1- لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة.. رواية الدكتاتور
أعتقد أن هذه الرواية، لمؤلفها السوري خالد خليفة، المرشحة بقوة للفوز بجائزة بوكر لهذا العام، مؤلفها صاحب رواية "مديح الكراهية" التي نافست أيضاً على البوكر في دورتها الأولى، وغدت إحدى أفضل مائة رواية في العالم، ـ أعتقد أنها رواية الدكتاتور العربي، تماماً مثل رواية (استورياس) "السيد الرئيس" ورواية (غابرييل غارسيا ماركيز) "خريف البطريك"، وكان يمكن لمؤلفها أن يدرجها تحت عنوان مشابه: السيد الرئيس أو البطريرك أو الدكتاتور، ذلك أنها تصف الخراب الذي أصاب المجتمع السوري منذ تولى حافظ الأسد مقاليد الحكم في سورية، فأقصى رفاقه وسجنهم، وحيّد الحزب وحوّل الدولة إلى دولة فرد، ليورث ابنه حكمه، وليستمر الخراب، ولتؤول سورية إلى ما آلت إليه.
وقد انتهى خالد خليفة من كتابة روايته في ربيع 2012، ولم تكن الأمور وصلت إلى ما هي عليه الآن، حيث وجدت السكاكين والمدافع والطائرات والبراميل المتفجرة أيضاً، وحيث استخدم المعارضون الأسلحة، لا السكاكين.
والكتابة عن الدكتاتور تذكر قارئ الأدب العربي بأشعار محمود درويش و"خطب الدكتاتور الموزونة" له، وهي خطب كتبها في العام 1986، ونشرها على صفحات مجلة "اليوم السابع" الصادرة في باريس، ولم يدرجها في ديوان ما، وأعادت أكثر من مجلة، مثل مجلة "أدب ونقد" المصرية، ومجلة "الكرمل الجديد"، نشرها.
وقد تذكر القارئ بروايات عربية أنجزت في هذا المجال، منها رواية للكاتب الفلسطيني صاحب رواية "وما علينا" زياد عبد الفتاح، ورواية الكاتبة المصرية نوال السعداوي "زينة" التي كتبت قبل بدايات الربيع العربي وتنبأت به.
هل كانت الكتابة عن الدكتاتور العربي تقليداً ومحاكاة لرواية الدكتاتور في أميركا اللاتينية؟ ففي 70 ق20 كتب أبرز كتاب أميركا اللاتينية روايات عديدة عن الدكتاتور هناك، وقد لاحظ محمود درويش هذا، فكتبه في إحدى رسائله إلى سميح القاسم، ويمكن العودة إلى رسالة "والدكتاتور" في كتاب "الرسائل"، فقد أنهاها درويش بسطره "والآن سأكتب رسالة الدكتاتور الذي أطلق على نباح كلابه.. وكتابه "ـ إن لم تخني الذاكرة، أم أن الكتابة عن الدكتاتور انبثقت من الواقع العربي المأساوي الذي حكم فيه أكثر من حاكم فترة طويلة: القذافي وصدام والأسد الأب وحسني مبارك، وماتوا قتلاً وإعداماً وعزلاً أو موتاً طبيعياً؟ وآلت بلادهم جميعاً إلى خراب نشاهده الآن؟
رواية العار العربي:
ولا أدري حقاً لماذا لم يسم خالد خليفة روايته "العار" أيضاً؟ إن الرواية تحفل بهذا الدال، حتى يخرج قارئها بانطباع هو أنها رواية "العار"، العار الذي جلبه الدكتاتور لأمته وشعبه، والعار الذي جلبه الشعب لنفسه.
أيعود سبب عدم تسمية الروائي روايته بهذا الدال "العار" خوفاً من أن يتهم بأنه قلد روايات عالمية مشهورة مثل "العار" لسلمان رشدي، و"العار" للكاتب الجنوب افريقي الحائز على نوبل 2003 (كويتسي) و"العار" للكاتبة نسرين تسليمة التي أُهدر دمها، مثل سلمان رشدي صاحب "آيات شيطانية"؟ ويمكن للقارئ أن يبحث عن مراجعات لهذه الروايات ليقرأ فكرة عنها: عار العنصرية، وعار اضطهاد الأكثرية للأقلية، وعار الأستاذ الجامعي الذي يقع في علاقة مع إحدى طالباته فيقرر الاستقالة من عمله والابتعاد عن المدينة إلى مكان سكنه، وفي طريقه يغتصب ثلاثة من السود ابنته.
ولم تكن رواية "شرفة العار" لابراهيم نصر الله، صدرت يوم بدأ خالد خليفة يكتب روايته.
لم أحص دال "العار" في الرواية بدقة، ولكنه ورد أكثر مما ورد دال سكاكين بأضعاف: (ص120) "وبقاء المدينة سنوات طويلة تحت وطأة العار والموت" و(ص142) حيث يأتي الروائي على حلب ـ المكان الروائي ـ وما حل بها تحت وطأة حكم الحزب والمسؤولين الفاسدين الذين لا يعرفون إلاّ الولاء للرئيس والدبكة له، وحيث "استفتاءات الرئيس التي جعلت جان يكتب لابنه بأنه شعر لأول مرة في حياته بعار لا حدود له"، عار لم يشعر به إطلاقاً حين أقام سنوات طويلة في جنيف، جان الذي يغرق بالعار (ص153) وهو يراقب، في حلب، من أباجور منزله في الطابق الأول زملاءه ما زالوا يدبكون للرئيس، وقد تكون الفقرة الطويلة التي وردت في الصفحتين (158 و159) من أهم الفقرات في الرواية، فقد كانت زوجة جان السويسرية، حين كان زوجها يحن لبلاده، تعيره وتلومه على هذا الحنين، فكيف يحن إلى بلاد ما زال سكانها يركبون الجمال. وليس جان وحده هو الذي يشعر بالعار، فسوسن أخت السارد، حين تخرج من عيادة طبيب رتق لها غشاء البكارة أحست بالعار وأسباب ذلك كثيرة يقرؤها المرء في (ص161)، ويكون نزار (في ص169) عار العائلة كلها، نزار صاحب الميول المثلية الذي يتشبه بالنساء، ويختار لنفسه اسم مها، ليناديه به زوجه مدحت، وقد أراد أحد أفراد العائلة قتله "لإنقاذنا جميعاً وتجنيبناً عاراً احتملناه كعائلة سنوات طويلة"، بل وعار مدحت زوج نزار الذي، حين اختلف معه، طرده، فعاد مدحت إليه يحاول أن يقول كلمات "لإرضاء هذه الحشرة التي قادته إلى عار سيجلله طوال حياته" (ص170)، ويغدو العار عار شعب بأكمله، فحين يأتي السارد على الدكتاتور وفوزه في الانتخابات يدرك نزار أن ابن أخته رشيد لن يستطيع العيش ولن يقوى عليه "عار شعب بأكمله ينمو ببطء، كقطار البضائع الذي مات جده تحت عجلاته" (232)، شعب ينافق الرئيس. وحين يحدث زميل السارد السارد بما حدث مع زميل له قتل زوجته وابناءه لاكتشافه أن زوجته تخونه، شاعراً بالعار، يرى جان أن المنتحر "لم يعد يحتمل حياته وصمته وعاره التي اكتملت صورتها لدى جان فألف كتاباً صغيراً عن "العار ومشتقاته في الحياة السورية".
وسيلحظ المرء، وهو يعيد تصفح الرواية، أن دال العار ورد مبكراً في الرواية، فوالدة السارد تنتبه مبكراً "لأول مرة إلى شعور العار الذي يحيط بها من كل جانب" (ص39)، وأخذت الوالدة، حين بصق زوجها، أنها "ما زالت تفكر بمعان مختلفة للعار" (ص41)، وجان نفسه شعر به مبكراً (ص48 وص49) وإذ يفكر بالبقاء مع أمه في حلب وعدم الرغبة في السفر إلى جنيف لهذا أحس بلا جدوى أي شيء، وفكر بالانتحار وأخذ يتحدث بصوت "هادئ أنه يريد العيش هنا حتى لو تفكك جسده، يريد أخذ حصته من العار" (ص51)، وحين يقابل رئيس فرع المخابرات يعطيه هذا محاضرة عن معنى الولاء للوطن وللحزب، وحين يخرج جان من مبنى فرع المخابرات يصف هذه اللحظة بقمة العار الذي بقي من أجله في هذه المدينة العتيقة" ص56. حقاً لِمَ لَمْ يسم الكاتب روايته "رواية العار"؟
دال العنوان: لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة:
ترد مفردة سكاكين غير مرة في الرواية، لكنها، كما قلت، لا تكاد تذكر حين يحصي المرء دالاً آخر هو دال العار. وأول ما تردُ تردُ على لسان سوسن أخت السارد المتحررة التي تغدو في الحزب وتكتب التقارير في صديقاتها، فتدمر حياة بعضهن، قبل أن يدمر منذر عشيقها حياتها.
حين تخرج سوسن من بيتها في حلب يتحرش بها بعض زعران الحي، وتعود إلى بيتها بعد دقائق باحثة عن سكين في المطبخ للانتقام، وتمسك بواحد من الزعران وتدق رأسه على الحائط (ص157) وعندما يختلف مدحت مع زوجته نزار (مها)، ويطرده الأخير، يعود مدحت، "كان رشيد يتحسس السكين الكبيرة لقتل مدحت في أي محاولة منه لإهانة خاله الحبيب" (ص170)، وفي حلب نفسها تكثر الجرائم وتنشر إحدى الصحف المحلية خبراً عن رجل أحرق زوجته وأطفاله الأربعة "ثم انتحر بسكين المطبخ، صارخاً في جيرانه الذين يراقبون ببرود: إن الموت حرقاً أكثر شرفاً من انتظار الموت جوعاً، سائلاً بحرقة: ألا توجد سكاكين في مطابخ هذه المدينة" (ص207). وحين يعود ميشيل المثلي إلى حلب ويستقبله صديقه نزار، يكون الأخير "رتب الأمور بذكاء" فكر بأنه لم يعد يطيق العيش في مدينة يتحول فيها القتلة، رجالا بلحى طويلة ومكلابيّات قصيرة، يحملون السكاكين تحت آباطهم، وفي الطرف الآخر عناصر مخابرات تتجسّس على البشر وتساومهم على رزقهم في عملية نهب منظم" (ص242) ولهذا يبحث نزار عن مكان آخر يقيم ويستقر فيه.
عادل الأسطة
2014-03-02
***
2- خالد خليفة ورواية العار
«لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» عنوان إحدى روايات الروائي السوري خالد خليفة صاحب «مديح الكراهية». كلتا الروايتين وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية (بوكر).
روايتا خليفة تصلحان لأن تُدرسا وفق المنهج الاجتماعي، فهما تأتيان على الواقع السوري منذ سبعينات القرن الماضي وتصورانه وتبيّنان ما ألم به من تطورات وصلت حد الصدام المسلح وآلت سورية إلى ما آلت إليه الآن من دمار وخراب وتمزيق وتدخل دول خارجية كثيرة في الشأن السوري.
ما إن يفرغ المرء من قراءة الرواية حتى يتساءل "لماذا لم يختر الكاتب عنوان "العار" لروايته، فهو أنسب؟
يتكرر دال العار في الرواية تكراراً لافتاً وعلى لسان السارد وبعض الشخوص. يمكن متابعة ورود تكرار العار في الرواية لملاحظة الأمر. في الصفحة 12 يقول السارد: "كنت أدخل في عامي العاشر ولا نعرف شيئاً عن الموت والعار". بعد صفحات ليست كثيرة يبدأ السارد بالتكلم عن بداية معرفته بالعار. في الصفحة 39 يتحدث عن أمه ويرد ذكر دال العار الذي بدأت الأم تشعر به:
"تنتبه لأول مرة إلى شعور العار الذي يحيط بها من كل جانب، تشعر بالرضا حين تكتشف أن الكثيرين مثلها يشعرون بالعار، زميلاتها وصديقاتها والناس في الشوارع، التي تتجاهل صور الرئيس رغم ادعاء أبديته.“
يتحول الشعور بالعار إلى ما هو أكثر، فيبدأ الناس يفكّرون في مدلولاته لأنه يتدخل إلى منازلهم ومن الذين يفكرون والدة السارد الذي لا يعلن هويته إلا في صفحات متأخرة (الصفحة 41) وتقدم اقتراحات لمعانيه ترد في الصفحة 42 والصفحة 49 ويأخذ جزء كبير من شخصيات الرواية حصته من العار.
جان يفكر في الهجرة من حلب فقد كره المدينة التي أجبر فيها على المشاركة مع حزبيين في مسيرات تمدح الحزب والرئيس (الصفحة 48) و"يشعر بأنه لن يكمل طريقه إلى الرصيف الآخر قبل إصابته بسكتة قلبية… ويشعر بالعار أيضاً“.
يكتب جان رسائل لابنه في باريس يصف فيها أحواله وزملاءه الذين يدبكون في مسيراته الحزبية الإجبارية وقد تحدث جان في رسائله باسهاب عن "عاره الشخصي لأنه كان شاهداً على لحظة سيتناساها الجميع ليستطيع النظر في عيون بعض بعد خمسين سنة“ ويحس جان بلا جدوى أي شيء وفكّر بالانتحار، "يتحدث بصوت هادئ أنه يريد العيش هنا حتى لو تفكك جسده، يريد أخذ حصته من العار“.
يتوالى تكرار دال العار تكراراً لافتا وكلما مر حدث ما لا يقتنع به شعر بالعار. فحين أعطاه رئيس فرع الحزب محاضرة عن الوطن والمواطن يخرج جان من المبنى الكئيب ويصف تلك اللحظة "بقمة العار الذي بقي من أجله في هذه للمدينة العتيقة ” (الصفحة 56).
ليس الحزب وحده ما يُشعر بالعار في الرواية. يصبح نزار المثليّ عار أبيه (الصفحة 96/ 97) وهبة التي رفضت ما طلبه عضو الحزب منها فاغتصبوها، هبة هذه تبقى عشر سنوات لم تكفّ فيها عن نسيان ذلك العار، وتبقى المدينة سنوات طويلة "تحت وطأة الموت والعار“ (الصفحة 120).
وحين يأتي السارد على حلب وما حل بها تحت حكم الحزب والمسؤولين الفاسدين الذين لا يعرفون إلا الولاء للرئيس والدبكة له، لننظر في الفقرات التالية:
"استفتاءات الرئيس التي جعلت جان حين يكتب لابنه بأنه شعر لأول مره في حياته بعار لا حدود له" (الصفحة 153).
سوسن حين تخرج من عيادة طبيب رتق لها غشاء البكارة أحست بالعار (الصفحات 158 و159 و161 و1969).
في الصفحة 232 يفوز الدكتاتور في الانتخابات، يشعرون بـ"عار شعب بأكمله ينمو ببطء كقطار البضائع الذي مات جده تحت عجلاته. ونفاق الناس للرئيس يولّد أيضاً الشعور بالعار.
زميل السارد في مكتب المحاسبة يخبره عن زميل آخر "اكتشف أن زوجته عاهرة والولدين ليسا من صلبه" ولهذا قتل زوجته وابنه، وإن اعتقد السارد غير ذلك: "إنه لم يعد يحتمل حياته وصمته وعاره، التي اكتملت صورتها لدى جان فألف كتاباً صغيراً عن "العار" ومشتقاته في الحياة السورية“.
طبعاً الكتابة عن العار ليس كتابة بكراً فهناك روائيون كتبوا عن العار في الأدبين العربي والعالمي (سلمان رشدي ونسرين تسليمه وكويتزي، وإبراهيم نصر الله في "شرفة العار“).
منشورة في:
#الأدب السوري اليوم
***
3- مديح الكراهية... الحكاية تتكرر
منذ فترة وأنا أعود إلى رواية خالد خليفة "مديح الكراهية" (2008). أتصفح ملاحظاتي القليلة على هوامشها، وأفكر في الكتابة عما يجري في سورية هذه الأيام، ثم أتراجع. لماذا؟ أحياناً أقول هناك سوريون كُثُر أَعرَف مني بما يجري هناك، وأهلها أدرى بشعابها، على غرار المثل/ القول: أهل مكة أدرى بشعابها. وهكذا أجدني أضع الرواية جانباً. أضعها على رف مكتبتي وأنساها. أحاول أن أنساها، وأحاول أن أهرب مما يجري في الشام، بل ومما يجري في العالم العربي. هل ما تبثه قناة الجزيرة حقيقي أم أنه مبالغ فيه؟ هل قناة الجزيرة قناة إعلامية محايدة أم أنها تخضع لتوجيهات الـ(سي.آي.إيه)؟ هل قطر معنية بتحرر المواطن العربي وتحريره من حاكمه؟ لماذا إذاً لا تطرد الأميركان من أرضها؟
منذ فترة أمعن النظر في الرواية. أتركها على رف المكتبة، وقد أعود إلى دواوين محمود درويش ومظفر النواب: ماذا كان عليهما أن يفعلا بعد أن هجا كل منهما النظام السوري في حينه، نظام حافظ الأسد؟ كان عليهما أن يكتبا اعتذاريات، لكنهما كانا ذكيين، فكتبا الاعتذاريات لدمشق، وهي اعتذاريات تستحق أن تُقرأ. أنا قد لا أذهب إلى الشام، فلماذا لا أكتب عن مديح الكراهية؟ لماذا لا أخطو خطوات معين بسيسو في ديوانه "الآن، خذي جسدي كيساً من رمل"؟
أحياناً أسأل نفسي: مع مَن أنا؟ ما هو موقفي مما يجري في الشام. وأغلق فضائية الجزيرة ولا أشاهد ما تبثه. أحاول أن أشاهد الفضائية السورية وأن أصغي إلى خطابها. روايتان متناقضتان مختلفتان كلياً. كأن سقوط النظام، حسب فضائية الجزيرة، قاب قوسين أو أدنى، وكأن النظام بات إلى الأبد، حسب فضائية الشام الرسمية، مع مَن أنا حقاً؟ أمع النظام أم مع معارضيه؟
في العام 2000 شاركت في مؤتمر أدبي في الأردن، وفيه شارك أساتذة سوريون، وكنت في غرفة أقام معي فيها أستاذ سوري. وخارج قاعة المؤتمرات دار جدل بيننا حول نظام التوريث في سورية. أنا ضد التوريث، وضد تعديل الدستور حتى يتناسب مع الوارث، وزميلي يدافع عما جرى في سورية، ويقول: إن الأوضاع في سورية مختلفة، وإن بشار الأسد هو الأنسب لقيادة سورية، وسيدافع عن نظام دولته، وعن حاكمها. وفيما بعد سألتقي بسوريين كثر، وقلما تحدثنا معاً عن النظام هناك، وإذا ما تحدث واحد منهم عن بلده مدح نظامها، فهو النظام الذي يقود المقاومة ضد إسرائيل، وحجتهم أنه هو مَن يدعم حزب الله، والأخير يشكل رأس حربة المقاومة. هل سمعت، ذات نهار، كلاماً مغايراً؟
في نيسان من العام 2011 سألتقي في أحد المؤتمرات بأستاذة جامعية سورية، ولما كان ربيع الغضب العربي في أوجه، فقد وجدنا أنفسنا مسوقين إلى الحديث في الأوضاع والخوض في شؤونها. أحياناً كنت أقول: لأصغِ، لأصغِ إلى أبناء هذا البلد أو ذاك، فهم أدرى بما يجري فيه. وكنت أصغي إلى الأستاذة الجامعية السورية تتحدث. هل كنت أصدقها أم أنني كنت حذراً وأرتاب فيما تقول؛ الأستاذة السورية رَوَت أيضاً بعض النكت، ومنها نكتة حول أمنيات الحاكم العربي: أن يخفي الله الشعب والجزيرة ويوم الجمعة، حتى يظل حاكماً. هل كانت الأستاذة تؤيد المعارضة أم أنها كانت تتظاهر بأنها تؤيدها لتعرف ماذا أقول أنا؟ غير متأكد من ذلك، لكن ظاهر كلامها يقول إنها مع المعارضة. هل ذكرتني تلك الأستاذة ببطلة رواية خالد خليفة "مديح الكراهية"، فجعلتني أعود إلى الرواية لأقرأها؟
ومنذ نيسان من العام 2011 وأنا أشاهد الأخبار، الأخبار التي احتلت ليبيا أكثرها، حتى إذا ما خفتت قليلاً، تصدرت أخبار الشام المشهد. أراد القذافي أن يحرر ليبيا من الخونة والجرذان، وأن يطهرها منهم مدينة مدينة، حارة حارة، بيتاً بيتاً، زنقة زنقة، وكان أن طاردوه، منذ حاربت الملائكة معهم، مدينة مدينة وحارة حارة، وزنقة وزنقة، ولا يعرف أين هو الآن. [ذات نهار جمعة خطب إمام في المصلين في ساحة مدينة بنغازي، وكان ذلك في بدايات رمضان، وأشار إلى فتح مكة وإلى مساعدة الملائكة للمؤمنين. أنا اختلط الأمر علي وأنا أشاهد طائرات الناتو تغير على كتائب القذافي].
ولا أدري لماذا أحب الشام. أأحبها لأنني زرتها؟ أأحبها لأنني طربت لقصيدة نزار قباني في دمشق أم لأنني عشقت قصيدة مظفر النواب فيها؟:
دمشـق عـدت بـلا حـزني ولا فرحي يقودني شبح مضـنى إلــى شـبــح
ضـيعـت مـنـك طريقاً كنت أعرفـه سكران مغمضة عيني من الطفــ ح
دمشـق عــدت وقلـبي كلـــه قـــرح وأيــن كــان غريــب غـير ذي قــرح
ضاع الطريق وكان الثلج يغـمرنـي والـروح مقفـرة والليـل فــي رشــح
هذي الحقيبة عادت وحدها وطني ورحلة العمر عادت وحدها قدحي
حقاً لا أدري لماذا أحب الشام! لي صديق أَحَبها لأنه درس فيها، ولأن بيوتها تذكره ببيوت نابلس. كأنه وهو في الشام، كأنه في نابلس. أنا زرت الشام مرتين وسرت في شوارعها وسوقها، وما زالت لي خالة فيها، شفاها الله من الزهايمر. أحياناً أتابع مسلسلات الشام وأستمتع وأنا أصغي إلى لغة الممثلين. هل أنا حزين لما يجري في الشام؟
في شباط من هذا العام، كتب حسن البطل مقالاً اقترح فيه على الرئيس بشار الأسد أن يغادر الحكم، لأن الزمن ليس لصالحه، وقال فيه إن بشار الأسد طبيب عيون، وأمِل أن يتمتع ببعد النظر. سأعقب على المقال: "لو استقال بشار الأسد فسيغدو الرئيس العربي المحبوب من المحيط إلى الخليج. سيغدو ذا شعبية مذهلة". تُرى كم تبلغ شعبية الرئيس السوري في العالم العربي اليوم؟ يا إلهي، أمَا كان الأفضل ألاّ يذهب الدم السوري هدراً؟
كل نشرة أخبار، هذه الأيام، نشاهد، من على فضائية الجزيرة، ما لا يسر. كل يوم نصغي إلى عدد الشهداء وعدد الجرحى، وهم يزدادون، ولا يدري المرء إلام ستؤول الأمور في دمشق؟ وكل نهار، منذ فترة، أرى رواية خالد خليفة "مديح الكراهية" على رف مكتبتي. أمد يدي أتناولها، ثم أعيدها إلى الرف. وسأعود إلى ملاحظاتي التي دونتها عليها.
كتب خالد خليفة عن أحداث حماة أيام حكم الرئيس حافظ الأسد. كتب عن اللحظة الراهنة، وكان مختلفاً عن روائيين كثر قرأت نصوصهم في العام 2008، عن إبراهيم نصر الله في "زمن الخيول البيضاء"، وعن فاروق وادي في "عصفور الشمس"، وعن حسن حميد في "نهر بقمصان الشتاء"، وحين أقرأ للأخير روايته "مدينة الله"، وهي عن القدس، سأتساءل: لماذا لم يكتب حسن حميد عن أوضاع الفلسطينيين في سورية؟ لماذا لم يلامس هذه المنطقة؟ ألأنه يخاف؟ وكنت أرى خالد خليفة كاتباً جريئاً شجاعاً لا يهرب من ماضيه ومن حاضره. استغرقته كتابة الرواية ثلاثة عشر عاماً، ولما طبعها في الشام صودرت ومنعت. لماذا؟ لأنه كتب عن أشياء لا تروق لسوريين كثر. لأنه كتب عن سرايا رفعت الأسد، وعن الطائفية البغيضة التي سببها حكم الطائفة. لقد قال لنا، نحن الذين نقيم خارج سورية، ما جرى هناك. أخبرنا عن عالم آخر، أبرز لنا صورة أخرى غير تلك التي كنا نشاهدها في المسلسلات، فقد كانت بعض هذه تكتب عن الشام أيام العثمانيين والانتداب الفرنسي، وكان الناس يعيشون زمن مسلسل باب الحارة، لا زمن حكم حافظ الأسد إلا قليلاً.
وأظن أن مَن يشاهد ما يجري الآن في سورية، أظن أنه سيتذكر رواية خالد خليفة، وسيعود إليها، لأنه سيرى أن الحكاية تتكرر. في أحد مقالات حسن البطل في أطراف النهار في "الأيام"، عقد مقارنة بين الأخوين: حافظ ورفعت، والأخوين: بشار وماهر، وأشار إلى دور والدة حافظ في حسم الأمر، وتساءل: كيف سيحسم الأمر إذا ما تفجر الصراع بين بشار وأخيه ماهر؟
الآن لا حديث عن خلاف بينهما، ربما لأن رأس النظام كله مطلوب. هل يتفاجأ المرء، وهو يتابع ما يجري في سورية، بما يجري؟ إن رواية "مديح الكراهية" تقدم لنا صورة سوداوية لما كان في نهاية ق20، وأظن أن تلك الصورة تقول لنا: لا تتفاجؤوا بما تشاهدون وبما يجري.
يرد في الرواية، المقطع التالي عن الزعيم العربي:
"قائد سرايا الموت كان يرفس باب مجلس الوزراء، يدخل ليخبط طاولة الجوز العتيق بيده مطالباً بحصته من البلاد، يوقع الوزراء الخائفون على أوامره دون نقاش، أدركوا أن المهابة التي يتمتعون بها هي جزء من مهابته، فتماهى بعضهم بصورته، وغادر بعضهم الآخر إلى جزر منعزلة ليكتبوا مذكراتهم ويشتموه بعد تنازلهم له عن أكثر من نصف أموال الدولة، ليجمعها في بنوك أوروبية وأميركية تواطأت معه تحت شهوة المال الغزير الذي تكدس ثمناً لقتله جماعتنا، وقصفه سجناء معزولين، وتدمير مدينة تحب أكل غزل البنات وحلاوة الجبن أكثر من الموت. كبرت أسطورة القائد الذي علق أنصاره صوره التي يبدو فيها رجلاً قوياً يحب الحياة، يبتسم رافعاً قبضته في الهواء كمحرر للقدس، وليس كرجل عصابات استباح البلاد مع ضباطه، مستأثراً بالنصيب الأكبر من كل شيء كولد مدلل يتحاشى الكل أذاه كي لا يفسد السهرة التي بدوا فيها جميعاً كرفاق درب وأصدقاء طفولة اجتمعوا كي يحتفلوا بقتلهم مدير المدرسة وسرقة كرات السلة من غرفة الرياضة، القائد أصبح رمز جماعته التي بدأت تثقل البلاد بوطأتها..." (ص278/279).
في 6/6/2008 قدمت فضائية الجزيرة برنامجاً عنوانه "أدب المقاومة"، أجرت فيه مقابلة مع المؤلف، أشار فيها – في المقابلة - إلى أنه بدأ يكتب روايته في بدايات تسعينيات ق20، وأنهاها في العام 2005، وكان هو ممن أسسوا مجلة اسمها "ألف"، أظن أن علي فرزات رسام الكاريكاتير المشهور كان من ضمن الستة. تُرى مَن نصدق: قناة الجزيرة أم التلفاز العربي السوري؟ علي فرزات وخالد خليفة أم الرواية الرسمية؟
أنا أحياناً حين أشاهد ما يجري أضع يدي على قلبي وأغلق التلفاز، وأتمنى لو أن الرئيس السوري قدم استقالته قبل ثلاث سنوات، بل أتمنى لو أنه رفض التوريث، فالتوريث علّتنا الأبدية منذ معاوية بن أبي سفيان، وليحفظ الله الشام!.
هي هجرة أخرى.. هي هجرات أخرى
في العام 1997 كتبت في "الأيام" وفي "البلاد" مقالات نقدية تحت عنوان "أدب السلم.. أدب الخيبة". جمعتها، فيما بعد، في كتاب عنوانه "أدب المقاومة: من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات" (1998) أصدرته وزارة الثقافة الفلسطينية، وأعادت مؤسسة فلسطين للثقافة في الشام إصداره (2008)، تتبعت فيه خطاب شعرائنا وروائيينا، من درويش إلى إميل حبيبي، والعنوان يشي بما قلته.
في العام 2008 سيصدر الناقد فيصل درّاج كتاباً عنوانه "الذاكرة القومية في الرواية العربية: من زمن النهضة إلى زمن السقوط"، وسأقرأه في العام 2010. إن عنوانه أيضاً يشي بما يحتويه مضمونه. وإذا كنت تناولت أدباء فلسطينيين، فقد تناول درّاج الأدباء الفلسطينيين وأدباء عرباً كثراً.
حين أنجزنا كتابينا لم يكن الربيع العربي قد بدأ، وربما لم يلتفت كلانا إلى أنه قد يبدأ، وربما كنا لامسنا الموضوع وخضنا فيه دون أن نستشرف المستقبل. ربما لم نلحظ أن الخيبة والسقوط، بعد التفاؤل والنهضة، قد يحملان في داخلهما نقيضهما. هل تركت نصوص الأدباء أثرها علينا؟
وأنا أتصفح كتاب درّاج أخذت أبحث عن رواية "مديح الكراهية"، فلعله عالجها ضمن ما عالج من روايات. ويبدو أنه لم يطلع عليها، فسنة صدورها هي سنة صدور كتابه. ربما لهذا لم يأت في كتابه عليها.. فبم انتهت الرواية؟
ساردة الرواية طالبة متدينة تغدو أميرة في جماعتها. إنها معارضة دينية للنظام البعثي، نظام حافظ الأسد. تروي الساردة قصة عائلة سورية، عائلتها، وهي عائلة تقيم في حلب، يلتحق ابنا العائلة بالجماعة الإسلامية، فيم تبقى الفتيات في المنزل، يقيم معهن شيخ أعمى هو الشيخ رضوان، ويقودهن إلى الحمام (هل من دلالة لهذا؟ ألهذا يواصل السوريون الآن ثورتهم وانتفاضتهم؟ حتى لا يوصموا بأنهم نساء يقودهن أعمى؟). وتسجن الساردة، وتنفق في السجن سنوات، وفيه تتحول من اليمين إلى اليسار، وحين تخرج من السجن تغادر الوطن وتهاجر إلى بريطانيا، لتحيا هناك متحررةً من المسؤول عن هجرتها وإقامتها في المنفى؟
الآن، ونحن نتابع الأخبار نلحظ السوريين يهاجرون إلى تركيا وإلى لبنان، وأيام حكم صدام العراق عاش أربعة ملايين عراقي في المنافي. تُرى أهذه هي فضائل النظام العربي؟ سؤال يثيره المرء ويكرر ما قاله محمود درويش: هي هجرة أخرى..
عادل الأسطة
2011-10-02
***
=================
1- لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة.. رواية الدكتاتور
2- خالد خليفة ورواية العار
3- مديح الكراهية... الحكاية تتكرر
أعتقد أن هذه الرواية، لمؤلفها السوري خالد خليفة، المرشحة بقوة للفوز بجائزة بوكر لهذا العام، مؤلفها صاحب رواية "مديح الكراهية" التي نافست أيضاً على البوكر في دورتها الأولى، وغدت إحدى أفضل مائة رواية في العالم، ـ أعتقد أنها رواية الدكتاتور العربي، تماماً مثل رواية (استورياس) "السيد الرئيس" ورواية (غابرييل غارسيا ماركيز) "خريف البطريك"، وكان يمكن لمؤلفها أن يدرجها تحت عنوان مشابه: السيد الرئيس أو البطريرك أو الدكتاتور، ذلك أنها تصف الخراب الذي أصاب المجتمع السوري منذ تولى حافظ الأسد مقاليد الحكم في سورية، فأقصى رفاقه وسجنهم، وحيّد الحزب وحوّل الدولة إلى دولة فرد، ليورث ابنه حكمه، وليستمر الخراب، ولتؤول سورية إلى ما آلت إليه.
وقد انتهى خالد خليفة من كتابة روايته في ربيع 2012، ولم تكن الأمور وصلت إلى ما هي عليه الآن، حيث وجدت السكاكين والمدافع والطائرات والبراميل المتفجرة أيضاً، وحيث استخدم المعارضون الأسلحة، لا السكاكين.
والكتابة عن الدكتاتور تذكر قارئ الأدب العربي بأشعار محمود درويش و"خطب الدكتاتور الموزونة" له، وهي خطب كتبها في العام 1986، ونشرها على صفحات مجلة "اليوم السابع" الصادرة في باريس، ولم يدرجها في ديوان ما، وأعادت أكثر من مجلة، مثل مجلة "أدب ونقد" المصرية، ومجلة "الكرمل الجديد"، نشرها.
وقد تذكر القارئ بروايات عربية أنجزت في هذا المجال، منها رواية للكاتب الفلسطيني صاحب رواية "وما علينا" زياد عبد الفتاح، ورواية الكاتبة المصرية نوال السعداوي "زينة" التي كتبت قبل بدايات الربيع العربي وتنبأت به.
هل كانت الكتابة عن الدكتاتور العربي تقليداً ومحاكاة لرواية الدكتاتور في أميركا اللاتينية؟ ففي 70 ق20 كتب أبرز كتاب أميركا اللاتينية روايات عديدة عن الدكتاتور هناك، وقد لاحظ محمود درويش هذا، فكتبه في إحدى رسائله إلى سميح القاسم، ويمكن العودة إلى رسالة "والدكتاتور" في كتاب "الرسائل"، فقد أنهاها درويش بسطره "والآن سأكتب رسالة الدكتاتور الذي أطلق على نباح كلابه.. وكتابه "ـ إن لم تخني الذاكرة، أم أن الكتابة عن الدكتاتور انبثقت من الواقع العربي المأساوي الذي حكم فيه أكثر من حاكم فترة طويلة: القذافي وصدام والأسد الأب وحسني مبارك، وماتوا قتلاً وإعداماً وعزلاً أو موتاً طبيعياً؟ وآلت بلادهم جميعاً إلى خراب نشاهده الآن؟
رواية العار العربي:
ولا أدري حقاً لماذا لم يسم خالد خليفة روايته "العار" أيضاً؟ إن الرواية تحفل بهذا الدال، حتى يخرج قارئها بانطباع هو أنها رواية "العار"، العار الذي جلبه الدكتاتور لأمته وشعبه، والعار الذي جلبه الشعب لنفسه.
أيعود سبب عدم تسمية الروائي روايته بهذا الدال "العار" خوفاً من أن يتهم بأنه قلد روايات عالمية مشهورة مثل "العار" لسلمان رشدي، و"العار" للكاتب الجنوب افريقي الحائز على نوبل 2003 (كويتسي) و"العار" للكاتبة نسرين تسليمة التي أُهدر دمها، مثل سلمان رشدي صاحب "آيات شيطانية"؟ ويمكن للقارئ أن يبحث عن مراجعات لهذه الروايات ليقرأ فكرة عنها: عار العنصرية، وعار اضطهاد الأكثرية للأقلية، وعار الأستاذ الجامعي الذي يقع في علاقة مع إحدى طالباته فيقرر الاستقالة من عمله والابتعاد عن المدينة إلى مكان سكنه، وفي طريقه يغتصب ثلاثة من السود ابنته.
ولم تكن رواية "شرفة العار" لابراهيم نصر الله، صدرت يوم بدأ خالد خليفة يكتب روايته.
لم أحص دال "العار" في الرواية بدقة، ولكنه ورد أكثر مما ورد دال سكاكين بأضعاف: (ص120) "وبقاء المدينة سنوات طويلة تحت وطأة العار والموت" و(ص142) حيث يأتي الروائي على حلب ـ المكان الروائي ـ وما حل بها تحت وطأة حكم الحزب والمسؤولين الفاسدين الذين لا يعرفون إلاّ الولاء للرئيس والدبكة له، وحيث "استفتاءات الرئيس التي جعلت جان يكتب لابنه بأنه شعر لأول مرة في حياته بعار لا حدود له"، عار لم يشعر به إطلاقاً حين أقام سنوات طويلة في جنيف، جان الذي يغرق بالعار (ص153) وهو يراقب، في حلب، من أباجور منزله في الطابق الأول زملاءه ما زالوا يدبكون للرئيس، وقد تكون الفقرة الطويلة التي وردت في الصفحتين (158 و159) من أهم الفقرات في الرواية، فقد كانت زوجة جان السويسرية، حين كان زوجها يحن لبلاده، تعيره وتلومه على هذا الحنين، فكيف يحن إلى بلاد ما زال سكانها يركبون الجمال. وليس جان وحده هو الذي يشعر بالعار، فسوسن أخت السارد، حين تخرج من عيادة طبيب رتق لها غشاء البكارة أحست بالعار وأسباب ذلك كثيرة يقرؤها المرء في (ص161)، ويكون نزار (في ص169) عار العائلة كلها، نزار صاحب الميول المثلية الذي يتشبه بالنساء، ويختار لنفسه اسم مها، ليناديه به زوجه مدحت، وقد أراد أحد أفراد العائلة قتله "لإنقاذنا جميعاً وتجنيبناً عاراً احتملناه كعائلة سنوات طويلة"، بل وعار مدحت زوج نزار الذي، حين اختلف معه، طرده، فعاد مدحت إليه يحاول أن يقول كلمات "لإرضاء هذه الحشرة التي قادته إلى عار سيجلله طوال حياته" (ص170)، ويغدو العار عار شعب بأكمله، فحين يأتي السارد على الدكتاتور وفوزه في الانتخابات يدرك نزار أن ابن أخته رشيد لن يستطيع العيش ولن يقوى عليه "عار شعب بأكمله ينمو ببطء، كقطار البضائع الذي مات جده تحت عجلاته" (232)، شعب ينافق الرئيس. وحين يحدث زميل السارد السارد بما حدث مع زميل له قتل زوجته وابناءه لاكتشافه أن زوجته تخونه، شاعراً بالعار، يرى جان أن المنتحر "لم يعد يحتمل حياته وصمته وعاره التي اكتملت صورتها لدى جان فألف كتاباً صغيراً عن "العار ومشتقاته في الحياة السورية".
وسيلحظ المرء، وهو يعيد تصفح الرواية، أن دال العار ورد مبكراً في الرواية، فوالدة السارد تنتبه مبكراً "لأول مرة إلى شعور العار الذي يحيط بها من كل جانب" (ص39)، وأخذت الوالدة، حين بصق زوجها، أنها "ما زالت تفكر بمعان مختلفة للعار" (ص41)، وجان نفسه شعر به مبكراً (ص48 وص49) وإذ يفكر بالبقاء مع أمه في حلب وعدم الرغبة في السفر إلى جنيف لهذا أحس بلا جدوى أي شيء، وفكر بالانتحار وأخذ يتحدث بصوت "هادئ أنه يريد العيش هنا حتى لو تفكك جسده، يريد أخذ حصته من العار" (ص51)، وحين يقابل رئيس فرع المخابرات يعطيه هذا محاضرة عن معنى الولاء للوطن وللحزب، وحين يخرج جان من مبنى فرع المخابرات يصف هذه اللحظة بقمة العار الذي بقي من أجله في هذه المدينة العتيقة" ص56. حقاً لِمَ لَمْ يسم الكاتب روايته "رواية العار"؟
دال العنوان: لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة:
ترد مفردة سكاكين غير مرة في الرواية، لكنها، كما قلت، لا تكاد تذكر حين يحصي المرء دالاً آخر هو دال العار. وأول ما تردُ تردُ على لسان سوسن أخت السارد المتحررة التي تغدو في الحزب وتكتب التقارير في صديقاتها، فتدمر حياة بعضهن، قبل أن يدمر منذر عشيقها حياتها.
حين تخرج سوسن من بيتها في حلب يتحرش بها بعض زعران الحي، وتعود إلى بيتها بعد دقائق باحثة عن سكين في المطبخ للانتقام، وتمسك بواحد من الزعران وتدق رأسه على الحائط (ص157) وعندما يختلف مدحت مع زوجته نزار (مها)، ويطرده الأخير، يعود مدحت، "كان رشيد يتحسس السكين الكبيرة لقتل مدحت في أي محاولة منه لإهانة خاله الحبيب" (ص170)، وفي حلب نفسها تكثر الجرائم وتنشر إحدى الصحف المحلية خبراً عن رجل أحرق زوجته وأطفاله الأربعة "ثم انتحر بسكين المطبخ، صارخاً في جيرانه الذين يراقبون ببرود: إن الموت حرقاً أكثر شرفاً من انتظار الموت جوعاً، سائلاً بحرقة: ألا توجد سكاكين في مطابخ هذه المدينة" (ص207). وحين يعود ميشيل المثلي إلى حلب ويستقبله صديقه نزار، يكون الأخير "رتب الأمور بذكاء" فكر بأنه لم يعد يطيق العيش في مدينة يتحول فيها القتلة، رجالا بلحى طويلة ومكلابيّات قصيرة، يحملون السكاكين تحت آباطهم، وفي الطرف الآخر عناصر مخابرات تتجسّس على البشر وتساومهم على رزقهم في عملية نهب منظم" (ص242) ولهذا يبحث نزار عن مكان آخر يقيم ويستقر فيه.
عادل الأسطة
2014-03-02
***
2- خالد خليفة ورواية العار
«لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» عنوان إحدى روايات الروائي السوري خالد خليفة صاحب «مديح الكراهية». كلتا الروايتين وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية (بوكر).
روايتا خليفة تصلحان لأن تُدرسا وفق المنهج الاجتماعي، فهما تأتيان على الواقع السوري منذ سبعينات القرن الماضي وتصورانه وتبيّنان ما ألم به من تطورات وصلت حد الصدام المسلح وآلت سورية إلى ما آلت إليه الآن من دمار وخراب وتمزيق وتدخل دول خارجية كثيرة في الشأن السوري.
ما إن يفرغ المرء من قراءة الرواية حتى يتساءل "لماذا لم يختر الكاتب عنوان "العار" لروايته، فهو أنسب؟
يتكرر دال العار في الرواية تكراراً لافتاً وعلى لسان السارد وبعض الشخوص. يمكن متابعة ورود تكرار العار في الرواية لملاحظة الأمر. في الصفحة 12 يقول السارد: "كنت أدخل في عامي العاشر ولا نعرف شيئاً عن الموت والعار". بعد صفحات ليست كثيرة يبدأ السارد بالتكلم عن بداية معرفته بالعار. في الصفحة 39 يتحدث عن أمه ويرد ذكر دال العار الذي بدأت الأم تشعر به:
"تنتبه لأول مرة إلى شعور العار الذي يحيط بها من كل جانب، تشعر بالرضا حين تكتشف أن الكثيرين مثلها يشعرون بالعار، زميلاتها وصديقاتها والناس في الشوارع، التي تتجاهل صور الرئيس رغم ادعاء أبديته.“
يتحول الشعور بالعار إلى ما هو أكثر، فيبدأ الناس يفكّرون في مدلولاته لأنه يتدخل إلى منازلهم ومن الذين يفكرون والدة السارد الذي لا يعلن هويته إلا في صفحات متأخرة (الصفحة 41) وتقدم اقتراحات لمعانيه ترد في الصفحة 42 والصفحة 49 ويأخذ جزء كبير من شخصيات الرواية حصته من العار.
جان يفكر في الهجرة من حلب فقد كره المدينة التي أجبر فيها على المشاركة مع حزبيين في مسيرات تمدح الحزب والرئيس (الصفحة 48) و"يشعر بأنه لن يكمل طريقه إلى الرصيف الآخر قبل إصابته بسكتة قلبية… ويشعر بالعار أيضاً“.
يكتب جان رسائل لابنه في باريس يصف فيها أحواله وزملاءه الذين يدبكون في مسيراته الحزبية الإجبارية وقد تحدث جان في رسائله باسهاب عن "عاره الشخصي لأنه كان شاهداً على لحظة سيتناساها الجميع ليستطيع النظر في عيون بعض بعد خمسين سنة“ ويحس جان بلا جدوى أي شيء وفكّر بالانتحار، "يتحدث بصوت هادئ أنه يريد العيش هنا حتى لو تفكك جسده، يريد أخذ حصته من العار“.
يتوالى تكرار دال العار تكراراً لافتا وكلما مر حدث ما لا يقتنع به شعر بالعار. فحين أعطاه رئيس فرع الحزب محاضرة عن الوطن والمواطن يخرج جان من المبنى الكئيب ويصف تلك اللحظة "بقمة العار الذي بقي من أجله في هذه للمدينة العتيقة ” (الصفحة 56).
ليس الحزب وحده ما يُشعر بالعار في الرواية. يصبح نزار المثليّ عار أبيه (الصفحة 96/ 97) وهبة التي رفضت ما طلبه عضو الحزب منها فاغتصبوها، هبة هذه تبقى عشر سنوات لم تكفّ فيها عن نسيان ذلك العار، وتبقى المدينة سنوات طويلة "تحت وطأة الموت والعار“ (الصفحة 120).
وحين يأتي السارد على حلب وما حل بها تحت حكم الحزب والمسؤولين الفاسدين الذين لا يعرفون إلا الولاء للرئيس والدبكة له، لننظر في الفقرات التالية:
"استفتاءات الرئيس التي جعلت جان حين يكتب لابنه بأنه شعر لأول مره في حياته بعار لا حدود له" (الصفحة 153).
سوسن حين تخرج من عيادة طبيب رتق لها غشاء البكارة أحست بالعار (الصفحات 158 و159 و161 و1969).
في الصفحة 232 يفوز الدكتاتور في الانتخابات، يشعرون بـ"عار شعب بأكمله ينمو ببطء كقطار البضائع الذي مات جده تحت عجلاته. ونفاق الناس للرئيس يولّد أيضاً الشعور بالعار.
زميل السارد في مكتب المحاسبة يخبره عن زميل آخر "اكتشف أن زوجته عاهرة والولدين ليسا من صلبه" ولهذا قتل زوجته وابنه، وإن اعتقد السارد غير ذلك: "إنه لم يعد يحتمل حياته وصمته وعاره، التي اكتملت صورتها لدى جان فألف كتاباً صغيراً عن "العار" ومشتقاته في الحياة السورية“.
طبعاً الكتابة عن العار ليس كتابة بكراً فهناك روائيون كتبوا عن العار في الأدبين العربي والعالمي (سلمان رشدي ونسرين تسليمه وكويتزي، وإبراهيم نصر الله في "شرفة العار“).
منشورة في:
#الأدب السوري اليوم
***
3- مديح الكراهية... الحكاية تتكرر
منذ فترة وأنا أعود إلى رواية خالد خليفة "مديح الكراهية" (2008). أتصفح ملاحظاتي القليلة على هوامشها، وأفكر في الكتابة عما يجري في سورية هذه الأيام، ثم أتراجع. لماذا؟ أحياناً أقول هناك سوريون كُثُر أَعرَف مني بما يجري هناك، وأهلها أدرى بشعابها، على غرار المثل/ القول: أهل مكة أدرى بشعابها. وهكذا أجدني أضع الرواية جانباً. أضعها على رف مكتبتي وأنساها. أحاول أن أنساها، وأحاول أن أهرب مما يجري في الشام، بل ومما يجري في العالم العربي. هل ما تبثه قناة الجزيرة حقيقي أم أنه مبالغ فيه؟ هل قناة الجزيرة قناة إعلامية محايدة أم أنها تخضع لتوجيهات الـ(سي.آي.إيه)؟ هل قطر معنية بتحرر المواطن العربي وتحريره من حاكمه؟ لماذا إذاً لا تطرد الأميركان من أرضها؟
منذ فترة أمعن النظر في الرواية. أتركها على رف المكتبة، وقد أعود إلى دواوين محمود درويش ومظفر النواب: ماذا كان عليهما أن يفعلا بعد أن هجا كل منهما النظام السوري في حينه، نظام حافظ الأسد؟ كان عليهما أن يكتبا اعتذاريات، لكنهما كانا ذكيين، فكتبا الاعتذاريات لدمشق، وهي اعتذاريات تستحق أن تُقرأ. أنا قد لا أذهب إلى الشام، فلماذا لا أكتب عن مديح الكراهية؟ لماذا لا أخطو خطوات معين بسيسو في ديوانه "الآن، خذي جسدي كيساً من رمل"؟
أحياناً أسأل نفسي: مع مَن أنا؟ ما هو موقفي مما يجري في الشام. وأغلق فضائية الجزيرة ولا أشاهد ما تبثه. أحاول أن أشاهد الفضائية السورية وأن أصغي إلى خطابها. روايتان متناقضتان مختلفتان كلياً. كأن سقوط النظام، حسب فضائية الجزيرة، قاب قوسين أو أدنى، وكأن النظام بات إلى الأبد، حسب فضائية الشام الرسمية، مع مَن أنا حقاً؟ أمع النظام أم مع معارضيه؟
في العام 2000 شاركت في مؤتمر أدبي في الأردن، وفيه شارك أساتذة سوريون، وكنت في غرفة أقام معي فيها أستاذ سوري. وخارج قاعة المؤتمرات دار جدل بيننا حول نظام التوريث في سورية. أنا ضد التوريث، وضد تعديل الدستور حتى يتناسب مع الوارث، وزميلي يدافع عما جرى في سورية، ويقول: إن الأوضاع في سورية مختلفة، وإن بشار الأسد هو الأنسب لقيادة سورية، وسيدافع عن نظام دولته، وعن حاكمها. وفيما بعد سألتقي بسوريين كثر، وقلما تحدثنا معاً عن النظام هناك، وإذا ما تحدث واحد منهم عن بلده مدح نظامها، فهو النظام الذي يقود المقاومة ضد إسرائيل، وحجتهم أنه هو مَن يدعم حزب الله، والأخير يشكل رأس حربة المقاومة. هل سمعت، ذات نهار، كلاماً مغايراً؟
في نيسان من العام 2011 سألتقي في أحد المؤتمرات بأستاذة جامعية سورية، ولما كان ربيع الغضب العربي في أوجه، فقد وجدنا أنفسنا مسوقين إلى الحديث في الأوضاع والخوض في شؤونها. أحياناً كنت أقول: لأصغِ، لأصغِ إلى أبناء هذا البلد أو ذاك، فهم أدرى بما يجري فيه. وكنت أصغي إلى الأستاذة الجامعية السورية تتحدث. هل كنت أصدقها أم أنني كنت حذراً وأرتاب فيما تقول؛ الأستاذة السورية رَوَت أيضاً بعض النكت، ومنها نكتة حول أمنيات الحاكم العربي: أن يخفي الله الشعب والجزيرة ويوم الجمعة، حتى يظل حاكماً. هل كانت الأستاذة تؤيد المعارضة أم أنها كانت تتظاهر بأنها تؤيدها لتعرف ماذا أقول أنا؟ غير متأكد من ذلك، لكن ظاهر كلامها يقول إنها مع المعارضة. هل ذكرتني تلك الأستاذة ببطلة رواية خالد خليفة "مديح الكراهية"، فجعلتني أعود إلى الرواية لأقرأها؟
ومنذ نيسان من العام 2011 وأنا أشاهد الأخبار، الأخبار التي احتلت ليبيا أكثرها، حتى إذا ما خفتت قليلاً، تصدرت أخبار الشام المشهد. أراد القذافي أن يحرر ليبيا من الخونة والجرذان، وأن يطهرها منهم مدينة مدينة، حارة حارة، بيتاً بيتاً، زنقة زنقة، وكان أن طاردوه، منذ حاربت الملائكة معهم، مدينة مدينة وحارة حارة، وزنقة وزنقة، ولا يعرف أين هو الآن. [ذات نهار جمعة خطب إمام في المصلين في ساحة مدينة بنغازي، وكان ذلك في بدايات رمضان، وأشار إلى فتح مكة وإلى مساعدة الملائكة للمؤمنين. أنا اختلط الأمر علي وأنا أشاهد طائرات الناتو تغير على كتائب القذافي].
ولا أدري لماذا أحب الشام. أأحبها لأنني زرتها؟ أأحبها لأنني طربت لقصيدة نزار قباني في دمشق أم لأنني عشقت قصيدة مظفر النواب فيها؟:
دمشـق عـدت بـلا حـزني ولا فرحي يقودني شبح مضـنى إلــى شـبــح
ضـيعـت مـنـك طريقاً كنت أعرفـه سكران مغمضة عيني من الطفــ ح
دمشـق عــدت وقلـبي كلـــه قـــرح وأيــن كــان غريــب غـير ذي قــرح
ضاع الطريق وكان الثلج يغـمرنـي والـروح مقفـرة والليـل فــي رشــح
هذي الحقيبة عادت وحدها وطني ورحلة العمر عادت وحدها قدحي
حقاً لا أدري لماذا أحب الشام! لي صديق أَحَبها لأنه درس فيها، ولأن بيوتها تذكره ببيوت نابلس. كأنه وهو في الشام، كأنه في نابلس. أنا زرت الشام مرتين وسرت في شوارعها وسوقها، وما زالت لي خالة فيها، شفاها الله من الزهايمر. أحياناً أتابع مسلسلات الشام وأستمتع وأنا أصغي إلى لغة الممثلين. هل أنا حزين لما يجري في الشام؟
في شباط من هذا العام، كتب حسن البطل مقالاً اقترح فيه على الرئيس بشار الأسد أن يغادر الحكم، لأن الزمن ليس لصالحه، وقال فيه إن بشار الأسد طبيب عيون، وأمِل أن يتمتع ببعد النظر. سأعقب على المقال: "لو استقال بشار الأسد فسيغدو الرئيس العربي المحبوب من المحيط إلى الخليج. سيغدو ذا شعبية مذهلة". تُرى كم تبلغ شعبية الرئيس السوري في العالم العربي اليوم؟ يا إلهي، أمَا كان الأفضل ألاّ يذهب الدم السوري هدراً؟
كل نشرة أخبار، هذه الأيام، نشاهد، من على فضائية الجزيرة، ما لا يسر. كل يوم نصغي إلى عدد الشهداء وعدد الجرحى، وهم يزدادون، ولا يدري المرء إلام ستؤول الأمور في دمشق؟ وكل نهار، منذ فترة، أرى رواية خالد خليفة "مديح الكراهية" على رف مكتبتي. أمد يدي أتناولها، ثم أعيدها إلى الرف. وسأعود إلى ملاحظاتي التي دونتها عليها.
كتب خالد خليفة عن أحداث حماة أيام حكم الرئيس حافظ الأسد. كتب عن اللحظة الراهنة، وكان مختلفاً عن روائيين كثر قرأت نصوصهم في العام 2008، عن إبراهيم نصر الله في "زمن الخيول البيضاء"، وعن فاروق وادي في "عصفور الشمس"، وعن حسن حميد في "نهر بقمصان الشتاء"، وحين أقرأ للأخير روايته "مدينة الله"، وهي عن القدس، سأتساءل: لماذا لم يكتب حسن حميد عن أوضاع الفلسطينيين في سورية؟ لماذا لم يلامس هذه المنطقة؟ ألأنه يخاف؟ وكنت أرى خالد خليفة كاتباً جريئاً شجاعاً لا يهرب من ماضيه ومن حاضره. استغرقته كتابة الرواية ثلاثة عشر عاماً، ولما طبعها في الشام صودرت ومنعت. لماذا؟ لأنه كتب عن أشياء لا تروق لسوريين كثر. لأنه كتب عن سرايا رفعت الأسد، وعن الطائفية البغيضة التي سببها حكم الطائفة. لقد قال لنا، نحن الذين نقيم خارج سورية، ما جرى هناك. أخبرنا عن عالم آخر، أبرز لنا صورة أخرى غير تلك التي كنا نشاهدها في المسلسلات، فقد كانت بعض هذه تكتب عن الشام أيام العثمانيين والانتداب الفرنسي، وكان الناس يعيشون زمن مسلسل باب الحارة، لا زمن حكم حافظ الأسد إلا قليلاً.
وأظن أن مَن يشاهد ما يجري الآن في سورية، أظن أنه سيتذكر رواية خالد خليفة، وسيعود إليها، لأنه سيرى أن الحكاية تتكرر. في أحد مقالات حسن البطل في أطراف النهار في "الأيام"، عقد مقارنة بين الأخوين: حافظ ورفعت، والأخوين: بشار وماهر، وأشار إلى دور والدة حافظ في حسم الأمر، وتساءل: كيف سيحسم الأمر إذا ما تفجر الصراع بين بشار وأخيه ماهر؟
الآن لا حديث عن خلاف بينهما، ربما لأن رأس النظام كله مطلوب. هل يتفاجأ المرء، وهو يتابع ما يجري في سورية، بما يجري؟ إن رواية "مديح الكراهية" تقدم لنا صورة سوداوية لما كان في نهاية ق20، وأظن أن تلك الصورة تقول لنا: لا تتفاجؤوا بما تشاهدون وبما يجري.
يرد في الرواية، المقطع التالي عن الزعيم العربي:
"قائد سرايا الموت كان يرفس باب مجلس الوزراء، يدخل ليخبط طاولة الجوز العتيق بيده مطالباً بحصته من البلاد، يوقع الوزراء الخائفون على أوامره دون نقاش، أدركوا أن المهابة التي يتمتعون بها هي جزء من مهابته، فتماهى بعضهم بصورته، وغادر بعضهم الآخر إلى جزر منعزلة ليكتبوا مذكراتهم ويشتموه بعد تنازلهم له عن أكثر من نصف أموال الدولة، ليجمعها في بنوك أوروبية وأميركية تواطأت معه تحت شهوة المال الغزير الذي تكدس ثمناً لقتله جماعتنا، وقصفه سجناء معزولين، وتدمير مدينة تحب أكل غزل البنات وحلاوة الجبن أكثر من الموت. كبرت أسطورة القائد الذي علق أنصاره صوره التي يبدو فيها رجلاً قوياً يحب الحياة، يبتسم رافعاً قبضته في الهواء كمحرر للقدس، وليس كرجل عصابات استباح البلاد مع ضباطه، مستأثراً بالنصيب الأكبر من كل شيء كولد مدلل يتحاشى الكل أذاه كي لا يفسد السهرة التي بدوا فيها جميعاً كرفاق درب وأصدقاء طفولة اجتمعوا كي يحتفلوا بقتلهم مدير المدرسة وسرقة كرات السلة من غرفة الرياضة، القائد أصبح رمز جماعته التي بدأت تثقل البلاد بوطأتها..." (ص278/279).
في 6/6/2008 قدمت فضائية الجزيرة برنامجاً عنوانه "أدب المقاومة"، أجرت فيه مقابلة مع المؤلف، أشار فيها – في المقابلة - إلى أنه بدأ يكتب روايته في بدايات تسعينيات ق20، وأنهاها في العام 2005، وكان هو ممن أسسوا مجلة اسمها "ألف"، أظن أن علي فرزات رسام الكاريكاتير المشهور كان من ضمن الستة. تُرى مَن نصدق: قناة الجزيرة أم التلفاز العربي السوري؟ علي فرزات وخالد خليفة أم الرواية الرسمية؟
أنا أحياناً حين أشاهد ما يجري أضع يدي على قلبي وأغلق التلفاز، وأتمنى لو أن الرئيس السوري قدم استقالته قبل ثلاث سنوات، بل أتمنى لو أنه رفض التوريث، فالتوريث علّتنا الأبدية منذ معاوية بن أبي سفيان، وليحفظ الله الشام!.
هي هجرة أخرى.. هي هجرات أخرى
في العام 1997 كتبت في "الأيام" وفي "البلاد" مقالات نقدية تحت عنوان "أدب السلم.. أدب الخيبة". جمعتها، فيما بعد، في كتاب عنوانه "أدب المقاومة: من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات" (1998) أصدرته وزارة الثقافة الفلسطينية، وأعادت مؤسسة فلسطين للثقافة في الشام إصداره (2008)، تتبعت فيه خطاب شعرائنا وروائيينا، من درويش إلى إميل حبيبي، والعنوان يشي بما قلته.
في العام 2008 سيصدر الناقد فيصل درّاج كتاباً عنوانه "الذاكرة القومية في الرواية العربية: من زمن النهضة إلى زمن السقوط"، وسأقرأه في العام 2010. إن عنوانه أيضاً يشي بما يحتويه مضمونه. وإذا كنت تناولت أدباء فلسطينيين، فقد تناول درّاج الأدباء الفلسطينيين وأدباء عرباً كثراً.
حين أنجزنا كتابينا لم يكن الربيع العربي قد بدأ، وربما لم يلتفت كلانا إلى أنه قد يبدأ، وربما كنا لامسنا الموضوع وخضنا فيه دون أن نستشرف المستقبل. ربما لم نلحظ أن الخيبة والسقوط، بعد التفاؤل والنهضة، قد يحملان في داخلهما نقيضهما. هل تركت نصوص الأدباء أثرها علينا؟
وأنا أتصفح كتاب درّاج أخذت أبحث عن رواية "مديح الكراهية"، فلعله عالجها ضمن ما عالج من روايات. ويبدو أنه لم يطلع عليها، فسنة صدورها هي سنة صدور كتابه. ربما لهذا لم يأت في كتابه عليها.. فبم انتهت الرواية؟
ساردة الرواية طالبة متدينة تغدو أميرة في جماعتها. إنها معارضة دينية للنظام البعثي، نظام حافظ الأسد. تروي الساردة قصة عائلة سورية، عائلتها، وهي عائلة تقيم في حلب، يلتحق ابنا العائلة بالجماعة الإسلامية، فيم تبقى الفتيات في المنزل، يقيم معهن شيخ أعمى هو الشيخ رضوان، ويقودهن إلى الحمام (هل من دلالة لهذا؟ ألهذا يواصل السوريون الآن ثورتهم وانتفاضتهم؟ حتى لا يوصموا بأنهم نساء يقودهن أعمى؟). وتسجن الساردة، وتنفق في السجن سنوات، وفيه تتحول من اليمين إلى اليسار، وحين تخرج من السجن تغادر الوطن وتهاجر إلى بريطانيا، لتحيا هناك متحررةً من المسؤول عن هجرتها وإقامتها في المنفى؟
الآن، ونحن نتابع الأخبار نلحظ السوريين يهاجرون إلى تركيا وإلى لبنان، وأيام حكم صدام العراق عاش أربعة ملايين عراقي في المنافي. تُرى أهذه هي فضائل النظام العربي؟ سؤال يثيره المرء ويكرر ما قاله محمود درويش: هي هجرة أخرى..
عادل الأسطة
2011-10-02
***
=================
1- لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة.. رواية الدكتاتور
2- خالد خليفة ورواية العار
3- مديح الكراهية... الحكاية تتكرر