محمد الأحمد - الغافلـــــــــون..

-1-

لم يستطع احد على وصف ذلك الوحش الكاسر الذي باغت الأرض فسلبها سكينتها واستقرارها، ودمرما عليها بعصفه العات. اذا طلق صرخة مدوية هزّت الأرض بقوة، كشفت عن ضراوة قوته التدميرية البالغة.وخلف بفعله العاصف هلعاً في قلوب الناس الآمنة، لن ينسى بعد أن هزم ارواحاً بريئة شر هزيمة. كأنما تصير بهيئة دخانية اتخذت شكل غول يصل بطوله الى السماء، حاصداً بحركته السريعة اغلب ارواح الغافلين..

-2-

حدث ذلك في تمام الساعة السابعة الا ربعا من مساء يوم الأربعاء. عندمااتصلت الشرطة بمختار المنطقة، ليخبروه”إنفجارأً قوياً وشيكاً متوقعاً.. سوف يحدث في منطقته”، وطلبت منه ان يحذر الناس من كارثة وشيكة الوقوع، كأنما في بقية تلك الدقائق القليلة ما يكفي لتجنبها!. فلم يكن للرجل الذي لم يبلغ الستين من عمره من متسع ليمرّعلى جميع اماكن تجمعات الشباب ليخبرهم، ويحذرهم كي يتفرقوا، ويعودوا الى مساكنهم، تفادياًباقل عدد من الخسائر. لكن الدقائق العشر كانت غير كافية على امتداد شارع يبلغ طوله اكثر من مئتي متر.حيث راحت الدقائق تنفرط بسرعة بالغة، فالشارع فيه اكثر من نقطة وقوف يجتمع حولها الناس، اغلبها محلات لبيع المواد المنزلية والغذائية، ومطاعم للأكلات الخفيفة، مرطبات، “ذرة ولب زهرة عباد الشمس″، اضافة الى صيدليتين وبضعة محلات لبيع لزوميات الأجهزة الكهربائية، وثمة محل جديد افتتح حديثاً فيه تنزيلات ملابس اغلبها بضاعة تركية بنصف السعر، ومكتب دلالية يجلس على دكته مجموعة من المتقاعدين، بجانبها بضعة محلات أخرى احداها مكتبة لبيع القرطاسية، وبجانبها اسكافي، ومحل اخر يبيع افلام والعاب الفيديو. اضافة الى محل جديد بيع لحم الدجاج المشوي.التقى قربه جوقة من الأولاد الذين كانوا يتمشون مع اقرانهم.. يدورون مجموعات راجلة جيئة وذهاباً في ذلك الشارع الوحيد..قال جاري ابو “شهد” بان زوجته اخبرته قبل تسعة دقائق من الانفجار بان مجموعة من الجنود بأمرة “نقيب” ترجلوا من سيارتهم الحكومية، ودخل ضابطهم الى الصيدلية التي كانوا يشترون بعضاً مما يحتاجونه من أدوية، فسأل الصيدلي بارتباك واضح عن دواء كأنما يكشو من رشح غير واضح عليه، وترك الصيدلي يحضر العقار الذي يريد.”لم يكن الضابط يضع على راسه قبعة كما مجموعته المتأهبة واصابعها على الزناد. واصلت تخبرنا عن سنهفي “العشرينيات من عمره”، اذ هو يصغر ابن اختها الذي يبلغ الثلاثين ويحمل نفس الرتبة، “ذلك الشاب ذو الوجه الأسمر الجهم، حيث بدى لها انه اصغر بكثير من الرتبة التي يحملها على كتفيه”.لكنه ترك الدواء دون ان يعبأ به، أو ينظر إليه حتى، وخرج مفتعلاً الابتسام، ثم صعد الضابط الى السيارة المستعدة للانطلاق، ثم تبعته مجموعة الجنودالتي بصحبته، وكان القلق بادياً في تصرفاتهم، دون ما سبب، ثم انطلقوا بعجل، وبتهور بالغ. ونظراته ممصوبة باتجاه مطعم الدجاج، وكأنهم على يقين ما سيحدث هناك. “كأنما ملك الموت وجد لنفسه مكاناً ليصطف فيه بغية حصد اكبر عدد من الارواح”..قبل ثماني دقائق من الانفجار أوقف “مهدي” دراجته الجديدة التي اشتراها له والده بعد نجاحه الى الاول متوسط، قرب المحل الجديد الذي يبيع لحم الدجاج المشوي بـ”خمسة الاف للدجاجة المشوية، اضافةالى صحن مقبلات تضمنت القليل من الطرشي والحمص الممزوج بزيت السمسم. منفذاً لرغبة أمه لشراء واحدة تضعها على مائدة العشاء التي قد تحضرها اخته المتزوجة حديثاً من ابن عمها، وكان “مهدي” قد غسل دراجته الهوائية جيداً، ومثل كل مرة عصراً. “قبل سبع دقائق من الانفجار وصل “مصدق” عند بائع الملابس الجديد، والذي يجاور مطعم بائع الدجاج، ليختار له قميصاً يشبه القميص الذي كان صديقه قد اشتراه قبل اكثر من ساعة من المحل نفسه، اذ وجد ثمنه مناسباً لقميص في غاية الاناقة، ولونه قد اعجبه فصمم على شراء مثله”. -“بعد ان صحبهُ صديقه “عمر جليل” الذي واصل طريقه الى فرن الصمون ليجلب لبيته بضعة ارغفة طازجة لمائدة العشاء”..

“قبل ستة دقائق من الانفجار بينما “ابو حمزة” عائداً من عمله في بعقوبة التقاه جاره “خليل” عند نقطة صارت امام بائع الملابس الجديدة، وعاتبه “خليل الكهربائي” على وقاحة ابنه الذي لم يمتثل الى رجائه، ونقل له كل مادار بينهما من كلام، ووعده الرجل خيراً وعلى ان يقوم بتسوية الخلاف الذي بينهما، ولا يريدالا ما يليق بالجار الطيب”..

قبل خمسة دقائق من الانفجار كان “حمدي” ابو عكازة ماراً من هناك، وهو في السابق كان قد فقد احدى رجليه في انفجار صادفه عندما كان ساكناً في مدينة اخرى، ولأنه يحمل عكازته على دراجته سمي بذلك، اسند دراجته على رجله الوحيدة ثم توقف لأجل ان يرد على مكالمة وردته من ابنته..”اوشك ان يسقط منه كيس الصمون، بسبب دراجة يقودها طفل في الثامنة من عمره لم يتعود السيطرة عليها، فاضطرر الى التوقف سامحاً له بالمرور”، وقبل اربع دقائق من الانفجار اصرت “نور” ذات الربيع الرابع على صحبة شقيقها “عمران” في ربيعه الثامن بعد ان اذن لهما والدهما في الذهاب لاختيار “سي دي العاب” من المحل القريب الذي يثير الاطفال بكثرة ما يجدونه من العاب يعشقونها، وكان بجانب المطعم ببضعة خطوات..

– “كنت ارى الجميع يتوافدون، يلتقون، ويتفرقون، حول محور طريق عام”..

قبل ثلاث دقائق من الانفجار تعودت “مريم” ان تمر على زوجها الذي يدير الفرن وتأخذ منه ما تحتاجه من الخبز، وكانت ترتجي ان تشتري علبة حليب لابنتها الصغيرة التي تركتها نائمة مع شقيقتها “دالية” في شقتها الكائنة في الطابق الثالث من العمارة القريبة.

“قبل دقيقتين من الانفجار اوشك المختار ان يصل الى ذلك المكان، الا ان ام “محمد” اخرته ان يعطيها تأييد سكن، فأخذت الدقائق الثلاث الاخيرة من دقائقه العشر”.. اما “قبل دقيقة من الانفجار.. نزلت عائلة مكونة من ام بلغت منتصف الاربعينات بصحبة اربع من بناتها، لعلها كانت عائدة من زيارة لها في بيت اهلها، ويتراوح اعمار بناتها ما بين العشرين والعاشرة.

وتوجهوا الى بيتهم”.. قبل نصف دقيقة من الانفجار.. توافدت جوقة من الأولاد تراوحت اعمارهم ما بين الخامسة عشرة، يقودهم ولد يحمل “لابتوب”،وكان متأكداًومتحدياً لهم بمعرفته حيث بدى كالمنتصر محدداً سبب عطلها انه نقص في برنامج اللعب..

وصلوا جميعهم الى محل بائع “السي دي” الذي غالباً ما كانوا يجدون عنده اغلب الاجوبة، لما يواجهون من عقبات، ويحلها لهم شفوياً. و”قبل ربع دقيقة من الانفجار.. اوشك “حيدر” ان يتحرك بسيارته عائداً من يوم لم يكسب فيه أجرة يومتكفيه”، و”قبل ثواني من الانفجار صاح المؤذن “الله اكبر”، كانت قد تربض كالنمر الأرقط منتصبة بطولها الناعم سيارة حمل نوع “كيا بنكو” زرقاء اللون، على جانب الطريق امام مطعم الدجاج، كانت منزلة النوافذ، وترك فيها الراديو مشغولاً، كأنما صاحبها سيعود اليها لينطلق الى اصحابه الجوعى..

قال يومها “هاشم” ان صاحب السيارة المزعوم قد اوصى صاحب المطعم “اربع دجاجات سفري”، وطلب منه ان لا يضع الصمون مع الدجاج، لانهم كانوا يرغبون بالخبر. فصار نثار دم نزل من السماء مع صدى الدوي المهيب الذي ارتجت له الجدران، ولم يبق حائط قريب او بعيد الا وقد مسه لهب ازرق غامق، وصل الى ابعد مكان. وقد صارت غمرة غبار مقيتة، عتمت على ملك الموت السريع الذي اجهز على الارواح المختارة بعشوائية في لمح الثانية، ومن افلت منه بقي لا يعرف كيف يتفقد نفسه.الحفرة العميقة التي تجاوز عقهما ثلاثة امتار، وعرضها اربعة كأنها نقطة على الارض وارادت ان تبتلع العالم..

“لم تمض دقيقة واحدة حتى وصلت سيارات الشرطة واخذت تطلق النار عشوائياً في كل الاتجاهات، باضطراب وهوس خوف مريب، واصاب رصاصهم بعض الجدران التي لم يصبها نثار شظايا الانفجار.

كما انطلقت من افواههم شتائم نابية، وانطلق من شذرات اعينهم قسوة اذلال مقيت.. واخذت تعتقل الشباب الاحياء دون اعتبار، كشهود، او كمتهمين لانهم كانوا قريبــــين من المكان المنكوب”.

-3-

سيارة حمل مليئة بالمتفجرات احدثت حفرة مساحتها تفوق على المترين، وبلهب عاصف وصل دماره الى اكثر من عشرين متراً مربعاً، واضراراً جسيمة في الممتلكات، وحصد اكثر من عشرين روحاً، واكثر من خمسين جريحاً، ولم تسلم حتى زجاج النوافذ من الارتجاج القوي.”سلاح مع روففي عمليات الاغتيال وفي العمليات الإرهابية وحرب العصابات ام القتل شخص في العجلة المستهدفة أو الأشخاص حول موقع الانفجار أو تدمير المباني المجاورة لموقع الانفجار”.في السابق كانت أو لمحاولة تفجير بواسطة عجلة مفخخة لتنفيذ مراد سياسي اثناء محاولة اغتيال”السلطان العثماني عبد الحميد الثاني”عام 1905 على يد الانفصاليين الأرمن. وبعدها توالت العديد من عمليات الاستهداف بالعجلات المفخخة”.

بات الكل منا مقصود في هذه الجريمة التي ارادت اكبر عدد من الناس. فخلف “عدد القتلى (29) شخصاً اغلبهم من الاطفال الذين تراوحت اعمارهم ما بين 12-20 عام/ عدد الجرحى (64) شخصاً من كافة الاعمار/ المحلات التالفة (12) محل منها (6) تساوت مع الارض/ الممتلكات الاخرى (4) سيارات بينها 3 سيارات اجرة/ البيوت التي تهشم زجاجها (32) بالكامل”.

-4-

“دون خوف من انفجار آخر، هبَّالعشرات من الشبان لتجمع اللحم البشري الذي تطاير الى نتف صغيرة في اكياس صغيرة. اجزاء جثث ضاعت بقاياها،ملأتالاكياس المعدة لجمع النفايات،حيث اختلطت في داخلها الاعضاء النازفة بالمحروقة”

-5-

بقيّ المتحكم بالوحش الكاسر حراً طليقاً يلحق الاضرار بكل غافل من الناس دون ان تأخذه اية شفقة!..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى