكتاب(pdf) بعدما فشلت في العثور على نسخة ورقية وحسنا فعلت، حيث أرسلته على الفور!
•••
(القاهرة - أخبار اليوم)
في اليوم التالي توجهت إلى أرشيف مؤسسة أخبار اليوم وهناك جئت بالأرشيف الصحفي للأساتذة( نجيب الريحاني وبديع خيري ويونس القاضي وسيد درويش وملف الأغنية الوطنية) وقبل أن انتهى من البحث أرشدني محمود عوضين وكيل وزارة الثقافة الأسبق قائلاَ: الناقد والباحث المسرحي أحمد عبد الرازق أبو العلا كاتب على صفحته اليوم في نفس القضية.. اتصل به" وبالفعل اتصلت به فقال: "قولًا واحدًا لا جدال فيه.. كلمات بلادي.. بلادي هي من تأليف وألحان الشيخ سيد درويش" ثم قال: "إن محمد يونس القاضي نسبها لنفسه عام 1968 بعدما مات الجميع" (سيد درويش مات 1923 - بيرم التونسي مات 1961 - وبديع خيري مات 1966) ثم أرسل أبو العلا لي إعلانا كان منشوراً في صحيفة السياسة، يؤكد أنها كلمات وألحان سيد درويش.!
( ويونس القاضي كان على قيد الحياة ولم يعلق أو يعترض)
وعندما نشرت مجلة ( التياترو المصورة) عام 1925 إنها تأليف سيد درويش( كان يونس القاضى على قيد الحياة ولم يعلق أو يعترض) وعندما نشر نقولا الملا - وهو صديق مقرب من الشيخ سيد- في مجلة الإذاعة العدد( 1175) الصادر في عام( 1957) وأكد في كلامه أنها كلمات وألحان سيد درويش حتى عندما كانت تذيعها الإذاعة باسم بديع خيري بالخطأ عام 1936 ( لم يعترض القاضى أو يعلق)
•••
(المعادي - في المساء)
عدت إلى البيت بعدما طبعت كتاب الدكتورة إيمان مهران وجلست أقرأ صفحاته فوجدت فيه ما يدعوا للدهشة والعجب والتساؤل حيث تضم الصفحة رقم( 182) منه قائمة أغانٍ تحت عنوان (أشهر الأغاني التي ألفها يونس القاضي وتلحين سيد درويش)
وفيها أكثر من 15 أغنية على أنها من كلمات محمد يونس القاضي وهي - كما جاء ذكرها ونشرها مع بعض مقاماتها الموسيقية في كتاب الدكتور الحفني من تأليف وتلحين سيد درويش. والكارثة الأعظم أنني عثرت بين صفحات الكتاب في صفحة رقم (61 ) على صورة من الوثيقة التي أحالني إليها الدكتور نبيل بهجت - والكاتبة - فوجدتها عبارة عن ورقة كتبها الشاعر محمد يونس القاضي بنفسه لنفسه لغرض ما في نفسه!
ونسب فيها الكلمات إلى نفسه على أنها - كما يقول الكتاب - الدليل الدامغ والمنطقي - ولا عرف أي منطق هذا - الذي يؤكد بدليل مادى وقانوني أنها كلماته وبذلك حصل - أي بهذه الوثيقة الدليل- على حق الأداء العلني - المادي والمعنوي - من جمعية المؤلفين والملحنين بعدما قام القاضي (في 26 يناير 1923- أكرر التاريخ مرة أخرى - 26 يناير 1923) - أي قبل وفاة سيد درويش بتسجيل الوثيقة بالمحكمة المختلطة - ولا أعرف.. لماذا المحكمة المختلطة بالتحديد؟
ونحن هنا لسنا أمام نزاع قضائي أصلًا! وعلى افتراض ذلك فنحن لسنا أمام أطراف نزاع بينهم أحد من الأجانب يستدعى الذهاب إلى المحكمة المختلطة.. وكتاب الدكتورة إيمان مهران يؤكد - فى هوامشه - إن الكلمات مسجلة فى مبنى مصلحة الشهر العقارى الرئيسى بوسط القاهرة منذ 1923 مع العلم أن هذه المصلحة أنشئت أصلاَ عام بموجب القانون 114 لسنة 1946؟
وبعدما فرغت من الكتاب وقرأت ما في الوثيقة - كما أرشدني الدكتور نبيل بهجت والدكتورة إيمان مهران- طبعت هذه الوثيقة وجلست اتفحص ما فيها من شرح وقول، فوجدتها لا تحمل أي أختام حكومية - ناهيك عن قضائية - ولا تحتوي على أي توقيع لأي موظف - ناهيك عن عدم وجود رقم صادر أو وارد - من المحكمة أو من أي مصلحة حكومية ولا يوجد على هذه الوثيقة أي شعار حكومي - ناهيك عن اسم أو "لوجو" المحكمة - ولا بها ما يدل على أن صاحبها محمد يونس القاضي، كان قد مر أصلاَ حتى أمام (عرضحالجى) كان جالساَ أمام أي محكمة سواء كانت عادية أو شرعية أو مدنية أو مختلطة في ذلك الحين.. وحتى يفضح الأمر نفسه بنفسه، قام محمد يونس القاضي بتغيير الكلمات الأصلية التي كتبها سيد درويش، والتي نهتف بها جميعًا إذا ما أعلن عن بدء النشيد الوطني في كل مناسبة قومية وأقحم فيها كلمات أخرى ضعيفة، وركيكة، وكاشفة لتلك المهزلة الإبداعية والتاريخية التى مر عليها ما يقرب من 55 عاماً!
وإليكم الكلمات الأصلية، كما نشرتها مجلة (التياترو المصورة) في مارس - عام 1925. وكتبت إنها كلمات سيد درويش. تقول الكلمات الحقيقية:
" بلادي - بلادي
لكِ حبي وفؤادي
مصر يا أم البلاد
أنت قصدي والمراد
وعلى كل العباد
كم لنيلك من أيادي
مصر أولادك كرام
أوفياء يرعوا الزمام
وستحظى بالمرام
باتحادكم واتحادي
مصر يا أرض النعيم
سدت بالمجد القديم
مقصدي دفع الغريم
وعلى الله اعتمادي
مصر أنت أغلى درة
فوق جبين الدهر حرة
يا بلادي عيشي حرة
واسعدي رغم الأعادي"
وأما الكلمات الدخيلة والتى تم تسجيلها باسم الشاعر محمد يونس القاضي في جمعية المؤلفين، التي كان هو أول رئيس لها من 1926 وحتى 1937 (وكان مسماه الوظيفي وقتها رقيب على الأغاني) وجاء تسجيلها بعدما قدم للجمعية الوثيقة سابقة الذكر والتي لا أصل لها كما سبق وذكرنا - بعدما ادعى على غير الحقيقة أنه سجلها في المحكمة المختلطة وبالتالى في جمعية المؤلفين والملحنين سنة 1968- ثم أعادت أسرته - فيما أظن - تسجيلها مرة أخرى عام 1975 بعد رحيله (وإعادة التسجيل هنا تستدعي الدهشة والتساؤل والعجب)!
أما الكلمات التي تم تحريفها وتغييرها جاءت كالتالي:
" بلادي - بلادي
لكِ حبي وفؤادي
مصر يا ست البلاد
أنت غايتي والمراد
وعلى كل العباد
كم لنيلك من أيادي"
ثم يغير في الكلمات كالتالي:
" أنت لي نعم الوطن
اشتري صفو الزمن
أدفع الروح له ثمن
" وعلى الله اعتمادي"
ثم يكمل :
كل أولادك جنودك
أوفياء يصونوا عهودك
قصدهم تكسير قيودك
باتحادهم واتحادي
ثم يعود للأصل عند الشيخ سيد:
" مصر أنت أغلى درة
في جبين الدهر غرة
يا بلادي عيشي حرة
واسعدى رغم الأعادي"
ولقد حرر تلك الوثيقة وقدمها للمحكمة المختلطة -حسب قوله- في 26 يناير 1923 حسبما تقول الوثيقة.
•••
(رملة بولاق - دار الوثائق)
في اليوم التالي ذهبت إلى دار الكتب، وجئت بالذي يحسم الشك ويصل بنا إلى اليقين وهي صفحة كاملة من مجلة (التياترو المصورة)
الصادرة في (مارس - سنة 1925)
التي نشرت كلمات النشيد ونوتته الموسيقية وكتبت أعلى الصفحة:
" طلب منّا الكثيرون وضع هذه القطعة الموسيقية وهي من (تأليف) (وتلحين) الموسيقي الكبير المرحوم سيد درويش.. لينضم هذا الدليل القاطع إلى ما سبق من مصادر بحثية، وجادة، ودقيقة، ومحققة، بالوثائق، والحقائق، ناهيك عن إعلان صحيفة السياسة عام 1923 وهي تعلن عن عرض غنائي للشيخ سيد درويش يغني فيه أنشودة (بلادي بلادي) ويؤكد الإعلان على الأنشودة الثانية التي كتبها ولحنها للزعيم سعد زغلول.
-------
-------
وبعد ذلك - وقبل ذلك - وهل بذلك حسم الأمر؟! من وجهة نظري نعم! لماذا نعم؟! حسنا هذا سؤال طيب في زمن ليس كذلك!
لأننا سنصاب بالدهشة، والحيرة، والعجب
لأن الشيخ سيد درويش - فيما يبدو - كان بينه وبين ربه مدد، لأنك سوف تندهش عندما تعرف إن اليوم الذي أكد عليه الشاعر محمد يونس القاضي - ومن بعده كتاب الدكتورة إيمان مهران - أنه ذهب فيه إلى المحكمة المختلطة - حسبما تشير المصادر الداعمة لوجهة نظره وبناء على ذلك سجل الكلمات في جمعية المؤلفين والملحنين - كان هذا اليوم يا سادة. كان ماذا؟
الإجابة: كان (عطلة رسمية)؟
ولماذا عطلة رسمية؟ حسنا هذا سؤال طيب - في زمن ليس كذلك - لأنه كان (يوم جمعة)!
فهل فتحت المحكمة أبوابها في يوم عطلتها الرسمية - يوم الجمعة - حتى يسجل الشاعر محمد يونس القاضي كلمات النشيد؟ الذي هو أصلاً تسجيل لا أصل ولا سند له ولا يوجد له أي رقم وارد أو صادر أو رقم مسلسل أو أي أختام قضائية أصلًا!
إن القضية واضحة وضوح الشمس وإن كانت وزارة الثقافة المصرية قد صمت آذانها، وأغلقت عيونها، ودفاترها، ودوائرها، وملفاتها، وتركت هذه المأساة - التى قد تصل إلى حد المهزلة - طيلة هذه السنوات الماضية تعبث بمشاعرنا القومية، والروحية، والوطنية - لكونه النشيد القومي- فإن الأمر الآن يتطلب منها ومنا - أن تقوم الوزارة بتُشكل لجنة علمية، وبحثية، محايدة للوصول إلى الحق وتصويب الخطأ.
وهذا إن لم يكن من أجل سيد درويش - وهو يستحق منا إعادة حقه المسلوب ورد الاعتبار إلى اسمه وإبداعه الشعرى - فعلى الأقل من أجل الوطن وندائه ونشيده الوطني الذي يسكن أرواحنا.
وحتى نجد - بحق وصدق- ما نرد به على أطفالنا إذا ما سألونا ذات يوم عندما يعودن من مدارسهم الصباحية:"من الذي كتب "نشيد بلادي" الذي نتغنى به في طابور المدرسة؟"
فنجد في هذه اللحظة ما نرد به عليهم، ونقول لهم: "سيد درويش سيد الموسيقى العربية!
وسنجد أيضًا ما نرد به إذا ما طاردتنا روح سيد درويش !
ونجد ما نرد به على أرواحنا ونحن نهتف به في مناسباتنا القومية التي نقف فيها في خشوع وخضوع نغني "بلادي بلادي.. لكِ حبي وفؤادي".
ونجد ما نذكّر به (مصر أم العجايب) ونقول لها كما جاء فى رائعة من روائع الشيخ سيد درويش :
" آدي اللى صار ..
وآدي اللى كان
يا مصر...
يا أم العجايب
شعبك أصيل
والخصم غايب
خلى بالك من الحبايب"
.........
.........
وسيد درويش...سِيدى الحبايب!
خيري حسن
----------------------
• • ينُشر السبت - 23 - سبتمبر - 2023 فى صحيفة " الوفد" .
المصادر:
كتاب :
( سيد درويش - حياته وآثاره وعبقريته ) د. محمود أحمد الحفني - الطبعة الأولى- 1962 - وزارة الإرشاد القومي.
كتاب:
(من أجل أبي - سيد درويش )
حسن درويش - الهيئة العامة للكتاب - 1992. الطبعة الأولى.
كتاب - (السيد درويش فنان الشعب) د. جمال عبدالحي - المركز القومي للمسرح والموسيقى والتراث الشعبي.
كتاب:( حكاية يونس القاضي - كاتب وزجال وصحفي) - طبعة بمناسبة مئوية الثورة السعدية - الطبعة الأولى كان اسم الكتاب (مؤلف النشيد القومي) - د. إيمان مهران طبعة ثانية 2019
الدوريات والصحف والمجلات:
- صحيفة( الأهرام )أعداد سنة - 1923
- صحيفة (السياسة) - أعداد سنة 1923
- صحيفة (الأخبار) - فبراير - 1966
- مجلة( التياترو المصورة) - أعداد سنة 1925
- مجلة( المسرح) - عدد فبراير - 1972
- مجلة( الإذاعة )- عدد مارس - 1957
مجلة( آخر ساعة) - مايو - 1963