" ذاكرتنا العذراء " عبارة أوردها إميل حبيبي في مسرحيته " لكع بن لكع " ونعت بها الذين لا يستفيدون من تجاربهم السابقة وظلوا يكررون أخطاءهم بادئين من حيث بدأوا في معالجة كل أمر يجد : " هل قيض لهذا الشعب المبتلى ، الممتحن .. المطوح ، المضرس ، المغدور ، أن يعود على التجربة من أولها ؟ هل ينسى ؟
- المهرج : لا ينسى وطنه "
غالبا ما أسترجع العبارة وأبني مقالا عليها كلما " دق الكوز في الجرة " أو كلما " نفخنا في قربة مثقوبة " أو كلما عشنا حالة سيزيفية أو انتظرنا " غودو " العربي الذي لا يأتي .
في الحرب الدائرة حاليا في غزة ناشد المواطنون الغزيون الحكام العرب والمسلمين طالبين منهم أن يقفوا إلى جانبهم فيتخذوا موقفا لنصرتهم أو لوقف الحرب أو لإدخال المساعدات إليهم . ومثل المواطنين الغزيين تظاهر المواطنون العرب والمسلمون في بلادهم وعززوا مطالب الغزيين ونشدوا الوقوف إلى جانبهم ولكن دون جدوى ، فلم يسفر مؤتمر القمة العربية والإسلامية عن قرارات ذات جدوى ما دفع ناشط فيسبوكي إلى أن يكتب " تمخض الجبل فولد فأرا " ، فلم توقف قرارات المؤتمر الحرب ولم تدخل المساعدات إلى المحاصرين المنكوبين ، وتدوول كلام نسب إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي يحذر فيه الحكام العرب ويطلب منهم - بل يأمرهم - التزام حدودهم .
أعادني ما سبق إلى الأدبيات الفلسطينية منذ ثلاثينيات القرن ٢٠ ؛ إلى قصيدة الثائر عوض الشعبية وإلى أشعار أبي سلمى عبد الكريم الكرمي منذ ١٩٣٦ حتى تاريخ وفاته وإلى أشعار شعراء المقاومة الفلسطينية وشعراء عرب معروفين مثل مظفر النواب ونزار قباني وأحمد مطر ، وأشعار الثلاثة الأخيرين ، ومعهم أشعار محمود درويش ، كانت عموما هي الأكثر تردادا وتناقلا ، فلم تخل منها وسائل التواصل الاجتماعي في يوم من أيام الحرب الدائرة منذ ٧ / ١٠ / ٢٠٢٣ .
لخص عوض رأيه في الملوك والحكام العرب في زمنه بقوله :
" ظنيت لنا ملوك تمشي وراها رجال
تخسا الملوك إن كانوا هيك انذال
والله تيجانهم ما يصلحوا لنا نعال
إحنا اللي نحمي الوطن ونضمد جراحه "
ولم يختلف عنه أبو سلمى في قصيدته النارية " لهب القصيد " التي ذكر الحكام العرب فيها ، في تلك الفترة ، واحدا واحدا مبينا ما هم عليه ، وقد أجمل قوله في نهايتها بقوله :
" يا من يعزون الحمى / ثوروا على الظلم المبيد
بل حرروه من الملوك وحرروه من العبيد "
وواصل بعد النكبة هجاءه لهؤلاء الحكام ساخرا منهم قائلا :
" زعماء دنسوا تاريخكم
وملوك سلموكم دون حرب
و
دول تحسبها شرقية
فإذا أمعنت فالحاكم غربي " .
مع تكرار محاصرة الفلسطينيين وكثرة المجازر التي ارتكبت بحقهم وملاحقة ثورتهم وطردهم من مكان إلى آخر واتساع منفاهم تكرر الطلب نفسه ، كأن من ناشدوهم في السابق وقفوا إلى جانبهم ولم يخذلوهم ، وهذا ما دفع مريد البرغوثي في قصيدته " طال الشتات " إلى القول :
" أهذا صوتك المخذول نادى؟
أم أنك قد يئست من المنادى؟
أم أنك في المدى آنست نارا ،
وحين قصدتها حالت رمادا ؟
لقد خذلوك حيا ثم ميتا
بما خافوا انتباهك والرقادا
ويأسك لم يهز لهم قناة
وقد هز المقابر والجمادا
ولا تطع القرابة في عدو
وعاند من " تريد " له عنادا " .
لقد خذل الملوك والرؤساء العرب في حصار بيروت ١٩٨٢ الفلسطينيين المحاصرين ، وبدا ذلك في معظم الأشعار التي كتبها الشعراء الفلسطينيون في تلك الفترة ، وتعد قصيدة محمود درويش " مديح الظل العالي " الأكثر شيوعا وانتشارا والأكثر اقتباسا منها ، ولم تكن عموما الأولى له في هذا المضمار ، ففي حصار مخيم تل الزعتر ، في ١٩٧٦ ، وتسويته بالأرض كتب قصيدته الشهيرة " أحمد الزعتر " وفيها قال :
" ومن الخليج إلى المحيط ، من المحيط إلى الخليج
كانوا يعدون الجنازة
وانتخاب المقصلة "
وبعدها خاطب الحكام العرب :
" أنا لا أريد دعاءكم
أنا لا أريد سيوفكم
فدعاؤكم ملح على عطشي
وسيفكم علي "
وعلا قوله " كم كنت وحدك " و " يا وحدنا " وشاع .
ولم يكن عنوان سربية سميح القاسم " خذلتني الصحارى " ببعيد .
الشاعر العراقي مظفر النواب كان واضحا منذ البداية ، فلم يهادن ولم يجامل ولم يلجأ إلى التورية في أشعاره ومثله الشاعر العراقي أيضا أحمد مطر .
في قصيدة النواب " تل الزعتر " نقرأ هجاء لاذعا للحكام العرب ، بل إنه لم يكتف بالهجاء ، فتخيل إجراء محاكمة لهم على تقاعسهم وخذلانهم إخوتهم ، وأخذ يسخر من أجوبتهم في الدفاع عن أنفسهم . ببساطة رأى فيهم تابعين للغرب الرأسمالي الذي لا يكترث لدمعة يذرفها الشرق البائس حتى لو زحف هذا الشرق ينشد العطف ويعلن الولاء ويمعن في إبداء التأييد .
ومع أن الفلسطينيين والشعوب العربية التي تقف إلى جانب عدالة قضية الأولين كرروا مقاطع من القصيدة الساخرة لمظفر " قمم قمم " إلا أنهم - وهذه مفارقة - لم ييأسوا من مناشدة الزعامة العربية علها تقدم على خطوة ما تجاه العدو الإسرائيلي ، كأن يطردوا السفراء أو يقطعوا العلاقات الدبلوماسية أو يوقفوا ضخ النفط أو يجرأوا على تقديم المساعدات الإنسانية للمحاصرين المنكوبين في قطاع غزة .
قبل ألف عام قال أبو العلاء المعري :
" لقد أعييت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي "
ويبدو أن ذاكرتتا ما زالت عذراء ، والعبارة كتبها إميل حبيبي في العام ١٩٨٠ . وكم من حرب حدثت بعد العام المذكور ؟! وكم من نداء واستغاثة وجههما الفلسطينيون للزعامة العربية دون جدوى ؟!
هل أخطأ مظفر النواب حين قال في " وتريات ليلية " ١٩٧٣ :
" تتحرك دكة غسل الموتى
أما أنتم فلا تهتز لكم قصبة " ؟ .
الأربعاء ١٥ / ١١ / ٢٠٢٣
( مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية ١٩ / ١١ / ٢٠٢٣ )
- المهرج : لا ينسى وطنه "
غالبا ما أسترجع العبارة وأبني مقالا عليها كلما " دق الكوز في الجرة " أو كلما " نفخنا في قربة مثقوبة " أو كلما عشنا حالة سيزيفية أو انتظرنا " غودو " العربي الذي لا يأتي .
في الحرب الدائرة حاليا في غزة ناشد المواطنون الغزيون الحكام العرب والمسلمين طالبين منهم أن يقفوا إلى جانبهم فيتخذوا موقفا لنصرتهم أو لوقف الحرب أو لإدخال المساعدات إليهم . ومثل المواطنين الغزيين تظاهر المواطنون العرب والمسلمون في بلادهم وعززوا مطالب الغزيين ونشدوا الوقوف إلى جانبهم ولكن دون جدوى ، فلم يسفر مؤتمر القمة العربية والإسلامية عن قرارات ذات جدوى ما دفع ناشط فيسبوكي إلى أن يكتب " تمخض الجبل فولد فأرا " ، فلم توقف قرارات المؤتمر الحرب ولم تدخل المساعدات إلى المحاصرين المنكوبين ، وتدوول كلام نسب إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي يحذر فيه الحكام العرب ويطلب منهم - بل يأمرهم - التزام حدودهم .
أعادني ما سبق إلى الأدبيات الفلسطينية منذ ثلاثينيات القرن ٢٠ ؛ إلى قصيدة الثائر عوض الشعبية وإلى أشعار أبي سلمى عبد الكريم الكرمي منذ ١٩٣٦ حتى تاريخ وفاته وإلى أشعار شعراء المقاومة الفلسطينية وشعراء عرب معروفين مثل مظفر النواب ونزار قباني وأحمد مطر ، وأشعار الثلاثة الأخيرين ، ومعهم أشعار محمود درويش ، كانت عموما هي الأكثر تردادا وتناقلا ، فلم تخل منها وسائل التواصل الاجتماعي في يوم من أيام الحرب الدائرة منذ ٧ / ١٠ / ٢٠٢٣ .
لخص عوض رأيه في الملوك والحكام العرب في زمنه بقوله :
" ظنيت لنا ملوك تمشي وراها رجال
تخسا الملوك إن كانوا هيك انذال
والله تيجانهم ما يصلحوا لنا نعال
إحنا اللي نحمي الوطن ونضمد جراحه "
ولم يختلف عنه أبو سلمى في قصيدته النارية " لهب القصيد " التي ذكر الحكام العرب فيها ، في تلك الفترة ، واحدا واحدا مبينا ما هم عليه ، وقد أجمل قوله في نهايتها بقوله :
" يا من يعزون الحمى / ثوروا على الظلم المبيد
بل حرروه من الملوك وحرروه من العبيد "
وواصل بعد النكبة هجاءه لهؤلاء الحكام ساخرا منهم قائلا :
" زعماء دنسوا تاريخكم
وملوك سلموكم دون حرب
و
دول تحسبها شرقية
فإذا أمعنت فالحاكم غربي " .
مع تكرار محاصرة الفلسطينيين وكثرة المجازر التي ارتكبت بحقهم وملاحقة ثورتهم وطردهم من مكان إلى آخر واتساع منفاهم تكرر الطلب نفسه ، كأن من ناشدوهم في السابق وقفوا إلى جانبهم ولم يخذلوهم ، وهذا ما دفع مريد البرغوثي في قصيدته " طال الشتات " إلى القول :
" أهذا صوتك المخذول نادى؟
أم أنك قد يئست من المنادى؟
أم أنك في المدى آنست نارا ،
وحين قصدتها حالت رمادا ؟
لقد خذلوك حيا ثم ميتا
بما خافوا انتباهك والرقادا
ويأسك لم يهز لهم قناة
وقد هز المقابر والجمادا
ولا تطع القرابة في عدو
وعاند من " تريد " له عنادا " .
لقد خذل الملوك والرؤساء العرب في حصار بيروت ١٩٨٢ الفلسطينيين المحاصرين ، وبدا ذلك في معظم الأشعار التي كتبها الشعراء الفلسطينيون في تلك الفترة ، وتعد قصيدة محمود درويش " مديح الظل العالي " الأكثر شيوعا وانتشارا والأكثر اقتباسا منها ، ولم تكن عموما الأولى له في هذا المضمار ، ففي حصار مخيم تل الزعتر ، في ١٩٧٦ ، وتسويته بالأرض كتب قصيدته الشهيرة " أحمد الزعتر " وفيها قال :
" ومن الخليج إلى المحيط ، من المحيط إلى الخليج
كانوا يعدون الجنازة
وانتخاب المقصلة "
وبعدها خاطب الحكام العرب :
" أنا لا أريد دعاءكم
أنا لا أريد سيوفكم
فدعاؤكم ملح على عطشي
وسيفكم علي "
وعلا قوله " كم كنت وحدك " و " يا وحدنا " وشاع .
ولم يكن عنوان سربية سميح القاسم " خذلتني الصحارى " ببعيد .
الشاعر العراقي مظفر النواب كان واضحا منذ البداية ، فلم يهادن ولم يجامل ولم يلجأ إلى التورية في أشعاره ومثله الشاعر العراقي أيضا أحمد مطر .
في قصيدة النواب " تل الزعتر " نقرأ هجاء لاذعا للحكام العرب ، بل إنه لم يكتف بالهجاء ، فتخيل إجراء محاكمة لهم على تقاعسهم وخذلانهم إخوتهم ، وأخذ يسخر من أجوبتهم في الدفاع عن أنفسهم . ببساطة رأى فيهم تابعين للغرب الرأسمالي الذي لا يكترث لدمعة يذرفها الشرق البائس حتى لو زحف هذا الشرق ينشد العطف ويعلن الولاء ويمعن في إبداء التأييد .
ومع أن الفلسطينيين والشعوب العربية التي تقف إلى جانب عدالة قضية الأولين كرروا مقاطع من القصيدة الساخرة لمظفر " قمم قمم " إلا أنهم - وهذه مفارقة - لم ييأسوا من مناشدة الزعامة العربية علها تقدم على خطوة ما تجاه العدو الإسرائيلي ، كأن يطردوا السفراء أو يقطعوا العلاقات الدبلوماسية أو يوقفوا ضخ النفط أو يجرأوا على تقديم المساعدات الإنسانية للمحاصرين المنكوبين في قطاع غزة .
قبل ألف عام قال أبو العلاء المعري :
" لقد أعييت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي "
ويبدو أن ذاكرتتا ما زالت عذراء ، والعبارة كتبها إميل حبيبي في العام ١٩٨٠ . وكم من حرب حدثت بعد العام المذكور ؟! وكم من نداء واستغاثة وجههما الفلسطينيون للزعامة العربية دون جدوى ؟!
هل أخطأ مظفر النواب حين قال في " وتريات ليلية " ١٩٧٣ :
" تتحرك دكة غسل الموتى
أما أنتم فلا تهتز لكم قصبة " ؟ .
الأربعاء ١٥ / ١١ / ٢٠٢٣
( مقال الأحد لدفاتر الأيام الفلسطينية ١٩ / ١١ / ٢٠٢٣ )