تحدثنا في المقال السابق عن تمظهرات الهويات السردية الثلاث: الهوية المتصورة، والهوية المتخللة، والهوية المتحققة، وربطنا هذه الهويات بوجود مقولات مصنفة تنظم تمظهرها السردي. ونعمل اليوم على مقاربة مقولة «التحديد» المصنفة.
وهي مقولة ترتبط بانبثاق الحكاية، بل تبرر وجودها ووجود الذات السردية، وتسمح بتكون الخيط السردي الضامن لجريان الصيرورة الحدثية، ولتماسك الذات من جهة، وتماسك الحكي من جهة ثانية. وسميناها بمقولة «التحديد» لأنها تحدد الأفق الذي يتجه نحوه الجهد الذي تقوم به الذات، ومحتواه، ومدى اندراجه في المنظومة الرمزية التي تسنن أخلاقية الفعل، خاصة على المستوى القانوني (شرعي/ غير شرعي)، أو خرقه لها واستهداف ما يدمرها، كما هو الحال بالنسبة إلى سعيد مهران في رواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ الذي يسعى إلى نقل فعل السرقة من مجال (غير الشرعي) إلى مجال (الشرعي).
تتصل مقولة «التحديد» المصنفة بالإرادة من جهة، من حيث هي مجرد مفكرٍ فيه لم يمر إلى مرحلة التنفيذ والفعل، ومن جهة ثانية بالعمل بوصفه طاقة داخلية لها هيئة دافع داخلي إمكاني محفز على الفعل. وحين تربط هذه المقولة بالإرادة فمعنى هذا ارتباطها بالاختيارات الممكنة، لا المستحيلة (أرسطو)، التي تجد الذات نفسها أمامها بغاية التعبير عن وجودها، وبناء ذاتها من خلال فعلها، ومن ثمة بناء هويتها الخاصة. وتتعين هذه الاختيارات أيضا في مجال التمني؛ أي مجال النموذجي المرغوب فيه وغير المتحقق، والذي ليس في متناول اليد، ويحتاج إلى العمل لكي يصير مجسدا في الواقع بدون وجود ضمانات مؤكدة قبوله التحقق. وتكون الاختيارات المتاحة أمام الذات متعددة في الغالب، وتتراوح علاقة الذات بها بين الحرية والإجبار؛ أي إما أن تكون الذات حرة في الاختيار الذي يحدد محتوى إرادتها أو مجبرة عليه. كما يتعالق الاختيار المنتهج على مستوى الإرادة بالأخلاقي؛ حيث يكون إما في هيئة واجب متصل بالمسؤولية تجاه الجماعة (رواية «الأم» لماكسيم غوركي)، أو في هيئة خرق للواجب المرتبط بالمسؤولية تجاه الآخر (رواية «مدام بوفاري» لغوستاف فلوبير)، أو في هيئة تحلل من الوازع الأخلاقي الاجتماعي (رواية «لوليتا» لفلادمير نوبوكوف). ولا تتأسس الاختيارات على ما ينبغي أن يكون فحسب، بل أيضا على ما ينبغي أن لا يكون، كما أنها ترتبط بتغيير الأوضاع؛ أي أنها تتأسس في اللحظة التي تدرك فيها الذات أن ما تقدمه الحياة لها من إمكانات للعيش ليس نموذجيا، ويعبر عن النقص، وعدم الكفاية، بما يعنيه هذا من ارتباط بالسعي نحو البقاء الجيد.
لا يمكِن تفكر مقولة «التحديد» المصنفة خارج علاقة اختيار الفعل بالموضوع المستهدف؛ فالذات السردية تتحدد هويتها الماهوية – منذ بداية انبثاق الحكاية – لأنها تريد، وتتحدد إرادتها لأنها تختار تحقيق هذا الموضوع أو ذاك. وينبغي التمييز هنا بين موضوعيْن: موضوع الكينونة وموضوع الامتلاك (غريماس)؛ فالأول يرتبط بما تريد الذات أن تكونه في المستقبل (طبيب- أستاذ- موسيقي- تاجر…الخ)، ويرتبط الثاني بما تريد الذات أن تحصل عليه من موضوعات واقعية- نفعية (سيارة- منزل- ثروة- ضيعة…الخ). ومهما كان الموضوع الذي تختاره الذات فهو خاضع للجدال الاجتماعي حوله؛ أي أنه خاضع لمنافسة الآخرين، ولمصالحهم أيضا، ولما تضعه المؤسسة الاجتماعية من شروط لتحقيقه، ومن قوانين. ويتفق هذا الجدال الاجتماعي مع كون تحديد الاختيارات التي تستهدف موضوعا ما لا تنفصل عن التحديد الاجتماعي للذوات المريدة؛ ومن ثمة عن هويتها، بما يعنيه هذا من تراتب واعتراف بالأحقية؛ أي أن الذوات تتراتب من حيث التصنيف الاجتماعي، وتتراتب معها الإرادة والموضوعات الممكن تحقيقها، ويتحدد أيضا الحق فيها أو عدمه. ويمكِن حصر بعض الصيغ التي تعبر بوساطتها المقولة المصنفة «التحديد» المرتبطة بموضوعات الكينونة عن نفسها، فنذكر منها: (لست بـ«حر»، وأريد أن أكون «حرا»)، و(أنا «فقير»، ولا أريد أن أكون «فقيرا»)، و(صرت «متذبذِبا»، وأريد أن أظل «ثابتا»)…الخ. ويمكن حصر بعض الصيغ الخاصة بموضوعات الامتلاك فنورد منها الآتي: (لا أمتلك «المال» وأريد الحصول عليه)، و(كنت أمتلك «ارضا» وفقدتها وأريد استرجاعها)، و(أمتلك «بيتا»، لكنه غير ملائم لي أو غير مرضٍ، وأريد استبداله)…الخ. إن الصيغ التي تظهر علاقة مقولة «التحديد» باختيار الموضوع- سواء أكان من نظام الكينونة أم من نظام الامتلاك (غريماس)- متعددة، وما ذكرناه منها لا يخرج عن كونه مجرد تقريب لها فحسب.
وينبغي تفكر مقولة التحديد المصنفة من زاوية المحافظة على نظام التصنيف الرمزي للهويات الفردية والاجتماعية، بما يعنيه هذا من وجود صور- قواقع تلتصق بالأفراد منذ ولادتهم، أو من زاوية خرق هذا النظام. ومعنى هذا أن المجتمع يضع أمام الفرد حزمة من الاختيارات للعيش، ووسائل تحقيقها، ومن ثمة يكون لزاما على الفرد الامتثال لها حتى يقبل بوصفه فردا اجتماعيا، ويعترف به ذاتا نموذجية. وما أن يحدد الفرد اختياره خارج نظام التصنيف الرمزي للهويات يجد نفسه مرغما على إعادة تحديد ذاته خارج النسق القيمي للمجتمع.
وتحديدٌ من هذا القبيل للاختيار يزيد من حدة التوتر بين الفرد وذاته من جهة، وبينه وبين محيطه من جهة ثانية؛ كما يقلل من فرص التعاون بين الفرد ومحيطه، ويكثِر من أسباب الصراع معه؛ الشيء الذي ينسحب على الهوية المتخللة من طريق جعلها متصفة بالغربة (لا الاغتراب) والعزلة ومحط ريبة.
تتمظهر مقولة «التحديد» في الهوية المتصورة والهوية المتخللة معا؛ فهي لا تنطلق في الهوية الأولى إلا من فرضية إمكان صحتها، أو إمكان قبولها التحقق؛ وهي في هذه المرحلة تتصف بكونها وثوقية تستبعد الواقع الملموس، إنها يوتوبية التصور؛ وتتخذ في الغالب هيئة اندفاع يقدح الحماس في الذات، لكنها تعد في الهوية المتخللة نوعا من إعادة التحديد في ضوء تحديات الواقع والموانع التي تنتصب أمام الإرادة في تجسيد التحديد اليوتوبي- الماهوي؛ ومعنى هذا أن التحديد الأول- المنطلق يقبل خلال الممارسة (الجهد) تعديل نفسه، أو التخلي عن صلاحيته لتحديد جديد. ومهما كانت طبيعة إعادة التحديد هذه فهي تعد نوعا من المراجعة التي تعبر عن تدخل الواقع في تحديد التحديد، وتوجيهه بما يسمح بتحققه. لكن هذا لا يعني دوما أن التحديد اليوتوبي يستسلم لتطلبات الواقع؛ فقد يقبل المراجعة بفعل لحظة ضعف في حماس الذات، لكنه لا يلبث أن يستعيد زمام المبادرة ملحا على صلاحيته، وعلى نحو جذري أكثر من جذريته الأولى.
أكاديمي وأديب مغربي
وهي مقولة ترتبط بانبثاق الحكاية، بل تبرر وجودها ووجود الذات السردية، وتسمح بتكون الخيط السردي الضامن لجريان الصيرورة الحدثية، ولتماسك الذات من جهة، وتماسك الحكي من جهة ثانية. وسميناها بمقولة «التحديد» لأنها تحدد الأفق الذي يتجه نحوه الجهد الذي تقوم به الذات، ومحتواه، ومدى اندراجه في المنظومة الرمزية التي تسنن أخلاقية الفعل، خاصة على المستوى القانوني (شرعي/ غير شرعي)، أو خرقه لها واستهداف ما يدمرها، كما هو الحال بالنسبة إلى سعيد مهران في رواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ الذي يسعى إلى نقل فعل السرقة من مجال (غير الشرعي) إلى مجال (الشرعي).
تتصل مقولة «التحديد» المصنفة بالإرادة من جهة، من حيث هي مجرد مفكرٍ فيه لم يمر إلى مرحلة التنفيذ والفعل، ومن جهة ثانية بالعمل بوصفه طاقة داخلية لها هيئة دافع داخلي إمكاني محفز على الفعل. وحين تربط هذه المقولة بالإرادة فمعنى هذا ارتباطها بالاختيارات الممكنة، لا المستحيلة (أرسطو)، التي تجد الذات نفسها أمامها بغاية التعبير عن وجودها، وبناء ذاتها من خلال فعلها، ومن ثمة بناء هويتها الخاصة. وتتعين هذه الاختيارات أيضا في مجال التمني؛ أي مجال النموذجي المرغوب فيه وغير المتحقق، والذي ليس في متناول اليد، ويحتاج إلى العمل لكي يصير مجسدا في الواقع بدون وجود ضمانات مؤكدة قبوله التحقق. وتكون الاختيارات المتاحة أمام الذات متعددة في الغالب، وتتراوح علاقة الذات بها بين الحرية والإجبار؛ أي إما أن تكون الذات حرة في الاختيار الذي يحدد محتوى إرادتها أو مجبرة عليه. كما يتعالق الاختيار المنتهج على مستوى الإرادة بالأخلاقي؛ حيث يكون إما في هيئة واجب متصل بالمسؤولية تجاه الجماعة (رواية «الأم» لماكسيم غوركي)، أو في هيئة خرق للواجب المرتبط بالمسؤولية تجاه الآخر (رواية «مدام بوفاري» لغوستاف فلوبير)، أو في هيئة تحلل من الوازع الأخلاقي الاجتماعي (رواية «لوليتا» لفلادمير نوبوكوف). ولا تتأسس الاختيارات على ما ينبغي أن يكون فحسب، بل أيضا على ما ينبغي أن لا يكون، كما أنها ترتبط بتغيير الأوضاع؛ أي أنها تتأسس في اللحظة التي تدرك فيها الذات أن ما تقدمه الحياة لها من إمكانات للعيش ليس نموذجيا، ويعبر عن النقص، وعدم الكفاية، بما يعنيه هذا من ارتباط بالسعي نحو البقاء الجيد.
لا يمكِن تفكر مقولة «التحديد» المصنفة خارج علاقة اختيار الفعل بالموضوع المستهدف؛ فالذات السردية تتحدد هويتها الماهوية – منذ بداية انبثاق الحكاية – لأنها تريد، وتتحدد إرادتها لأنها تختار تحقيق هذا الموضوع أو ذاك. وينبغي التمييز هنا بين موضوعيْن: موضوع الكينونة وموضوع الامتلاك (غريماس)؛ فالأول يرتبط بما تريد الذات أن تكونه في المستقبل (طبيب- أستاذ- موسيقي- تاجر…الخ)، ويرتبط الثاني بما تريد الذات أن تحصل عليه من موضوعات واقعية- نفعية (سيارة- منزل- ثروة- ضيعة…الخ). ومهما كان الموضوع الذي تختاره الذات فهو خاضع للجدال الاجتماعي حوله؛ أي أنه خاضع لمنافسة الآخرين، ولمصالحهم أيضا، ولما تضعه المؤسسة الاجتماعية من شروط لتحقيقه، ومن قوانين. ويتفق هذا الجدال الاجتماعي مع كون تحديد الاختيارات التي تستهدف موضوعا ما لا تنفصل عن التحديد الاجتماعي للذوات المريدة؛ ومن ثمة عن هويتها، بما يعنيه هذا من تراتب واعتراف بالأحقية؛ أي أن الذوات تتراتب من حيث التصنيف الاجتماعي، وتتراتب معها الإرادة والموضوعات الممكن تحقيقها، ويتحدد أيضا الحق فيها أو عدمه. ويمكِن حصر بعض الصيغ التي تعبر بوساطتها المقولة المصنفة «التحديد» المرتبطة بموضوعات الكينونة عن نفسها، فنذكر منها: (لست بـ«حر»، وأريد أن أكون «حرا»)، و(أنا «فقير»، ولا أريد أن أكون «فقيرا»)، و(صرت «متذبذِبا»، وأريد أن أظل «ثابتا»)…الخ. ويمكن حصر بعض الصيغ الخاصة بموضوعات الامتلاك فنورد منها الآتي: (لا أمتلك «المال» وأريد الحصول عليه)، و(كنت أمتلك «ارضا» وفقدتها وأريد استرجاعها)، و(أمتلك «بيتا»، لكنه غير ملائم لي أو غير مرضٍ، وأريد استبداله)…الخ. إن الصيغ التي تظهر علاقة مقولة «التحديد» باختيار الموضوع- سواء أكان من نظام الكينونة أم من نظام الامتلاك (غريماس)- متعددة، وما ذكرناه منها لا يخرج عن كونه مجرد تقريب لها فحسب.
وينبغي تفكر مقولة التحديد المصنفة من زاوية المحافظة على نظام التصنيف الرمزي للهويات الفردية والاجتماعية، بما يعنيه هذا من وجود صور- قواقع تلتصق بالأفراد منذ ولادتهم، أو من زاوية خرق هذا النظام. ومعنى هذا أن المجتمع يضع أمام الفرد حزمة من الاختيارات للعيش، ووسائل تحقيقها، ومن ثمة يكون لزاما على الفرد الامتثال لها حتى يقبل بوصفه فردا اجتماعيا، ويعترف به ذاتا نموذجية. وما أن يحدد الفرد اختياره خارج نظام التصنيف الرمزي للهويات يجد نفسه مرغما على إعادة تحديد ذاته خارج النسق القيمي للمجتمع.
وتحديدٌ من هذا القبيل للاختيار يزيد من حدة التوتر بين الفرد وذاته من جهة، وبينه وبين محيطه من جهة ثانية؛ كما يقلل من فرص التعاون بين الفرد ومحيطه، ويكثِر من أسباب الصراع معه؛ الشيء الذي ينسحب على الهوية المتخللة من طريق جعلها متصفة بالغربة (لا الاغتراب) والعزلة ومحط ريبة.
تتمظهر مقولة «التحديد» في الهوية المتصورة والهوية المتخللة معا؛ فهي لا تنطلق في الهوية الأولى إلا من فرضية إمكان صحتها، أو إمكان قبولها التحقق؛ وهي في هذه المرحلة تتصف بكونها وثوقية تستبعد الواقع الملموس، إنها يوتوبية التصور؛ وتتخذ في الغالب هيئة اندفاع يقدح الحماس في الذات، لكنها تعد في الهوية المتخللة نوعا من إعادة التحديد في ضوء تحديات الواقع والموانع التي تنتصب أمام الإرادة في تجسيد التحديد اليوتوبي- الماهوي؛ ومعنى هذا أن التحديد الأول- المنطلق يقبل خلال الممارسة (الجهد) تعديل نفسه، أو التخلي عن صلاحيته لتحديد جديد. ومهما كانت طبيعة إعادة التحديد هذه فهي تعد نوعا من المراجعة التي تعبر عن تدخل الواقع في تحديد التحديد، وتوجيهه بما يسمح بتحققه. لكن هذا لا يعني دوما أن التحديد اليوتوبي يستسلم لتطلبات الواقع؛ فقد يقبل المراجعة بفعل لحظة ضعف في حماس الذات، لكنه لا يلبث أن يستعيد زمام المبادرة ملحا على صلاحيته، وعلى نحو جذري أكثر من جذريته الأولى.
أكاديمي وأديب مغربي