التعامل مع أحداث التاريخ تعاملا فنيا يتطلّب توفّر عوامل عديدة, منها طبيعة القراءة الواعية لأحداث التاريخ, وجرأة المغامرة في إعادة صياغة تفاصيلها, ومهارة عالية في السرد, وحرفيّة طيبة في الكتابة بشكل عام, وهذا ما توفّر حقا لدى المبدع محمد الأحمد وهو يطلق مغامرته السردية الموسومة " دمُهُ" والصادرة مؤخرا عن دار فضاءات للنشر والتوزيع والطباعة ..
جاء في كلمة الغلاف الأخير للرواية " أن أحداثها مأخوذة عن قصّة تاريخية قلّما تناولها كتّاب التاريخ, محاولة جادّة من المؤلف في أن يقتحم تلك المصادر العديدة, والشهيرة, ليعيد تنظيمها وفق رؤية دقيقة حتى يسرد لنا حكاية يجب أن يعرف بها القاصي والداني عن محاكم التفتيش العقلية "
طبعا كلمة الغلاف, هي وجهٌ محدّد من وجوه قراءة النص, وهي تحيط بالعمل الحكائي باعتباره شاهدا جديدا على حدثٍ مرّت عليه قرون, لكن علامات استفهام عديدة , ظلّت تحيطه, ليأتي الروائي منقّبا , وكاشفا لمديات الأحداث , وهذا الأمر أضع عليه كقارئ, علامتي تعجّب واستفهام معا, أما علامة التعجّب, فتأتي من اختيار طبيعة الموضوع, الذي يحتوي على منطقة قلقة, وجد الكاتب – الباحث – الرائي , نفسه قادرا على الخوض فيها بحريّة , ليطلق فضاءات سرد قادرة على توليد دهشة ما , طبعا هذه الدهشة لا يمكن القبض عليها , واستشرافها بسهولة, لأن الفصول المختزلة المكثّفة المنحوتة نحتاً, لا يتوفر لها إلا متلقٍ حذق, يستطيع قراءة ما بعد السطور, وهذه مغامرة أولى من المؤلف, وضعت لها علامة التعجّب, أما علامة الاستفهام, فتتجزأ عندي إلى استفهامات فرعيّة, لكنها تبدأ من السؤال الأكبر, وهو هل هناك مبرر فني ومعرفي للولوج لمثل هذا الخيار الموضوعي, الإشكاليّ أصلا, وهل هناك هدفٌ ورسالة فكريّة في مسار العمل ؟.. وأيضا , يأتي السؤال التسويقي للعمل, وهو من المستهدف فيه, هل هو قاريء يبحث عن حقيقة أم دهشة أم قناعة معيّنة ؟
وقبل أن أناقش أسئلة العمل, أودُّ بدءا أن أوجّه تحية إعجاب وتقدير للمبدع محمد الأحمد, لأنه استطاع الخوض في "الهوّة الملتهبة" التي أشار إليها في تقديمات الرواية واستهلالاتها, وأعتقد أن البوابة المعرفيّة التي تقدّمت جسد النص , بالإشارة إلى أهم المراجع التي اعتمد عليها, وكذلك إلى مقتطفات تعدّ موجهات ذكيّة في هويّة القراءة, نعم هويّة القراءة, لأن قولا جاء فيه " الإجراء الوحيد الذي يمكننا اتخاذه بشأن الشائن من التاريخ, هو إعادة كتابته ", ثم القول التالي " أن تكتب, ليس أن تعلم , ’أن تتعلّم أيضا, لأنك تدخل عمليا إلى غاية لاستخراج مباهجها ", ثم يختمها ببيت شعريّ من أحمد شوقي يقول فيه " فتىً كنبع الصفا لم يختلف خلقاً ولا تلوّن كالفتيان ألوانا", ولا يكتفي الأحمد بهذه العتبات المهمة الدالة على سعيه, بل يضيف إليها عتبات أخرى واحدة مستلة من الشاعر أمير الحلاج والأخرى, وأخرى لياقوت الحموي التي حدد فيها ثلاثة بلدان عظام, هي نيسابور, باب الشرق, ودمشق باب الغرب, والموصل التي تقع بينهما, وهي ممهدات لانتقال مسار الأحداث , التي تبدأ بإيحاء ذكي مهم في الدلالة والتوتر الذي يضعه الروائي منطلق سهم باتجاه الهدف وهو المانشيت الأول لنصّه " قبل أذان المغرب 9 ذي الحجة سنة ( 119) هجرية, وهو مانشيت ملحميّ يثير فضول الإطلالة من أوسع نوافذها, لتأتي الفصول أو المقطوعات, كأنها عرباتٌ تتناوب على أداء جسامة الحدث القادم, الذي بُثّت ملامحه من العنوان الصادم, والممهدات ذات الطابع التراثي المهيأ لتفجير حدث ما, ثم تأتي جملته المحلقة في سماء السرد بأجنحة التراث .
" تجد في الكوفة أكثر من محب .." وهذ استهلال ربما يكون عائما في إطلاقه لأول وهلة , لكنه يصدمنا بالمقطع "3" حين يقول " أن تكون بصحبة حمار , ولابد أن تسمعه مواويل ليلك " , ثم قطع , وإفاضة في رسم الحدث , وهكذا يجري بناء العالم الحكائي, بأناة , وإيجاز , ومحذوفات أعدّها جريئة في مثل هكذا نصّ سردي.
إن العمل في المناطق الملغومة من التاريخ, يتطلّب وعيا نافذا ورؤية ثاقبة وقدرة على إعادة صياغة الحدث , لنسجه من جديد, وفق قراءة تاريخية تحتمل الاجتهاد والإضاءة والتلميح, والرواية بعمومها, تنتمي إلى الروايات التي تستمدّ من التاريخ ثيمتها , ولا أقول روايات تاريخية, فلهذه التسمية معطيات وإحالات مختلفة , ولعل أشهر رواية قد تتبادر إلى ذهننا ونحن بهذا الصدد، هي "ثلاثية غرناطة" لرضوى عاشور، و"الموريسكي" لحسن أوريد، وهذان يؤرخان لحقبة زمنية معينة، بل وهناك "عزازيل" ليوسف زيدان التي تحكي جانبا مهما من تاريخ صراع المذاهب المسيحية في المشرق.. وهناك روائيون آخرون لا شك، قد كتبوا هذا النوع من السرد, ومن المؤكد أن الرواية الشهيرة "سمرقند" لأمين معلوف، تندرج ولا شك في هذا المضمار، حيث تتوزع أحداث الرواية بين حقبتين زمنيتين متباعدين شيئا ما، لكن الكاتب استطاع أن يدمج بين الزمانين، ليخلق بذلك حبكة رائعة وسلسة لروايته. بين الحقيقة والأسطورة يسرد لنا هذه الأحداث المشوقة والمفيدة، فالرواية ليست تاريخية بالمعنى الحرفي إنها دمج وتوفيق بينهما ...
وهذا ما فعلته رواية " دمُهُ" التي لعب فيها الأحمد بنار اللغة , فأشعل لنا موقدا مهما من الدلالات والإحالات , لم تكتفِ به خارطة الرواية , بل تعدّت الحدث , ليتناغم مع وعينا , ويحيلنا بمهارة إلى الواقع الراهن بشكل خفيّ جذاب ,
يذكر لوكاتش في كتابه عن الرواية قول هيجل: إن الرواية هي ملحمة برجوازية، ففي هذه العبارة يطرح هيجل المسألة الجمالية والتاريخية، كما أنه عدَّ الرواية بديلا للملحمة في إطار التطور البرجوازي، فهي لم تعد شكلا فنيا شعبيا، ومن هذا المعطى الثقافي نستطيع أن نتعامل مع رواية تكمن برجوازيتها في طبيعة موضوعها وأسلوبها في الاختزال, كي لا تكون بضاعة سهلة التناول يقتنيها كلّ من هبّ ودب, وهذا الخيار الصعب, في عصر سمّي على أساس التسويق بعصر الرواية, يجعل محمد الأحمد خارج إطاره, لأن ما سعى لإنجازه, يكمن في الرفوف العليا, ولا يستطيع التعامل معه إلا القادرون على استيعاب ما جاء به, ولنسأل هنا, هل هذه ميزة أم هو عيب؟
أنا أقول بكلّ ثقة إنها ميزة استطاع أن يكسبها الأحمد بعمل جدير بأن يدرس من وجوه عدّة .
يقول عبد الملك مرتاض: إن الرواية الجديدة تثور على كل القواعد، وتتنكر لكل الأصول، وترفض كل القيم والجماليات التي كانت سائدة في كتابة الرواية التي أصبحت توصف بالتقليدية " ...
ولعل كلامي يطول حول رواية "دمه", لكنني سأؤجله لمناسبات أخرى, بسبب إطار إشارتي الثقافية الذي انفلتُّ منه قليلا, من أجل أن أحتفي ما استطعتُ بصديقي المبدع الرائع محمد الأحمد وروايته المتميزة " دمُهُ"
15.08.2018
جاء في كلمة الغلاف الأخير للرواية " أن أحداثها مأخوذة عن قصّة تاريخية قلّما تناولها كتّاب التاريخ, محاولة جادّة من المؤلف في أن يقتحم تلك المصادر العديدة, والشهيرة, ليعيد تنظيمها وفق رؤية دقيقة حتى يسرد لنا حكاية يجب أن يعرف بها القاصي والداني عن محاكم التفتيش العقلية "
طبعا كلمة الغلاف, هي وجهٌ محدّد من وجوه قراءة النص, وهي تحيط بالعمل الحكائي باعتباره شاهدا جديدا على حدثٍ مرّت عليه قرون, لكن علامات استفهام عديدة , ظلّت تحيطه, ليأتي الروائي منقّبا , وكاشفا لمديات الأحداث , وهذا الأمر أضع عليه كقارئ, علامتي تعجّب واستفهام معا, أما علامة التعجّب, فتأتي من اختيار طبيعة الموضوع, الذي يحتوي على منطقة قلقة, وجد الكاتب – الباحث – الرائي , نفسه قادرا على الخوض فيها بحريّة , ليطلق فضاءات سرد قادرة على توليد دهشة ما , طبعا هذه الدهشة لا يمكن القبض عليها , واستشرافها بسهولة, لأن الفصول المختزلة المكثّفة المنحوتة نحتاً, لا يتوفر لها إلا متلقٍ حذق, يستطيع قراءة ما بعد السطور, وهذه مغامرة أولى من المؤلف, وضعت لها علامة التعجّب, أما علامة الاستفهام, فتتجزأ عندي إلى استفهامات فرعيّة, لكنها تبدأ من السؤال الأكبر, وهو هل هناك مبرر فني ومعرفي للولوج لمثل هذا الخيار الموضوعي, الإشكاليّ أصلا, وهل هناك هدفٌ ورسالة فكريّة في مسار العمل ؟.. وأيضا , يأتي السؤال التسويقي للعمل, وهو من المستهدف فيه, هل هو قاريء يبحث عن حقيقة أم دهشة أم قناعة معيّنة ؟
وقبل أن أناقش أسئلة العمل, أودُّ بدءا أن أوجّه تحية إعجاب وتقدير للمبدع محمد الأحمد, لأنه استطاع الخوض في "الهوّة الملتهبة" التي أشار إليها في تقديمات الرواية واستهلالاتها, وأعتقد أن البوابة المعرفيّة التي تقدّمت جسد النص , بالإشارة إلى أهم المراجع التي اعتمد عليها, وكذلك إلى مقتطفات تعدّ موجهات ذكيّة في هويّة القراءة, نعم هويّة القراءة, لأن قولا جاء فيه " الإجراء الوحيد الذي يمكننا اتخاذه بشأن الشائن من التاريخ, هو إعادة كتابته ", ثم القول التالي " أن تكتب, ليس أن تعلم , ’أن تتعلّم أيضا, لأنك تدخل عمليا إلى غاية لاستخراج مباهجها ", ثم يختمها ببيت شعريّ من أحمد شوقي يقول فيه " فتىً كنبع الصفا لم يختلف خلقاً ولا تلوّن كالفتيان ألوانا", ولا يكتفي الأحمد بهذه العتبات المهمة الدالة على سعيه, بل يضيف إليها عتبات أخرى واحدة مستلة من الشاعر أمير الحلاج والأخرى, وأخرى لياقوت الحموي التي حدد فيها ثلاثة بلدان عظام, هي نيسابور, باب الشرق, ودمشق باب الغرب, والموصل التي تقع بينهما, وهي ممهدات لانتقال مسار الأحداث , التي تبدأ بإيحاء ذكي مهم في الدلالة والتوتر الذي يضعه الروائي منطلق سهم باتجاه الهدف وهو المانشيت الأول لنصّه " قبل أذان المغرب 9 ذي الحجة سنة ( 119) هجرية, وهو مانشيت ملحميّ يثير فضول الإطلالة من أوسع نوافذها, لتأتي الفصول أو المقطوعات, كأنها عرباتٌ تتناوب على أداء جسامة الحدث القادم, الذي بُثّت ملامحه من العنوان الصادم, والممهدات ذات الطابع التراثي المهيأ لتفجير حدث ما, ثم تأتي جملته المحلقة في سماء السرد بأجنحة التراث .
" تجد في الكوفة أكثر من محب .." وهذ استهلال ربما يكون عائما في إطلاقه لأول وهلة , لكنه يصدمنا بالمقطع "3" حين يقول " أن تكون بصحبة حمار , ولابد أن تسمعه مواويل ليلك " , ثم قطع , وإفاضة في رسم الحدث , وهكذا يجري بناء العالم الحكائي, بأناة , وإيجاز , ومحذوفات أعدّها جريئة في مثل هكذا نصّ سردي.
إن العمل في المناطق الملغومة من التاريخ, يتطلّب وعيا نافذا ورؤية ثاقبة وقدرة على إعادة صياغة الحدث , لنسجه من جديد, وفق قراءة تاريخية تحتمل الاجتهاد والإضاءة والتلميح, والرواية بعمومها, تنتمي إلى الروايات التي تستمدّ من التاريخ ثيمتها , ولا أقول روايات تاريخية, فلهذه التسمية معطيات وإحالات مختلفة , ولعل أشهر رواية قد تتبادر إلى ذهننا ونحن بهذا الصدد، هي "ثلاثية غرناطة" لرضوى عاشور، و"الموريسكي" لحسن أوريد، وهذان يؤرخان لحقبة زمنية معينة، بل وهناك "عزازيل" ليوسف زيدان التي تحكي جانبا مهما من تاريخ صراع المذاهب المسيحية في المشرق.. وهناك روائيون آخرون لا شك، قد كتبوا هذا النوع من السرد, ومن المؤكد أن الرواية الشهيرة "سمرقند" لأمين معلوف، تندرج ولا شك في هذا المضمار، حيث تتوزع أحداث الرواية بين حقبتين زمنيتين متباعدين شيئا ما، لكن الكاتب استطاع أن يدمج بين الزمانين، ليخلق بذلك حبكة رائعة وسلسة لروايته. بين الحقيقة والأسطورة يسرد لنا هذه الأحداث المشوقة والمفيدة، فالرواية ليست تاريخية بالمعنى الحرفي إنها دمج وتوفيق بينهما ...
وهذا ما فعلته رواية " دمُهُ" التي لعب فيها الأحمد بنار اللغة , فأشعل لنا موقدا مهما من الدلالات والإحالات , لم تكتفِ به خارطة الرواية , بل تعدّت الحدث , ليتناغم مع وعينا , ويحيلنا بمهارة إلى الواقع الراهن بشكل خفيّ جذاب ,
يذكر لوكاتش في كتابه عن الرواية قول هيجل: إن الرواية هي ملحمة برجوازية، ففي هذه العبارة يطرح هيجل المسألة الجمالية والتاريخية، كما أنه عدَّ الرواية بديلا للملحمة في إطار التطور البرجوازي، فهي لم تعد شكلا فنيا شعبيا، ومن هذا المعطى الثقافي نستطيع أن نتعامل مع رواية تكمن برجوازيتها في طبيعة موضوعها وأسلوبها في الاختزال, كي لا تكون بضاعة سهلة التناول يقتنيها كلّ من هبّ ودب, وهذا الخيار الصعب, في عصر سمّي على أساس التسويق بعصر الرواية, يجعل محمد الأحمد خارج إطاره, لأن ما سعى لإنجازه, يكمن في الرفوف العليا, ولا يستطيع التعامل معه إلا القادرون على استيعاب ما جاء به, ولنسأل هنا, هل هذه ميزة أم هو عيب؟
أنا أقول بكلّ ثقة إنها ميزة استطاع أن يكسبها الأحمد بعمل جدير بأن يدرس من وجوه عدّة .
يقول عبد الملك مرتاض: إن الرواية الجديدة تثور على كل القواعد، وتتنكر لكل الأصول، وترفض كل القيم والجماليات التي كانت سائدة في كتابة الرواية التي أصبحت توصف بالتقليدية " ...
ولعل كلامي يطول حول رواية "دمه", لكنني سأؤجله لمناسبات أخرى, بسبب إطار إشارتي الثقافية الذي انفلتُّ منه قليلا, من أجل أن أحتفي ما استطعتُ بصديقي المبدع الرائع محمد الأحمد وروايته المتميزة " دمُهُ"
15.08.2018