كما لو كان مشهداً سحرياً آسراً مستلاً من رواياته العجيبة كان حدث وصول الكاتب الكولومبي الأشهر غابرييل غارسيا ماركيز إلى مسقط رأسه مدينة أراكاتاكا مزيلاً مئة عام وأكثر من العزلة عن المنطقة شبه المعزولة، تلك المدينة التي استلها برشاقة فادحة من الواقع المرير إلى الخيال المطلق، فأحب سكانها صورتهم في الخيال لدرجة إنهم قرروا تغيير اسمها من أراكاتاكا إلى ماكوندو وأجروا تصويتاً جماهيرياً من أجل ذلك، وعلى الرغم من أن الاستفتاء لم يعتمد رسمياً إلا ان الجميع صار يطلق عليها ماكوندو، حتى ان اللافتات التي تشير إلى مدينة أراكاتاكا - ماكوندو تشاهد على طول الطريق الساحلي بين سانتا مارتا أراكاتاكا ، أو ماكوندو حالياً.
كان القطار محملاً بعشرات الموسيقيين والمغنيين وعدد كبير من أصدقاء الكاتب وأقاربه وعدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين، يتوسطهم غابريل غاريسيا ماركيز، أو غابو كما يحلو للكولومبيين أن يطلقوا عليه تحبباً.إنها العودة الأولى للأديب الكولومبي حامل جائزة نوبل إلى مسقط رأسه بعد ربع قرن من الزمان، لتكون منطلقه الجديد لتحقيق آمال بلده كولومبيا وأحلام مواطنيه الذين يأملون أن تساعدهم تلك الزيارة في تسليط الضوء على مدينتهم ووضعها على الخارطة السياحية، سيما أن الحكومة المحلية تنوي تحويل رحلة القطار العجيبة هذه إلى تقليد سياحي يحمل الحجيج والسواح الباحثين عن التقاليد الكولومبية العريقة والثقافات الشعبية إلى موطن قصص ماركيز الأولى ومهد آماله المتبرعمة آنذاك، بعد أن صرفت الحكومة المركزية أكثر من نصف مليون دولار لتجديد منزل آل ماركيز وتحويله إلى متحف يحوي الكثير من أدوات الكاتب الأولى ومخطوطاته وكتبه القديمة.
وعلى طريقة سكان أميركا اللاتينية في التعبير عن مشاعرهم وفرحهم بصخب ملون وفوضى موسيقية متداخلة، فقد كان ماركيز خلال تلك الرحلة العجيبة مطارداً من المعجبين الباحثين عن توقيعه على نسخهم الخاصّة من كتبه أو التقاط صورة معه.
في حين كان ماركيز يتنقل من عربة إلى أخرى مرحباً بمرافقيه في الرحلة، وهو يلوح بين الفينة والأخرى للأطفال الحفاة الذين يتراكضون عبر النافذة محاولين اللحاق بالقطار وهم يحملون لافتات موشاة برمز الفراشات الصفراء ترحب بباني بيوتهم ومدارسهم وهم يشرأبون برقابهم الطويلة علهم يلمحونه في عربة ما، بينما انتشر العشرات من ضباط الشرطة محاولين إبعاد الجماهير عن القطار.
«انظروا إلى هذا.. ويقولون إنني أخترع ماكوندو، انني أخترع الواقعية السحرية » يهتف ماركيز وهو ينظر من النافذة، فيرد جايمي أبيلو، أحد أصدقاء الكاتب ومرافقيه في الرحلة، إنه عالم ملون في قطار قديم.
مئة عام من العزلة، أفضل أعمال الكاتب المشهورة تدور أحداثها في ماكوندو، أو أراكاتاكا في الواقع، حيث سقوف البيوت من الصفيح والثلوج الى تغطي قمم الجبال البعيدة، تلك المدينة الموغلة في الواقعية السحرية التي أظهرها ماركيز نهباً لأمطار لا تنتهي وانتشار وباء الأرق الذي يفتك بسكانها، هي التي أدخلت العالم الى الواقعية السحرية، أن تتمكن من وصف أشياء عادية تحدث يومياً بطريقة سحرية فذة وبأسلوب أدبي تحتذي به أجيال من كتاب أميركا اللتينية لهي واقعية موغلة في السحر، يقول جايمي أبيلو، لكنه نادراً ما يضاهى.
غابريل غارسيا ماركيز يقيم حالياً في مدينة مكسيكو سيتي، على مسافة آمنة من الحروب الأهلية في بلاده، حيث يحظى هناك بمشهد بانورامي رائع من قصره المطل على الساحل الكاريبي، ونادراً ما يعود إلى كولومبيا، كهذه المرة الاستثنائية، لكنه غالبا ما يظهر في المهرجانات الشعبية التي تنظم في العاصمة المكسيكية الصاخبة التي لا تنتهي على مدار العام.
وكان ماركيز معروفاً في كولومبيا كصحافي حوادث مدة طويلة، قبل أن ينشر أول أعماله الأدبية ويحظى بشهرة منقطعة النظير في بلده ومن ثم في العالم كله بعد فوزه بجائزة نوبل في العام 1983، وهو يتمتع بحب الجماهير في اميركا اللاتينية أينما حل.
كما يحظى بثقة وتقدير الجماعات اليسارية المنتشرة في القارة بالإضافة إلى كونه الصديق الشخصي للزعيم الكوبي الأسطوري فيدل كاسترو، ونظراً لاحترام الحكومة الكولومبية له ولجهة كونه يساريا سابق قبل أن يتحول إلى ارستقراطي رث، كما يقول عن نفسه، فإنه في الواقع الوسيط الموثوق حالياً بين الحكومة والمجموعات اليسارية التي تخوض حرب عصابات مريرة ودموية ضدها.
** منشور بجريدة "البيان" الإماراتية بتاريخ 18 اكتوبر 2007
كان القطار محملاً بعشرات الموسيقيين والمغنيين وعدد كبير من أصدقاء الكاتب وأقاربه وعدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين، يتوسطهم غابريل غاريسيا ماركيز، أو غابو كما يحلو للكولومبيين أن يطلقوا عليه تحبباً.إنها العودة الأولى للأديب الكولومبي حامل جائزة نوبل إلى مسقط رأسه بعد ربع قرن من الزمان، لتكون منطلقه الجديد لتحقيق آمال بلده كولومبيا وأحلام مواطنيه الذين يأملون أن تساعدهم تلك الزيارة في تسليط الضوء على مدينتهم ووضعها على الخارطة السياحية، سيما أن الحكومة المحلية تنوي تحويل رحلة القطار العجيبة هذه إلى تقليد سياحي يحمل الحجيج والسواح الباحثين عن التقاليد الكولومبية العريقة والثقافات الشعبية إلى موطن قصص ماركيز الأولى ومهد آماله المتبرعمة آنذاك، بعد أن صرفت الحكومة المركزية أكثر من نصف مليون دولار لتجديد منزل آل ماركيز وتحويله إلى متحف يحوي الكثير من أدوات الكاتب الأولى ومخطوطاته وكتبه القديمة.
وعلى طريقة سكان أميركا اللاتينية في التعبير عن مشاعرهم وفرحهم بصخب ملون وفوضى موسيقية متداخلة، فقد كان ماركيز خلال تلك الرحلة العجيبة مطارداً من المعجبين الباحثين عن توقيعه على نسخهم الخاصّة من كتبه أو التقاط صورة معه.
في حين كان ماركيز يتنقل من عربة إلى أخرى مرحباً بمرافقيه في الرحلة، وهو يلوح بين الفينة والأخرى للأطفال الحفاة الذين يتراكضون عبر النافذة محاولين اللحاق بالقطار وهم يحملون لافتات موشاة برمز الفراشات الصفراء ترحب بباني بيوتهم ومدارسهم وهم يشرأبون برقابهم الطويلة علهم يلمحونه في عربة ما، بينما انتشر العشرات من ضباط الشرطة محاولين إبعاد الجماهير عن القطار.
«انظروا إلى هذا.. ويقولون إنني أخترع ماكوندو، انني أخترع الواقعية السحرية » يهتف ماركيز وهو ينظر من النافذة، فيرد جايمي أبيلو، أحد أصدقاء الكاتب ومرافقيه في الرحلة، إنه عالم ملون في قطار قديم.
مئة عام من العزلة، أفضل أعمال الكاتب المشهورة تدور أحداثها في ماكوندو، أو أراكاتاكا في الواقع، حيث سقوف البيوت من الصفيح والثلوج الى تغطي قمم الجبال البعيدة، تلك المدينة الموغلة في الواقعية السحرية التي أظهرها ماركيز نهباً لأمطار لا تنتهي وانتشار وباء الأرق الذي يفتك بسكانها، هي التي أدخلت العالم الى الواقعية السحرية، أن تتمكن من وصف أشياء عادية تحدث يومياً بطريقة سحرية فذة وبأسلوب أدبي تحتذي به أجيال من كتاب أميركا اللتينية لهي واقعية موغلة في السحر، يقول جايمي أبيلو، لكنه نادراً ما يضاهى.
غابريل غارسيا ماركيز يقيم حالياً في مدينة مكسيكو سيتي، على مسافة آمنة من الحروب الأهلية في بلاده، حيث يحظى هناك بمشهد بانورامي رائع من قصره المطل على الساحل الكاريبي، ونادراً ما يعود إلى كولومبيا، كهذه المرة الاستثنائية، لكنه غالبا ما يظهر في المهرجانات الشعبية التي تنظم في العاصمة المكسيكية الصاخبة التي لا تنتهي على مدار العام.
وكان ماركيز معروفاً في كولومبيا كصحافي حوادث مدة طويلة، قبل أن ينشر أول أعماله الأدبية ويحظى بشهرة منقطعة النظير في بلده ومن ثم في العالم كله بعد فوزه بجائزة نوبل في العام 1983، وهو يتمتع بحب الجماهير في اميركا اللاتينية أينما حل.
كما يحظى بثقة وتقدير الجماعات اليسارية المنتشرة في القارة بالإضافة إلى كونه الصديق الشخصي للزعيم الكوبي الأسطوري فيدل كاسترو، ونظراً لاحترام الحكومة الكولومبية له ولجهة كونه يساريا سابق قبل أن يتحول إلى ارستقراطي رث، كما يقول عن نفسه، فإنه في الواقع الوسيط الموثوق حالياً بين الحكومة والمجموعات اليسارية التي تخوض حرب عصابات مريرة ودموية ضدها.
** منشور بجريدة "البيان" الإماراتية بتاريخ 18 اكتوبر 2007