2-
تزامنتْ حادثة نهب بيت "يَهْودَه"، وتفريغهِ من محتواه خلالَ فترة دعوة "أبي" لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية. إذ بقيّ غائباً عن المحلة لأكثر من أربعين يوماً، دون إجازة يوم واحد. حتى دفع البَدل النقدي، وعاد حرّاً، وفرحاً وتفاجأ بالذي أخبرتهُ به "جدتي" بأن بيت "يهوده" نُهبَ. كأن ضحكته تيّبستْ، وفرحه تحول الى حزن مَقيت، إذ ندمت كثيرا على تعجلّها بأخباره، ذلك.
فأكّدت لها عمتي: "أولاً وآخراً سوف يَسمع به من زملائه العاملين في دار السينما".
تركَ طعامه جانباً، وقال:
- نزلت من سيارة الأجرة أمام باب البيت فلم ألحظ ايَّ كسر في قفل بابه الخارجي؟
ثم خرج مغتاظاً، وأوصاني أن لا ألحقه بالرغم من أني لم أجرؤ أبداً على خطوِ خطوةٍ واحدة دون إشارته. لكني صعدت الى شجرة التوت العالية التي تتوسط بيتنا، "نافذتي على العالم الخارجي"، ورحت أتابعه بنظري وهو يُزبد، ويُرعد هائجاً، ولا ندري كيف سيتصرف بعد أن أقسم بأن لا يفوّت الأمر على مُنتهك الحرمّة، فمن المستحيل إعادة الأغراض من الناس.
لكن لابدّ من معرفة الفاعل الأول، ومعاقبته. كيف تجرأ واقتحم حرمة جاره.
في ذلك اليوم صعدت "جدتي" الى سطح الدار ومعها "أمي" و"عمتي"، لمعرفة ما يحدث؛ إذ حدثت جَلَبة، وهياج، في المحلة. دفعهم الفضول، لمشاهدة الناس وهم يعبرون السور، ويخرجون محمّلين بالأغراض، والأواني.
أما أنا فقد تعودت في غيابه أن أصعد الشجرة، كلّ يوم، وأشاهد ما يحدث، بكلّ وضوح. تزاحم الصاعدون على التنور الفخاري، وسرعان ما تهدمَّ تحت ثقلهم، وثقل الاغراض التي يخرجونها من عمق البيت. فمنه الى سطح الغرفة، ومن سطح الغرفة عبر الثقب إلى عمقها، ليعودوا بغنائم حسبما كانوا يعتقدون "حلال كلّ ما تركوا من ممتلكات". ويعود كل حاملٍ بحملهِ، واغلبهم كان محتارا. ماذا يخرج، وماذا ينقل.
استمرّ كحدث جلل لأكثر من ثلاثة ايام. نهبوا فيها ما استطاعوا، فثمة ثقب للتاريخ ضيّق لم نستطع عليه حتى نتمكن من معرفة ما حدث وراءنا. التاريخ هو مسيرة الوقت الذي يتحدث عن الوقائع. رؤية عكسية كأنما بواسطة مرآة صغيرة.. نستطيع أن نرى بها ما يجري خلفنا، فضول يدفعنا لمعرفة ما جهلناه، وخاصة ما كان مُدعماً بالمنطق دون الخيال فكل حكاية يتخللها الخيال تكون ناقصة، بلا إثبات أو موضوعية. لذلك بقيَّ من يبحث مستقصياً لإيجاد الحلقة المفقودة.
بقيت المحلة كلها متورطة، بتلك القضيّة. وكأنما سؤاله عن ذلك الشأن الذي حدث في غيابه.. بقيّ بحافةٍ حادةٍ، حافة جارحة، فالمتورطون من المحلة يخافون الجواب، ويخفونه بانكسار. يتهربون من مواجهته كسؤالٍ قاسٍ ومؤلم. بقيت الألسن مخبأة تحت الندم، تتوجس الحذر، من الشأن، الشائن، المُعيب. خائفون من الاتهام، والذنب. فلابد من شجاعة، مليئة بالمعرفة لمُعاقبة مُرتكب إثمّ انتهاك حرمة الأمانة. فالبيت الذي بناه "يعقوب" وأبناؤه الثلاثة، منذ أكثر من عشرين سنة، كبيت آمن مكوّن من طابقين، بصالتين وسبع غرف نوم. مُلحق بحديقة كبيرة. تسرّ الناظر، وتشرح الخاطر، تفوح منها ليلا رائحة ورد الشبوي الطيبة. فالأرض التي بني عليها البيت، كانت جزءا من بستان كبير يملكه والده "بشير" جدّ "يهوده"، وقسّمها بينهم، بالتساوي قبل موته.
بُنيت تلك الغرفة الملحقة كمخزن للخل، والطرشي. حسب رغبة الجدة "حسيبة"، فيها جرار أخرى لحفظ اللحم المقدد، وبقية المواد التي تقبل التخزين. جيدةُ التهوية فيها أكثر من منفذ صغير للهواء، لا يسمح بمرور فأرة صغيرة. ولها بابان يتصل الأول بالحديقة من الخارج، والثاني، بالبيت من الداخل. فالخروج من البيت الى الحديقة، او من الحديقة الى البيت، عبرها.
كانت الحديقة أشبه ببستان صغير فيها أشهر أنواع الكروم، تتسلق عرائش العنب منشورة على مشبك من الأخشاب، عُمل بعناية ودقّة لتخيّم كمظلة تحتها أرجوحة حديدية مصبوغة باللون الابيض، ثابتة راسخة بالأرض وغالباً ما تكون كل يوم بفراش نظيف، يتناسق مع الوان ورد جوري منوّع، وموزع بانتظام على مساحة الحديقة التي تزيد مساحتها على مساحة البيت بخمسِ مرات، لتكون مكانا يكثر الجلوس فيه "يهوده" بصحبة كتاب ما، لم يفارق يديه. تناسقت في الحديقة الخلفية كل الاشجار، مع كل انواع ورد الجوري الذي يهواه "حسقيال". والذي تفنَّن بتركيب كل غصن ورد بلون من "الشتله" الواحدة. ونتاج تركيبه بعض على بعض ليخرج ألوانا ليست مألوفة، يشغل البيت خُمس المساحة الكلية. أما بقية المساحة قد اشتملت على عددٍ من أنواع الحمضيات، تحت نخيلٍ عالٍ متسامق، لنخبة من أجود أنواع التمور. وأيضا أجود أشجار الزيتون الدائم الاخضرار. كذلك هناك حوضان صغيران الأول فيه ماء وبجانبه حوض آخر فيه طين. يشغل كل منهما مساحة أكثر من مترين مربعين، مسيجان بطابوق حجري أخضر الأول ضمّ مياهاً معدنية، يجلبونها لهم في حاويات من وديان سلاسل "حمرين" والثاني لخلطات الطين الغريّني، حيث يحضره لهم شخص موثوق به من عمق نهر "ديالى". فيكون المخلوط وفق نسب خاصة بمحلول ملحي يستخدم لعلاج مختلف الأمراض الجلدية. كذلك تفيدهم في تحضيرات أدوية أخرى فكل شخص من العائلة كان متخصّصاً في تطبيب مرض ما، وهاوٍّ مُبتكر يبرع في استخراج أدوية ناجعة تفيد في معالجة ما استعصى على أطباء غيرهم، فيقصدونهم من كل أرجاء المعمورة. لطلب العون ليجد كل محتاج جوابا لسؤاله بلا مقابل. ولا يقبلون بأية هدية حتى بعد الشفاء.
- "أنا أبررت نذري إلى الله ولا سبيل الى نكثه"، (7)
و"الذي يعطيه الله وحده القادر على أخذه"،
"دعوة متألم تزيد الرزق، بسم الله ابداً"،
"محبة الله إجابة سؤال".
كانوا يهتمون بكل قادم، وكل سائل. فتذكر جدتي لأمّي:
- ("حسيبة" جدتهم رحمها الله، أوجدت تقليداً سنوياً في كل موسم كانت تصنع كمية كبيرة من الطرشي الممتاز من محصول كل موسم، لتوزعه على الجيران كافة).
كان باب البيت الخارجي الرئيس يقع على الشارع العام، مباشرة. وهو "طريق تجاري يربط ما بين بغداد وخانقين وقصر شيرين فطهران". وبعقوبة مدينة عتيقة كان فيها أكثر من خان في قديم الزمان. محطة استراحة المسافرين، وخيولهم. أغلب المصادر تكتبها "يعقوبيا"، وعرفت فيما بعد بـ"بعقوبة" شمال شرق بغداد، ويرجع تاريخها إلى ما قبل الفتح الإسلامي. وفيها أقدم معابد اليهود، وتشتهر فيها زراعة أنواع الحمضيات بالإضافة لزراعة النخيل، والعنب. يمرّ فيها جدول "خريسان"، ويشطرها الى "تكية" و"سراي" ليصبّ في نهر "ديالى" جنوب بعقوبة قرب قرية "بهرز"..
ارتفاعها (46) م عن سطح البحر، وتقع على بعد (57) كم شمال غربي بغداد. كان يمر بها قطار "بغداد- كركوك"، وفيها محطة قطار بناها الانكليز.
**** **** *****
بقيَ "أبي" يرفض بإصرار فكرة أن أول الداخلين الى البيت من سقف الغرفة الخارجية الملاصقه للبيت، رفض لأنه كان يعرف معرفة قاطعة بأن من المستحيل أن يكونوا قد نسوا قفل الباب الداخلية التي كانت بينه وبين البيت. ويدرك بحكم تعامله المباشر معهم، بأنهم حسموا أمر الباب الذي كان نقطة ضعف من السهل عبورها، لذا دُعمتْ برتاج يغلقها من داخل البيت، ولا يقل حجمه عن الرتاج الذي يقفل به الباب الخارجي من الداخل، وخاصة في الفترة الأخيرة. فبات من المستحيل عبور تلك الباب. كان "يهوده" شقيقهم الأكبر يتأكد من قفلها، بدقة، فخلف تلك الباب باب أخرى تصل إلى الحديقة الخارجية.
- (أيّة حكاية، ومهما تعددت مصادرها، ومهما أكدها الآخرون فإنها دون شك تصدق لبعض الوقت، ولكن لن تصدق لكلّ الوقت. فهناك من يمرر الحكاية، بل ويتشربها- مؤقتاً - بكل جوارحه، مضيفاً لها من خياله، ويقسم بأنه رآها بعينه، وكأنه شاهد عليها، وليس سامعاً، وناقلا لها.. لكن تبقى حكايته غير مقنعة، ككذبة مكشوفة، متحولة إلى طرفة، تدور بين جلاس المقاهي للتندر والسخرية).
بقيَ "أبي" يُشدد قائلا:
- "بأن السقف حتى وإن خُرق لا يمكن لأي شخص مهما كان، أن يدخل البيت، وإن دخلها، فهناك باب حديدية مغلقة من الداخل برتاج حديدي، ومن المستحيل عبورها ما لم يكن أحد قد فتحها له، فلا يكون الدخول إلا من الباب الرئيس، وليس من المعقول أن يكون الشيطان دخلها دون أن يمسّ أيّ قفل من أقفالها على الإطلاق.
صار يتساءل محتاراً؛ من هو الداخل الأول وكيف دخل؟. فمن المستحيل دخولها دون كسر لقفل، او خلع لباب، أو شبّاك. فغرفة "المونة"، بقيت بابها مقفولة، على حالها، ولم يكن عليه أي أثر لعبث عابث..
- "من المستحيل أن يكون هناك مالكٌ آخر للمفاتيح بكل الأحوال غير أصحاب البيت".
حالة الرعب التي كانوا يمرون بها واضحة بقيت مطبوعة على تصرفاتهم، خاصة في الايام الأخيرة قبل الرحيل. لم يؤمنوا مفاتيح البيت لأقرب الناس، خشية أن يفتضح أمر سفرهم الذي قرّروه على وجه السرعة، ولأجل أن يفوتوا الفرصة على من يحتمل بأن يكمن لهم في الطريق، أو ما شابه.
حدثت حوادث كثيرة، وكثرت أخبارها في الجوار، ففي كلّ مرة تستهدف عائلة، وكانت الأخبار تصلهم يوما بيوم. فحسموا الرحيل مؤقتا، حيث لا مناص من أن يحدث حادث مشابه قد لا تحمد عواقبه. قفلوه بإحكام على ما فيه، وهربوا في ليل حالك. وهم على يقين شبه تام، بأن هذه الفترة الحرجة سوف تعبر، ولابد أن تعود المياه إلى مجاريها، ثم يعودون آجلاً أم عاجلا الى بيتهم. فالبيت سيبقى مُقفلاً، ومُحصّناً بسوره العالي ومن الصعب الدخول فيه، دون مفتاح الباب الامامي. بقيّ مقفلا على ما فيه لعدة أشهر، دون أن يجرؤ أو يحاول أحد الدخول.
"هربوا خوفاً من اعتداء محتمل"، و"للبيت رب يحميه"!!.
**** **** *****
كان "الأخوان" يعشقان الرسم وقد درس الأكبر في "إيطاليا"، وجلب معه العديد من اللوحات الرائعة التي تعدّ نسخاً بالغة الدقة عن لوحات شهيرة في غاية الجمال. سبق أن قال "أبي" بأنه شاهد لوحات فنية نادرة وغالية الثمن معلقة على جدران البيت.
أتذكر أني لاحظت إحدى جاراتنا استخدمت واحدة من الأغراض المنهوبة في تدعيم سقف قنّ دجاج، وأخرى استخدمها فراش مدرستنا الابتدائية كمسند يضع فوقه بعض الاواني في الحانوت الذي يبيعون فيه الخبز المغمس بالعنبه للتلاميذ بين فرص الدروس الخمس. ولم أذكر ذلك لأي أحد من أهلي. مخافة أن يلزم "أبي" التوتر والضيق كلما يتطرق أحد للحادث.
- "الخطأ الفادح بأنهم لم يثقوا بأحد ما يؤمن لهم البيت"!.
كما بقيتُ متكتماً على رؤية بعض الأولاد يشكلون سلكا ويدخلونه في الثقب الذي يتوسط مركز الاسطوانة الموسيقية، لتكون لعبة يركض بها، كأنها عجلة دوارة، ويدحرج بها على الأرض. وجارنا الآخر علق رقعة على باب بيته ظنا منه بأنها آية من القرآن الكريم.. (أمطر الله على سدوم وعمورة كبريتاً وناراً من السماء) (8)
**** **** *****
توصل إلى معرفة كيفية الدخول إلى البيت بدون مفتاح، وكيفية اختراق تحصيناته العصية. إذ بقي سرّا عصيّاً على الكشف لأقل من أسبوع بعد عودة "أبي" من الخدمة العسكرية.
- "وشى بالفاعل ابن عمه الذي اختلف معه في قسمة الطيور".
-(قد كان "جودي" صبي الحلاق "عبداي".. أول الداخلين)!..
جاء به مكبلاً مُدَمّى. وربطه إلى جذع أكبر شجرة "يوكالبتوس" قرب مقبرة اليهود، وأقسم أن يتركه حتى الصباح مع الجن والعفاريت والأرواح الشريرة التي كانت تسكن المقبرة، وتتصاعد منها الأصوات المخيفة ليلاً. "إن لم يعترف كيف تمكن من فتح البيت دون أن يكسر منه قفلاً"، وما إن نطق حتى تبينت الحلقة المفقودة لكيفية الدخول.
**** **** *****
تسلق الحائط العالي بواسطة حبل رماه أكثر من ثلاث رميات على رقبة مدخنة الحمام حتى تمكن منها ثم صار يصعد بواسطة الحبل حتى السطح العالي، ومن هناك جلب حماماته الداجنة التي علقت هناك، بواسطة مشبك(9) ، اصطحبه معلقاً في حزامه. ثم شكل بمشكل ريش اجنحة حماماته بدبوس كان معه يشكله في دشداشته، (لا يتخلى عن حمله أي "مطيرجي"). بعدها رمى "الحمامة" الذي بات عاجزاً عن الطيران. وزيادة في الاحتراز وضع الحمام في داخل المشبك.. ثم ربطه بالحبل وأدلاه الى ابن عمه، واكتشف بأن الحبل محزوز ولن يستطيع النزول بواسطته. خاف وبقيَّ محتاراً كيف سينزل بعد أن صعد بعناء؟. ولم يجد باب السطح الخارجي مفتوحة كما كان يتوقع، بل مقفلة من الداخل، حتى استبدّ به اليأس أكثر فكيف ينزل إلى باحة البيت، ويجد منفذأً للخروج من مأزقه.
ولم يجد سبيلا أمامه غير شجرة السدر العالية التي صعدت من قلب البيت ومدّت بغصنها قريباً من السطح، تأكد من ربط دشداشته حول خصره جيدا، ثم تراجع بضع خطوات وقفز بقوة إلى غصن الشجرة حتى أمسك به جيداً، من بعد أن تطوح به يميناً ويسارا حتى استقرت قدمه على الغصن القوي، الآخر ثم أمسك بيده الأخرى، فاستعاد توازنه على ذراع الشجرة الهائلة ذات الجذع المتين، كانت لفات أوتارها كأنها عضلات متينة بارزة، ومضلعة، طرف منها مكسور فصار أشبه بمقعد استجمع عليه قواه. ثم أكمل النزول، واضعا إحدى قدميه على تفرعاتها، واحدة بعد أخرى. ثم هبط بيسر، مثلما يهبط من أي شجرة بعد أن وصل إلى مسافة قدرها قريبة، فقفز إلى الأرض. واجهه ورقها المكوّم عليها. وقد اسود! متراكما فوق بلاطات الحجر الجيري.
أحدث أثر ارتطام قدميه بالأرض.. صوتاً عالياً، جعل القطة البيضاء التي كانت تنام على غطاء البئر المستقر تحت الدرج، تفزّ، وتطفر من مكانها الآمن، متوجهة نحوه مفزوعة تودّ الإفلات منه، والمرور من جانبه بسرعتها القصوى.
فارتعب منها، أشدّ الرعب، وكاد قلبه أن يتوقف من الخوف، فهو لم ير قطة مثلها بياضاً ظنّا منه بأنها عفريت شرير، طويل، عريض.. كأنه يطير فوق الأرض ولا يلامسها، هجمَ عليه، أراد ابتلاعه، وبقيّ خلفه يريد اللحاق به.. باغياً معاقبته على ما ارتكب من إثم، فلم يستطع أن ينظر إليه بتركيز، كما لم ينظر حواليه حتى طفر بكل ما عنده من قوة.. نحو الباب التي كانت أمامه.. ففتحها ظنّاً أنها سوف تخرجه إلى الخارج. وبعد أن فتحها وجد نفسه في غرفة طويلة تقع في نهايتها باب أخرى، فأغلق الباب خلفه، بكل ما أوتي من سرعة، فالرعب الذي غمره، كاد يشله، فما إن وصل إلى داخل الغرفة أسند ظهره إلى الباب وراح يستعيد أنفاسه تدريجياً، وحطت نظراته على الباب الثانية وجدها مقفلة بقفل كبير.. أحس بيأس أكثر وحيرة أكبر، من أين سيخرج؟
ثم صاح بهستريا على ابن عمه الذي كان يُصفّر له، ليعرف أين وصل به الحال، فأجابه بصفير متقطع خائف، فعرف بأنه قد أصبح تحته بالضبط، في الغرفة التي صعدا على سطحها أول الأمر، وتركه في انتظاره. صاح مستنجدا به يسأله:
- "ماذا أفعل وكيف سأخرج"؟
كانت ثقوب التهوية توصل الصوت حتى ولو همساً، فاقترح عليه أن يعود الى البيت ويجلب له حبلا آخر، وعليه أن يعود إلى السطح لكنه رفض متوسلاً أن لا يتركه وحده في الغرفة.. فخلف باب البيت ترك جنيّاً، وركض وراءه.
وبقي يقسم له بأغلظ الإيمان بأنه رآه بأم عينيه، ومن المستحيل أن يفتح الباب ويخرج إلى فناء البيت، فتعاطف معه ابن عمه، وراح معه يفكر في كيفية إخراجه من الغرفة، جال ببصره في الأرجاء.
تفحص المكان جيداً وهو يدرك أن لا مناص من خروجه إلا من هذه الغرفة التي بدت فيها الرؤية واضحة، جدرانها مبنية من الطابوق الأصفر، المطلي بالكونكريت، لتبقى درجة الحرارة فيها متعادلة، كونها في ظل النخيل العالي، وسقفها من أعمدة خشبية، غير متقاربة، وبابها المطل على الحديقة من الفولاذ القوي.
مجموعة أكياس "تمر خستاوي مكبوس"، مجموعة براميل "برميل فيه اكياس رز"، "برميل خلّ"، "نصف كيس طحين"، "حزمة ثوم كبيرة مدلاة من السقف، يحملها مسمار"، مجموعة صناديق "صندوق خشبي فيه بصل"، وآخر مثله فيه "بطاطا"، مجموعة علب "زيت في علبة صغيرة"، "زيتون محفوظ بماء مالح". "سمسم"، "بقوليات متنوعة"..
وما إن شاهد معولاً ومجرفة وفأساً، ومطرقة، ومجموعة كبيرة من المفكات المتنوعة الأحجام. كلها معلقة بنظام على الحائط كلّ بحجمه. ومختلف الآلات التي لم يشاهدها بحياته.. حتى صرخ:
- "إنزل لي فأفتح لك نافذة الباب الصغيرة وأناولك منها المعول".
- "سنحفر السقف انا من تحت وأنت من فوق، أتوسل إليك وسوف ألاقيك".
وناوله المعول المسنون من شباك الباب الصغير، ثم حددا مكان الثقب، وراح الاثنان يعملان لتقويض السقف. حتى تلامست المجرفة ذات العمود الطويل، بالمعول المسنون، حتى صار الثقب؛ فصارت فتحة أشعة الشمس تدخل تدريجيا في عمود من الغبار، وكان الذي في الأسفل يعدد لابن عمه، ما يراه، بإغواء.. ما يمكن أن يحملاه من الغرفة من حبوب ورز تكفيهما لسنة أو تزيد، فكان الذي في الأعلى لا ينقطع لحظة عن الحفر.
كان الذي في الأسفل يسعى للخلاص من كابوس يحيط به؛ أما الثاني فكان يجتهد لينال المزيد من الوعود، صار الواحد منهما يسعى ليحظى بما يريد الآخر ومحققا لنفسه غايته. ثمة نهج واضح صار ينطلق بهما، واحد لا شيء سواه، والوقت يتقدم، حتى كبرت الفجوة.
نزل الضوء، فتصافحت اليد بالأخرى، وحاول سحب كل منهما الآخر.
كان الأول يريد الخروج سريعاً، ويجدد هواءه وكان الثاني يريد النزول سريعاً، ويحصل أعلى ما وعد به. الأول يريد ان يستعيد حريته، والثاني بقي يريد أن يحقق ما فيه من جوع وفضول:
- "لا أقدر على سحبك إلى أعلى"!
وهكذا نزل إليه، فالنزول في كل أحواله أسهل بكثير من الصعود. نزل له من الثقب الذي أحدثاه. مكتشفاً ما في غرفة المؤُنة من مونة، وصارا فرحين بما وصلا إليه معاً. فالمكان الذي كان فيه الأول مرعوباً أصبح أكثر أماناً، ولكن أي منهما لم يجرؤ على النظر إلى الباب المغلقة على البيت، واكتفيا بما صار اليهما.
راحا يأكلان بنهم مما وقع بين أيديهما، وما يصلح للأكل. بعدها تعاونا على سحب برميل كبير إلى تحت الفتحة وآخر صغير فوقه، ثم قلبا صندوق البصل على الأرض، فاحت رائحة البصل الفاسد فملأت المكان، نتانة. وصارت لهما ثلاث درجات تصل بهما إلى أعلى. بعدها حملا أكياس غنائمهما. ثم صعدا الأول يتبعه الثاني وناوله الأكياس بفرح غامر.
**** **** *****
لم تَمْضِ ساعة، حتى جاء بالمشترك الواشي، مكبلاً ايضاً "يحمله على دراجة هوائية"، وما ان شاهد ابن عمه مربوطا إلى الشجرة، مُدَمّى. حتى خذلته قدماه وجثا على ركبتيه متوسلا. طالباً الرحمة. فقال له بصوت متحشرج:
- "أريد منك أن تحكي الحكاية من أولها"،
وبدأ بسرد الحكاية التي تطابقت، واختلفت ببعض التفاصيل الصغيرة.
نقلا الأكياس المليئة الى خارج سور الحديقة، والوحيد الذي شاهدهما ينطّان من سور الحديقة هو "حسن شكرية"، فطلب أن يشاركهما بحجة "أولاده الصغار ويجب أن يطعمهم". رفضا إعطاءَه شيئاً، أول الأمر، مما يحملانه، ولكن سرعان ما قررا أن يعطياه القليل من الأرز غير المطبوخ مع قطعة من اللحم المقدد. وتركاه داخلين الى بيتهما، وراح هو راسخاً في الدربونة حالماً كالمنتصر، حيث لم ترضه الغنيمة الصغيرة.
كان الوقت قد قارب العصر المتأخر. ولم يكن بغباء من يَلبس الحكاية، لوحده. ذهب إلى "علي خولة"، وأخبره بما رآه، وما حصل عليه من غنائم، فجاء معه ليرى ما وراء السور، فلم يصدق حكايته، وإنما أخذ معه "سليم فضة" إذ كان جريئاً ولا يخشى عواقب فعاله، وتخطيا معا سور الحديقة من أمام الزاوية التي كانت تشرف على الدرب الذاهب إلى محطة القطار، وهذا ما شجع بعض المارة على العبور خلفهم، بكل فضول لرؤية ما يحدث، وجدا باب الغرفة التي تدخل إلى البيت، مقفلة، ولم تكن حيرتهم طويلة. بعد أن شاهدوا نصف كيس "أرز" مفتوقاً متروكاً قرب التنور، ونصفاً آخر كان باقيا على السطح القريب. فصعد أحدهم حتى شاهد الثقب، وصاح بالباقين الثلاثة وكأنه وجد الكنز.
ثم نزل من الثقب الى الغرفة وراح يفعل مثله البقية، وجدوا الباب الذي يدخل الى البيت مُرتَجاً من الجهة الاخرى، ودخله بكل جرأة فالبيت خالٍ من أهله، وثم دخله الأربعة، وصاروا خمسة، وستة، وسبعة، وثمانية، وهم يجولون في عمق البيت غرفة بعد غرفة. وحملَ كلّ منهم ما تقع عليه يده، يكون ملكه، حلاله..
صارت الناس تتوافد الى البيت الذي عمّت فيه فوضى عاصفة، وغبار سقيم. فالزحام استنفدمنها الاوكسجين. وصارت الايدي بمختلف الأعمار تتشبث بالأشياء، وتنقلها الى الخارج بدون حساب، وكأن البعض لا يعرف بعضه الآخر، وصارت الايدي القوية هي التي تأخذ ما تشتهي. صارت العيون في ذلك العمق.. لا تلتقي بمثيلاتها؛ بل تتفرس في الاشياء التي لم تحتجزها يَدٌ، حيث تصلّبت الأيدي على الأغراض، والاثاث.
ثم صارت تنقلها الى الخارج، وصار الثقب الذي خرج منه أول اثنين.. اتسع، وصار يخرج منه أربعة والأربعة الأخرى تلاقيها أربعة أخرى داخلة، فتصاعد توتر، وغبار محموم. لم يهدأ أبدا؛ إذ أخذ يثقل بالأشخاص الصغار والكبار المتزاحمين للدخول، فلم يحتمل سطحها فأحدث ازيزا متوجعاً. كشهقة الموت. حتى نزل السقف منتحراً الى الأرض. فالذين كانوا في الأسفل، لم يشك أي منهم من الأذى، كحادث عابر لا يُعيق أحداً عن عزمه. بكل برودٍ أزاحوا مكونات السقف جانباً.
توسع الطريق أكثر. ظلوا منهمكين في نظام متواتر، كالنمل الذي أمسك فريسة وقد خدرها؛ من بعد عناء.
إخوة وأخوات، صغار وكبار كلهم مستنفرون في نقل الأغراض، وصار سور الغرفة ينسحق تحت نعالهم؛طابوقةُ تفتتُ الأخرى. حتى تقزّم السور، بعد أن عبرت من فوقه كل الاشياء إلى مستقر آخر. وبفعل الثقل تهدّمت، وتحولت الى تلّة من بعد أن تهدّم ما تهدّم، وانهارَ ما انهار، فالأمر قضي بلحظة واحدة إذ ضربته حشرة(القتعة)10 القاهرة، وابتلعت محتوياته، كلها، حتى التي لم تكن تلزمها كطعام.
بقي "أبي" يستمع إليهما بألم بالغ. ثم بلحظة غير متوقعة، فتح لهما قيدهما، تاركا كلاً منهما يذهب الى حال سبيله دون أن يفيَ بالعهد الذي قطعه على نفسه، بمعاقبتهما شرّ عقاب.
.../...
يتبع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
7- * من سفر القضاة: 11/35.
8- * أداة مصنوعة من شطب خيزران مقوّس، ومربوط اليها شبك من خيوط قوية..
9- * أداة مصنوعة من شطب خيزران مقوّس، ومربوط اليها شبك من خيوط قوية..
10- * حشرة معروفة بالأرضة وطبيعتها تنخر الخشب من الداخل وتبقي على هيكله..
تزامنتْ حادثة نهب بيت "يَهْودَه"، وتفريغهِ من محتواه خلالَ فترة دعوة "أبي" لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية. إذ بقيّ غائباً عن المحلة لأكثر من أربعين يوماً، دون إجازة يوم واحد. حتى دفع البَدل النقدي، وعاد حرّاً، وفرحاً وتفاجأ بالذي أخبرتهُ به "جدتي" بأن بيت "يهوده" نُهبَ. كأن ضحكته تيّبستْ، وفرحه تحول الى حزن مَقيت، إذ ندمت كثيرا على تعجلّها بأخباره، ذلك.
فأكّدت لها عمتي: "أولاً وآخراً سوف يَسمع به من زملائه العاملين في دار السينما".
تركَ طعامه جانباً، وقال:
- نزلت من سيارة الأجرة أمام باب البيت فلم ألحظ ايَّ كسر في قفل بابه الخارجي؟
ثم خرج مغتاظاً، وأوصاني أن لا ألحقه بالرغم من أني لم أجرؤ أبداً على خطوِ خطوةٍ واحدة دون إشارته. لكني صعدت الى شجرة التوت العالية التي تتوسط بيتنا، "نافذتي على العالم الخارجي"، ورحت أتابعه بنظري وهو يُزبد، ويُرعد هائجاً، ولا ندري كيف سيتصرف بعد أن أقسم بأن لا يفوّت الأمر على مُنتهك الحرمّة، فمن المستحيل إعادة الأغراض من الناس.
لكن لابدّ من معرفة الفاعل الأول، ومعاقبته. كيف تجرأ واقتحم حرمة جاره.
في ذلك اليوم صعدت "جدتي" الى سطح الدار ومعها "أمي" و"عمتي"، لمعرفة ما يحدث؛ إذ حدثت جَلَبة، وهياج، في المحلة. دفعهم الفضول، لمشاهدة الناس وهم يعبرون السور، ويخرجون محمّلين بالأغراض، والأواني.
أما أنا فقد تعودت في غيابه أن أصعد الشجرة، كلّ يوم، وأشاهد ما يحدث، بكلّ وضوح. تزاحم الصاعدون على التنور الفخاري، وسرعان ما تهدمَّ تحت ثقلهم، وثقل الاغراض التي يخرجونها من عمق البيت. فمنه الى سطح الغرفة، ومن سطح الغرفة عبر الثقب إلى عمقها، ليعودوا بغنائم حسبما كانوا يعتقدون "حلال كلّ ما تركوا من ممتلكات". ويعود كل حاملٍ بحملهِ، واغلبهم كان محتارا. ماذا يخرج، وماذا ينقل.
استمرّ كحدث جلل لأكثر من ثلاثة ايام. نهبوا فيها ما استطاعوا، فثمة ثقب للتاريخ ضيّق لم نستطع عليه حتى نتمكن من معرفة ما حدث وراءنا. التاريخ هو مسيرة الوقت الذي يتحدث عن الوقائع. رؤية عكسية كأنما بواسطة مرآة صغيرة.. نستطيع أن نرى بها ما يجري خلفنا، فضول يدفعنا لمعرفة ما جهلناه، وخاصة ما كان مُدعماً بالمنطق دون الخيال فكل حكاية يتخللها الخيال تكون ناقصة، بلا إثبات أو موضوعية. لذلك بقيَّ من يبحث مستقصياً لإيجاد الحلقة المفقودة.
بقيت المحلة كلها متورطة، بتلك القضيّة. وكأنما سؤاله عن ذلك الشأن الذي حدث في غيابه.. بقيّ بحافةٍ حادةٍ، حافة جارحة، فالمتورطون من المحلة يخافون الجواب، ويخفونه بانكسار. يتهربون من مواجهته كسؤالٍ قاسٍ ومؤلم. بقيت الألسن مخبأة تحت الندم، تتوجس الحذر، من الشأن، الشائن، المُعيب. خائفون من الاتهام، والذنب. فلابد من شجاعة، مليئة بالمعرفة لمُعاقبة مُرتكب إثمّ انتهاك حرمة الأمانة. فالبيت الذي بناه "يعقوب" وأبناؤه الثلاثة، منذ أكثر من عشرين سنة، كبيت آمن مكوّن من طابقين، بصالتين وسبع غرف نوم. مُلحق بحديقة كبيرة. تسرّ الناظر، وتشرح الخاطر، تفوح منها ليلا رائحة ورد الشبوي الطيبة. فالأرض التي بني عليها البيت، كانت جزءا من بستان كبير يملكه والده "بشير" جدّ "يهوده"، وقسّمها بينهم، بالتساوي قبل موته.
بُنيت تلك الغرفة الملحقة كمخزن للخل، والطرشي. حسب رغبة الجدة "حسيبة"، فيها جرار أخرى لحفظ اللحم المقدد، وبقية المواد التي تقبل التخزين. جيدةُ التهوية فيها أكثر من منفذ صغير للهواء، لا يسمح بمرور فأرة صغيرة. ولها بابان يتصل الأول بالحديقة من الخارج، والثاني، بالبيت من الداخل. فالخروج من البيت الى الحديقة، او من الحديقة الى البيت، عبرها.
كانت الحديقة أشبه ببستان صغير فيها أشهر أنواع الكروم، تتسلق عرائش العنب منشورة على مشبك من الأخشاب، عُمل بعناية ودقّة لتخيّم كمظلة تحتها أرجوحة حديدية مصبوغة باللون الابيض، ثابتة راسخة بالأرض وغالباً ما تكون كل يوم بفراش نظيف، يتناسق مع الوان ورد جوري منوّع، وموزع بانتظام على مساحة الحديقة التي تزيد مساحتها على مساحة البيت بخمسِ مرات، لتكون مكانا يكثر الجلوس فيه "يهوده" بصحبة كتاب ما، لم يفارق يديه. تناسقت في الحديقة الخلفية كل الاشجار، مع كل انواع ورد الجوري الذي يهواه "حسقيال". والذي تفنَّن بتركيب كل غصن ورد بلون من "الشتله" الواحدة. ونتاج تركيبه بعض على بعض ليخرج ألوانا ليست مألوفة، يشغل البيت خُمس المساحة الكلية. أما بقية المساحة قد اشتملت على عددٍ من أنواع الحمضيات، تحت نخيلٍ عالٍ متسامق، لنخبة من أجود أنواع التمور. وأيضا أجود أشجار الزيتون الدائم الاخضرار. كذلك هناك حوضان صغيران الأول فيه ماء وبجانبه حوض آخر فيه طين. يشغل كل منهما مساحة أكثر من مترين مربعين، مسيجان بطابوق حجري أخضر الأول ضمّ مياهاً معدنية، يجلبونها لهم في حاويات من وديان سلاسل "حمرين" والثاني لخلطات الطين الغريّني، حيث يحضره لهم شخص موثوق به من عمق نهر "ديالى". فيكون المخلوط وفق نسب خاصة بمحلول ملحي يستخدم لعلاج مختلف الأمراض الجلدية. كذلك تفيدهم في تحضيرات أدوية أخرى فكل شخص من العائلة كان متخصّصاً في تطبيب مرض ما، وهاوٍّ مُبتكر يبرع في استخراج أدوية ناجعة تفيد في معالجة ما استعصى على أطباء غيرهم، فيقصدونهم من كل أرجاء المعمورة. لطلب العون ليجد كل محتاج جوابا لسؤاله بلا مقابل. ولا يقبلون بأية هدية حتى بعد الشفاء.
- "أنا أبررت نذري إلى الله ولا سبيل الى نكثه"، (7)
و"الذي يعطيه الله وحده القادر على أخذه"،
"دعوة متألم تزيد الرزق، بسم الله ابداً"،
"محبة الله إجابة سؤال".
كانوا يهتمون بكل قادم، وكل سائل. فتذكر جدتي لأمّي:
- ("حسيبة" جدتهم رحمها الله، أوجدت تقليداً سنوياً في كل موسم كانت تصنع كمية كبيرة من الطرشي الممتاز من محصول كل موسم، لتوزعه على الجيران كافة).
كان باب البيت الخارجي الرئيس يقع على الشارع العام، مباشرة. وهو "طريق تجاري يربط ما بين بغداد وخانقين وقصر شيرين فطهران". وبعقوبة مدينة عتيقة كان فيها أكثر من خان في قديم الزمان. محطة استراحة المسافرين، وخيولهم. أغلب المصادر تكتبها "يعقوبيا"، وعرفت فيما بعد بـ"بعقوبة" شمال شرق بغداد، ويرجع تاريخها إلى ما قبل الفتح الإسلامي. وفيها أقدم معابد اليهود، وتشتهر فيها زراعة أنواع الحمضيات بالإضافة لزراعة النخيل، والعنب. يمرّ فيها جدول "خريسان"، ويشطرها الى "تكية" و"سراي" ليصبّ في نهر "ديالى" جنوب بعقوبة قرب قرية "بهرز"..
ارتفاعها (46) م عن سطح البحر، وتقع على بعد (57) كم شمال غربي بغداد. كان يمر بها قطار "بغداد- كركوك"، وفيها محطة قطار بناها الانكليز.
**** **** *****
بقيَ "أبي" يرفض بإصرار فكرة أن أول الداخلين الى البيت من سقف الغرفة الخارجية الملاصقه للبيت، رفض لأنه كان يعرف معرفة قاطعة بأن من المستحيل أن يكونوا قد نسوا قفل الباب الداخلية التي كانت بينه وبين البيت. ويدرك بحكم تعامله المباشر معهم، بأنهم حسموا أمر الباب الذي كان نقطة ضعف من السهل عبورها، لذا دُعمتْ برتاج يغلقها من داخل البيت، ولا يقل حجمه عن الرتاج الذي يقفل به الباب الخارجي من الداخل، وخاصة في الفترة الأخيرة. فبات من المستحيل عبور تلك الباب. كان "يهوده" شقيقهم الأكبر يتأكد من قفلها، بدقة، فخلف تلك الباب باب أخرى تصل إلى الحديقة الخارجية.
- (أيّة حكاية، ومهما تعددت مصادرها، ومهما أكدها الآخرون فإنها دون شك تصدق لبعض الوقت، ولكن لن تصدق لكلّ الوقت. فهناك من يمرر الحكاية، بل ويتشربها- مؤقتاً - بكل جوارحه، مضيفاً لها من خياله، ويقسم بأنه رآها بعينه، وكأنه شاهد عليها، وليس سامعاً، وناقلا لها.. لكن تبقى حكايته غير مقنعة، ككذبة مكشوفة، متحولة إلى طرفة، تدور بين جلاس المقاهي للتندر والسخرية).
بقيَ "أبي" يُشدد قائلا:
- "بأن السقف حتى وإن خُرق لا يمكن لأي شخص مهما كان، أن يدخل البيت، وإن دخلها، فهناك باب حديدية مغلقة من الداخل برتاج حديدي، ومن المستحيل عبورها ما لم يكن أحد قد فتحها له، فلا يكون الدخول إلا من الباب الرئيس، وليس من المعقول أن يكون الشيطان دخلها دون أن يمسّ أيّ قفل من أقفالها على الإطلاق.
صار يتساءل محتاراً؛ من هو الداخل الأول وكيف دخل؟. فمن المستحيل دخولها دون كسر لقفل، او خلع لباب، أو شبّاك. فغرفة "المونة"، بقيت بابها مقفولة، على حالها، ولم يكن عليه أي أثر لعبث عابث..
- "من المستحيل أن يكون هناك مالكٌ آخر للمفاتيح بكل الأحوال غير أصحاب البيت".
حالة الرعب التي كانوا يمرون بها واضحة بقيت مطبوعة على تصرفاتهم، خاصة في الايام الأخيرة قبل الرحيل. لم يؤمنوا مفاتيح البيت لأقرب الناس، خشية أن يفتضح أمر سفرهم الذي قرّروه على وجه السرعة، ولأجل أن يفوتوا الفرصة على من يحتمل بأن يكمن لهم في الطريق، أو ما شابه.
حدثت حوادث كثيرة، وكثرت أخبارها في الجوار، ففي كلّ مرة تستهدف عائلة، وكانت الأخبار تصلهم يوما بيوم. فحسموا الرحيل مؤقتا، حيث لا مناص من أن يحدث حادث مشابه قد لا تحمد عواقبه. قفلوه بإحكام على ما فيه، وهربوا في ليل حالك. وهم على يقين شبه تام، بأن هذه الفترة الحرجة سوف تعبر، ولابد أن تعود المياه إلى مجاريها، ثم يعودون آجلاً أم عاجلا الى بيتهم. فالبيت سيبقى مُقفلاً، ومُحصّناً بسوره العالي ومن الصعب الدخول فيه، دون مفتاح الباب الامامي. بقيّ مقفلا على ما فيه لعدة أشهر، دون أن يجرؤ أو يحاول أحد الدخول.
"هربوا خوفاً من اعتداء محتمل"، و"للبيت رب يحميه"!!.
**** **** *****
كان "الأخوان" يعشقان الرسم وقد درس الأكبر في "إيطاليا"، وجلب معه العديد من اللوحات الرائعة التي تعدّ نسخاً بالغة الدقة عن لوحات شهيرة في غاية الجمال. سبق أن قال "أبي" بأنه شاهد لوحات فنية نادرة وغالية الثمن معلقة على جدران البيت.
أتذكر أني لاحظت إحدى جاراتنا استخدمت واحدة من الأغراض المنهوبة في تدعيم سقف قنّ دجاج، وأخرى استخدمها فراش مدرستنا الابتدائية كمسند يضع فوقه بعض الاواني في الحانوت الذي يبيعون فيه الخبز المغمس بالعنبه للتلاميذ بين فرص الدروس الخمس. ولم أذكر ذلك لأي أحد من أهلي. مخافة أن يلزم "أبي" التوتر والضيق كلما يتطرق أحد للحادث.
- "الخطأ الفادح بأنهم لم يثقوا بأحد ما يؤمن لهم البيت"!.
كما بقيتُ متكتماً على رؤية بعض الأولاد يشكلون سلكا ويدخلونه في الثقب الذي يتوسط مركز الاسطوانة الموسيقية، لتكون لعبة يركض بها، كأنها عجلة دوارة، ويدحرج بها على الأرض. وجارنا الآخر علق رقعة على باب بيته ظنا منه بأنها آية من القرآن الكريم.. (أمطر الله على سدوم وعمورة كبريتاً وناراً من السماء) (8)
**** **** *****
توصل إلى معرفة كيفية الدخول إلى البيت بدون مفتاح، وكيفية اختراق تحصيناته العصية. إذ بقي سرّا عصيّاً على الكشف لأقل من أسبوع بعد عودة "أبي" من الخدمة العسكرية.
- "وشى بالفاعل ابن عمه الذي اختلف معه في قسمة الطيور".
-(قد كان "جودي" صبي الحلاق "عبداي".. أول الداخلين)!..
جاء به مكبلاً مُدَمّى. وربطه إلى جذع أكبر شجرة "يوكالبتوس" قرب مقبرة اليهود، وأقسم أن يتركه حتى الصباح مع الجن والعفاريت والأرواح الشريرة التي كانت تسكن المقبرة، وتتصاعد منها الأصوات المخيفة ليلاً. "إن لم يعترف كيف تمكن من فتح البيت دون أن يكسر منه قفلاً"، وما إن نطق حتى تبينت الحلقة المفقودة لكيفية الدخول.
**** **** *****
تسلق الحائط العالي بواسطة حبل رماه أكثر من ثلاث رميات على رقبة مدخنة الحمام حتى تمكن منها ثم صار يصعد بواسطة الحبل حتى السطح العالي، ومن هناك جلب حماماته الداجنة التي علقت هناك، بواسطة مشبك(9) ، اصطحبه معلقاً في حزامه. ثم شكل بمشكل ريش اجنحة حماماته بدبوس كان معه يشكله في دشداشته، (لا يتخلى عن حمله أي "مطيرجي"). بعدها رمى "الحمامة" الذي بات عاجزاً عن الطيران. وزيادة في الاحتراز وضع الحمام في داخل المشبك.. ثم ربطه بالحبل وأدلاه الى ابن عمه، واكتشف بأن الحبل محزوز ولن يستطيع النزول بواسطته. خاف وبقيَّ محتاراً كيف سينزل بعد أن صعد بعناء؟. ولم يجد باب السطح الخارجي مفتوحة كما كان يتوقع، بل مقفلة من الداخل، حتى استبدّ به اليأس أكثر فكيف ينزل إلى باحة البيت، ويجد منفذأً للخروج من مأزقه.
ولم يجد سبيلا أمامه غير شجرة السدر العالية التي صعدت من قلب البيت ومدّت بغصنها قريباً من السطح، تأكد من ربط دشداشته حول خصره جيدا، ثم تراجع بضع خطوات وقفز بقوة إلى غصن الشجرة حتى أمسك به جيداً، من بعد أن تطوح به يميناً ويسارا حتى استقرت قدمه على الغصن القوي، الآخر ثم أمسك بيده الأخرى، فاستعاد توازنه على ذراع الشجرة الهائلة ذات الجذع المتين، كانت لفات أوتارها كأنها عضلات متينة بارزة، ومضلعة، طرف منها مكسور فصار أشبه بمقعد استجمع عليه قواه. ثم أكمل النزول، واضعا إحدى قدميه على تفرعاتها، واحدة بعد أخرى. ثم هبط بيسر، مثلما يهبط من أي شجرة بعد أن وصل إلى مسافة قدرها قريبة، فقفز إلى الأرض. واجهه ورقها المكوّم عليها. وقد اسود! متراكما فوق بلاطات الحجر الجيري.
أحدث أثر ارتطام قدميه بالأرض.. صوتاً عالياً، جعل القطة البيضاء التي كانت تنام على غطاء البئر المستقر تحت الدرج، تفزّ، وتطفر من مكانها الآمن، متوجهة نحوه مفزوعة تودّ الإفلات منه، والمرور من جانبه بسرعتها القصوى.
فارتعب منها، أشدّ الرعب، وكاد قلبه أن يتوقف من الخوف، فهو لم ير قطة مثلها بياضاً ظنّا منه بأنها عفريت شرير، طويل، عريض.. كأنه يطير فوق الأرض ولا يلامسها، هجمَ عليه، أراد ابتلاعه، وبقيّ خلفه يريد اللحاق به.. باغياً معاقبته على ما ارتكب من إثم، فلم يستطع أن ينظر إليه بتركيز، كما لم ينظر حواليه حتى طفر بكل ما عنده من قوة.. نحو الباب التي كانت أمامه.. ففتحها ظنّاً أنها سوف تخرجه إلى الخارج. وبعد أن فتحها وجد نفسه في غرفة طويلة تقع في نهايتها باب أخرى، فأغلق الباب خلفه، بكل ما أوتي من سرعة، فالرعب الذي غمره، كاد يشله، فما إن وصل إلى داخل الغرفة أسند ظهره إلى الباب وراح يستعيد أنفاسه تدريجياً، وحطت نظراته على الباب الثانية وجدها مقفلة بقفل كبير.. أحس بيأس أكثر وحيرة أكبر، من أين سيخرج؟
ثم صاح بهستريا على ابن عمه الذي كان يُصفّر له، ليعرف أين وصل به الحال، فأجابه بصفير متقطع خائف، فعرف بأنه قد أصبح تحته بالضبط، في الغرفة التي صعدا على سطحها أول الأمر، وتركه في انتظاره. صاح مستنجدا به يسأله:
- "ماذا أفعل وكيف سأخرج"؟
كانت ثقوب التهوية توصل الصوت حتى ولو همساً، فاقترح عليه أن يعود الى البيت ويجلب له حبلا آخر، وعليه أن يعود إلى السطح لكنه رفض متوسلاً أن لا يتركه وحده في الغرفة.. فخلف باب البيت ترك جنيّاً، وركض وراءه.
وبقي يقسم له بأغلظ الإيمان بأنه رآه بأم عينيه، ومن المستحيل أن يفتح الباب ويخرج إلى فناء البيت، فتعاطف معه ابن عمه، وراح معه يفكر في كيفية إخراجه من الغرفة، جال ببصره في الأرجاء.
تفحص المكان جيداً وهو يدرك أن لا مناص من خروجه إلا من هذه الغرفة التي بدت فيها الرؤية واضحة، جدرانها مبنية من الطابوق الأصفر، المطلي بالكونكريت، لتبقى درجة الحرارة فيها متعادلة، كونها في ظل النخيل العالي، وسقفها من أعمدة خشبية، غير متقاربة، وبابها المطل على الحديقة من الفولاذ القوي.
مجموعة أكياس "تمر خستاوي مكبوس"، مجموعة براميل "برميل فيه اكياس رز"، "برميل خلّ"، "نصف كيس طحين"، "حزمة ثوم كبيرة مدلاة من السقف، يحملها مسمار"، مجموعة صناديق "صندوق خشبي فيه بصل"، وآخر مثله فيه "بطاطا"، مجموعة علب "زيت في علبة صغيرة"، "زيتون محفوظ بماء مالح". "سمسم"، "بقوليات متنوعة"..
وما إن شاهد معولاً ومجرفة وفأساً، ومطرقة، ومجموعة كبيرة من المفكات المتنوعة الأحجام. كلها معلقة بنظام على الحائط كلّ بحجمه. ومختلف الآلات التي لم يشاهدها بحياته.. حتى صرخ:
- "إنزل لي فأفتح لك نافذة الباب الصغيرة وأناولك منها المعول".
- "سنحفر السقف انا من تحت وأنت من فوق، أتوسل إليك وسوف ألاقيك".
وناوله المعول المسنون من شباك الباب الصغير، ثم حددا مكان الثقب، وراح الاثنان يعملان لتقويض السقف. حتى تلامست المجرفة ذات العمود الطويل، بالمعول المسنون، حتى صار الثقب؛ فصارت فتحة أشعة الشمس تدخل تدريجيا في عمود من الغبار، وكان الذي في الأسفل يعدد لابن عمه، ما يراه، بإغواء.. ما يمكن أن يحملاه من الغرفة من حبوب ورز تكفيهما لسنة أو تزيد، فكان الذي في الأعلى لا ينقطع لحظة عن الحفر.
كان الذي في الأسفل يسعى للخلاص من كابوس يحيط به؛ أما الثاني فكان يجتهد لينال المزيد من الوعود، صار الواحد منهما يسعى ليحظى بما يريد الآخر ومحققا لنفسه غايته. ثمة نهج واضح صار ينطلق بهما، واحد لا شيء سواه، والوقت يتقدم، حتى كبرت الفجوة.
نزل الضوء، فتصافحت اليد بالأخرى، وحاول سحب كل منهما الآخر.
كان الأول يريد الخروج سريعاً، ويجدد هواءه وكان الثاني يريد النزول سريعاً، ويحصل أعلى ما وعد به. الأول يريد ان يستعيد حريته، والثاني بقي يريد أن يحقق ما فيه من جوع وفضول:
- "لا أقدر على سحبك إلى أعلى"!
وهكذا نزل إليه، فالنزول في كل أحواله أسهل بكثير من الصعود. نزل له من الثقب الذي أحدثاه. مكتشفاً ما في غرفة المؤُنة من مونة، وصارا فرحين بما وصلا إليه معاً. فالمكان الذي كان فيه الأول مرعوباً أصبح أكثر أماناً، ولكن أي منهما لم يجرؤ على النظر إلى الباب المغلقة على البيت، واكتفيا بما صار اليهما.
راحا يأكلان بنهم مما وقع بين أيديهما، وما يصلح للأكل. بعدها تعاونا على سحب برميل كبير إلى تحت الفتحة وآخر صغير فوقه، ثم قلبا صندوق البصل على الأرض، فاحت رائحة البصل الفاسد فملأت المكان، نتانة. وصارت لهما ثلاث درجات تصل بهما إلى أعلى. بعدها حملا أكياس غنائمهما. ثم صعدا الأول يتبعه الثاني وناوله الأكياس بفرح غامر.
**** **** *****
لم تَمْضِ ساعة، حتى جاء بالمشترك الواشي، مكبلاً ايضاً "يحمله على دراجة هوائية"، وما ان شاهد ابن عمه مربوطا إلى الشجرة، مُدَمّى. حتى خذلته قدماه وجثا على ركبتيه متوسلا. طالباً الرحمة. فقال له بصوت متحشرج:
- "أريد منك أن تحكي الحكاية من أولها"،
وبدأ بسرد الحكاية التي تطابقت، واختلفت ببعض التفاصيل الصغيرة.
نقلا الأكياس المليئة الى خارج سور الحديقة، والوحيد الذي شاهدهما ينطّان من سور الحديقة هو "حسن شكرية"، فطلب أن يشاركهما بحجة "أولاده الصغار ويجب أن يطعمهم". رفضا إعطاءَه شيئاً، أول الأمر، مما يحملانه، ولكن سرعان ما قررا أن يعطياه القليل من الأرز غير المطبوخ مع قطعة من اللحم المقدد. وتركاه داخلين الى بيتهما، وراح هو راسخاً في الدربونة حالماً كالمنتصر، حيث لم ترضه الغنيمة الصغيرة.
كان الوقت قد قارب العصر المتأخر. ولم يكن بغباء من يَلبس الحكاية، لوحده. ذهب إلى "علي خولة"، وأخبره بما رآه، وما حصل عليه من غنائم، فجاء معه ليرى ما وراء السور، فلم يصدق حكايته، وإنما أخذ معه "سليم فضة" إذ كان جريئاً ولا يخشى عواقب فعاله، وتخطيا معا سور الحديقة من أمام الزاوية التي كانت تشرف على الدرب الذاهب إلى محطة القطار، وهذا ما شجع بعض المارة على العبور خلفهم، بكل فضول لرؤية ما يحدث، وجدا باب الغرفة التي تدخل إلى البيت، مقفلة، ولم تكن حيرتهم طويلة. بعد أن شاهدوا نصف كيس "أرز" مفتوقاً متروكاً قرب التنور، ونصفاً آخر كان باقيا على السطح القريب. فصعد أحدهم حتى شاهد الثقب، وصاح بالباقين الثلاثة وكأنه وجد الكنز.
ثم نزل من الثقب الى الغرفة وراح يفعل مثله البقية، وجدوا الباب الذي يدخل الى البيت مُرتَجاً من الجهة الاخرى، ودخله بكل جرأة فالبيت خالٍ من أهله، وثم دخله الأربعة، وصاروا خمسة، وستة، وسبعة، وثمانية، وهم يجولون في عمق البيت غرفة بعد غرفة. وحملَ كلّ منهم ما تقع عليه يده، يكون ملكه، حلاله..
صارت الناس تتوافد الى البيت الذي عمّت فيه فوضى عاصفة، وغبار سقيم. فالزحام استنفدمنها الاوكسجين. وصارت الايدي بمختلف الأعمار تتشبث بالأشياء، وتنقلها الى الخارج بدون حساب، وكأن البعض لا يعرف بعضه الآخر، وصارت الايدي القوية هي التي تأخذ ما تشتهي. صارت العيون في ذلك العمق.. لا تلتقي بمثيلاتها؛ بل تتفرس في الاشياء التي لم تحتجزها يَدٌ، حيث تصلّبت الأيدي على الأغراض، والاثاث.
ثم صارت تنقلها الى الخارج، وصار الثقب الذي خرج منه أول اثنين.. اتسع، وصار يخرج منه أربعة والأربعة الأخرى تلاقيها أربعة أخرى داخلة، فتصاعد توتر، وغبار محموم. لم يهدأ أبدا؛ إذ أخذ يثقل بالأشخاص الصغار والكبار المتزاحمين للدخول، فلم يحتمل سطحها فأحدث ازيزا متوجعاً. كشهقة الموت. حتى نزل السقف منتحراً الى الأرض. فالذين كانوا في الأسفل، لم يشك أي منهم من الأذى، كحادث عابر لا يُعيق أحداً عن عزمه. بكل برودٍ أزاحوا مكونات السقف جانباً.
توسع الطريق أكثر. ظلوا منهمكين في نظام متواتر، كالنمل الذي أمسك فريسة وقد خدرها؛ من بعد عناء.
إخوة وأخوات، صغار وكبار كلهم مستنفرون في نقل الأغراض، وصار سور الغرفة ينسحق تحت نعالهم؛طابوقةُ تفتتُ الأخرى. حتى تقزّم السور، بعد أن عبرت من فوقه كل الاشياء إلى مستقر آخر. وبفعل الثقل تهدّمت، وتحولت الى تلّة من بعد أن تهدّم ما تهدّم، وانهارَ ما انهار، فالأمر قضي بلحظة واحدة إذ ضربته حشرة(القتعة)10 القاهرة، وابتلعت محتوياته، كلها، حتى التي لم تكن تلزمها كطعام.
بقي "أبي" يستمع إليهما بألم بالغ. ثم بلحظة غير متوقعة، فتح لهما قيدهما، تاركا كلاً منهما يذهب الى حال سبيله دون أن يفيَ بالعهد الذي قطعه على نفسه، بمعاقبتهما شرّ عقاب.
.../...
يتبع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
7- * من سفر القضاة: 11/35.
8- * أداة مصنوعة من شطب خيزران مقوّس، ومربوط اليها شبك من خيوط قوية..
9- * أداة مصنوعة من شطب خيزران مقوّس، ومربوط اليها شبك من خيوط قوية..
10- * حشرة معروفة بالأرضة وطبيعتها تنخر الخشب من الداخل وتبقي على هيكله..