لم تكن الكتابة الأدبية، في يوم من الأيام، حكرا على الأدباء وحدهم، بل أبانت الشواهد العديدة عن أن مجال الإبداع الأدبي كان وما زال مفتوحا على المواهب التي لم تأت حصرا من أرض الأدب وحقوله المزهرة. التجارب الأدبية الوافدة من شتى العلوم والمعارف المختلفة تثبت، بما لا مجال للشكّ فيه، أنها رافد مهم للأدب. إنّ الملاحظ يكتشف هيمنة قوية للأطباء على غيرهم في اقتحام صرح الإبداع الأدبي، نذكر، على سبيل المثال، الكاتب والمسرحي يوسف إدريس الذي وُصف بطبيب الأدباء وأديب الأطباء، أو الروائي الفرنسي فرديناند سيلين، الذي أحدث ثورة في عالم الرواية، كان طبيب نساء وتوليد… وخارج هذه الهيمنة للأطباء، نجد الروائي عبد الرحمن منيف الآتي من اقتصاديات النفط وعالم البترول، حيث يشرح في حواراته كيف دخل إلى الأدب من بوابة خيبته من السياسة والسياسيين، وأخيرا الروائي اليمني حبيب عبد الرب سروري، الذي جاء إلى الأدب من الرياضيات التطبيقية في مجال الكومبيوتر والبرمجيات، حيث برع، على الخصوص، في رواية الخيال العلمي…
عبدالرحمن منيف.. مهندس بترول في مدن الملح
– لا بدّ للذي يتّبع مسار حياتك أن يلاحظ أنّك بدأت بدراسة الاقتصاد، حيث حصلت على الدكتوراه في اقتصاديات النفط، قبل أن تتحوّل إلى الأدب، كيف جئت إلى الرواية من النفط؟
+ جئت إلى الكتابة عن طريق الصدفة أو عن طريق الضرورة. كان رهاني الأكبر في الحقل السياسي، وبعدما امتحنت هذه الإمكانية، تبيّن لي أنّ الصيغ السياسية الموجودة غير كافية وغير مرضية، وبالتالي كانت هناك بداية البحث عن صيغة للتواصل مع الآخرين وللتعبير عن الهموم، هموم المرحلة والجيل. وباعتبار أنني كنت هاوي قراءة، وبخاصة في مجال الرواية، افترضت أنّه، من خلال هذه الوسيلة، وبما أنني كنت أستطيع التعبير، من الممكن أن أعوض أداة بأداة أخرى. فبدلا من الحزب السياسي أو العمل السياسي المباشر، من الممكن أن تكون الرواية وسيلة تعبير. وهكذا جئت، ربما بالمصادفة، إلى الرواية. أمّا في ما يتعلق بالاقتصاد، وبخاصة النفط، فكان عاملا مساعدا في قراءة المجتمع والعوامل المؤثرة، خاصة في المرحلة الحالية. فلذلك من شأن الاقتصاد والعلوم الأخرى أن تساعد الروائي في قراءة المجتمع وفهم عوامل التأثير. وهذا ما يجعله في موقع أفضل في ما يتعلّق بأدواته الروائية.
– لماذا كنت تجد أنّ الصيغ السياسية كانت غير ديموقراطية؟ ألا تخشى، أيضا، أن تتحوّل الرواية إلى خطاب سياسي أكثر من خطاب أدبي؟
+ في ما يتعلّق بالسؤال الأوّل، نحن كجيل، من الممكن أن نطلق عليه اسم جيل انتقالي، كنّا محملين بكم كبير من الأحلام ومن الرغبة في التغيير، وكانت هناك مجموعة من الأحزاب السياسية، قدمت نفسها كصيغة من أجل هذا التغيير. لكن، في الحقيقة، كانت أحلامنا أكبر من إمكانياتنا. والأحزاب السياسية التي كانت قائمة ولا زالت بقاياها موجودة، كانت أضعف وأقل قدرة من عملية التغيير. كانت بدائية في أفكارها وأساليبها، كانت غير متصلة مع حركة المجتمع الداخلية. وبالتالي كان المطروح عبارة عن شعارات أكثر منه برامج سياسية. وعندما واجهت الامتحان الحقيقي، بان قصورها وعجزها، وهذا يفسّر التآكل والتراجع في هذه الأحزاب وكذلك الإنسان. كان عنده نوع من الحلم لأن يكون جزءا من حركة التاريخ، فيكتشف أنّ هذه الأحزاب ليست البيئة المواتية لهذه المهمة.
أمّا بالنسبة إلى الشقّ الثاني، فطبيعي أنّه بدلا من أن يكون خائبا خارج الحزب السياسي، سيتوجّه نحو المجتمع من خلال رؤية سياسية. لكن، بمرور الوقت وبتزايد التجارب، يكتشف أنّ المجتمع أكثر غنى وتنوعا من الخطاب السياسي. ولذلك تتحوّل الرواية إلى قراءة للمجتمع والتعبير عن همومه وأحلامه، وتصبح أكثر من مجرّد خطاب سياسي.
نزار كربوط.. أعيش وسط هذه المفارقة الجميلة
نزار كربوط شاعر وكاتب مغربي ولد سنة 1982 بمدينة تازة. يعمل طبيبا متخصصا في طبّ وجراحة الأسنان. بدأ شاعرا من خلال مجموعات شعرية «رماد العاشق» 2007، و«أحمري يبتلعه السّواد» 2010، و«سقف من فراشات» 2013، و«أهب وجهي للفوضى» 2017. صدرت له رواية أولى «العرض ما قبل الأول» 2020، وهذه السنة روايته الثانية «سيّدات العزيز». بخصوص العلاقة بين الأدب والمجالات العلمية عموما كان لنا هذا الحوار:
- الشائع أن الإبداع الأدبي، والفني كذلك، منحصر في الأدباء دراسة وتكوينا. لكن الواقع شيء آخر تؤكده الأعداد المعتبرة من الكتّاب الذين أتوا إلى الأدب من بوابة العلوم من الطب إلى الهندسة… والحالة المعروفة الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف في قولته الشهيرة: «الطب زوجتي والأدب عشيقتي»، كيف تنظر إلى هذه العلاقة؟
+ أرفض رفضا قاطعا هذه الفكرة الشائعة، وفي اعتقادي أن دراسة الأدب والفنون لا تصنع لنا أدباء وفنانين، بل هي التجربة الإنسانية لكلّ فرد ما يحدّد طبيعة إبداعه ومصداقية عوالمه الأدبية. عبر التاريخ كلّه لم يكن الفعل الإبداعي، أبدا، حكرا على الدارسين والأكاديميين، بل هذا، في نظري الشخصي، لا يخدم حرية العمل الإبداعي ويضع الكاتب في قالب محددة جدرانه سلفا، وغالبا ما يكون متأثرا بالخلفية الأكاديمية، فهذه الأخيرة تضع الكاتب في إطار معيّن عكس ما ينبغي أن يكون عليه، لأنّ هذا يقتل روح الإبداع وعفويته. تعودنا على الشائع في المشهد الأدبي والفني، لكنّ الحقيقة عكس ذلك تماما، فكلّ الكتاب والفنانين الكبار، الذين اطّلعت على تجاربهم منذ الصبا، فوجئت حينما بحثت في سيرهم الذاتية وعرفت من خلال ذلك أنهم بعيدون كلّ البعد عن الدراسات الأدبية والفنية، فمنهم من كان طبيبا أو مهندسا، أو رجل قانون أو جنديا أو بحارا واللائحة طويلة… على سبيل المثال، كما تفضلت وذكرت، اسم تشيخوف، سأضيف مثلا لوران غاسبار ودوستويفسكي، بول أوستر وعلاء الأسواني، وإبراهيم ناجي وخوان رولفو، الكاتب المكسيكي صاحب رائعة «بيدرو بارامو»، الذي كان يشتغل في شركة لبيع الإطارات، هذا يعني أنّ الحياة دائما ما تلقننا دروسا والدرس الأكبر هو أنّ الأدب ليس حكرا على أحد، ومن يعتقد أنّ لديه السلطة كي يتحكّم في هذا الأمر مخطئ وبعيد عن جوهر الإبداع في حد ذاته. فالصورة التي أصبحت تغطي غابة إبداعية مهمة هي تلك الفكرة التي رسخت وأصبحت مغالطة يؤمن بصحتها العديد من الناس، فكرة المبدعين الكتاب -على سبيل المثال- الذين يشتغلون بالتدريس أو الصحافة ويتعاملون بشكل يومي مع اللغة والكلمات، هذا ما جعل البعض أو الأغلبية يظنّون أنّهم يمتلكون القدرة على تطويع اللغة، كما يفعل عامل الخزف مع الطين، لكن هذا الأمر غير صحيح لأننا، في كثير من الأحيان، عندما نقترب من الشيء أكثر من اللازم نفسده. في اعتقادي أن الإبداع الأدبي ينتصر للمبدعين الذين يعيشون الأدب قبل أن يمارسوه.
– كيف نسجت هذه العلاقة بين الطبّ والشعر أولا ثمّ الرواية لاحقا؟
+ هي علاقة حبّ طبعا، في بعض الأحيان يحدث للمرء أن يحبّ مجموعة من الأشياء ولا يستطيع أن يترك واحدا على حساب الآخر. حبّي للأدب والشعر بدأ منذ أيام المراهقة، في تلك الأيام كانت للكتاب سطوة كبيرة مثل سطوة وسائل التواصل الاجتماعي في وقتنا هذا، وكان للكتاب تأثير على تطور شخصية كل فرد. كانت النصوص الأدبية حاضرة بشكل يلفت الأنظار ويشدّ كل من يحب الإبداعات العالمية… أصبت بعدوى الشعر والكتابة في سن مبكرة، لكنّ جانبا آخر منّي كان يشدّني نحو الفيزياء والكيمياء والرياضيات والاطلاع على التجارب العلمية المختلفة والمتنوعة. ومنذ ذلك اليوم حتى الآن، أعيش وسط هذه المفارقة الجميلة والتي تعبر في الأساس عن الحياة، لأنّ الحياة في حد ذاتها مليئة بالمفارقات أيضا. عندما أتعامل مع نصّي الأدبي الذي أكتبه، سواء كان شعرا أو نثرا أو سردا، أدقق فيه بعين الطبيب الذي لا ينبغي له أن يغفل مجموعة من التفاصيل الدقيقة والجزئيات الصغيرة التي تحدث فرقا كبيرا في التشخيص والعلاج أيضا. أنظر إلى كتاباتي بعين الطبيب القلقة التي لا تطمئن أبدا للأعراض الظاهرة وتبحث عن الأشياء المبطنة مثل ما يفعل الطبيب المتخصص في الطب الباطني، أمّا عندما أمارس الطبّ أجد فيه جانبا من الشعر والسرد والفنون، للطب أيضا نصيب في الفنون وهو فنّ العلاج الذي يبدأ بفنّ الكلام، فوقع الكلمة على المريض يكون كبيرا جدا، خصوصا إذا لم يحسب لها حساب، فيمكن تشخيص المرض بكل الطرق المتاحة والإمكانيات، لكن طريقة الإعلان عنه وشرحه للمعني بالأمر قد تحدث فرقا كبيرا. تجربتي في الطب والشعر والرواية علمتني الكثير، والشيء الأكبر والأهم هو أني، في كل مرة أقول «تعلمت»، تعيدني إلى نقطة البداية وإلى الصفحة الأولى في كتاب الحياة.
– هل يمكن القول إنّ الثقافة العلمية البحتة قد تشكّل رافدا مهما في العملية الإبداعية الأدبية كما عززتها تجارب كتاب مرموقين مزجوا بين الاثنين باقتدار كبير؟
+ لقد صرنا في زمن الذكاء الاصطناعي حيث صار للإنسان متّسع وأرض معرفية كبيرة. الكاتب في زمننا هذا، وأعني الكاتب المغربي على الخصوص، عليه أن يؤمن بفكرة مهمة جدا وهي أننا صرنا في عالم إيقاع المعلومات فيه سريع جدا. العالم يتغيّر ويتجدد باستمرار وداخل هذا العالم هناك القارئ الذي يشكل جزءا منه، كما أنّ المعلومة صارت في متناول الكلّ وبسهولة. فلا ينبغي أن يخاطب الكاتب قارئا ذكيا بثقافة قديمة جامدة لا تتجدد ولا تستند إلى كلّ جديد. لا شكّ أنّ الثقافة العلمية تساعد الكاتب على تطوير مشروعه الإبداعي وتعزيز تجربته الإبداعية أو الكتابية. هناك شعراء عبر العالم يهتمون بعلم الفلك مثلا ويفاجئون القارئ بقصائد تجمع بين الشعر والنجوم وعلوم الفلك، وهناك روائيون يهتمون بالتجارب العلمية ويطالعون المجلات العلمية ويشاهدون البرامج الوثائقية عن الجريمة والحيتان والتكنولوجيا والطب الشرعي وموضوعات مختلفة… لما في ذلك من إضافة مهمّة لتجربتهم في الكتابة، وهذا ما يوسّع حقلهم البصري ويجعلهم ينفتحون على أفكار جديدة ومشاهد جديدة ومختلفة عمّا هو مألوف، تقدّم خدمة كبيرة لتجربتهم الإبداعية. فعلى سبيل المثال لا يمكن لكاتب أن يتناول موضوع الجريمة مثلا، وخصوصا جريمة قتل يعتمد فيها نصّه السردي على طبيب شرعيّ يقدم تقريرا عن أسباب وفاة معينة وآثار مواد كيميائية على أظافر الجثة… كلّ هذه التفاصيل، التي يمكن أن يتطرق لها كاتب الرواية، تستند إلى مقالات علمية ومراجع… أذكر مثالا آخر أحبه هو الكاتب الأمريكي بول أوستر، الذي تشعر وأنت تقرأ رواياته بأن لديه اهتماما كبيرا بعلم النفس وحتّى الطبّ العصبيّ أو طب المخ والأعصاب، لأن في نصوصه الأدبية تجربة علمية كبيرة، ويشعر القارئ، الذي يقرأ بول أوستر، بأنّه أمام شخص مطلع على الكثير من المجالات يوظفها في إغناء تجربته الروائية.
حبيب عبد الرب سروري.. تقرير الهدهد
أمام أهمّ وأكبر متاحف السماء السابعة والسبعين يقع أشهر مقاهيها !… يسمّيه أهل الديار: «مقهى الكوكبة» !
السبب: ستّة من أعظم مُبدعي وعباقرة كوكب الأرض يرتادونه كلّ يوم: داروين، آينشتاين، كارل ماركس، فرويد، بيكاسو وأبو العلاء المعري!
أخيرهم هذا (الذي عاش قبلهم بأكثر من 800 سنة) وُلد لسوء الحظّ في أمّة غافلة، لم تُدرِّس كتبه في مدارسها وجامعاتها، لم تحتفل به، لم تُشيّد تماثيله في أبواب الجامعات، وفي أعلى الهضاب… لم تلتفت لمشروعه لحظة واحدة على الأقلّ !…
ما أحمقها: لو صعدت على كتفيه السامقتين لَرأتْ أبعد وأفضل… لشاهدَتْ ما وراء السياج، ما وراء الأفق!…
… غير أنّ داروين (مكتشف أصل الأنواع)، آينشتاين (مكتشف طبيعة الزمن وعلاقة المادّة بالطاقة)، ماركس (مكتشف دور المال في حياة البشر، صاحب المادّية الديالكتيكية و«مهمّة الفلسفة تغيير العالم بدلا من الاكتفاء بتفسيره») فرويد (مكتشف خبايا النفس)، بيكاسو (محرّر اللوحة من سجن الواقع)، وأبا العلاء (فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة)، هم أكثر من يحجّ إلى المقهى بانتظام، كلّ عصر! لهم طاولة خاصة محجوزة بأسمائهم في بلكونته على الدوام!…
«ستة قتلة»، كما يُسمّيهم سكّان السماء 77: داروين (قاتل الميتافيزيقيا)، آينشتاين (قاتل الزمن المطلق)، ماركس (قاتل نوم الفلاسفة)، فرويد (الذي أطلق النار على القفل الذي يغلق اللاوعي)، أبو العلاء (مفجّر الديناميت في أرض اللاعقل والأكاذيب الكبرى)، بيكاسو (مدمّر سجن الواقع في الفنّ التشكيلي)!…
يا لجلال مقهى كهذا ترتاده أرهب عقول البشرية من فجر التاريخ، زبدة الفكر والعلم والفنّ، يتحدثون في كلّ شيء، ولا شيء، بتلقائية وحيوية وتفاعل جماعي، بلا عقد، بلا ترسيمات، لا يلتزمون لأحد أو لشيء بعد أن أداروا أظهرهم لكثيب الحياة!…
… ما أن وصل أبو العلاء، حتّى رأى على تليفونه اسم أمينيائيل!…
فتح رسالة الإس إم إس التي فاجأته ف الصميم:
«عزيزي أبا العلاء، نحتاجك في مهمّة عاجلة: السفر إلى الدار الفانية، للحياة فيها عمرا جديدا، ولكتابة تقرير عن أوضاعها الراهنة، لاسيّما عمّا يدور في بلاد العرب التي لا يفهم أحد هنا كيف وإلى أين تسير؟
سيكون اسمه التقني «تقرير الهدهد». ما رأيك؟
لك أفضل الشكر والأمنيات بالتوفيق والسعادة.
أمينيائيل».
نظر أبو العلاء إلى تليفونه ليتأكّد أنّ تاريخ اليوم (31 ديسمبر، 2008) ليس الفاتح من أبريل بتقويم الأرض! ضحك ساخرا! ثم دوّت قهقهته وهو يستوعب أخيرا أنّه لم يستلم أقلّ من طلب بالسفر إلى كوكب مات فيه قبل حوالي ألف سنة، يبعد عنه مليارات السنين الضوئيّة، لبدء حياة جديدة هناك!
أثارت جلجلة نوبة ضحكه رفاقه وهم في اصطخاب… حاولوا تهدئة أبي العلاء بكلّ الوسائل، عبثا… أقلقهم طول نوبته غير الاعتيادي، وتطورها المتصاعد… لجؤوا للحل القيصري: عضّ فرويد وآينشتاين الأذن اليسرى واليمنى لأبي العلاء، عطف ماركس يد أبي العلاء اليمنى، شدّ داروين لحيته، فيما تنحّى بيكاسو ليرسم المنظر بمتعة هائلة!
هدأ أبو العلاء أخيرا، سوّى شعره الطويل ورتّب لحيته المدعوكة، استعاد هدوءه شيئا فشيئا، تمتم: «مداعبات أهل السماء تختلف كثيرا عن مداعبات أهل الأرض»!
هيفاء بيطار.. وجوه من سوريا
هيفاء بيطار قاصة وروائية سورية من مواليد مدينة اللاذقية سنة 1960، طبيبة اختصاصية في أمراض العيون وجراحتها. عملت في المستشفى الحكومي في مدينة اللاذقية، وعيادتها الخاصة. تميّز إنتاجها القصصي والروائي بالغزارة وانتشاره الواسع. زاوجت هيفاء بيطار بين عملها في المجال الطبي وممارسة الكتابة الأدبية بشكل مكثف ومتناغم. تقول عن علاقة الأدب والطبّ: «لقد لعب «الطب» دوراً، أراه رائعاً، في صقل موهبتي ككاتبة، وقلت مراراً أن أنجح زواج هو زواج الطب والكتابة، فالطب والكتابة يهتمان بالإنسان، وأعترف أنني كنت أمارس الطب بعين كاتبة وأمارس الكتابة بموضوعية طبيب، كتبت عشرات القصص القصيرة من وحي عملي كطبيبة (خاصة أنني كنت أعمل في المشفى الوطني في اللاذقية) وقبلها بثلاث سنوات ونصف في مشفى المواساة في دمشق أثناء اختصاصي في طب العيون، معظم هؤلاء المرضى دخلوا إلى معملي الداخلي وتحولوا قصصاً… أمارس الطب بعين إنسانية أي بعين كاتبة، ويمكنني التحدث عن أكثر من مئة قصة قصيرة كتبتها من وحي عملي كطبيبة. وأحب أن أجمعها في كتاب، كما كتبت روايتين من وحي عملي كطبيبة هما: نسر بجناح وحيد (أحكي فيها عن معاناة الأطباء الذين لا يجدون عملاً براتب محترم حال تخرجهم) ورواية (هوى) التي أحكي فيها عن الفساد الطبي وفساد القضاء وهي رواية واقعية تماماً».
تستوحي هيفاء بيطار في أعمالها القصصية والروائية عالمها الخاص في مجالها الطبي كما الشأن في هذا النصّ من كتابها «وجوه من سوريا»: «علب الدواء مكدسة في درجه، يمازحها ويخاطبها كصديق فاتحا قلبه ليبوح بمكنوناته ويؤكّد للحبوب الصغيرة أنّها أكثر رحمة من كلّ البشر حوله، حتّى من الأقرباء والأصدقاء والأولاد والأحفاد… ليس في حياته من أوليات أكثر أهمية من أن يخزّن قدر استطاعته دواء «اللكزوتان» الذي سمّاه دواء الرحمة الذي لولاه لانهار وربّما انتحر، دواء الرحمة والحنان الذي لم يخذله أبدا أبدا، بينما خذله البشر: حبّة صغيرة لونها أبيض تهبه ذراتها وتلاحق منابع القهر والألم في روحه وتقضي عليها، حبّة صغيرة تخزن حُبا هائلا في قلبها. أجل، إنّه يحسّ أنّ لحبّة الدواء قلبا، وليس عبثا أن يكون اشتقاق كلمة حَبّة من الحبّ، لعلّ الكثيرين قبله فكّروا أنّ كلمة حَبّة مشتقة من حُبّ.
مجرّد حَبّة دواء صغيرة ترمّم روحه الممزقة من الألم، تعفيه أن يشحذ الحنان والحبّ من بشر تصحّرت مشاعرهم وجفّت… كان يعيش مُروعا بصمت من أنانية المحيطين به، وفقدان إحساسهم بما يكابد، فيقضي ساعات مثارا ومنهمكا ليعرف ما سبب تصلّب العلاقات بين الناس، وكيف صارت عيونهم زجاجية لا تعكس أيّ تعاطف!
كم من المرّات انتابه الشكّ في أنّ هاتفه معطّل: كيف تمرّ أيام ولا يصله رنين الشوق؟ أين غاب الأحبّة والأصدقاء؟ لقد أحبّهم بصدق وكان كريما بعواطفه وماله معهم، فلماذا انسحبوا من حياته؟ ولماذا، حين يهزمه الحنين وتنهش روحه الوحدة ويتصل بهم، يتنصلون منه بأعذار لا تقنعه؟
هل تتصحر النفس البشرية كما تتصحر الطبيعة؟
… لولا حبّة الرحمة، لولا اللكزوتان، لربما انتحر من هول الوحدة، لكن دواء الرحمة كان ينتشله من ألم روحه الحارق ويحوّل الألم إلى إحساس لطيف أشبه بنسمة. لم يقدم له دواء الرحمة السعادة، لكنّه كان يخدّر آلامه، يحوّل حزنه الصلب الكثيف إلى مادة هشّة، إلى وشاح شفاف…
يوسف إدريس.. تلميذ طبّ
… كنت من الطلبة الذين أتاح لهم الحظ الالتحاق بكلية الطب… لقد تخيلت عندما ارتديت المعطف الأبيض وأمسكت بمبضع التشريح الخاص بالضفادع والحشرات في السنة الإعدادية أنني أعبث بمبضعي في جثث الآدميين وأنّ مهارتي في عملية بطن الضفدعة بالمقص لا تقل عن مهارة الدكتور «نجيب مقار» في استئصال كلية أحد الآدميين، وكنت أزهو بلقب دكتور الذي يخلعه علي الناس مجاملة ابتداء من بواب العمارة إلى بنت الجيران التي كنت أختال أمامها بالبالطو الناصع البياض والحقيبة الجلدية الأنيقة… تشبها بكبار الأطباء والسيجارة مثبتة في ركن من فمي لكي تكتمل كلّ معالم «الدكترة»… فكانت النتيجة أن تعلمت التدخين وما زلت أدخن بإدمان وإن كنت أنصح الناس بالإقلاع عن هذه العادة الضارة!
وبعد انتهاء السنة الإعدادية بدأنا الدراسة الطبية الحقيقية… فكنّا نشرح جثث الموتى المحفوظة في الفورمالين، وكنت أتوهم أنني سأقوم باكتشافات هامة في علم التشريح… فكلما شرحت جثة توقعت أنني سأجد شيئا جديدا لم يعرفه الأوائل، كأن أكتشف أنّ للإنسان قلبين لا قلبا واحدا كما هو مبيّن في الكتب!
أمّا الفرحة الكبرى ففي السنة الثالثة… عندما اشتريت سمّاعة حرصت على أن أضعها في الجيب الداخلي للجاكتة بطريقة خاصة تظهر منها جزءا، فيعرف من لا يعرف أنني طالب في الطب!
… وعند ركوبنا في الترام كنّا نتباهى بالحديث عن المرضى الذين فحصناهم هذا اليوم ونكثر متعمدين من استعمال الألفاظ اللاتينية الخاصة بأسماء الأمراض وخاصة إذا كان من بين ركاب الترام حسناء لم تلاحظ السماعات في جيوبنا فنجذب انتباهها بهذا الحديث، لعل وعسى!
وفي السنة الرابعة هبط زهونا وغرورنا عندما وجدنا زملاءنا في المدرسة الثانوية ممن التحقوا بكليات الحقوق أو الآداب أو غيرها تخرجوا وأصبحوا محامين ومدرسين ومآمير ضرائب ومدرسين وصحفيين… ونحن ما زلنا في مرحلة الدراسة نأخذ مصروفا من أهلنا!
… واقترب ميعاد الامتحان النهائي، وظفر السعداء منّا بالنجاح… وفجأة تحطمت الآمال الكبار التي كانت تراودنا عند بدء التحاقنا بالكلية… فقد كنّا نحلم بأن يفتح كل منّا عيادة خاصة تدرّ عليه الذهب… وفي ظرف سنة لابدّ أن يكون صاحب عزبة وعربة كاديلاك على الأقل! ولكن ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه وانحصرت الآمال الآن بعد التخرج في العمل كأطباء امتياز في مستشفى قصر العيني بمرتب لا يتجاوز عشرة جنيهات… مع العمل ليل نهار، ولكنها فرصة العمر للتمرين في هذا المستشفى الكبير تحت إشراف الأساتذة الكبار.
لويس فرديناند سيلين.. رحلة في أقاصي الليل
إليكم كيف بدأت الأمور. لم أكن قد قلت شيئا على الإطلاق، أي شيء كان «أرتور غانار» هو من دفعني إلى الكلام. وأرتور طالب في كلية الطب مثلي، وصديق لي. التقينا إذن، في ميدان كليشي بعد الغداء، كان راغبا في الحديث إلي، وكنت أصغي إليه. «علينا ألا نبقى في الخارج، قال أرتور، فلنعد أدراجنا» وعدت معه. «هذا الرصيف يصلح لسلق البيض، هكذا بدأ أرتور حديثه، تعال من هنا»، ولاحظنا آنذاك أن الشوارع قد خلت من المارة، بسبب القيظ، وما من سيارات أيضا، لا شيء. الأمر هكذا! وحين تشتد برودة الجو كذلك، تقفر الشوارع تماما. كان هو من ذكرني بذلك، حين قال: «يبدو على الباريسيين الانهماك دوما، رغم أنهم يتنزهون من الصباح وحتى المساء. والدليل أن أحدا لا يشاهدهم قط حين يتعكر الجو، ولا يعود ملائما للنزهة، بسبب شدة البرد أو الحرّ. ويلوذ الجميع ببيوتهم يحتسون القهوة بالكريما وأكواب الجعة. ذلك ديدنهم! يقولون إنه عصر السرعة! ولكن أين هي السرعة؟ عصر التغيرات الكبرى، ولكن كيف؟ لا شيء تغير في الحقيقة، ومع ذلك فهم ما برحوا معجبين بأنفسهم! هذا كل شيء. وليس هذا جديدا أيضا. فحتى الكلمات التي يتداولونها في أحاديثهم لم تتغير كثيرا أيضا، كلمتان أو ثلاث، من هنا وهناك…» كان أرتور فخورا وهو يطنطن بهذه الحقائق المفيدة، فيما مكثنا جالسين، مفتونين بالنظر إلى سيدات المقهى.
ثم تحوّل الحديث إلى الرئيس «بوانكاريه» الذي كان قد ذهب في ذلك الصباح بالذات لافتتاح معرض للكلاب الصغيرة. ثم تطرق أرتور إلى صحيفة الزمن التي أوردت خبر الرئيس: «ألا ترى معي أن «الزمن» نموذج يحتذى في الصحافة» لقد بدأ أرتور غانار يغيظني الآن. «ليس لدينا صحيفة أخرى مثلها للدفاع عن العرق الفرنسي». «إنه بحاجة إلى ذلك، العرق الفرنسي، نظرا إلى أنه غير موجود !» أجبته بلباقة كي أظهر له بأنني لم أكن بالمقابل أقل اطلاعا ومصداقية منه.
«بلى! هناك عرق فرنسي، وعرق أصيل، أصرّ أرتور على موقفه، وتابع بل إنّه السلالة الأكثر أصالة في العالم، ومن ينكر ذلك فهو مخدوع بالتأكيد!». ها هو ذا يسترسل في مضايقتي، ولكنني تمسكت بموقفي. «هذا ليس صحيحا. إن ما تسميه أنت بالعرق ليس سوى هذه النفاية… من أمثالي، المرمّدين المبرغثين الهلعين الذين جنحوا إلى هذه البقعة من الأرض، يطاردهم الجوع، والطاعون والدمامل والبرد، جاؤوا مهزومين من أربعة أقطار الأرض. ولم يكن بمقدورهم الذهاب أبعد من ذلك بسبب البحر، تلك هي فرنسا بالضبط، وأولئك هم الفرنسيون.
… ردّ عليّ بوقار وبشيء من الحزن، ليس آباؤنا أقل قدرا منّا، فلا تأت على ذكرهم بسوء…
-أنت على حق، يا أرتور، بخصوص ذلك، أنت على حق. أولئك الحقودون الطيّعون، المغتصبون المسلوبون، الجوف والبلهاء على الدوام، ليسوا أقل قدرا منّا! يمكنك قول ذلك. نحن لم نغيّر لا جواربنا، ولا أولياء أمورنا ولا أفكارنا، أو أننا سنغير بعد أمد طويل حين لا يعود لذلك أية أهمية. لقد ولدنا أوفياء، وسنهلك نحن أيضا! مثلما هلكوا، جنودا بالمجان، أبطالا للعالم أجمع، وقردة ناطقين.
-ولكن، هناك الحب…
-الحب اللانهائي موجود عند الكلاب يا أرتور، وأنا لديّ كرامتي. أجبته.
-فلنتحدث عنك أنت إذن، لست إلا فوضويا، وهذا كل شيء.
ياله من ماكر صغير، وأنتم ترون ذلك في رده الآن، وفي اعتماده على كل ما كان هناك من أفكار مسبقة.
فاتحة مرشيد.. الملهمات
فاتحة مرشيد شاعرة وروائية مغربية وطبيبة أطفال حازت على جائزة المغرب للشعر سنة 2010. تراوحت كتاباتها بين الشعر والرواية والقصة ومجال تخصصها في طبّ الأطفال من أعمالها في الشعر: «إيماءات» 2002، «ورق عاشق» 2003، «تعال نُمطر» 2006، «أي سواد تخفي يا قوس قزح» 2006، «آخر الطريق أوّله» 2009، «ما لم يُقل بيننا» 2010، «انزع عني الخطى» 2015.
صدر لها في الرواية: «لحظات لا غير» 2007، «مخالب المتعة» 2009، «الملهمات» 2011، «الحق في الرحيل» 2013، «التوأم» 2016. وفي القصة صدر لها: «لأن الحب لا يكفي» 2017.
عن العلاقة بين الكتابة الأدبية والمجال الطبي تقول مرشيد: «أنا إنسان تمتهن الطب وتستبدل – من حين لآخر- سماعتها بالقلم لتشخيص علل المجتمع، إيمانا منها بقدرة الكلمة على ترميم شروخ أرواحنا وعلى أن الإبداع إكسير الحياة. هل عملي بالطب أثر فيّ أدبيا؟ كل ما نفعله وكل ما نقدم عليه يؤثر فينا بصفتنا مبدعين ويترك بصماته على إبداعاتنا. ممارسة الطب بالنسبة لي أكثر من مجرد مهنة إنها تجربة حياة غنية جعلتني أقترب أكثر من جوهر الكائن من معاناته وهشاشته ومواجهته الحتمية للموت.
الطب يكسر الأوهام، والإبداع يرممها وأنا أحتاج إلى أوهامي كي أتحمل الحياة. يتهيأ لي أنني أفهم الأشياء أكثر حين أكتبها… والطبيبة تُسهم في مد الكاتبة بمواضيع وشخوص إلى حدّ كبير، لأنهما ذات واحدة وأنا لا أفرق بينهما». من أجواء عملها الروائي مقطع من روايتها (الملهمات):
(لا أعلم إن كنت تسمعني أم لا…
على وجهكَ سكينة من تعدّى مرحلة القلق، واستسلم لقدره… مخلّفا ترف القلق لي.
لا يعلم الأطباء، ولا الشيطان نفسه يعلم، إن كنتَ ستستفيق يوما من غيبوبتك لتستأنف حياة تشبثت بها بكلّ كيانك.
حياة، لفرط ولعك بها لم تقبل أن يشاركك أحد فيها… حتّى ولو كان شريك حياتك.
كثيرا ما تمنيت أن تسمعني، أن أتكلم، أن أفرغ ذاتي، لكنّك تحبّ الأبواب المغلقة بإحكام، تخلق وراءها حياة لا تزعج حياتك، وتستقر في الغموض.
آه ! كم يستهويك الغموض… وكم يقهرني. كم وددت أن أكون شفافة أمامك… عارية الروح… وكان العري أشدّ ما تخشاه. أمضينا ثلاثين عاما بثيابنا، بأقنعتنا، واحد جنب الآخر. زوجين مثاليين، لا جدال ولا مشاجرة… تمثالين نزيّن بهما وكرنا ونحرس السلالة.
من حسن حظنا، أو من سوئه، لم تكن لدينا مشاكل مادية تعيد العلاقات إلى أبجديتها وتجعل من الكفاح في سبيل لقمة العيش تواطؤا.
تمنيت لو يصهرنا الجوع أو العوز، لو تحتاجني فأظهر شهامتي وارتباطي. تمنيت لو تدخل عليّ ككادح عرقه يفسح له الطريق، لو أحكي لك عن مشاجرتي مع الجارات حول تنظيف السلم، عن أولادنا وتفوقهم في الدراسة، عن ثمن الطماطم الذي تضاعف رغم شتاء وافر المطر… لكن، بيننا خدم وحرس وسائق وطبّاخ ومربيات للأطفال. بيننا سيارات عددها أكثر من عدد أفراد الأسرة. بيننا مسافات أوسع من قصرنا، وسكرتيرات خاضعات لنظام التجديد، بيننا أصدقاء بل معارف وسهرات وهدايا.
بيننا مسافات أبعد من رحلاتك. وصمت… صمت… صمت)
محمد حمودان شاعر وروائي
فليسقط الدهن
اجتمعت يوم أمس أربطة الأحذية بالبلاد، وقد وصل مندوبوها تباعاً من مختلف ربوع المملكة، في جلسة استثنائيّة، من أجل تدارس الردود المناسبة على ما اعتبرته اعتداءً خطيراً على «كرامة» أربطة الأحذية: دهنها بالشحوم ومختلف الفازلينات حتى تتمكن من الانزلاق بسهولة أكبر في ثقوب الأحذية، أو إذا لزم الأمر، في ثقوب المخاصر، كما لو أنها غير قادرة بنفسها على اختراق الثقوب بصورة طبيعية، دون الخضوع لعملية الدهن المؤلمة نفسيا: «منذ فترة طويلة ونحن نخضع لهذه الإهانة التي لم تعد تطاق! »، حسب تعبير أحد المندوبين. على أي حال، فإن الجلسة، على الرغم من الشعور القوي بالغضب الذي سادها، عقدت في جوّ يطبعه الهدوء، باستثناء حادث صغير طرأ في نهاية الأشغال. فقد أظهر جميع المندوبين، سواء كانوا من الجلد أو القماش، انضباطاً مثالياً وروحًا عالية من التحضر. كان الجميع مع ضبط النفس، ولكن مع عقد العزم على مواجهة الإهانة ومحاربتها!
ومن المفارقات أن يكون التوتر والاضطراب واضحين وملموسين، ليس في الداخل، بل خارج الــ«غولدن شولايس»، القصر الذي عقدت فيه الأربطة مؤتمرها. لقد كانت مئات الأحذية فعلاً، وألسنتها متدلية، مكدسة متجمهرة عند مدخل للقصر، وهي تنتظر بفارغ الصبر وعظيم القلق نتيجة المناقشات.
«ماذا لو قررت أربطة الأحذية الدعوة إلى إضراب عام؟»، تساءلت الأحذية! وسرعان ما تحوّل السؤال إلى بداهة، فتناقلت الأحذية الشائعة، حتى اتخذت أبعاداً غير متوقعة.
إنها لساعات عصيبة! فبدون أربطة، ستبدو الأحذية المسكينة «ذات الثقوب» سخيفة ومثيرة للازدراء والضحك، أليس كذلك؟ بل هو كذلك!
وأدهى من ذلك أنها كانت تخشى، بغض النظر عن الجانب الجمالي، أن تجد نفسها في حالة بطالة إذا ما تم تنفيذ التهديد، لأن ذلك يعني تعميم استعمال الأحذية بدون أربطة! يا للكارثة!
خلال الصباح، التأمت الأربطة، في مجموعات صغيرة، داخل أوراش عمل للمناقشة والتفكير، وانتخبت لاحقًا كل مجموعة رباطا لتمثيلها وتقديم طريقة العمل المقترحة إلى الجمع العام.
لا ينبغي عادة تسريب أي شيء من اللقاءات التي تعقد في جلسات مغلقة، إلا أن رباطا ثرثارا للغاية باح لنا ببعض الأسرار. وفقًا لروايته، فإن النقاشات كانت عاصفة، وكادت الجلسة أن ترفع، لو لم يتم تدارك الأمر في اللحظة الأخيرة، عبر التوصل إلى حلّ توافقي. فقد دعت بعض الأربطة، التي تعتبر «متطرفة»، وتجنح إلى الحرب، إلى ارتكاب أعمال راديكالية، لا سيما أن رياح التمرد والتغيير تهب في المنطقة حاليًا، حسب اعتقادهم.
«سنخنق تلك الخنازير السمينة الفاسدة، التي لا تتورع عن الاختلاس، وبالتالي الاغتناء على حسابنا!؛ سنقطع أيدي كلّ من يجرؤ على دهننا!؛ وسنربطه، ونحن ندخل من فتحة الشرج، ونخرج من الفم، ثم نربط عقدة على مستوى البطن، ونرمي بالحزمة إلى مزبلة التاريخ!». قالت بنبرة مهددة وهي تردد: «فليسقط الدّهن»!.
أما أربطة أحذية أخرى، وصفتها مصادرنا بالانتحارية، فقد هدّدت بترك نفسها عرضة للتلاشي: «ما علينا إلا التخلص من السدادات، وبذلك سنتلاشى شيئا فشيئا، ونفقد بالتالي صلابتنا، ولن نتمكن عندئذ، مهما تم دهننا بأفضل أنواع الفازلين، من اختراق أي ثقب، حتى لو كان فجوة عظيمة!»، بل دعت إلى انتحار جماعي: «نفضل الموت على أن نستمر في الخضوع للدهن باستمرار»!
في المساء، عندما كانت الجلسة على وشك الانتهاء، حاول أحدهم، في خطوة مذهلة ويائسة في آن، أن يضرم النار في جسده لإنارة الطريق للآخرين، وكان المسكين مجبرا على دهن نفسه بطن من الشحوم حتى يوقد اللهيب!
أفضى الحادث إلى تدخل جهاز الأمن، وخرج رباط الحذاء سالما إلا من بعض الحروق السطحية. لا داعي للقلق إذن. وباختصار، بدت خطوة رباط الحذاء التعيس كأنها «مفرقعة مبللة»، مثلها مثل الجلسة الاستثنائية لأربطة الأحذية التي طُبل وزمر لها، ولم تسفر، في آخر المطاف، عن أي قرارات حاسمة.
جاء البيان الختامي ليتوج المناظرات، فصرحت الأربطة، بصيغة متوازنة، إنها مصممة على محاربة العبث بها، لكن مع الإقرار في نفس الآن أن المعركة طويلة الأمد، وأنه لا يمكن التخلص، بين عشية وضحاها، من ممارسة راسخة وواسعة الانتشار، على جميع المستويات.
ما تزال هناك الكثير من التضحيات يجب بذلها!
ثم قال لنا أخيراً رِباطُ حذاء متذمر، بخيبة أمل لا تخلو من سخرية: «كيما قال سيدي عبد الرحمن المجذوب: والنيييت ما كين غير ادهن السير يسير»…
سعد سرحان.. بيان حقيقة
سعد سرحان شاعر مغربي قدم إلى الشعر بقوة من عالم الرياضيات التي شغف بها ودرّسها. لا يمكن الحديث عن جيل التسعينات دون التطرق إلى سعد سرحان وتجربته الشعرية المتفردة، كان من مغاوير الغارة الشعرية ومدّها بنفسه الشعري الذي يبني لغته الخاصة وصوره التي تخرق أفق انتظار القارئ. فهو يقول على سبيل المثال: (لكم تشاكسني هذه القصائد الصغيرة: مرّة/ أُغلق دونها منافذ الورق/ ومرارا أُصفح عنها/ أعرف أنّها ستكبر/غدا / وقد توشحني بوسام/ من درجة طفل).
من أعماله الشعرية: حصاد الجذور 1994 / شكرا لأربعاء قديم 1999 / نكاية بحطاب ما 2004 / أكثر من شمال أقل من بوصلة 2013 …
1
لست القطيع
ولا عصا الراعي
لست العشب
ولست الذئب
أنا دغل القصب
حيث طفولة الناي
تحلم بالمروج.
2
لست الطريق
ولا أهوال الطريق
لست الزوادة
ولست التعب
أنا الخطو
أغُذُ نفسي
خوفا من الوصول.
3
لست البحر
ولا عيون الغرقى
لست الأنواء
ولست جزر المرجان
أنا زجاجة
في قلبها رسالة
إلى اليابسة.
4
لست الصحراء
ولا أعشابها الغريبة
لست النباح
ولست القافلة
أنا عطش السراب.
5
لست الجبل
ولا وعوله
لست الصخور
ولست الثلوج
أنا وصية غامضة
في ذاكرة الوديان.
6
لست الغابة
ولا فأس الحطّاب
لست الكثافة
ولست العمق
أنا الأنساغ
حبر التراب الذي
يكتب الأوراق.. والثمر.
7
لست الحديقة
ولا مقصّ البستانيّ
لست الشجر
ولست الممرات الحجر
أنا روح الشمس
في أجساد الظلال.
8
لست الليل
ولا دماءه القاتمة
لست البدر
ولست الخفاش
أنا شريط الأحلام
في الهزيع الأخير
من اليأس.
9
لست الغيوم
ولا ما يُضْمِرُ عِهْنُها
لست الرذاذ
ولست الصاعقة
أنا فرح الأرض
كلما خطرت للسماء.
10
لست الدالية
ولا خضرتها المترنحة
لست الحَصْرَم
ولست النبيذ
أنا عنقود شمس
في ليل
الندامى.
11
لست العبارة
ولا ضيقها
لست الرؤية
ولست الرؤيا
أنا دمعة حبر
في عين الكتابة.
12
لست الشاعر
ولا ما يذرف
أو يقترف
لست وعيد البياض
ولست وعد السواد
أنا شبح المعنى
يطلّ
من شرفة المبنى
على
ظله.
ديوان (أكثر من شمال أقلّ من بوصلة) ص5 ص10
عبدالرحمن منيف.. مهندس بترول في مدن الملح
– لا بدّ للذي يتّبع مسار حياتك أن يلاحظ أنّك بدأت بدراسة الاقتصاد، حيث حصلت على الدكتوراه في اقتصاديات النفط، قبل أن تتحوّل إلى الأدب، كيف جئت إلى الرواية من النفط؟
+ جئت إلى الكتابة عن طريق الصدفة أو عن طريق الضرورة. كان رهاني الأكبر في الحقل السياسي، وبعدما امتحنت هذه الإمكانية، تبيّن لي أنّ الصيغ السياسية الموجودة غير كافية وغير مرضية، وبالتالي كانت هناك بداية البحث عن صيغة للتواصل مع الآخرين وللتعبير عن الهموم، هموم المرحلة والجيل. وباعتبار أنني كنت هاوي قراءة، وبخاصة في مجال الرواية، افترضت أنّه، من خلال هذه الوسيلة، وبما أنني كنت أستطيع التعبير، من الممكن أن أعوض أداة بأداة أخرى. فبدلا من الحزب السياسي أو العمل السياسي المباشر، من الممكن أن تكون الرواية وسيلة تعبير. وهكذا جئت، ربما بالمصادفة، إلى الرواية. أمّا في ما يتعلق بالاقتصاد، وبخاصة النفط، فكان عاملا مساعدا في قراءة المجتمع والعوامل المؤثرة، خاصة في المرحلة الحالية. فلذلك من شأن الاقتصاد والعلوم الأخرى أن تساعد الروائي في قراءة المجتمع وفهم عوامل التأثير. وهذا ما يجعله في موقع أفضل في ما يتعلّق بأدواته الروائية.
– لماذا كنت تجد أنّ الصيغ السياسية كانت غير ديموقراطية؟ ألا تخشى، أيضا، أن تتحوّل الرواية إلى خطاب سياسي أكثر من خطاب أدبي؟
+ في ما يتعلّق بالسؤال الأوّل، نحن كجيل، من الممكن أن نطلق عليه اسم جيل انتقالي، كنّا محملين بكم كبير من الأحلام ومن الرغبة في التغيير، وكانت هناك مجموعة من الأحزاب السياسية، قدمت نفسها كصيغة من أجل هذا التغيير. لكن، في الحقيقة، كانت أحلامنا أكبر من إمكانياتنا. والأحزاب السياسية التي كانت قائمة ولا زالت بقاياها موجودة، كانت أضعف وأقل قدرة من عملية التغيير. كانت بدائية في أفكارها وأساليبها، كانت غير متصلة مع حركة المجتمع الداخلية. وبالتالي كان المطروح عبارة عن شعارات أكثر منه برامج سياسية. وعندما واجهت الامتحان الحقيقي، بان قصورها وعجزها، وهذا يفسّر التآكل والتراجع في هذه الأحزاب وكذلك الإنسان. كان عنده نوع من الحلم لأن يكون جزءا من حركة التاريخ، فيكتشف أنّ هذه الأحزاب ليست البيئة المواتية لهذه المهمة.
أمّا بالنسبة إلى الشقّ الثاني، فطبيعي أنّه بدلا من أن يكون خائبا خارج الحزب السياسي، سيتوجّه نحو المجتمع من خلال رؤية سياسية. لكن، بمرور الوقت وبتزايد التجارب، يكتشف أنّ المجتمع أكثر غنى وتنوعا من الخطاب السياسي. ولذلك تتحوّل الرواية إلى قراءة للمجتمع والتعبير عن همومه وأحلامه، وتصبح أكثر من مجرّد خطاب سياسي.
نزار كربوط.. أعيش وسط هذه المفارقة الجميلة
نزار كربوط شاعر وكاتب مغربي ولد سنة 1982 بمدينة تازة. يعمل طبيبا متخصصا في طبّ وجراحة الأسنان. بدأ شاعرا من خلال مجموعات شعرية «رماد العاشق» 2007، و«أحمري يبتلعه السّواد» 2010، و«سقف من فراشات» 2013، و«أهب وجهي للفوضى» 2017. صدرت له رواية أولى «العرض ما قبل الأول» 2020، وهذه السنة روايته الثانية «سيّدات العزيز». بخصوص العلاقة بين الأدب والمجالات العلمية عموما كان لنا هذا الحوار:
- الشائع أن الإبداع الأدبي، والفني كذلك، منحصر في الأدباء دراسة وتكوينا. لكن الواقع شيء آخر تؤكده الأعداد المعتبرة من الكتّاب الذين أتوا إلى الأدب من بوابة العلوم من الطب إلى الهندسة… والحالة المعروفة الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف في قولته الشهيرة: «الطب زوجتي والأدب عشيقتي»، كيف تنظر إلى هذه العلاقة؟
+ أرفض رفضا قاطعا هذه الفكرة الشائعة، وفي اعتقادي أن دراسة الأدب والفنون لا تصنع لنا أدباء وفنانين، بل هي التجربة الإنسانية لكلّ فرد ما يحدّد طبيعة إبداعه ومصداقية عوالمه الأدبية. عبر التاريخ كلّه لم يكن الفعل الإبداعي، أبدا، حكرا على الدارسين والأكاديميين، بل هذا، في نظري الشخصي، لا يخدم حرية العمل الإبداعي ويضع الكاتب في قالب محددة جدرانه سلفا، وغالبا ما يكون متأثرا بالخلفية الأكاديمية، فهذه الأخيرة تضع الكاتب في إطار معيّن عكس ما ينبغي أن يكون عليه، لأنّ هذا يقتل روح الإبداع وعفويته. تعودنا على الشائع في المشهد الأدبي والفني، لكنّ الحقيقة عكس ذلك تماما، فكلّ الكتاب والفنانين الكبار، الذين اطّلعت على تجاربهم منذ الصبا، فوجئت حينما بحثت في سيرهم الذاتية وعرفت من خلال ذلك أنهم بعيدون كلّ البعد عن الدراسات الأدبية والفنية، فمنهم من كان طبيبا أو مهندسا، أو رجل قانون أو جنديا أو بحارا واللائحة طويلة… على سبيل المثال، كما تفضلت وذكرت، اسم تشيخوف، سأضيف مثلا لوران غاسبار ودوستويفسكي، بول أوستر وعلاء الأسواني، وإبراهيم ناجي وخوان رولفو، الكاتب المكسيكي صاحب رائعة «بيدرو بارامو»، الذي كان يشتغل في شركة لبيع الإطارات، هذا يعني أنّ الحياة دائما ما تلقننا دروسا والدرس الأكبر هو أنّ الأدب ليس حكرا على أحد، ومن يعتقد أنّ لديه السلطة كي يتحكّم في هذا الأمر مخطئ وبعيد عن جوهر الإبداع في حد ذاته. فالصورة التي أصبحت تغطي غابة إبداعية مهمة هي تلك الفكرة التي رسخت وأصبحت مغالطة يؤمن بصحتها العديد من الناس، فكرة المبدعين الكتاب -على سبيل المثال- الذين يشتغلون بالتدريس أو الصحافة ويتعاملون بشكل يومي مع اللغة والكلمات، هذا ما جعل البعض أو الأغلبية يظنّون أنّهم يمتلكون القدرة على تطويع اللغة، كما يفعل عامل الخزف مع الطين، لكن هذا الأمر غير صحيح لأننا، في كثير من الأحيان، عندما نقترب من الشيء أكثر من اللازم نفسده. في اعتقادي أن الإبداع الأدبي ينتصر للمبدعين الذين يعيشون الأدب قبل أن يمارسوه.
– كيف نسجت هذه العلاقة بين الطبّ والشعر أولا ثمّ الرواية لاحقا؟
+ هي علاقة حبّ طبعا، في بعض الأحيان يحدث للمرء أن يحبّ مجموعة من الأشياء ولا يستطيع أن يترك واحدا على حساب الآخر. حبّي للأدب والشعر بدأ منذ أيام المراهقة، في تلك الأيام كانت للكتاب سطوة كبيرة مثل سطوة وسائل التواصل الاجتماعي في وقتنا هذا، وكان للكتاب تأثير على تطور شخصية كل فرد. كانت النصوص الأدبية حاضرة بشكل يلفت الأنظار ويشدّ كل من يحب الإبداعات العالمية… أصبت بعدوى الشعر والكتابة في سن مبكرة، لكنّ جانبا آخر منّي كان يشدّني نحو الفيزياء والكيمياء والرياضيات والاطلاع على التجارب العلمية المختلفة والمتنوعة. ومنذ ذلك اليوم حتى الآن، أعيش وسط هذه المفارقة الجميلة والتي تعبر في الأساس عن الحياة، لأنّ الحياة في حد ذاتها مليئة بالمفارقات أيضا. عندما أتعامل مع نصّي الأدبي الذي أكتبه، سواء كان شعرا أو نثرا أو سردا، أدقق فيه بعين الطبيب الذي لا ينبغي له أن يغفل مجموعة من التفاصيل الدقيقة والجزئيات الصغيرة التي تحدث فرقا كبيرا في التشخيص والعلاج أيضا. أنظر إلى كتاباتي بعين الطبيب القلقة التي لا تطمئن أبدا للأعراض الظاهرة وتبحث عن الأشياء المبطنة مثل ما يفعل الطبيب المتخصص في الطب الباطني، أمّا عندما أمارس الطبّ أجد فيه جانبا من الشعر والسرد والفنون، للطب أيضا نصيب في الفنون وهو فنّ العلاج الذي يبدأ بفنّ الكلام، فوقع الكلمة على المريض يكون كبيرا جدا، خصوصا إذا لم يحسب لها حساب، فيمكن تشخيص المرض بكل الطرق المتاحة والإمكانيات، لكن طريقة الإعلان عنه وشرحه للمعني بالأمر قد تحدث فرقا كبيرا. تجربتي في الطب والشعر والرواية علمتني الكثير، والشيء الأكبر والأهم هو أني، في كل مرة أقول «تعلمت»، تعيدني إلى نقطة البداية وإلى الصفحة الأولى في كتاب الحياة.
– هل يمكن القول إنّ الثقافة العلمية البحتة قد تشكّل رافدا مهما في العملية الإبداعية الأدبية كما عززتها تجارب كتاب مرموقين مزجوا بين الاثنين باقتدار كبير؟
+ لقد صرنا في زمن الذكاء الاصطناعي حيث صار للإنسان متّسع وأرض معرفية كبيرة. الكاتب في زمننا هذا، وأعني الكاتب المغربي على الخصوص، عليه أن يؤمن بفكرة مهمة جدا وهي أننا صرنا في عالم إيقاع المعلومات فيه سريع جدا. العالم يتغيّر ويتجدد باستمرار وداخل هذا العالم هناك القارئ الذي يشكل جزءا منه، كما أنّ المعلومة صارت في متناول الكلّ وبسهولة. فلا ينبغي أن يخاطب الكاتب قارئا ذكيا بثقافة قديمة جامدة لا تتجدد ولا تستند إلى كلّ جديد. لا شكّ أنّ الثقافة العلمية تساعد الكاتب على تطوير مشروعه الإبداعي وتعزيز تجربته الإبداعية أو الكتابية. هناك شعراء عبر العالم يهتمون بعلم الفلك مثلا ويفاجئون القارئ بقصائد تجمع بين الشعر والنجوم وعلوم الفلك، وهناك روائيون يهتمون بالتجارب العلمية ويطالعون المجلات العلمية ويشاهدون البرامج الوثائقية عن الجريمة والحيتان والتكنولوجيا والطب الشرعي وموضوعات مختلفة… لما في ذلك من إضافة مهمّة لتجربتهم في الكتابة، وهذا ما يوسّع حقلهم البصري ويجعلهم ينفتحون على أفكار جديدة ومشاهد جديدة ومختلفة عمّا هو مألوف، تقدّم خدمة كبيرة لتجربتهم الإبداعية. فعلى سبيل المثال لا يمكن لكاتب أن يتناول موضوع الجريمة مثلا، وخصوصا جريمة قتل يعتمد فيها نصّه السردي على طبيب شرعيّ يقدم تقريرا عن أسباب وفاة معينة وآثار مواد كيميائية على أظافر الجثة… كلّ هذه التفاصيل، التي يمكن أن يتطرق لها كاتب الرواية، تستند إلى مقالات علمية ومراجع… أذكر مثالا آخر أحبه هو الكاتب الأمريكي بول أوستر، الذي تشعر وأنت تقرأ رواياته بأن لديه اهتماما كبيرا بعلم النفس وحتّى الطبّ العصبيّ أو طب المخ والأعصاب، لأن في نصوصه الأدبية تجربة علمية كبيرة، ويشعر القارئ، الذي يقرأ بول أوستر، بأنّه أمام شخص مطلع على الكثير من المجالات يوظفها في إغناء تجربته الروائية.
حبيب عبد الرب سروري.. تقرير الهدهد
أمام أهمّ وأكبر متاحف السماء السابعة والسبعين يقع أشهر مقاهيها !… يسمّيه أهل الديار: «مقهى الكوكبة» !
السبب: ستّة من أعظم مُبدعي وعباقرة كوكب الأرض يرتادونه كلّ يوم: داروين، آينشتاين، كارل ماركس، فرويد، بيكاسو وأبو العلاء المعري!
أخيرهم هذا (الذي عاش قبلهم بأكثر من 800 سنة) وُلد لسوء الحظّ في أمّة غافلة، لم تُدرِّس كتبه في مدارسها وجامعاتها، لم تحتفل به، لم تُشيّد تماثيله في أبواب الجامعات، وفي أعلى الهضاب… لم تلتفت لمشروعه لحظة واحدة على الأقلّ !…
ما أحمقها: لو صعدت على كتفيه السامقتين لَرأتْ أبعد وأفضل… لشاهدَتْ ما وراء السياج، ما وراء الأفق!…
… غير أنّ داروين (مكتشف أصل الأنواع)، آينشتاين (مكتشف طبيعة الزمن وعلاقة المادّة بالطاقة)، ماركس (مكتشف دور المال في حياة البشر، صاحب المادّية الديالكتيكية و«مهمّة الفلسفة تغيير العالم بدلا من الاكتفاء بتفسيره») فرويد (مكتشف خبايا النفس)، بيكاسو (محرّر اللوحة من سجن الواقع)، وأبا العلاء (فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة)، هم أكثر من يحجّ إلى المقهى بانتظام، كلّ عصر! لهم طاولة خاصة محجوزة بأسمائهم في بلكونته على الدوام!…
«ستة قتلة»، كما يُسمّيهم سكّان السماء 77: داروين (قاتل الميتافيزيقيا)، آينشتاين (قاتل الزمن المطلق)، ماركس (قاتل نوم الفلاسفة)، فرويد (الذي أطلق النار على القفل الذي يغلق اللاوعي)، أبو العلاء (مفجّر الديناميت في أرض اللاعقل والأكاذيب الكبرى)، بيكاسو (مدمّر سجن الواقع في الفنّ التشكيلي)!…
يا لجلال مقهى كهذا ترتاده أرهب عقول البشرية من فجر التاريخ، زبدة الفكر والعلم والفنّ، يتحدثون في كلّ شيء، ولا شيء، بتلقائية وحيوية وتفاعل جماعي، بلا عقد، بلا ترسيمات، لا يلتزمون لأحد أو لشيء بعد أن أداروا أظهرهم لكثيب الحياة!…
… ما أن وصل أبو العلاء، حتّى رأى على تليفونه اسم أمينيائيل!…
فتح رسالة الإس إم إس التي فاجأته ف الصميم:
«عزيزي أبا العلاء، نحتاجك في مهمّة عاجلة: السفر إلى الدار الفانية، للحياة فيها عمرا جديدا، ولكتابة تقرير عن أوضاعها الراهنة، لاسيّما عمّا يدور في بلاد العرب التي لا يفهم أحد هنا كيف وإلى أين تسير؟
سيكون اسمه التقني «تقرير الهدهد». ما رأيك؟
لك أفضل الشكر والأمنيات بالتوفيق والسعادة.
أمينيائيل».
نظر أبو العلاء إلى تليفونه ليتأكّد أنّ تاريخ اليوم (31 ديسمبر، 2008) ليس الفاتح من أبريل بتقويم الأرض! ضحك ساخرا! ثم دوّت قهقهته وهو يستوعب أخيرا أنّه لم يستلم أقلّ من طلب بالسفر إلى كوكب مات فيه قبل حوالي ألف سنة، يبعد عنه مليارات السنين الضوئيّة، لبدء حياة جديدة هناك!
أثارت جلجلة نوبة ضحكه رفاقه وهم في اصطخاب… حاولوا تهدئة أبي العلاء بكلّ الوسائل، عبثا… أقلقهم طول نوبته غير الاعتيادي، وتطورها المتصاعد… لجؤوا للحل القيصري: عضّ فرويد وآينشتاين الأذن اليسرى واليمنى لأبي العلاء، عطف ماركس يد أبي العلاء اليمنى، شدّ داروين لحيته، فيما تنحّى بيكاسو ليرسم المنظر بمتعة هائلة!
هدأ أبو العلاء أخيرا، سوّى شعره الطويل ورتّب لحيته المدعوكة، استعاد هدوءه شيئا فشيئا، تمتم: «مداعبات أهل السماء تختلف كثيرا عن مداعبات أهل الأرض»!
هيفاء بيطار.. وجوه من سوريا
هيفاء بيطار قاصة وروائية سورية من مواليد مدينة اللاذقية سنة 1960، طبيبة اختصاصية في أمراض العيون وجراحتها. عملت في المستشفى الحكومي في مدينة اللاذقية، وعيادتها الخاصة. تميّز إنتاجها القصصي والروائي بالغزارة وانتشاره الواسع. زاوجت هيفاء بيطار بين عملها في المجال الطبي وممارسة الكتابة الأدبية بشكل مكثف ومتناغم. تقول عن علاقة الأدب والطبّ: «لقد لعب «الطب» دوراً، أراه رائعاً، في صقل موهبتي ككاتبة، وقلت مراراً أن أنجح زواج هو زواج الطب والكتابة، فالطب والكتابة يهتمان بالإنسان، وأعترف أنني كنت أمارس الطب بعين كاتبة وأمارس الكتابة بموضوعية طبيب، كتبت عشرات القصص القصيرة من وحي عملي كطبيبة (خاصة أنني كنت أعمل في المشفى الوطني في اللاذقية) وقبلها بثلاث سنوات ونصف في مشفى المواساة في دمشق أثناء اختصاصي في طب العيون، معظم هؤلاء المرضى دخلوا إلى معملي الداخلي وتحولوا قصصاً… أمارس الطب بعين إنسانية أي بعين كاتبة، ويمكنني التحدث عن أكثر من مئة قصة قصيرة كتبتها من وحي عملي كطبيبة. وأحب أن أجمعها في كتاب، كما كتبت روايتين من وحي عملي كطبيبة هما: نسر بجناح وحيد (أحكي فيها عن معاناة الأطباء الذين لا يجدون عملاً براتب محترم حال تخرجهم) ورواية (هوى) التي أحكي فيها عن الفساد الطبي وفساد القضاء وهي رواية واقعية تماماً».
تستوحي هيفاء بيطار في أعمالها القصصية والروائية عالمها الخاص في مجالها الطبي كما الشأن في هذا النصّ من كتابها «وجوه من سوريا»: «علب الدواء مكدسة في درجه، يمازحها ويخاطبها كصديق فاتحا قلبه ليبوح بمكنوناته ويؤكّد للحبوب الصغيرة أنّها أكثر رحمة من كلّ البشر حوله، حتّى من الأقرباء والأصدقاء والأولاد والأحفاد… ليس في حياته من أوليات أكثر أهمية من أن يخزّن قدر استطاعته دواء «اللكزوتان» الذي سمّاه دواء الرحمة الذي لولاه لانهار وربّما انتحر، دواء الرحمة والحنان الذي لم يخذله أبدا أبدا، بينما خذله البشر: حبّة صغيرة لونها أبيض تهبه ذراتها وتلاحق منابع القهر والألم في روحه وتقضي عليها، حبّة صغيرة تخزن حُبا هائلا في قلبها. أجل، إنّه يحسّ أنّ لحبّة الدواء قلبا، وليس عبثا أن يكون اشتقاق كلمة حَبّة من الحبّ، لعلّ الكثيرين قبله فكّروا أنّ كلمة حَبّة مشتقة من حُبّ.
مجرّد حَبّة دواء صغيرة ترمّم روحه الممزقة من الألم، تعفيه أن يشحذ الحنان والحبّ من بشر تصحّرت مشاعرهم وجفّت… كان يعيش مُروعا بصمت من أنانية المحيطين به، وفقدان إحساسهم بما يكابد، فيقضي ساعات مثارا ومنهمكا ليعرف ما سبب تصلّب العلاقات بين الناس، وكيف صارت عيونهم زجاجية لا تعكس أيّ تعاطف!
كم من المرّات انتابه الشكّ في أنّ هاتفه معطّل: كيف تمرّ أيام ولا يصله رنين الشوق؟ أين غاب الأحبّة والأصدقاء؟ لقد أحبّهم بصدق وكان كريما بعواطفه وماله معهم، فلماذا انسحبوا من حياته؟ ولماذا، حين يهزمه الحنين وتنهش روحه الوحدة ويتصل بهم، يتنصلون منه بأعذار لا تقنعه؟
هل تتصحر النفس البشرية كما تتصحر الطبيعة؟
… لولا حبّة الرحمة، لولا اللكزوتان، لربما انتحر من هول الوحدة، لكن دواء الرحمة كان ينتشله من ألم روحه الحارق ويحوّل الألم إلى إحساس لطيف أشبه بنسمة. لم يقدم له دواء الرحمة السعادة، لكنّه كان يخدّر آلامه، يحوّل حزنه الصلب الكثيف إلى مادة هشّة، إلى وشاح شفاف…
يوسف إدريس.. تلميذ طبّ
… كنت من الطلبة الذين أتاح لهم الحظ الالتحاق بكلية الطب… لقد تخيلت عندما ارتديت المعطف الأبيض وأمسكت بمبضع التشريح الخاص بالضفادع والحشرات في السنة الإعدادية أنني أعبث بمبضعي في جثث الآدميين وأنّ مهارتي في عملية بطن الضفدعة بالمقص لا تقل عن مهارة الدكتور «نجيب مقار» في استئصال كلية أحد الآدميين، وكنت أزهو بلقب دكتور الذي يخلعه علي الناس مجاملة ابتداء من بواب العمارة إلى بنت الجيران التي كنت أختال أمامها بالبالطو الناصع البياض والحقيبة الجلدية الأنيقة… تشبها بكبار الأطباء والسيجارة مثبتة في ركن من فمي لكي تكتمل كلّ معالم «الدكترة»… فكانت النتيجة أن تعلمت التدخين وما زلت أدخن بإدمان وإن كنت أنصح الناس بالإقلاع عن هذه العادة الضارة!
وبعد انتهاء السنة الإعدادية بدأنا الدراسة الطبية الحقيقية… فكنّا نشرح جثث الموتى المحفوظة في الفورمالين، وكنت أتوهم أنني سأقوم باكتشافات هامة في علم التشريح… فكلما شرحت جثة توقعت أنني سأجد شيئا جديدا لم يعرفه الأوائل، كأن أكتشف أنّ للإنسان قلبين لا قلبا واحدا كما هو مبيّن في الكتب!
أمّا الفرحة الكبرى ففي السنة الثالثة… عندما اشتريت سمّاعة حرصت على أن أضعها في الجيب الداخلي للجاكتة بطريقة خاصة تظهر منها جزءا، فيعرف من لا يعرف أنني طالب في الطب!
… وعند ركوبنا في الترام كنّا نتباهى بالحديث عن المرضى الذين فحصناهم هذا اليوم ونكثر متعمدين من استعمال الألفاظ اللاتينية الخاصة بأسماء الأمراض وخاصة إذا كان من بين ركاب الترام حسناء لم تلاحظ السماعات في جيوبنا فنجذب انتباهها بهذا الحديث، لعل وعسى!
وفي السنة الرابعة هبط زهونا وغرورنا عندما وجدنا زملاءنا في المدرسة الثانوية ممن التحقوا بكليات الحقوق أو الآداب أو غيرها تخرجوا وأصبحوا محامين ومدرسين ومآمير ضرائب ومدرسين وصحفيين… ونحن ما زلنا في مرحلة الدراسة نأخذ مصروفا من أهلنا!
… واقترب ميعاد الامتحان النهائي، وظفر السعداء منّا بالنجاح… وفجأة تحطمت الآمال الكبار التي كانت تراودنا عند بدء التحاقنا بالكلية… فقد كنّا نحلم بأن يفتح كل منّا عيادة خاصة تدرّ عليه الذهب… وفي ظرف سنة لابدّ أن يكون صاحب عزبة وعربة كاديلاك على الأقل! ولكن ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه وانحصرت الآمال الآن بعد التخرج في العمل كأطباء امتياز في مستشفى قصر العيني بمرتب لا يتجاوز عشرة جنيهات… مع العمل ليل نهار، ولكنها فرصة العمر للتمرين في هذا المستشفى الكبير تحت إشراف الأساتذة الكبار.
لويس فرديناند سيلين.. رحلة في أقاصي الليل
إليكم كيف بدأت الأمور. لم أكن قد قلت شيئا على الإطلاق، أي شيء كان «أرتور غانار» هو من دفعني إلى الكلام. وأرتور طالب في كلية الطب مثلي، وصديق لي. التقينا إذن، في ميدان كليشي بعد الغداء، كان راغبا في الحديث إلي، وكنت أصغي إليه. «علينا ألا نبقى في الخارج، قال أرتور، فلنعد أدراجنا» وعدت معه. «هذا الرصيف يصلح لسلق البيض، هكذا بدأ أرتور حديثه، تعال من هنا»، ولاحظنا آنذاك أن الشوارع قد خلت من المارة، بسبب القيظ، وما من سيارات أيضا، لا شيء. الأمر هكذا! وحين تشتد برودة الجو كذلك، تقفر الشوارع تماما. كان هو من ذكرني بذلك، حين قال: «يبدو على الباريسيين الانهماك دوما، رغم أنهم يتنزهون من الصباح وحتى المساء. والدليل أن أحدا لا يشاهدهم قط حين يتعكر الجو، ولا يعود ملائما للنزهة، بسبب شدة البرد أو الحرّ. ويلوذ الجميع ببيوتهم يحتسون القهوة بالكريما وأكواب الجعة. ذلك ديدنهم! يقولون إنه عصر السرعة! ولكن أين هي السرعة؟ عصر التغيرات الكبرى، ولكن كيف؟ لا شيء تغير في الحقيقة، ومع ذلك فهم ما برحوا معجبين بأنفسهم! هذا كل شيء. وليس هذا جديدا أيضا. فحتى الكلمات التي يتداولونها في أحاديثهم لم تتغير كثيرا أيضا، كلمتان أو ثلاث، من هنا وهناك…» كان أرتور فخورا وهو يطنطن بهذه الحقائق المفيدة، فيما مكثنا جالسين، مفتونين بالنظر إلى سيدات المقهى.
ثم تحوّل الحديث إلى الرئيس «بوانكاريه» الذي كان قد ذهب في ذلك الصباح بالذات لافتتاح معرض للكلاب الصغيرة. ثم تطرق أرتور إلى صحيفة الزمن التي أوردت خبر الرئيس: «ألا ترى معي أن «الزمن» نموذج يحتذى في الصحافة» لقد بدأ أرتور غانار يغيظني الآن. «ليس لدينا صحيفة أخرى مثلها للدفاع عن العرق الفرنسي». «إنه بحاجة إلى ذلك، العرق الفرنسي، نظرا إلى أنه غير موجود !» أجبته بلباقة كي أظهر له بأنني لم أكن بالمقابل أقل اطلاعا ومصداقية منه.
«بلى! هناك عرق فرنسي، وعرق أصيل، أصرّ أرتور على موقفه، وتابع بل إنّه السلالة الأكثر أصالة في العالم، ومن ينكر ذلك فهو مخدوع بالتأكيد!». ها هو ذا يسترسل في مضايقتي، ولكنني تمسكت بموقفي. «هذا ليس صحيحا. إن ما تسميه أنت بالعرق ليس سوى هذه النفاية… من أمثالي، المرمّدين المبرغثين الهلعين الذين جنحوا إلى هذه البقعة من الأرض، يطاردهم الجوع، والطاعون والدمامل والبرد، جاؤوا مهزومين من أربعة أقطار الأرض. ولم يكن بمقدورهم الذهاب أبعد من ذلك بسبب البحر، تلك هي فرنسا بالضبط، وأولئك هم الفرنسيون.
… ردّ عليّ بوقار وبشيء من الحزن، ليس آباؤنا أقل قدرا منّا، فلا تأت على ذكرهم بسوء…
-أنت على حق، يا أرتور، بخصوص ذلك، أنت على حق. أولئك الحقودون الطيّعون، المغتصبون المسلوبون، الجوف والبلهاء على الدوام، ليسوا أقل قدرا منّا! يمكنك قول ذلك. نحن لم نغيّر لا جواربنا، ولا أولياء أمورنا ولا أفكارنا، أو أننا سنغير بعد أمد طويل حين لا يعود لذلك أية أهمية. لقد ولدنا أوفياء، وسنهلك نحن أيضا! مثلما هلكوا، جنودا بالمجان، أبطالا للعالم أجمع، وقردة ناطقين.
-ولكن، هناك الحب…
-الحب اللانهائي موجود عند الكلاب يا أرتور، وأنا لديّ كرامتي. أجبته.
-فلنتحدث عنك أنت إذن، لست إلا فوضويا، وهذا كل شيء.
ياله من ماكر صغير، وأنتم ترون ذلك في رده الآن، وفي اعتماده على كل ما كان هناك من أفكار مسبقة.
فاتحة مرشيد.. الملهمات
فاتحة مرشيد شاعرة وروائية مغربية وطبيبة أطفال حازت على جائزة المغرب للشعر سنة 2010. تراوحت كتاباتها بين الشعر والرواية والقصة ومجال تخصصها في طبّ الأطفال من أعمالها في الشعر: «إيماءات» 2002، «ورق عاشق» 2003، «تعال نُمطر» 2006، «أي سواد تخفي يا قوس قزح» 2006، «آخر الطريق أوّله» 2009، «ما لم يُقل بيننا» 2010، «انزع عني الخطى» 2015.
صدر لها في الرواية: «لحظات لا غير» 2007، «مخالب المتعة» 2009، «الملهمات» 2011، «الحق في الرحيل» 2013، «التوأم» 2016. وفي القصة صدر لها: «لأن الحب لا يكفي» 2017.
عن العلاقة بين الكتابة الأدبية والمجال الطبي تقول مرشيد: «أنا إنسان تمتهن الطب وتستبدل – من حين لآخر- سماعتها بالقلم لتشخيص علل المجتمع، إيمانا منها بقدرة الكلمة على ترميم شروخ أرواحنا وعلى أن الإبداع إكسير الحياة. هل عملي بالطب أثر فيّ أدبيا؟ كل ما نفعله وكل ما نقدم عليه يؤثر فينا بصفتنا مبدعين ويترك بصماته على إبداعاتنا. ممارسة الطب بالنسبة لي أكثر من مجرد مهنة إنها تجربة حياة غنية جعلتني أقترب أكثر من جوهر الكائن من معاناته وهشاشته ومواجهته الحتمية للموت.
الطب يكسر الأوهام، والإبداع يرممها وأنا أحتاج إلى أوهامي كي أتحمل الحياة. يتهيأ لي أنني أفهم الأشياء أكثر حين أكتبها… والطبيبة تُسهم في مد الكاتبة بمواضيع وشخوص إلى حدّ كبير، لأنهما ذات واحدة وأنا لا أفرق بينهما». من أجواء عملها الروائي مقطع من روايتها (الملهمات):
(لا أعلم إن كنت تسمعني أم لا…
على وجهكَ سكينة من تعدّى مرحلة القلق، واستسلم لقدره… مخلّفا ترف القلق لي.
لا يعلم الأطباء، ولا الشيطان نفسه يعلم، إن كنتَ ستستفيق يوما من غيبوبتك لتستأنف حياة تشبثت بها بكلّ كيانك.
حياة، لفرط ولعك بها لم تقبل أن يشاركك أحد فيها… حتّى ولو كان شريك حياتك.
كثيرا ما تمنيت أن تسمعني، أن أتكلم، أن أفرغ ذاتي، لكنّك تحبّ الأبواب المغلقة بإحكام، تخلق وراءها حياة لا تزعج حياتك، وتستقر في الغموض.
آه ! كم يستهويك الغموض… وكم يقهرني. كم وددت أن أكون شفافة أمامك… عارية الروح… وكان العري أشدّ ما تخشاه. أمضينا ثلاثين عاما بثيابنا، بأقنعتنا، واحد جنب الآخر. زوجين مثاليين، لا جدال ولا مشاجرة… تمثالين نزيّن بهما وكرنا ونحرس السلالة.
من حسن حظنا، أو من سوئه، لم تكن لدينا مشاكل مادية تعيد العلاقات إلى أبجديتها وتجعل من الكفاح في سبيل لقمة العيش تواطؤا.
تمنيت لو يصهرنا الجوع أو العوز، لو تحتاجني فأظهر شهامتي وارتباطي. تمنيت لو تدخل عليّ ككادح عرقه يفسح له الطريق، لو أحكي لك عن مشاجرتي مع الجارات حول تنظيف السلم، عن أولادنا وتفوقهم في الدراسة، عن ثمن الطماطم الذي تضاعف رغم شتاء وافر المطر… لكن، بيننا خدم وحرس وسائق وطبّاخ ومربيات للأطفال. بيننا سيارات عددها أكثر من عدد أفراد الأسرة. بيننا مسافات أوسع من قصرنا، وسكرتيرات خاضعات لنظام التجديد، بيننا أصدقاء بل معارف وسهرات وهدايا.
بيننا مسافات أبعد من رحلاتك. وصمت… صمت… صمت)
محمد حمودان شاعر وروائي
فليسقط الدهن
اجتمعت يوم أمس أربطة الأحذية بالبلاد، وقد وصل مندوبوها تباعاً من مختلف ربوع المملكة، في جلسة استثنائيّة، من أجل تدارس الردود المناسبة على ما اعتبرته اعتداءً خطيراً على «كرامة» أربطة الأحذية: دهنها بالشحوم ومختلف الفازلينات حتى تتمكن من الانزلاق بسهولة أكبر في ثقوب الأحذية، أو إذا لزم الأمر، في ثقوب المخاصر، كما لو أنها غير قادرة بنفسها على اختراق الثقوب بصورة طبيعية، دون الخضوع لعملية الدهن المؤلمة نفسيا: «منذ فترة طويلة ونحن نخضع لهذه الإهانة التي لم تعد تطاق! »، حسب تعبير أحد المندوبين. على أي حال، فإن الجلسة، على الرغم من الشعور القوي بالغضب الذي سادها، عقدت في جوّ يطبعه الهدوء، باستثناء حادث صغير طرأ في نهاية الأشغال. فقد أظهر جميع المندوبين، سواء كانوا من الجلد أو القماش، انضباطاً مثالياً وروحًا عالية من التحضر. كان الجميع مع ضبط النفس، ولكن مع عقد العزم على مواجهة الإهانة ومحاربتها!
ومن المفارقات أن يكون التوتر والاضطراب واضحين وملموسين، ليس في الداخل، بل خارج الــ«غولدن شولايس»، القصر الذي عقدت فيه الأربطة مؤتمرها. لقد كانت مئات الأحذية فعلاً، وألسنتها متدلية، مكدسة متجمهرة عند مدخل للقصر، وهي تنتظر بفارغ الصبر وعظيم القلق نتيجة المناقشات.
«ماذا لو قررت أربطة الأحذية الدعوة إلى إضراب عام؟»، تساءلت الأحذية! وسرعان ما تحوّل السؤال إلى بداهة، فتناقلت الأحذية الشائعة، حتى اتخذت أبعاداً غير متوقعة.
إنها لساعات عصيبة! فبدون أربطة، ستبدو الأحذية المسكينة «ذات الثقوب» سخيفة ومثيرة للازدراء والضحك، أليس كذلك؟ بل هو كذلك!
وأدهى من ذلك أنها كانت تخشى، بغض النظر عن الجانب الجمالي، أن تجد نفسها في حالة بطالة إذا ما تم تنفيذ التهديد، لأن ذلك يعني تعميم استعمال الأحذية بدون أربطة! يا للكارثة!
خلال الصباح، التأمت الأربطة، في مجموعات صغيرة، داخل أوراش عمل للمناقشة والتفكير، وانتخبت لاحقًا كل مجموعة رباطا لتمثيلها وتقديم طريقة العمل المقترحة إلى الجمع العام.
لا ينبغي عادة تسريب أي شيء من اللقاءات التي تعقد في جلسات مغلقة، إلا أن رباطا ثرثارا للغاية باح لنا ببعض الأسرار. وفقًا لروايته، فإن النقاشات كانت عاصفة، وكادت الجلسة أن ترفع، لو لم يتم تدارك الأمر في اللحظة الأخيرة، عبر التوصل إلى حلّ توافقي. فقد دعت بعض الأربطة، التي تعتبر «متطرفة»، وتجنح إلى الحرب، إلى ارتكاب أعمال راديكالية، لا سيما أن رياح التمرد والتغيير تهب في المنطقة حاليًا، حسب اعتقادهم.
«سنخنق تلك الخنازير السمينة الفاسدة، التي لا تتورع عن الاختلاس، وبالتالي الاغتناء على حسابنا!؛ سنقطع أيدي كلّ من يجرؤ على دهننا!؛ وسنربطه، ونحن ندخل من فتحة الشرج، ونخرج من الفم، ثم نربط عقدة على مستوى البطن، ونرمي بالحزمة إلى مزبلة التاريخ!». قالت بنبرة مهددة وهي تردد: «فليسقط الدّهن»!.
أما أربطة أحذية أخرى، وصفتها مصادرنا بالانتحارية، فقد هدّدت بترك نفسها عرضة للتلاشي: «ما علينا إلا التخلص من السدادات، وبذلك سنتلاشى شيئا فشيئا، ونفقد بالتالي صلابتنا، ولن نتمكن عندئذ، مهما تم دهننا بأفضل أنواع الفازلين، من اختراق أي ثقب، حتى لو كان فجوة عظيمة!»، بل دعت إلى انتحار جماعي: «نفضل الموت على أن نستمر في الخضوع للدهن باستمرار»!
في المساء، عندما كانت الجلسة على وشك الانتهاء، حاول أحدهم، في خطوة مذهلة ويائسة في آن، أن يضرم النار في جسده لإنارة الطريق للآخرين، وكان المسكين مجبرا على دهن نفسه بطن من الشحوم حتى يوقد اللهيب!
أفضى الحادث إلى تدخل جهاز الأمن، وخرج رباط الحذاء سالما إلا من بعض الحروق السطحية. لا داعي للقلق إذن. وباختصار، بدت خطوة رباط الحذاء التعيس كأنها «مفرقعة مبللة»، مثلها مثل الجلسة الاستثنائية لأربطة الأحذية التي طُبل وزمر لها، ولم تسفر، في آخر المطاف، عن أي قرارات حاسمة.
جاء البيان الختامي ليتوج المناظرات، فصرحت الأربطة، بصيغة متوازنة، إنها مصممة على محاربة العبث بها، لكن مع الإقرار في نفس الآن أن المعركة طويلة الأمد، وأنه لا يمكن التخلص، بين عشية وضحاها، من ممارسة راسخة وواسعة الانتشار، على جميع المستويات.
ما تزال هناك الكثير من التضحيات يجب بذلها!
ثم قال لنا أخيراً رِباطُ حذاء متذمر، بخيبة أمل لا تخلو من سخرية: «كيما قال سيدي عبد الرحمن المجذوب: والنيييت ما كين غير ادهن السير يسير»…
سعد سرحان.. بيان حقيقة
سعد سرحان شاعر مغربي قدم إلى الشعر بقوة من عالم الرياضيات التي شغف بها ودرّسها. لا يمكن الحديث عن جيل التسعينات دون التطرق إلى سعد سرحان وتجربته الشعرية المتفردة، كان من مغاوير الغارة الشعرية ومدّها بنفسه الشعري الذي يبني لغته الخاصة وصوره التي تخرق أفق انتظار القارئ. فهو يقول على سبيل المثال: (لكم تشاكسني هذه القصائد الصغيرة: مرّة/ أُغلق دونها منافذ الورق/ ومرارا أُصفح عنها/ أعرف أنّها ستكبر/غدا / وقد توشحني بوسام/ من درجة طفل).
من أعماله الشعرية: حصاد الجذور 1994 / شكرا لأربعاء قديم 1999 / نكاية بحطاب ما 2004 / أكثر من شمال أقل من بوصلة 2013 …
1
لست القطيع
ولا عصا الراعي
لست العشب
ولست الذئب
أنا دغل القصب
حيث طفولة الناي
تحلم بالمروج.
2
لست الطريق
ولا أهوال الطريق
لست الزوادة
ولست التعب
أنا الخطو
أغُذُ نفسي
خوفا من الوصول.
3
لست البحر
ولا عيون الغرقى
لست الأنواء
ولست جزر المرجان
أنا زجاجة
في قلبها رسالة
إلى اليابسة.
4
لست الصحراء
ولا أعشابها الغريبة
لست النباح
ولست القافلة
أنا عطش السراب.
5
لست الجبل
ولا وعوله
لست الصخور
ولست الثلوج
أنا وصية غامضة
في ذاكرة الوديان.
6
لست الغابة
ولا فأس الحطّاب
لست الكثافة
ولست العمق
أنا الأنساغ
حبر التراب الذي
يكتب الأوراق.. والثمر.
7
لست الحديقة
ولا مقصّ البستانيّ
لست الشجر
ولست الممرات الحجر
أنا روح الشمس
في أجساد الظلال.
8
لست الليل
ولا دماءه القاتمة
لست البدر
ولست الخفاش
أنا شريط الأحلام
في الهزيع الأخير
من اليأس.
9
لست الغيوم
ولا ما يُضْمِرُ عِهْنُها
لست الرذاذ
ولست الصاعقة
أنا فرح الأرض
كلما خطرت للسماء.
10
لست الدالية
ولا خضرتها المترنحة
لست الحَصْرَم
ولست النبيذ
أنا عنقود شمس
في ليل
الندامى.
11
لست العبارة
ولا ضيقها
لست الرؤية
ولست الرؤيا
أنا دمعة حبر
في عين الكتابة.
12
لست الشاعر
ولا ما يذرف
أو يقترف
لست وعيد البياض
ولست وعد السواد
أنا شبح المعنى
يطلّ
من شرفة المبنى
على
ظله.
ديوان (أكثر من شمال أقلّ من بوصلة) ص5 ص10