الجزء الأول
من الذكريات ما لاتمحوها تقلّبات الزمان، أو يُبريها تقادم الأيام وبُعد المسافات؛ إمَّا لما رافقها من طِيب الذين كنتَ بينهم، وما حققتَ من نجاح، أو لمرارة لم تزل كالعلقم لا يُزيلها شهد الزمان.
فوجئتُ- وأنا أراجع قسم أعضاء هيئات التدريس في جامعة الجبل الغربي، في ليبيا، أواخر العام الجامعي 2005 - 2006، بعد أن قضيتُ حوالي تسعة أعوام بالتدريس في إحدى كليّاتها، بقسم (اللغة العربية والدراسات الإسلامية)، وقد نال بعض طلبتي المتفوقين شهادات عليا، وعادوا للتدريس فيها- أنَّ قائمة بأسماء ثلاثين من ذوي التخصّصات الإنسانية قد أُعدّت لإصدار قرار إنهاء عقودهم؛ لتوفر العنصر الوطني البديل عنهم؛ حسب قرار أمانة القوى العاملة في العاصمة، وكنتُ ضمن تلك الأسماء، ومِن حسن حظّي أنَّ توقيع رئيس الجامعة تأخَّر لظرف عائلي طارئ.
كان عليَّ أنْ أوجّه دعوة (فيزا) لعائلتي المُقيمة في الأردن استعداداً لمقابلة ممثل دائرة الهجرة الكندية القادم لأجلي، والدعوة تتطلب تجديد إقامتي في ليبيا، وتجديد الإقامة يستوجب أنْ يُجدّد عقدي مع الجامعة للعام الجامعي القادم؛ وهنا أخذ مني الإحباط مأخذاً لم أشهده من قبل، وفي لحظة تلاشى عندي كل أمل بالحصول على إعادة توطين في بلد، على الأقل يوفر لعائلتي الأمان، بعد اندلاع الصراع الطائفي، وغياب الأمن في العراق.
الأمل يأتيك في لحظة خاطفة؛ عدتُ لرئيسة قسم أعضاء هيئات التدريس في الجامعة، كانت طيبة جداً، قالت: هناك ملاحظة في قرار أمانة القوى العاملة: (يُستثنى من ذلك مَن كانت كليَّاتهم بحاجة لهم)؛ فهل لديك استعداد للانتقال إلى كلية تقع في (واحة بقلب الصحراء) على حدود الجزائر في أقصى الجنوب، طريقها 700 كيلومتر، بعد سلسلة جبال نفوسة المعقدة، تأتيك مدينة (نالوت)، ثم بادية خالية تقريباً من السكان، إلا من الأشباح؛ كما يُشاع، والسفر ليلاً تحاشياً لحرارة الجو، وانفجار الإطارات، أو بالطائرة لأقرب مدينة لها؛ لكنَّ ناسَها (طيّبون جداً، وكرماء)، كما أنتم، العراقيين...
لم ينطق لساني... كانت تعابير وجهي، وإطراقة رأسي؛ كافية للإعلان عن القبول...
وجُدِّد عقدي للعام الجامعي 2006 - 2007، ولكم عندي عنه ما يستحق الإطراء، لاحقاً.
محبتي لكم... واحترامي.
***
الجزء الثاني
تحايا طيبة لكم، صديقاتي وأصدقائي الطيبين، نُعيد الذكريات لعلَّنا نستقي منها الدروس، أو نُثني على مَن لهم مواقف تستحق الوفاء والثناء.
لم يكفِ استعدادي- مُضطراً- لتغيير محل عملي إلى كليَّة إعداد المعلمين في واحة (درج)، في أعماق الصحراء الليبية الكبرى، قرب منفذ (غدامس) على حدود الجزائر، لحاجتهم إلى اختصاص لغة عربية؛ كوسيلة لتجديد عقدي، وجلب عائلتي من عمان، كما ذكرت لكم؛ بل تطلب الأمر (تزكية) من عميد الكلية السابقة، في منطقة (ككلة) بحسن سيرتي وكفاءتي العلمية.
أمامي ساعات معدودة لأسبق الزمن قبل مباشرة رئيس جامعة الجبل الغربي، وتوقيعه قرار إنهاء عقود مجموعة من ذوي التخصصات الإنسانية، أول سيارة تكسي أمامي، إلى بيت الأستاذ (محمد الهادي) عميد الكلية، وهو من أهل المنطقة، وله مركز إداري كبير في قطاع التعليم، ومُنصف في أحكامه، كان في العاصمة ولم يعد بعد، انتظرته في (المربوعة) بصحبة ابنه، أحد طلابي.
في مثل هذا الموقف تمضي الدقائق بطيئة، فكيف هي الساعات؟ حتى دبَّ اليأس في عروقي؛ أخيراً أطلَّ العميد، كان على علم بسبب حضوري لبيته، بادرني بالاعتذار بأنه متمسك بنا- أنا والدكتور (شاكر البغدادي)، لروحه الرحمة والسلام، خطفته كورونا- لولا توفر العنصر الوطني بنفس الاختصاص، وضع يده على كتفي وقال: (أنتم- العراقيين- أبطال، تناول الطعام معي، ونتوكل على الله إلى الجامعة الآن، بسيارتي).
كم هو طيب هذا الإنسان، وكريم! تسعة أعوام جامعية معه، ويجدد عقدي كل عام.
جملة قصيرة قالها بحقي لوكيل رئيس الجامعة: (لولا توفر العنصر الوطني لما استغنيت عنه).
تناول الوكيل قائمة إنهاء العقود، وشطب اسمي واسم الراحل الدكتور شاكر الذي نُسِّب إلى كلية التربية في (يفرن)، وجُدِّد لكلّ منا عقده للعام الجامعي 2006 - 2007؛ فكان فاتحة خير لأن أُسرع لجوازات الجبل الغربي في (غريان) لعمل (فيزا) لعائلتي في عمان، استعدادا لمقابلة موظف الهجرة الكندية المزمع قدومه لأجلنا.
هنا كانت الصدمة الكبرى، يُدير جوازات (غريان) العقيد (الهاشمي)، معروف بحقده على المغتربين، خصوصاً العراقيين، يمنع مراجعتهم للدائرة إلا من خلال مندوب الجامعة، ومَن يحضر مباشرة يُسمِعه خشن الألفاظ، ومندوب الجامعة هذا اليوم في إجازة، والأخوة الليبيون (نفسهم طويل)، اضطررت للمراجعة بنفسي، قوبلت بنفس الأسلوب، كلَّمته بلطف: (يا أستاذ، كفى الله المؤمنين شرّ القتال) قال بعصبية: (افعل ما شئت)، حملت أوراقي وخرجت.
في حوزتي نسخة من أمر قيادي من (العقيد القذافي)، زودتني به إحدى طالباتي، والدها مسؤول أمني،موجّه إلى كافة الأمانات (الوزارات)؛ (للاهتمام بالأخوة العراقيين، وتسهيل إجراءات إقامتهم، وتوفير وسائل العمل لهم، نظرا للظروف التي يمرون بها).
كتبتُ شكوى إلى أمين (وزير) الشؤون الداخلية، مرفقة بأمر العقيد القذافي، شرحت تصرفات الهاشمي تجاه العراقيين، وموقفه معي، وهذا تمرّد على أوامر (الأخ القائد القذافي)، قابلت الوزير، ارتجفت أصابعه، تعرَّق جبينه؛ فنادى مساعده برتبة عميد، أمرَه بما يلي:
أولاً- يُستدعى العقيد الهاشمي، الآن فوراً. ثانياً- تُرسل- الآن- برقية للسفارة الليبية في عمان لدعوة عائلة الأستاذ العراقي، يقصدني.
أُحضِر الهاشمي من مدينة غريان فوراً، وحوسب من قبل الوزير، ووُجِّه له إنذار، مع تعهد بعدم تكرار تلك التصرفات مع العراقيين، أعطاني رقمه قائلاً: (اتصل بي عندما يكرر تصرفاته مع أي عراقي)، شكرته ومن معه، سافرت لاصطحاب عائلتي من عمان إلى ليبيا، أملاً بتأشيرة إلى كندا من هناك.
ألتقيكم لاحقاً لشرح تفاصيل عودتي مع عائلتي من عمان، ومباشرتي في (كلية درج) في قلب الصحراء، وأهلها الطيبين الكرام، حتى قدومي لكندا.
مديح الصادق... من كندا.
من الذكريات ما لاتمحوها تقلّبات الزمان، أو يُبريها تقادم الأيام وبُعد المسافات؛ إمَّا لما رافقها من طِيب الذين كنتَ بينهم، وما حققتَ من نجاح، أو لمرارة لم تزل كالعلقم لا يُزيلها شهد الزمان.
فوجئتُ- وأنا أراجع قسم أعضاء هيئات التدريس في جامعة الجبل الغربي، في ليبيا، أواخر العام الجامعي 2005 - 2006، بعد أن قضيتُ حوالي تسعة أعوام بالتدريس في إحدى كليّاتها، بقسم (اللغة العربية والدراسات الإسلامية)، وقد نال بعض طلبتي المتفوقين شهادات عليا، وعادوا للتدريس فيها- أنَّ قائمة بأسماء ثلاثين من ذوي التخصّصات الإنسانية قد أُعدّت لإصدار قرار إنهاء عقودهم؛ لتوفر العنصر الوطني البديل عنهم؛ حسب قرار أمانة القوى العاملة في العاصمة، وكنتُ ضمن تلك الأسماء، ومِن حسن حظّي أنَّ توقيع رئيس الجامعة تأخَّر لظرف عائلي طارئ.
كان عليَّ أنْ أوجّه دعوة (فيزا) لعائلتي المُقيمة في الأردن استعداداً لمقابلة ممثل دائرة الهجرة الكندية القادم لأجلي، والدعوة تتطلب تجديد إقامتي في ليبيا، وتجديد الإقامة يستوجب أنْ يُجدّد عقدي مع الجامعة للعام الجامعي القادم؛ وهنا أخذ مني الإحباط مأخذاً لم أشهده من قبل، وفي لحظة تلاشى عندي كل أمل بالحصول على إعادة توطين في بلد، على الأقل يوفر لعائلتي الأمان، بعد اندلاع الصراع الطائفي، وغياب الأمن في العراق.
الأمل يأتيك في لحظة خاطفة؛ عدتُ لرئيسة قسم أعضاء هيئات التدريس في الجامعة، كانت طيبة جداً، قالت: هناك ملاحظة في قرار أمانة القوى العاملة: (يُستثنى من ذلك مَن كانت كليَّاتهم بحاجة لهم)؛ فهل لديك استعداد للانتقال إلى كلية تقع في (واحة بقلب الصحراء) على حدود الجزائر في أقصى الجنوب، طريقها 700 كيلومتر، بعد سلسلة جبال نفوسة المعقدة، تأتيك مدينة (نالوت)، ثم بادية خالية تقريباً من السكان، إلا من الأشباح؛ كما يُشاع، والسفر ليلاً تحاشياً لحرارة الجو، وانفجار الإطارات، أو بالطائرة لأقرب مدينة لها؛ لكنَّ ناسَها (طيّبون جداً، وكرماء)، كما أنتم، العراقيين...
لم ينطق لساني... كانت تعابير وجهي، وإطراقة رأسي؛ كافية للإعلان عن القبول...
وجُدِّد عقدي للعام الجامعي 2006 - 2007، ولكم عندي عنه ما يستحق الإطراء، لاحقاً.
محبتي لكم... واحترامي.
***
الجزء الثاني
تحايا طيبة لكم، صديقاتي وأصدقائي الطيبين، نُعيد الذكريات لعلَّنا نستقي منها الدروس، أو نُثني على مَن لهم مواقف تستحق الوفاء والثناء.
لم يكفِ استعدادي- مُضطراً- لتغيير محل عملي إلى كليَّة إعداد المعلمين في واحة (درج)، في أعماق الصحراء الليبية الكبرى، قرب منفذ (غدامس) على حدود الجزائر، لحاجتهم إلى اختصاص لغة عربية؛ كوسيلة لتجديد عقدي، وجلب عائلتي من عمان، كما ذكرت لكم؛ بل تطلب الأمر (تزكية) من عميد الكلية السابقة، في منطقة (ككلة) بحسن سيرتي وكفاءتي العلمية.
أمامي ساعات معدودة لأسبق الزمن قبل مباشرة رئيس جامعة الجبل الغربي، وتوقيعه قرار إنهاء عقود مجموعة من ذوي التخصصات الإنسانية، أول سيارة تكسي أمامي، إلى بيت الأستاذ (محمد الهادي) عميد الكلية، وهو من أهل المنطقة، وله مركز إداري كبير في قطاع التعليم، ومُنصف في أحكامه، كان في العاصمة ولم يعد بعد، انتظرته في (المربوعة) بصحبة ابنه، أحد طلابي.
في مثل هذا الموقف تمضي الدقائق بطيئة، فكيف هي الساعات؟ حتى دبَّ اليأس في عروقي؛ أخيراً أطلَّ العميد، كان على علم بسبب حضوري لبيته، بادرني بالاعتذار بأنه متمسك بنا- أنا والدكتور (شاكر البغدادي)، لروحه الرحمة والسلام، خطفته كورونا- لولا توفر العنصر الوطني بنفس الاختصاص، وضع يده على كتفي وقال: (أنتم- العراقيين- أبطال، تناول الطعام معي، ونتوكل على الله إلى الجامعة الآن، بسيارتي).
كم هو طيب هذا الإنسان، وكريم! تسعة أعوام جامعية معه، ويجدد عقدي كل عام.
جملة قصيرة قالها بحقي لوكيل رئيس الجامعة: (لولا توفر العنصر الوطني لما استغنيت عنه).
تناول الوكيل قائمة إنهاء العقود، وشطب اسمي واسم الراحل الدكتور شاكر الذي نُسِّب إلى كلية التربية في (يفرن)، وجُدِّد لكلّ منا عقده للعام الجامعي 2006 - 2007؛ فكان فاتحة خير لأن أُسرع لجوازات الجبل الغربي في (غريان) لعمل (فيزا) لعائلتي في عمان، استعدادا لمقابلة موظف الهجرة الكندية المزمع قدومه لأجلنا.
هنا كانت الصدمة الكبرى، يُدير جوازات (غريان) العقيد (الهاشمي)، معروف بحقده على المغتربين، خصوصاً العراقيين، يمنع مراجعتهم للدائرة إلا من خلال مندوب الجامعة، ومَن يحضر مباشرة يُسمِعه خشن الألفاظ، ومندوب الجامعة هذا اليوم في إجازة، والأخوة الليبيون (نفسهم طويل)، اضطررت للمراجعة بنفسي، قوبلت بنفس الأسلوب، كلَّمته بلطف: (يا أستاذ، كفى الله المؤمنين شرّ القتال) قال بعصبية: (افعل ما شئت)، حملت أوراقي وخرجت.
في حوزتي نسخة من أمر قيادي من (العقيد القذافي)، زودتني به إحدى طالباتي، والدها مسؤول أمني،موجّه إلى كافة الأمانات (الوزارات)؛ (للاهتمام بالأخوة العراقيين، وتسهيل إجراءات إقامتهم، وتوفير وسائل العمل لهم، نظرا للظروف التي يمرون بها).
كتبتُ شكوى إلى أمين (وزير) الشؤون الداخلية، مرفقة بأمر العقيد القذافي، شرحت تصرفات الهاشمي تجاه العراقيين، وموقفه معي، وهذا تمرّد على أوامر (الأخ القائد القذافي)، قابلت الوزير، ارتجفت أصابعه، تعرَّق جبينه؛ فنادى مساعده برتبة عميد، أمرَه بما يلي:
أولاً- يُستدعى العقيد الهاشمي، الآن فوراً. ثانياً- تُرسل- الآن- برقية للسفارة الليبية في عمان لدعوة عائلة الأستاذ العراقي، يقصدني.
أُحضِر الهاشمي من مدينة غريان فوراً، وحوسب من قبل الوزير، ووُجِّه له إنذار، مع تعهد بعدم تكرار تلك التصرفات مع العراقيين، أعطاني رقمه قائلاً: (اتصل بي عندما يكرر تصرفاته مع أي عراقي)، شكرته ومن معه، سافرت لاصطحاب عائلتي من عمان إلى ليبيا، أملاً بتأشيرة إلى كندا من هناك.
ألتقيكم لاحقاً لشرح تفاصيل عودتي مع عائلتي من عمان، ومباشرتي في (كلية درج) في قلب الصحراء، وأهلها الطيبين الكرام، حتى قدومي لكندا.
مديح الصادق... من كندا.