محمد الأحمد - عن الرواية عامةً

1.
أول صفة من صفات الرواية الجيدة، هي ان يعود الروائي الى نقطة ما، ويذكيَّ إضاءتها بمعلومة مضافة، لها صفة الإقناع والمحايدة. معلومة لها موقعها في اعادة فهم التاريخ المسكوت عنه، بدلالة الرؤية الجادة؛ بل والحفر الأركولوجي، لاستخلاص حقيقة ما قد حدث بالفعل. وليس بما لم يحدث؛ بمعنى ما دوّن بقوة المنتصر، وفرض على انه قد حدث، فعلاً. وذلك دائماً ما يجعلنا نقرأ التاريخ، بصيغة أفضل.. دون ان توقفنا جملة ثغرات غير مقنعة تجعلنا نعيدُ القراءة، ونعيدُ التقصّي لأجل الاستنتاج بعقل اليوم الذي لم يعد يتقبّل الوهم. ولم يرتبط ليومنا هذا بقناعة تجعل التاريخ المكتوب متسلسلا، متكامل الحلقات حسب جدلية (هيغل)، فالكتابة الروائية تعطي صورة يستشف منها الحقيقة الكاملة. وحسب تأشير (فرنان بروديل) بان التاريخ يكتب في آن واحد من مواقع عديدة او منظورات مختلفة، وليس قائماً على موقف او منظور واحد سواء كان ذلك بشكل مقصود او غير مقصود.. وان نفهم انماط الخطاب، شفراته.. فنفهم منها انماط الطبيعة، وكذلك انماط النشاط البشري، في معادلة الرواية (الحقّة)، المشتملة على صياغة سؤال يُسال اليوم بعلمية ما توفر من علوم الحاضر، كون الحاضر قد حضر بعلومه ليطغي على كل الاوهام التي لا تستند الى تفسير قد وصل اليه بعلمه. فالشكل الروائي يُحرض على الاستدلال واشاراته الواعية لذهنية المبدع بمنطقة حريته، فالزمن في كل رواية مسار الفهم الذي سوف ينبري عليه المسار الحكائي.. يكمن فيها أكثر من صوت يشير الى هيمنة الروائي كروائي فاعل، ابنٌّ لهذه الجغرافية يتابع مسيرة ذهنية التفكير العربي، ومورثاته في الزمان والمكان بكل نكوصٍ او غلوٍّ.. متعاملاً بمنطق عبر المكبوت الذي بالإمكان معرفته من خلال آثاره حيث تشكلت عملية الافادة بالمعنى.. اضافة الى وسائل فنية اخرى عمقت في الحوار والوصف وتيار الشعور، واستخدام الحلم في تجسيد الصراع داخل المتن، فالأزمة الاقتصادية الفاعلة هي التي تدير دفة الاحداث في السلب والنهب والتهجير والعزل او الإقصاء (حيث الاغصان والأشجار المحروقة تلك تمتلك دلالة الرمز وفعله في التركيب الكلي. لكنه يمنح كتابته تعددية الصوت الواحد وليس تعددية الاصوات المختلفة. اذ يصبح الروائي متمردا على التقليد والركائز رافضا للمقبولات وآتياً بنهج او طريقة، اي انها ليست المادة التي تعينه او الحدث بل الطبيعة الخاصة للعلاقات والشكل التي تتخذه، ولما كانت الطريقة خاصة، وذاتية وغير قابلة للتقليد، كان لابد لها ان تبقى فريدة، وان تؤثر نهجاً في الاخرين )، فالفعل البشري يقوم على تبادل التأثير والتأثر بين الفرد باستعداده الذاتي والمجتمع بعلاقاته وأطره، وقيَّمه في تسلسل احداث روائية، منطقية، ومعقوله خاضعة للتفسير والتحليل، فيعطى المؤلف نموذجه ليكشف بان الكتابة الروائية من الصعب جدا ادراجها ضمن جنس الرواية ما لم تحوي اغلب السمات المجري عليها في روايات جيدة قد وصلتنا من المكتبة الانسانية. وأنها كـ(رواية) اجادت المقارنة، فأضاءت نقطة صارت بعد انجاز الرواية علامة ابداعية، تشير الى زمن من التناقضات والاختلافات في طبيعة مجتمع تلك المدينة، والتي هي في مجملها كشفت صورة أنثروبولوجي عراق متواصل الشحنات، والتقاطعات الفكرية، والمذهبية، والطائفية، والدينية.
2.
بشكل عام ان جنس الرواية الجنس الادبي هو الكاشف الدقيق عن بواطن المدن، وما فوقها. وهي تعتمد الشخوص المنتخبة من خليط تكوينها المتعايش.. من المهمشين، او كبار اعلامها؛ غاية الفن الكشف عن اواصر تلك العلاقات، بوضوح من خلال دقة تفاصيل معالمهم السردية، لتعطي فهما لكل دارس عن مكنون تلك المدينة خلاصتها المَعْلَم الانثروبولوجي الابرز.
3.
ان كنت لا تقرأ لأحد، فلا تطلب من أي أحد أن يقرأ لك، بذلك معادل موضوعي لوحدة التفاهة والانانية..
4.
بكل تأكيد سوف تعجبني الرواية التي تحوي على تقانات تجعلها تتميز عن غيرها، اغلب الكتاب الذين يكتبون في جنس الرواية، يفتقرون اليها. أحزن لأني اضيع معها وقتي بلا فائدة، اجدها تنقصها الكثير من الملاحظات او الاضافات حتى تكون رواية كجنس ادبي، اؤكد لأغلبهم في تقييمي لتلك التجارب ان تكون هناك حكاية واضحة تمتد على صفحاتها، تلك الحكاية ضرورية، حاوية منطقية.. لأنها بمثابة العمود الفقري يشد اجزاء الفصول، ويجعل القارئ متشوقا ليقرا ما سيأتي من معلومة، لأني اؤكد ايضا على ان الرواية يجب ان تتفرد بمعلومات اضافية لا يعرفها القارئ، تضيفها الرواية، وتأتي ضمن السياق السردي، كذلك اؤكد على مساحة الحياد.. اي عدم ميل الروائي الى جانب أيدلوجية معينة وهو يحاول النصر، بكل ما أوتي من جهد ووقت.. الحياد الأيدلوجية تقانة ابداعية مثيرة لا يقدر عليها الا الروائيون الكبار كونها تكشف عن بطانة ثقافة الكاتب، عن تفهمه الكامل لموقعه، ودوره. فانت تجدني كلما قرأت رواية.. ابحث فيها عن التوازنات المقنعة بين مفاصلها.. حتى ارفع القبعة محيي كل كاتب يتنبه تلك الضرورات.
5.
يوما ما كان الشعر يوازي التاريخ، ولا يتقاطع معه إلا في محطة ديوان الشعر الكبير. واليوم صارت الراوية بوضع مختلف، انها باتت تزيحه أحيانا، بمعلومتها المحايدة، طبعا؛ وتستقر فوق رفوفه، باتت تحجبه وتقول ما كان محجوبا عن الباحث الانثروبولوجي. وربما تكون الرواية هي التاريخ الأكثر اقناعا من المدونة التي ظهرت غير مكتملة تترك قارئها يعاني من حيرة التصدّع. فهي جنس أدبي يحكم التاريخ ولادته ومساره وتطوره، وهي جنس يبني هويته الأدبية ويحتفظ بها بسبب علاقته الحميمة بالتاريخ، تحتضن الرواية زمانًا ومكانًا متميزين، وترسم أشكالًا من الصراع تدور فيهما، ويكون الصراع المرسوم، الذي ميَّزه المكان والزمان، مرآة لمجتمع محدد وصورة له، ومع أن مفهوم الجنس الروائي يحيل مباشرة إلى مفهوم المتخيل الروائي، فإن هذا المتخيل يكون فارغ المعنى إن لم يكن تجريدًا فنيًّا لتجربة اجتماعية تنتمي إلى مجتمع له تاريخ وهوية وثقافة..


الأربعاء‏، 08‏ تشرين الثاني‏، 2023

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...