لم أعهد في أصدقائي الأدباء، أو في الكتاب الذين أعرفهم حماساً للأدب يماثل حماسه، ذلك أنّه - باختصار شديد - ذو إصرار دائب على الأدب والكتابة الإبداعية.
فقد كتب الشعر ردحاً من حياته، وكان شعره خالياً من الإيقاع الخارجي، فهو - من هذه الجهة - قد ينتمي إلى ما يسمى (قصيدة النثر) لكنه من حيث التصوير والبناء الشعري قد ينتمي إلى شعر التفعيلة.
يزخر شعره بالصور المحلّقة، فهو يملك مخيلة واسعة الأفق ، ويرى أن القصيدة يجب أن تكون مليئة بالصور الجديدة المدهشة لذلك تراه يسعى سعياً حثيثاً إلى المزيد من التصوير الفني.
أمّا موضوعات شعره فمتنوّعة، ولكن يغلب عليها موضوعان أساسيان هما: الهم السياسي - الاجتماعي، والغزل. وقد كتب في الحب نيفاً ومئة قصيدة أطلق عليها أصدقاؤه تسمية (الندويات). وقد جمع أشعاره بين دفتي مخطوط بعنوان (نوافذ على الجرح).
تحوّل إلى كتابة القصة القصيرة، فأنجز مجموعة كبيرة من القصص، تقدم بمجموعة منها تحت عنوان (الضّحك على اللحى) إلى مسابقة الدكتورة (سعاد الصباح) في الكويت
ففاز بالجائزة الثانية، وتقدم بمجموعة أخرى تحت عنوان (قهقهات الشيطان) إلى اتحاد الكتاب العرب بدمشق، فوافق على طبعها بالتعاون.
إنّه القاص (مصطفى الحاج حسين)، العين الراصدة، والحدقة الجريئة التي تلج عالمه الداخلي، كما تتسلل إلى عوالم الآخرين دون استئذان، لكنها تخرج منها بعوالم قصصية ناجحة.
إنّه القاص الذي لم يغادر - في قصصه - حلب وضواحيها
فهو مخلص للمكان مرتبط به ارتباطاً وثيقاً، يؤمن بأن أية بقعة من الكون تنبض بمئات القصص، وما على القاص المبدع إلاّ أن يستلّ قلمه، ويحاكي ما حوله تسجيلاً فنياً مبدعاً.
إن كل شيء حوله قابل لتحويله إلى قصة قصيرة، كل حدث مهما كان صغيراً، وكل شخصية أيضاً يملكان كمّاً قصصياً هائلاً لذا نجد قصصه متحركة في جميع الأبعاد، متسوبة إلى كل الزوايا، متنوعة المآكل.
وإذاً، فلا شيء - على الإطلاق - لديه عصي على القصة وبالتالي يغدو كل شيء في الحياة فنّياً، إذا ما تيسّر له فنان يستطيع تطويعه، وتدجينه في أحد الأجناس الأدبية أو الفنّية.
قد يقودنا هذا القول إلى أنّ قصص (مصطفى الحاج حسين) واقعية، وهذا صحيح تماماً، لكنها واقعية تمتلك حرية الاختيار، فهو - على الرغم من إخلاصه للوقائع إلى درجة التسجيلية أحياناً - يتدخل بخياله الفني، ليضفي على الأحداث ما يتلاءم وفكرة القصة، أو الرؤيا التي يحبّ أن يطرحها من خلالها، وهكذا تغدو واقعية (مصطفى) في قصصه واقعية ذات بعدين:
1- واقعية المضمون:
فهو لا يكتب قصة من قصصه بمنأى عن أحد المصادر التالية:
التجارب الذاتية، تجارب الأهل والأقارب، تجارب الأصدقاء، الموروث الشعبي، أو ما يشتهر من أحداث الواقع المحيط.
فهو كاتب مفرط الواقعية، يختار قصصه من الواقع المعيش غالباً، فتطغى على قصصه سمة التجربة الحياتية الحقيقية، فكل ما يكتب عنه - بلا استثناء - رآه حقيقة، وعاش جزءاً منه، أو سمع عنه نقلاً عن رواة ثقاة، لذلك نرى تأثير قصصه - في الغالب الأعم - سريعاً ومباشراً، وهو يعمل على الفكرة أحياناً، لكنها يجب ألاّ تكون فكرة متخيلة، فيكتب قصة الفكرة، ولكن تكون قبساً نموذجياً مما يحدث في الواقع عادة وإن كانت غالبية قصصه قصة حدث. ولنأخذ مثلاً على قصة الفكرة، تلك القصة التي كانت عنوان مجموعته المنشورة(قهقهات الشيطان) حيث نجد (رضوان) بطل القصة، وهو غلام بسيط، يدخل إلى البيت، فيفاجأ بوفاة أبيه، ويرى الجميع مجتمعين يبكون، فلا يستطيع أن يذرف دمعةً واحدةً.
ويبدأ التفكير بأنه يشعر بالأسى لأنّ أباه مات، ولكنه - في الوقت نفسه - يسعد لهذا، ويسمي هذا التفكير وسوسة من الشيطان، فلا يمكنه إلاّ أن يبتسم رغماً عنه، ها هو يقول:
(لقد مات أبي، ينبغي أن أبكي، حسدت أمي ومريم وزوجة عمي وابنتها، حسدتهنّ على دموعهنّ، المرأة دائماً جاهزة للبكاء.. يالسعادتها.. ابتهلت إلى الله أن يمنّ عليّ بدمعة واحدة، لعنت الشيطان الرجيم في سري، صممت آذاني عن سماع صراخه: - لقد أصبحت حرّاً طليقاً - ابتعد أيها الشيطان القذر، فأنا أحبّ أبي رغم كلّ شيء، لقد سامحته.. أسرعت إلى غرفتي، وعلى الفور بللّت إصبعي بلعابي، ثمّ دهنت جفني).
إنّه يتذكر قسوة أبيه عليه، وأنّه كان السبب في عذاباته فهو قد حرمه من متابعة الدراسة، وأجبره على العمل.
وفي محاولة منه لإقناع الشيطان بالحزن على أبيه، يهرب من الجميع خوفاً من أن يكتشفوا ابتساماته. وفي المقبرة يبث شكواه إلى جده الظالم الذي كان السبب الحقيقي في بناء شخصية أبيه.
كثرت الشخصيات في هذه القصة
ولكنها ظلّت جانبية، بسيطة الحضور، وقد سيطر السرد على القصة على الرغم من وجودالشخصيات والحوار القصير الذي يدور بينها، عبر ارتباطها بالبطل، وكانت الخاتمة قوية، فثمة دمعةواحدة حقيقية انحدرت من عينيه، ويحرص (رضوان) على إبقائها، غير أنّ جنازة أبيه ما تزال بعيدة.
2 - واقعية الشكل:
(مصطفى) كاتب غير مولع بالتجديد كثيراً، فهو - غالباً - ما يسرد قصصه بواقعية حادة، معتمداً المباشرة لفظاً ومعنى، واضعاً نصب عينيه قارئه، فهو كثير الاهتمام به، لذا يبتعد عن كل ما يبعده عن القارئ، ولا تكاد أمسية من الفعاليات الثقافية بحلب شارك فيها (مصطفى الحاج حسين) تخلو من تعلق المتلقين بقصصه ومن تأثيرها المباشر فيهم.
إنّ القصة التي يكتبها (حاج حسين) تبقى عالقة في الذهن مستمرة فينا بعد قراءتها، أو سماعها، ولذلك يعود - في ظني - إلى أمرين، أولهما الحرارة التي تمتلكها قصصه، فهو يختار المواضيع الساخنة، بحيث تظهر حيوية متدفقة، توحي بطزاجة الحدث وواقعيته وتلامسنا أياً ما كان انتماؤنا أو اتجاهنا الفكري، وثانيهما بروز جانب النقد الاجتماعي الذي يعتمد على السخرية المرّة غالباً، وهكذا نراه يكشف زيف علاقاتنا الاجتماعية ويقوم بتشريح دواخلنا، ونحن نستمع إليه مستمتعين، ونتابعه لأننا نلمس في قصصه واقعية انتقادية محببة، تسعى إلى تغيير الظواهر السلبية بثورية مقنعة، تتسلل إلى النفس، لتفعل فعلها النقدي الواقعي العميق.
ويقودنا هذا إلى الحديث عن قدرة (مصطفى الحاج حسين) على الدخول إلى عوالم النفس الإنسانية، بحيث يستطيع استكناه الدوافع الداخلية، فيتتبع خطاها بقدرة فائقة، إنّه قادر على سبر أعماق الإنسان ببساطة مدهشة، وبذلك نجد غالبية أبطاله مصابين بعقدة (مركب النقص)، فهم يحاولون جاهدين لتغطية عقدتهم تلك بأساليب وسلوكيات مختلفة، تبدو
مضحكة أحياناً، وهذا ما نجده واضحاً في معظم ققص (حاج حسين)، من مثل قصة (واقتنى تميم نقاده) حيث نرى شخصية (تميم) هذا شخصية مأزومة منذ البداية، فهو شاب مدلل، غير أنه يشعر بالعجز لرسوبه المتكرر بالجامعة، فيجرّب التمثيل في المسرح الجامعي، فيفشل ويغدو أخيراً شاعراً بالمصادفة الساخرة، وهي مصادفة تعتمد النقد الفكري والفني من قبل القاص، فالناقد الشاب هو الذي منح (تميماً) إجازة الشعر، على الرغم من لجنة التقييم وآرائها، في المهرجان الشعري الجامعي، وحيث يصبح بيت (تميم) مزاراً لكل محرري الجرائد والمجلات من العاصمة، فإنّ القصة ترصد المال والجاه قيماً عليا في الأدب والفن.
.
والقاص (مصطفى الحاج حسين) يرسم شخصياته بعناية ويهتم بعرض جزئيات من حياتهم، فقد يضطر - أحياناً - إلى العودة نحو الماضي لاستكمال صورتها منه وغالباً ما يرسم الصفات الجسدية والخارجية للشخصية وذلك للوصول إلى قدر أكبر من تحديدها، وبخاصة تلك الصفات التي تمنح القصة سلاح السخرية الحاد، في النقد الواقعي، وتعرية السلبيات فيه.
إنّ تجربة (مصطفى الحاج حسين) تجربة غنية فيما يبدو فهو قد أفاد من تجربته الشعرية بحيث نلحظ الشعرية في لغته القصصية، وكذلك قدرته على التصوير الفني المتقن، يجسد لنا الشخصيات والأحداث تجسيداً حيّاً ومباشراً، فنكاد نلمسها بأيدينا، وهو - في سبيل ذلك - يصر على جعل المتلقي يلهث وراء الحدث، عبر حشد الكثير من التراكيب والألفاظ والصفات، معتمداً عنصر المبالغة في عملية التشويق، لشد المتلقي الذي يضطر - بدافع الفضول على الأقل - لمتابعة القصة، وكثيراً ما تنجح هذه المحاولة، فتترك آثارها الإيجابية الباقية في المتلقين.
وربما كان من الضروري الإشارة إلى أنّ أجواء قصص (الحاج حسين) هي أجواء متنوعة متباينة، فهو يمتح من الذاكرة أحياناً، فيكتب قصصاً تعود إلى تجارب قديمة، تصور جانباً هاماً من مدينة (الباب) مدينته الأم، فيكشف
من خلالها الواقع المتردي، ويصور ما
فيها من أمراض اجتماعية وأخلاقية وفكرية، وقد يتجه إلى عوالم المثقفين
والأدباء منهم بخاصة فيسجل ما يعتمل في هذه العوالم من زيف وخداع، ويعري شخصيات هذا العالم، بجرأة تصل حدّ الفضيحة، في بعض الأحيان وهذا ما جعلني أطلق عليه ذات يوم صفة (الكاتب الفضائحي)، وكان ذلك في النادي العربي الفلسطيني، في أمسية أقيمت احتفالاً بالأدباء الذين فازوا بمسابقة دار سعاد الصباح من حلب وكان منهم، وكذلك في نادي التمثيل العربي للأدب والفنون.
إنّه كاتب لا بتحرّج من رصد سلوكيات الأدباء أحوالهم الداخلية، ويبدو كل ذلك نابعاً من تجربة حقيقية له، إذ عايش، ويعايش واقع الأدباء وتربطه بمعظمهم صداقات كثيرة.
فقد كتب الكثير من القصص، كان أبطالها شعراء وقصاصين ونقاداً، من مثل (واقتنى تمتوم نقاده - إجراءات - الضحك على اللحى - القصيدة الميتة - المبدع ذو الضفتين).
ولنأخذ الأخيرة مثالاً على ذلك، حيث نرى شخصية أدبية ومثقفة، أو هكذا يدعي صاحبها، متخمة بجنون العظمة، وهذا - فيما يبدو - معادل موضوعي للشعور بالنقص.
وتقوم القصة بفضح هذه الشخصية من كل الجوانب، ورصد تحركاتها النفسية من خلال كلامها، ويأتي السرد عن طريق البطل ( الراوي بصيغة الأنا ).
والقصة تسجل انتقاداً صارخاً لكل أولئك الذين يستسهلون العملية الإبداعية، وأيضاً تنتقد الثقافة وأوضاعها الراهنة ابتداء من النشر وانتهاء بالإبداع الحقيقي، وكذلك تنتقد الدارسين الجامعيين، وغيرهم من النقاد والمثقفين.
ويبدو التأزم في القصة واضحاً منذ البداية، ويأتي التسلسل الزمني في سبيل عرض الحالة والاستغراق فيها أكثر، فالبطل - هو ربّ الشعر كما يقول - يقرر كتابة القصة القصيرة، مفتخراً بكل تجاربه على جميع الأصعدة، ويبدو أنّه مضطر إلى الكتابة القصصية، فهو وصل إلى قناعة مفادها أن القصة أكثر استيعاباً لحوادث الحياة وهمومها من الشعر، وكذلك فإن زوجته تحب القصة، وهو الآن يميل إليها. وقد برزت في هذه القصة شخصيّة واحدة، وزمن واحد، وإن كان ثمة أزمان ماضية ذكرت من خلال السرد، وجاءت الإنارة داخلية، فلا غموض ولا إبهام في القصة.
وكذلك يمتح القاص (الحاج حسين) من قاع المجتمع الغائص في مستنقع العادات والتقاليد البالية، فيكشف لنا أنماطاً من السلوكيات والتصرفات في هذا الواقع، يعرض بأخلاقيات هذا المجتمع وقواعده، معرياً زيف بعض شخصياته، من مثل قصة (دستور من خاطره) التي ترصد شخصية مدّع شيخ طريقة، وهو يظهر التقوى ويدعي الإيمان ولكنه - في الحقيقة - بؤرة للرذائل، وأصناف الفجور.
وقد يعتمد القاص (مصطفى الحاج حسين) على الموروث الشعبي في بناء قصته، مفيداً من حادثة شعبية صغيرة يقوم برسمها في قصة فنية متكاملة، كما في قصة (باثور رئيس المخفر ) وأيضاً في قصة (تل مكسور)، وتعد هذه الأخيرة من أجمل قصصه، فهي - وإن كانت مبنية على واقعة صغيرة، فحدثت في إحدى القرى التابعة لمدينة حلب - إلاٌ أنه استطاع - من خلالها - تناول واقع القرية، وما فيها من جهل وتخلف وخوف، وبخاصة أمام معلم المدرسة المتعلم، وهو معلم وحيد، ينفش ريشه كالطاووس، ويخدع أهل القرية مدّعياً بأنّه مسنود من العاصمة، ويتخذ من التهديد بتقاريره السياسية سلاحاً له أمام الأهالي، الذي يخضعون له في النهاية، بما فيهم المختار، ولا يملكون حياله أي فعل، وتتأزم القصة، فتكون الذروة عندما يشاهد المعلم تلاميذه يلعبون بكرة صنعوها من الخرق يهجم عليهم، فيكتشف أنّ علم المدرسة قد حشر أيضاً في الكرة الخرقية، وتبدأ المأساة فهو لا يرضى بمثل هذا الفعل، وتتنامى القصة بأحداثها لتصل إلى المواجهة الصارخة بين معلم الابتدائي وبين (خديجة) زوجة الشهيد، وابنها (جمعة الخلف) تلميذ المدرسة، حيث يتهمه المعلم لأن الأخير يرغب بأمه التي تأبّت عليه كثيراً، ويبدأ بضربه، وتجتمع القرية، وتكثر التوسلات، ويتدخل المختار ولكن المعلم لا يرضى، ويهدد ويزبد بأنه سيكتب تقريراً للسلطات الأمنية، وسيسجن هذا الخائن، وتقف (خديجة) الأم بين الجمع، وبخبث يجرها المعلم للحديث والاسترحام، حيث يبدأ بالتهجم على زوحها، متهماً إياه بالخيانة لأنه والد (جمعة)، وهنا تنفجر (خديجة) فزوجها مات شهيداً، ولا تقبل مثل هذه الإهانة، فتحقر المعلم، وتهجم عليه لتضربه، وتأتي النهاية لتشير بطرف خفي إلى استشراء الخوف، وانتشار الجهل الذي يجعل الجميع يقفون مكتوفي الأيدي، يدفعون ضريبة جهلهم وخوفهم وتكون الخاتمة القوية التي تعد من أجمل خواتيم قصص (الحاج حسين) حيث يوقف اللحظة الزمنية ويد (خديجة) مرتفعة للأعلى قبل أن تنزل على خد المعلم، وكأنها ترتفع بدلاً من علم البلاد.
إنها قصة ناجحة قصصياً وفنّياً
تمتاز بالحرارة والصدق، وحركاتها المكانية والزمانية تندغمان ليضيع الوصف والسرد في خضم الأحداث.
وكثيراً ما نرى شخصيات قصصه نموذجية، أو بتعبير أدق، يصورها القاص ويرسم أبعادها لتغدو نموذجية، ولا نعني - هنا - الحكم القيمي عليها، فقد تكون سلبية أو إيجابية. وربما كان من الضروري أن نشير إلى أنّ معظم شخصياته هم من الشباب الذين يعيشون أزماتهم الواقعية والإجتماعية، وفي أحيان أخرى أزماتهم العاطفية والفكرية ،ولا شك أن ذلك نابع من كون القاص شاباً حتى الآن طبعاً.
وها هي قصة (الإنزلاق) تبدأ بوصف
حافلة مكتظة بركابها، وتتجه العدسة نحو البطل المثقف، مدرس الفلسفة وعلم النفس محشوراً بين الجموع، إنّه فقير يعيل أمه وأخواته العوانس، مكبوت لا يقدر على الزواج، يقف وراء شقراء في الحافلة المزدحمة، وتبدأ هواجس الكبت والأخلاق بالصراع في رأسه وعبر المونولوج الداخلي يكشف القاص بطله وهو يؤكد لنفسه بقوله:
(سقط القناع… إنّي بكل بساطة أنقسم إلى اثنين، مدرس فلسفة يتشبث بالأخلاق.. وحيوان شهواني) ويسقط في خضم الصراع يدفعه كبته الجنسي
ولكنه يكتشف أنّ هذه الفتاة إحدى طالباته.
ولا تغيب المرأة عن قصص (الحاج حسين)، فهي موجودة في كل قصة تقريباً ولكن ثمة علاقة مشوهة - وأحياناً - بين تلك المرأة من جهة، وبين الرجل من جهة أخرى إذ غالباً ما تظهر العلاقة غير سوية بينهما، ولا نقصد علاقة الحب فقط، بل المرأة أماً وزوجة وابنة وحبيبة. وتظهر المرأة لديه أحياناً أخرى قوية فعالة، وصاحبة موقف حقيقي، من مثل قصة (شرف العائلة) و (تل مكسور).
وكذلك لا يغيب الوطن ولا الأرض عن قصصه، حيث نجدهما كثيراً، وبخاصة في قصة (شرف العائلة)
وذلك عبر رمزية تشف عن المغزى من ورائها فهي - فيما يبدو - قصة فلسطين الجريحة، ويبدو الأعمام الكثيرون، وهم في القصة رمز للدول العربية، غير مبالين إلاّ بأنفسهم ومصالحهم، وهم يعرضون على ابن عمهم / الأب في القصة، أن يقوم ابنه بقتل الفاجرة، التي خرجت على قواعد العائلة وشرفها، فهم يريدون غسل العار، ولكن ليس بأيديهم أو أيدي أبنائهم ودون أية خسائر، وكذلك في قصة( تل مكسور ) التي تشي عن رمزها بوضوح تام، حين ترتفع يد زوجة الشهيد في وجه المعلم مثل علم البلاد خفاقة مشرقة.
وإذا كان لا بد من الإشارة - في، النهاية - إلى بعض الملحوظات الفنية، فإنني أشير إلى أن قاصنا يعتمد على السرد كثيراً، وهو ما يسوقه إلى الاستطراد، الذي يوسع من حدقة القصة القصيرة، أو يشغلها بحوادث جانبيةوسخصيات إضافية.
هذا مع الإشارة إلى أنّ القاص يجيد عملية القص في النسق الحكائي، ولكنه يتدخل - أحياناً - في صلب القصة، فيعلّق، أو يضيف عبارات توضيحية لا داعي لها. كما أننا نلمس، خطابية ومباشرة في عبارات قصصه ومفرداتها
ولربما تقوده إليها رغبته العارمة بالمبالغة والإثارة، ولكنه يستطيع - بما يملك من قدرة على الحبكة ونسج خيوطها الفنية - إذكاء حدّة الصراع بين الشخصيات، ورسم عدة عقد في القصة الواحدة، أو أكثر من ذروة فيها، وهذا يؤدي إلى تأثيرها في المتلقي وربطها به ربطاً حميمياً عبر نمو عنصر التشويق والإثارة.
كما يمكن الإشارة إلى نمطية اللغة القصصية، هذا مع التنبيه إلى نجاح لغة الحوار في قصصه غالباً، حيث نراها مناسبة للشخصيات، تميل إلى الحديث العادي، دون اللجوء إلى عامية مغرقة، أو فصيحة معقدة.
وأخيراً يمكن القول إنّ تجربة القاص (مصطفى الحاج حسين) تجربة غنية و واعدة حقاً، تنبئ عن خير كثير وعطاء فني متميز، فيما إذا تابع معاناة الأدب حياة وقراءة وكتابة. ولا أجد ما يلخص ويصور شخصية قاصنا إلاّ قول الشاعر أبي الطيب المتنبي حين قال:
وإذا كانت النفوس كباراً
تعبت في مرادها الأجسام.
إبراهيم محمد كسار
حلب..
## (سامي الحاج حسين):
لعلي كنت ولاأزال حين أتأمل في شخصك ألمح فيها طبع الشاعر أبي الطيب المتنبي رغم انك تكتب بنكهة الحداثة وأقرأ في سلوكك وأشعارك الخصائص النفسية التي تتجلى لي بوضوح في كل من الشخصيتين أنت والمتنبي :
فالتشابه كبير في بنيتيكما النفسية وبلاغتكما في المدح والقدح وفي معظم السمات حيث النزق وسرعة الاستثارة والغضب، وسهولة التأثر بالإيحاء، وطيبة القلب، والروح الاجتماعية الودودة،والعلاقات الواسعة،وشدة الاعتداد بالنفس،والنزوع أحياناً إلى التهور والاندفاع وحب المغامرة والتمرد،وقلة الصبر،وامتلاك الروح الثورية المحِبة للتغيير والتجدد،والطبيعة الصريحة الواضحة، والتمتع بخصوبة الخيال،والأسلوب الخطابي المباشر، والميل إلى المبالغة الكبيرة في الأقوال والتوصيف والتصوير وفي العواطف والتصورات، وفي رسم الخطط والمشاريع الضخمة غير التامة، وفي الخيال المدهش،والتميز بالحنكة السياسية والاجتماعية،وتقلب المزاج في الحب والكره والفرح والغضب،وسيطرة اللحظة الحاضرة،والعفويّة الكبيرة،وحدّة العواطف وقوة التعبير، والميل إلى المغامرة،وامتلاك روح المبادرة والتطلعات الثورية،وامتلاك القدرة الفائقة على تثوير الآخرين، والاتصاف بردود الأفعال السريعة أو بالترجيع القريب، والنزعة الساخرة،والحياة ذات الطبيعة الصاخبة، والتفاؤل الروحي بالمستقبل، رغم الطبيعة الغضبية المتمردة.
أحيي بك شاعريتك الكبيرة التي تسكن فيها، وموهبتك المتدفقة، وقدرتك على المثابرة ،وإني لأعتز بالمزايا الثرية لطبعك الفاعل والمهم،كما أعتز بمنجزك الإبداعي الذي لاينضب..ودمت العزيز البهي في قلبي على الدوام.*
سامي الحاج حسين.
حلب
## قراءة لقصيدة (أخاديد الظَّلام).
الدكتور المبدع: (لحجاب أبو جمال)..
مراكش
القصيدة.. للشاعر والأديب السوري:
(مصطفى الحاج حسين).
(أخاديد الظلام) هو عبارة عن مضاف ومضاف إليه بصيغة مجازية: فالأخاديد تكون محفورة على ماهو مادي صلب وملموس مثل الجبال والهضاب.. بفعل مجرى الماء.. لكن أخاديد الشاعر هنا هي أخاديد ظلام وسواد.
يمكن تقسيم هذا النص إلى أربع حقول دلالية وتركيبية:
@ الحقل الأول حسب تقسيم النص إلى فقرات:
الفقرة الأولى:
(يهاجمني ظلي
ينقض على خطاي
يشعل القش في صوتي
ويأمرني:
لا تكمل الدرب.)
وهنا الشاعر يعيش صراعاً مريراً مع ظله الذي يهجم ويعيق مسيره.. ويخنقه ويمنعه بصيغة الأمر من مواصلة السير على الدرب. وهو صراع مرتبط بحاضر الشاعر.. وذلك لكون الشاعر وظف أفعال المضارع: يهاجمني.. ينقضُ.. يشعلُ.. مع فعل أمر "لا تكمل".
ولعلّ الصّراع هنا صراع مع الذات.. ويبقى"الظّل" رمزاً لما يعانيه الشاعر من هواجس وقناعات فكرية تتضارب أحيانا لسبب أو لآخر وتمنعه عن مواصلة دربه.
والعلاقة بين الذات والظّل هي علاقة فيزيائية .. وهي علاقة جزء (الظّل) من كل (الذّات).. وأوضح من خلال الفقرة الأولى هو أن الجزء أقوى من الكل؟!
وذلك بالنظر إلى السلطة التي يمارسها الظل على ذات الشاعر؟!.
@ الحقل الثاني من خلال الفقرة الثانية:
(كانت انفاسي حفرت
أخاديد الظلام
وأصابعي أمسكت نافذة الفجر
تجمّعت في دمي طيور الحنين
وتحرّكت بداخلي مراكب الانعتاق
وكنتُ قد هممتُ باشعال أمواجي
حين داهمني خراب الأجنحة
من كسّر شواطئي هو منّي!
من حطّم عليائي
هو توأم انتصاري!
أيا درب البرق التّائه
هطل دمع الهزيمة
وناحت فوق أغصاني
فواجع السراب).
هنا الشاعر رحل بنا إلى ماضيه المجيد والجميل والغني بالمواقف الفكرية والقوة والعزم والإصرار من أجل التحرر من المعوقات والإنعتاق والإنتصار لغد مشرق وبديل.
ولعل الحنين إلى الماضي جعله يلجأ إلى أسلوب الحكي.. والذي برع فيه بتركيز.. و بشاعرية.. وعبر أفعال الماضي... وعبر توظيف صور بلاغية وتعابير مجازية رائعة.. مثلا:
كانت أنفاسي.. حفرت أخاديد الظلام. (هنا الشاعر جعل للظلام أخاديد)؟!
و: وأصابعي أمسكت نافدة الفجر(هنا الشاعر جعل للفجر نافذة)؟!
و: تجمعت في دمي طيور الحنين.
و: وتحركت بداخلي مراكب الإنعتاق.
و: وكنت قد هممت بإشعال أمواجي.
وكلها صور بلاغية بليغة وتعابير مجازية استطاع الشاعر من خلالها أن يعبر بعمق عما يخالج نفسه من أحاسيس وعزم واستعداد وتحدي لواقع يعيشه ولا يرضاه.
يتابع الشاعر حكيه الشعري والشاعري.. ويعلن لنا عن حقيقة مرة هي سبب معاناته وانكسار عزائمه المتوهجة.. وهي أن سبب الإنكسار والهزيمة هو جزء من الشاعر؟!.. وهذا الجزء الذي خذله في نظري قد يكون متعددا.. فهو الظل.. لكن بتجلياته المتنوعة: فكرية.. اجتماعية.. سياسية ألخ.
لكن ما يبهر هو نوعية التعبير البلاغي ومهارة توظيف المجاز:
مثلا : من كسّر شواطئي هو مني!
و: من حطم عليائي
هو توأم انتصاري!
ولعل خيبة وتدمير الشاعر بسبب جزء منه جعلته ينادي بحسرة ومرارة.. درب برقه (الضوء.. النور.. الحلم.. الأمل..الغد
المشرق..) بجودة عالية في التعبير:
(أيا درب البرق التائه
هطل دمع الهزيمة
وناحت فوق أغصاني
فواجع السراب).
إنها صورة دلالية وشاعرية بليغة جدا.
@ الحقل الدلالي الثالث: من خلال الفقرة الثالثة:
(مهما ابتعدتُ عن النار
أراها تفيضُ من مساماتي
ومهما ارتحلتْ عنّي صحرائي
أجدُ رملَ الندى يهمي فوق أنفاسي).
هنا الشاعر انشطر في التعبيرعن ذاته وتجربته بين الماضي والحاضر.. فلا شيء يسعفه مهما حاول تجنب العراقيل والمعوقات؟!
ودائما يتفوق شاعرنا في التعبير.. البلاغة وشاعرية فائقة.
@ بين الحقل الدلالي والأخير... من خلال الفقرة الأخيرة في النص:
(إني أحارب مجاديف الحصار
أعارك جموح رؤايَ
أحطّم أسوار يباسي
وأصعد أعالي شهقاتي
لأعلن عن ميلاد المدى
القادم بلا ريب
من تحت الرماد).
هنا الشاعر يعود بنا للحديث عن ذاته الآن في الحاضر بتوظيف أفعال المضارع كلها دلالة على عودة عزيمة الشاعر.. وانتعاش روح التحدي لديه لاستئناف مقاومته من أجل التحرر والإنعتاق... ومن أجل تحديده لكل العقبات التي تعيق مساره ومصيره نحو درب البرق.. ونافذة الفجر.. حيث استجمع كل قواه الفكرية والمعنوية ليعلن عن ميلاد المدى القادم بلا ريب من تحت الرماد.
في إشارة إلى"طائر الفينق" الذي ينبعث من الرماد.. ربّما.
وبذلك يكون الشاعر قد جدد عزائمه
.. و تجاوز صورة الحزن والمعاناة التي طبعت النص في مراحله الأولى.. وعبر عن ذلك بلغة كلها أمل وتحدي.. وشاعرية.. وبلاغة.. جمالية. وهذا يجعل من هذا يمتلك مقومات شعرية وإبداعية ورؤى فكرية ذات جودة عالية.
هنيئاً لشاعرنا مصطفى الحاج حسين بهذا النص الرائع.
وأتمنى أن أكون قد وفقت في قراءتي له.
الدكتور: لحجاب أبو جمال.
_______________________________
** أخاديد الظّلام...
أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.
يهاجمُني ظلّي
ينقضُّ على خطايَ
يشعلُ القَشَّ في صوتي
ويأمرُني:
- لا تكملِ الدّربَ
كانت أنفاسي حفرت
أخاديدَ الظّلامِ
وأصابعي أمسكتْ نافذةَ الفجرِ
تجمَّعتْ في دمي طيورُ الحنينِ
وتحرَّكتْ بداخلي مراكبُ الانعتاقِ
وكنتُ قَدْ هممتُ بإشعالِ أمواجي
حينَ داهمني خرابُ الأجنحةِ
مَنْ كسَّرَ شواطئي هُوَ منّي!
مَنْ حطَّمَ عليائي
هُوَ توأمُ انتصاري!
أيا دربَ البرقِ التَّائهِ
هطلَ دمعُ الهزبمةِ
وناحتْ فوقَ أغصاني
فواجعُ السّرابِ
مهما ابتعدتُ عنِ النّارِ
أراها تفيضُ من مساماتي
ومهما ارتحلتْ عنّي صحرائي
أجدُ رملَ الندى يهمي فوقَ أنفاسي
إنِّي أحاربُ مجاذيفَ الحصارِ
أعاركُ جموحَ رؤايَ
أحطّمُ أسوارَ يباسي
وأصعدُ أعالي شهقاتي
لأعلنَ عن ميلادِ المدى
القادمِ بلا ريبٍ
من تحتِ الرَّمادِ.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
## الأستاذة الشاعرة:
(قمر صالوني):
في قراءة لها.. لقصيدة (في بلادي)
للأديب الشاعر السوري:
(مصطفى الحاج حسين).
نص جميل ومؤثر حاكى الواقع بكل شجن العبارات فعندما يكثر القتل والغدر يفتك الفقر البشر ويحصدون الغلال دما وتترمل النساء ويتيتم الاطفال كما جاء بوصف الشاعر أنهم يرضعون من سموم الانفجارات واي
فاجعة حين يعم هذا الرعب فبدل أن تشرق الشمس بالأمل حال بينها وبين البشر رماد الحرب ودخان الحريق واي غد هذا الذي يحمل كل هذه الكوارث؟! ما أوجع المشهد:
(في بلادي يذبح الأخ أخاه
حتى امتلات الارض بالدم
ونبتت الأشجار جثثا).
كل شيء تبدد إلى خراب واسود الدمع في العيون ياله من توصيف مؤثر
كل التقدير للشاعر الذي استطاع بكل عمق الشعور ان ينسج من المعاني وحنكة فكره لغته المتفردة و تمكن استقطاب الشعور بإسقاطات ورمزية رائعة حيث صور لنا ما آلت إليه أوضاع البلاد من فساد نتيجة الكوارث التي مرت بها بكل دقة.. بالتوفيق.
الشاعرة: قمر صابوني.
* في بلادي..
أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.
في بلادي
يحصدُ الفقراءُ
غلالَ الدّمِ
وتقطفُ النّساءُ
سِلالَ الدّمعِ
ويرضعُ الأطفالُ
ُحليبَ الانفجاراتِ
وتتزيّنُ الفتياتُ
بالشّحوبِ والارتجافِ
ويحملُ الرّجالُ على أكتافِهِمْ
جثَّةَ الخرابِ.
في بلادي
ترسلُ الشَّمسُ أشعَةَ الهلاكِ
وتتمترسُ الجبالُ
خلفَ المدافعِ
وتأوي العصافيرُ
إلى حجرِ النّارِ.
في بلادي
ننصبُ فخاً للقمرِ
نعلّقُهُ على عَمودِ الحقدِ
ونسلخُ عنهُ الضّوءَ.
في بلادي
يذبحُ الأخُ أخاهُ
بتهمةِ الخيانةِ
وتكونُ سكّينُهُ
يدَ الغريبِ.
في بلادي
صارَتِ الأشجارُ تورِقُ جثثاً
وصارَ النّهارُ يُطِلُّ
على الفاجعةِ
وغدا النّدى
قطرانَ السّرابِ.
في بلادي
تفحَّمَ الهواءُ
وصارَ السّلامُ
رماداً
وعمَّ الانهيارُ
وتراكمَ السّخطُ
في صدرِ الغمامِ
في بلادي.
جفَّتْ خطواتُنا
وتحوَّلَ نبضُنا يباساً.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
## (محمد إبراهيم أحمد داود)
- قراءة في نص (ثالثة الحروب)..
للشاعر والأديب السوري:
(مصطفى الحاج حسين).
تحتوي القراءة على:
مقدمة.
تمهيد للنص.
القراءة.
الخلاصة.
خاتمة.
كلمات النص.
المقدمة العامة:
الرمز هو كل ما يحل محل شيء آخر في الدلالة عليه.. ليس بطريقة المطابقة التامة وإنما بالإيحاء أو.. بوجود علاقة عرضية أو متعارف عليها.. وعادة ما يكون الرمز بهذا المعنى شيئا ملموسا يحل محل المجرد.. وعادة ما يلجأ المبدعون إلى توظيف الرموز في إبداعاتهم للتعبير عن ذواتهم وما يعتلج في صدورهم من قلق وإضطراب علاوة على الكبت وعدم الحرية في التعبير المطلق.. أو عن مظاهر الفرح.. كما أنهم على دراية بأهمية توظيف الرمز إذ يؤدي إلى إرتحال القارئ عبر رؤية فسيحة وفضاء رحب كي يظفر بالمغزى وما يروم إليه الرمز من دلالات.
تمهيد للنص:
إعتمد اديبنا في هذا النص النثري والثري بكم هائل من النظرات الفلسفية للحياة المعاصرة على إشاعة جو من الإيحاءات الرمزية حيث يستعيض عن الحدث الواقع بالحدث الفانتازي ويوظف الحلم.. ويعيد تنظيم الزمان والمكان ويزلزل البناء التقليدي للنص ويستغل الأسطورة والتاريخ وعلوم الفضاء وما إلى غير ذلك.. في النص لا يراهن اديبنا الفاضل على الفعل بقدر ما يراهن على الرغبة في الفعل حيث اننا نلمس في النص كومة من الرغائب المتشظية إلا أنها تتوسل الخطاب الثوري غير المباشر أو غير المعلن وبرمزية عميقة.
القراءة في النص:
منذ العنونة ثالثة الحروب _ حقق النص وظيفة والتكثيف فالشاعرية لغة تكثيفية تقدم صورا حافلة بالمفاجآت فتسبغ على المتلقي ظلالا من الدهشة تثير حواسه وتنبه ذاته للإكتشاف..
يستهل النص صور تعبيرية للوحات مثيرة تهيئ أرضية أفكار المتلقي عن سردية النص وطقوسه من خلال توظيف أشكال بيانية في بنية النص:
تتجمد الشمس
والأفق يتناثر
يتصحر الغمام
ويترمد الندى
تتعرى الأرض من ترابها
يبقر البحر ماءه
والشجر يغتال ثماره
تتخلى الدروب عن جهاتها
لا شئ إلا الرماد
يرفع راية النصر..
هذه السردية إذا لم تحمل على التشبيه
لن يستقيم النص فيكون قد إختل وفسد الكلام لأن الشمس مصدر الحرارة فكيف لها بأن تتجمد!
وكيف للأرص أن تتعرى من ترابها!
وغير ذلك مما ذكر في النص
فأي شمس هذه التي تتخلى عن حرارتها وتتجمد؟!
واي ارض هذه التي تتخلى عن ترابها؟!
هكذا ستكون الأسئلة..
نلمس في هذه الأسطر السالفة أن اديبنا قد وظف أدواته الكتابية كالرمز والإنزياح والغموض تاركا تأثيرا جماليا في نفس المتلقي بالإضافة إلى توظيف اشكال من البيان كالاستعارة والتشببه والكناية والتقديم والتأخير والحذف وغيرها من أشكال فنون النسج الكتابي التي أضفت على النص سمة الشاعرية المطلقة في رسم لوحة تعمها فوضى الخراب والدمار حيث يكمل النص:
الركام يختال بعنجهية
جثة الهواء معلقة على جدار العدم
الينابيع غائرة الأعين
لسان النهار مدلى
والقمر يرتدي العباءة السوداء
لا أثر للإنسان...
الحقيقة أن النص من فئة النصوص المراوغة أوهم المتلقي بالمعنى الظاهري القريب وجعله يصل إلى حد الرعب من صور الأحداث..
لكنه يوقظه دون سابق إنذار من خلال ما يختبئ بين اسباره الباطنة التي قد يفهم تأويلها ضمنا تحت إلحاح التمعن في النسيج العام فيوقن المتلقي حينها بأن ليس كل ما يقرأ يقصد...
ولذلك سرعان ما يغلف النص جملة معترضة تضعنا على عتابات تفكيك الرمزية للنص وهي جملة:
لا أثر للإنسان..
القارئ للنص هنا يصاب بخيبة حادة مردها هذه الجملة المطوية في سياق النص بين صور هرمت بلا أمل وهي _ الإنسان _ من الإنسانية..
والإنسانية من الانس والمحبة والألفة والسلام فذهب بنا النص إلى مفهوم عكسي للإنسانية المقصودة حيث الحياة المعاصرة بكل ما فيها من ويلات وآلام...
إنه الإبداع النصي الخلاق المرن الذي يستوعب تقلبك ومزاجك واوجاعك وآمالك وماضيك وحاضرك ومستقبلك وهذا حاضر في النص بقوة حيث يستطرد النص:
على رحاب السديم..
إن جماليات تأثير هذه الجملة النصية قد أبرزت قدرة اديبنا على الصوغ الفني القائم على تفجير إمكانيات اللغة وإعطائها بعدا جماليا (تناسليا) حيث لا يكتفي اديبنا الفاضل بجمالية الكلمة لتوصيل أفكاره ومشاعره فحسب بل ينتقي آليات وصورا مصبوغة بالوان بيانية تقول مشاعره وتنقل أفكاره مما قد أهل هذا النص لأن يكون نموذجا خصبا تنفتح فيه القراءة على عدد لا متناه من المدلولات ومساعدة المتلقي على فهم الواقع وقراءة التاريخ ومن ثم إتخاذ المواقف تجاه أحداثه..
فالسديم هو مزيج من الغبار الكوني والغازات..
ومن الضرورة بمكان أن تحدث إنسان عن شيء ما وهو يعرف عنه وإلا هذا يعني انك ستكون في واد بينما هو في واد آخر ومن أهم الأولويات الذاتية الضرورية لتحقيق المعرفة الصحيحة وتراكمها لغاية الوصول إلى الحقائق تأتي المصطلحات والكلمات ودلالاتها الفلسفية الدقيقة وفي هذا السياق نشير إلى أن اللغة تشكل الوعاء الذي يحتوي الأفكار و وسيلة للتفكير ووسيلة للتواصل مع الآخرين ووسيلة لمعرفة العالم ووسيلة أساسية للتفاعل بين الكائن ووسطه لذلك من الضروري تعريف بعض المفاهيم والمصطلحات الفلسفية التي استعملها الكاتب مع التركيز على الاصطلاحات الهامة الأساسية التي تتعرض للالتباس في النص بحيث نستعمل المجازي بدون تدقيق واقعي حقيقي لما تعنيه هذا الكلمات الفلسفية ومدلولاتها..
كما لكل اختصاص مصطلحاته او مهنة او علم كذلك الفلسفة لها علمها ونظامها و مصطلحاتها وطريقة تفسير هذه المصطلحات ونحن هنا ليس بصدد بحث اللغة كلغة ولكنها أساسية في فهم الموضوع ولو أراد الإنسان أن يعرف جميع مصطلحات لغته لوحدها سيقضي ربما زمن عمرين افتراضين من عمره دون أن يصل إلى نصف ذلك فهذا معناه أن عليه أن يعرف جميع الاختصاصات البشرية المعروفة وهي طبعا تزيد عن آلاف الاختصاصات وهي في نمو متواصل مع نمو المعرفة وتفرعها لذلك علينا الاتفاق وتوضيح المفاهيم المستخدمة أي جواهر الظواهر وكشف مكنوناتها العميقة في النص حيث نجد مفهوم _ السديم _ الفلسفي يعني بالتحديد المساحة المتاحة لمراقبتنا ما يدور حولنا وهذا يعني الوجود المعرفي الذهني والواقعي بالنسبة لنا والتعرف على مكان وسبب وجودنا في هذا العالم المتاح لنا والبحث عن مستقبلنا ومصيرنا في النهاية وإلى إين نسير على هذا الكوكب الصغير الهش..
يكمل النص المشهد:
لا قصيدة شعر تمكث
في جيوب الكوكب
لا سنبلة موسيقا
لا بسمة لموجة حنان
الحروب إنتصرت
من النافل القول أن اديبنا تطرق في هذه الجمل السالفة إلى الأخلاق الحميدة التي ابتعدت عن واقعنا المعاش وان النص قد ذهب بنا بعيدا بل وتجاوز حدود الحاجة إلى هذه الأخلاق التي أضحت في عداد الفقد المجتمعي وأصبحت هذه المفاهيم مع الزمن أكثر إبتعادا عن الواقع تائهة في سديم من المعاني والدلالات المتتاخمة والمتداخلة والمتقاطعة..
لقد إنفصلت هذه المفاهيم عن الواقع الذي تريد إضاءته وضاعت في متاهات التفكير الإنساني المطلق المجرد ذاته وأصبحت نفسها في أمس الحاجة إلى العقلنة الواقعية وهذا يعني أن هذه المفاهيم التي تحلق فوق الواقع وتعيش في ابراجها العاجية تحتاج اليوم إلى الارتباط بالواقع الذي إنبثقت وصدرت عنه نتيجة للغموض الذي إكتنفها في دائرة التحليق والدوران حول ذاتها وفقدان المحور الذي يربطها بالواقع العملي نفسه...
ويعد مفهوم الاخلاق من المفاهيم المجردة التي بالغت في الدوران حول ذاتها ففقدت كثيرا من قدرتها حيث يكمل النص:
الحروب إنتصرت
ووضع الموت أوزاره
لا شيء يعلو على صوت السكون..
نعم.. لقد سكنت الحياة أي قد أصابها الموات في الضمير الإنساني الحي.. يتابع النص في الاسقاط _ الخاتمة _ في علاقة ما بين رمزية الخير ممثلة بالبسطاء من فقراء الأمم مشمولين
بنظرة ملائكية وبين رموز الشر ويمثلهم ابليس يقول النص:
مقابر على مد نظر الملائكة
وإبليس يرفض أن يدفن الفقراء..
هنا يذكر اديبنا المتلقي بالآية الكريمة في سورة البقرة:
(قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)
إذا هي مقابر الصالحين من البشر على أيدي الفاسدين منهم..
وهؤلاء يرفضون دفن الفقراء بما لديهم من خير وفير وأملاك وأموال طائلة بل هو التسلط والقتل والسلب حتى لو كانت الحياة جاعلون إبليس لهم أسوة في تصرفاتهم وهمجيتهم.
الخلاصة:
رغم أن اديبنا قد صور لنا في نصه تصوراته الخاصة وإنطباعه العام..
إلا أن هذا الانطباع قد يعمم كونه فردا من أفراد المجتمع وهذه الأحداث قد لا تتغير.. أو أنها تحتاج إلى مدة زمنية قد تستغرق حياتنا الحاضرة
فالنص عبارة عن صورة أحادية الصوت والحدث الا أن النص يشكل معنى عام وصوره تتضافر معا لرسم صورة أكثر وضوحا وأعمق دلالة فتتسع فيها الرؤية وتتعدد زواياها وتجعل المتلقي يرتشف دلالة رؤياه رشفة رشفة ذلك لأن أديبنا قد اجبر المتلقي خلال سياق النص على إنتظار سكب الشهد رويدا رويدا وبسلام إلى عالم أكثر رحابة وانفتاحا على المستقبل المجهول
حيث أراد منهم أن يتجاوزوا كل عثراته وأن يستقبلوا الحياة مفعمين بالأمل وأن لا ينجروا وراء مستجدات العصر المليئة بالتناقضات.
..............................
خاتمة:
إن إنزياح لغة اديبنا الفاضل النصية الخارجة عن المألوف لم تكن عشوائية أو إعتباطا ولذلك فإن الإنزياح في اللغة المألوفة إلى لغة مبدعة يدخل هذه اللغة إلى دائرة الشاعرية المائزة ..
لقد وظف لغته بطريقة ساهمت في تفرد إبداعه ومنحه قوة وتأثيرا على المتلقي..
قبعتي أديبنا الفاضل.
...........................
كلمات النص :
* ثالثة الحروب:
تتجمَّدُ الشّمسُ
والأفقُ ُيتناثرُ
يتصحَّرُ الغمامُ
ويترمَّدُ النَّدى
تتعرَّى الأرضُ من ترابِها
يبقر ُالبحرُ ماءَهُ
والشَّجرُ يغتالُ ثمارَه
تتخلَّى الدُّروبُ عن جهاتِها
لا شيءَ إلَّا الرَّمادَ
يرفعُ رايةَ النَّصرِ
الرّكامُ يختالُ بعنجهيَّةٍ
جثَّةُ الهواءِ معلَّقةٌ على جدارِ
العدمِ
الينابيعُ غائرةٌ الأعينُ
لسانُ النَّهارِ مدلَّى
والقمرُ يرتدي العباءةَ السَّوداءَ
لا أثرَ للإنسانِ
على رحابِ السَّديمِ
لا قصيدةَ شعرٍ تمكُثُ
في جيوبِ الكوكبِ
لا سنبلةَ موسيقى
لا بسمةَ لموجةِ حنانٍ
الحروبُ انتصرتْ
ووضعَ الموتُ أوزارَهُ
لا شيءَ يعلو على صوتِ
السّكونِ
مقابرٌ على مدِّ بصرِ
الملائكةِ
وابليس يرفضُ أنْ يدفنَ
الفقراءَ.
مصطفى الحاج حسين
إسطنبول
## د. عبد الحق الشلوفي ..
لي عودة ثانية سأكمل فيها النص وسأحاول الكشف عن فرضية للقراءة ارتأيت أن أستنتجها من الجمع بين مطلع القصيدة/في بلادي، ومقطعها/وتحول نبضنا يباسا.حيث يرسم الشاعر ملامح وتفاصيل التحول والتغيير بين اليوم الامس، تحول من الخصب إلى الجذب، ومن الأرتقاء والازدهار إلى الجمود والتقهقر. فما مظاهر هذا التحول في النص؟ وكيف عبر عنها الشاعر؟ وماوسائطه في ذلك؟...
عودة إلى النص، وانا أقرأ القصيدة تطالعني بعض النصوص الغائبة الحاضرة، فكل نص هو فسيفساء من نصوص سابقة. يتضمنها بشكل من الأشكال، حيث يبدو التناص واضحا مع نصوص من مدرسة رواد الشعر الحديث، فالعنوان واللازمة يحيلان على قصيدة "الناس في بلادي" للبياتي، ونواةالدلالة المتمثلة في الصيرورة والتحول من الخصب والأمن إلى الجذب والدمار تستلهم مضمون أسلوب التكرار الهندسي البديع في تحفة أنشودة المطر لبدر شاكر السياب:
أصيح بالخليج
ياخليج
ياو
واهب اللؤلؤ والمحار والردى
فيرجع النشيج
كأنه الصدى
ياخليج
ياواهب المحار والردى.
حيث بلاغة الحذف استدعت من السياب إسقاط لفظ اللؤلؤ، ليصير المعنى في العبارة الثانية نقيض نقيض المعنى في الأولى ،فيكسر بذلك أفق انتظار القرئ ويكشف عن طبيعة الصيرورة والتحول.أما شاعرنا فقد اختار أن يعبر عن نفس المضمون بنبرة خطابية مشحونةبالتوتر الحاصل على مستوى التركيب حيث يقابل دلالة الأفعال التي ترمز إلى الخصب (يحصد-تقطف-يرضع...) مفاعيل تحمل نقيض الدلالة (غلال الدم/سلال الدمع/حليب الانفجارات). وإذا كان السياب قد وظف بلاغة الحذف للتعبير عن واقع اجتماعي تغيب فيه العدالة الاجتماعية، ةينتفي فيه التوزيع العادل للثروة بسبب نظام الحكم القائم على النهب، فإن شاعرنا يوظف بلاغة الإضافة المتمثلة في المضاف إليه بعد المفعول به، قصد التعبير عن واقع تفرضه قوى خارجية بمباركة وتواطؤ مع تيارات محلية، ويفسره قول الشاعر:
في بلادي
يدبح الأخ أخاه
بتهمة الخيانة
وتكون سكينه
يد الغريب.
د. عبد الحق الشلوفي
* في بلادي ...*
شعر : مصطفى الحاج حسين .
في بلادي
يحصدُ الفقراءُ
غلالَ الدّمِ
وتقطفُ النّساءُ
سِلالَ الدّمعِ
ويرضعُ الأطفالُ
ُحليبَ الانفجاراتِ
وتتزيّنُ الفتياتُ
بالشّحوبِ والارتجافِ
ويحملُ الرّجالُ على أكتافِهِمْ
جثَّةَ الخرابِ
في بلادي
ترسلُ الشَّمسُ أشعَةَ الهلاكِ
وتتمترسُ الجبالُ
خلفَ المدافعِ
وتأوي العصافيرُ
إلى حجرِ النّارِ
في بلادي
ننصبُ فخاً للقمرِ
نعلّقُهُ على عَمودِ الحقدِ
ونسلخُ عنهُ الضّوءَ
في بلادي
يذبحُ الأخُ أخاهُ
بتهمةِ الخيانةِ
وتكونُ سكّينُهُ
يدَ الغريبِ
في بلادي
صارَتِ الأشجارُ تورِقُ جثثاً
وصارَ النّهارُ يُطِلُّ
على الفاجعةِ
وغدا النّدى
قطرانَ السّرابِ
في بلادي
تفحَّمَ الهواءُ
وصارَ السّلامُ
رماداً
وعمَّ الانهيارُ
وتراكمَ السّخطُ
في صدرِ الغمامِ
في بلادي
جفَّتْ خطواتُنا
وتحوَّلَ نبضُنا يباساً *.
مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول
## قصيدة: كوثر الرّوح )..
للشاعر والأديب السوري:
مصطفى الحاج حسين.
بقلم الأديبة: ندى محمد عادلة
كوثر الروح..(ومصطفى الحاج حسين), وآيات من السحر إلى أعماق الحياة, وترف للغد بتدفقات من الوله.. وأي سحر يقوده إلى أغوار النفس إلى جنتها المخضلة بالضوء الفاعمة بطيب الوجد والشوق :
(سيأتيكِ انهمار صباحي
موشحاً بأجنحتي
ويكون ندى شفتيكِ
في اشتعالٍ خصيب).
أقرأ حكاية شعرية مخبأة بالقلب, من أبداع وتجليات شاعر انطباعي سوري حد النخاع, يخرج بأي نص بأنغام عذبة سحرية،وهنا حكايته الممتدة بين الوطن وغربة الروح , تعانق المحسوس, تمشي بحذر موشحه بإيقاع المعنى, بصيرة وريد ينتفض حباً يتطلع إلى محاسن ألأنثى, بشغف وتصوير جامح للحبيبة الموصوفة بكوثر الروح...
ليس لدى ذاكرتي شاعر لم يكتب الحب, ولا يوجد في جوهره جموح للغزل, يخفيه بالرموز بالدلالات ولكن هنا الشاعر يجمع بين الحب والغربة وزمن الحرب في أزمنة البؤس, الشاعر الكبير هو الذي يصنع من هذه الماسي طراوة وجمالاً وبرهانا على إنسانية الإنسان بكل الظروف... أتكلم عن آلية التذوق لهذا النص عن استقرائي له
وتأويله واستقصاء بريق الجمال وانعكاسه علينا الأنثى في هذا النص هي المناخ الإنساني للشاعر ,وهي المكان الهادئ والآمن, الشاعر يعاني الغربة والبعد عن الديار نتيجة الحرب
, لذلك يبحث عن الفردوس المفقود سواء في الخيال أم الواقع, انه بموقف
حيادي يتدفق حبا ويتماهى ويكتشف انثاه, لهفة وكوثرا للروح......
( وأفرش الأرض بلهفتي
وأغسل لك ماء البحار
بأمطار لهفتي ).
وأي جنون للعشق وأي لهفة بهذه الدهشة والحميمية.. النفس لحن كما قال(ملارميه) وهذا يعني أن اللحن حقيقة يؤدي مهمته في إشاعة النشوة بصور ممتدة منبسطة غير معقدة ولا متكلفة تضيف الحركة وتشع جمالا بالحياة, في شعر الحب لدى شاعرنا شيء من الوله الروحي, قوة ضمنية ناطقة,حواس تتمثل الجمال...
الشاعر يمزجك بالطبيعة بأدغال عشقها, يطيرك نحو السحاب إنها ايجابية مطلقة وتجلي بصور حية متحركة تختزن الموسيقى والجرس
... وهذا يدلك على انطباعية الشاعر ومثاليته في الاندماج العاطفي:
(أنا المسكون بأصداء ظلالكِ
أقشر النسمة من أشواكها
لئلا تخدش رقتكِ
وأعطر لكِ حنان السّحب
لأحمي فراشات ضوئك).
شلال من الشعر يومض بالحياة نعومة بالألفاظ تشعرك أن الشعر هو المرأة التي يقدسها الشاعر وإبداعه من طيفها ومن غوامضها المكنون.. الشاعر صياد ماهر للصورة الشعرية, بديع في خلقها, ترابط بينه وبين المحسوس انه مخزون من (الليبيدو) كأي إنسان ويحاول أن يجسد مبهمات هذا (الليبيدو)ويستخرجها برموز محسوسة
...
كان(رامبو) الشاعر الفرنسي يتخيل أن لبعض الأحرف ألوانا وأصباغا في اجتماعها, وكيف ينبغي أن يقوم اللفظ برسالته الإنسانية الحقه مع هذه الألوان, انه الشاعر المتمكن, هو البارع الذي يستطيع استحضار ألفاظ تضج بالحياة واستمرارها وانسجامها,
كأنغام ندية تناغم القلب فيحن إليها ويحنو إليها بصور سخية تغازل الحياة
.. القصيدة جميلة تقيم علاقة روحية مع الآخر بجسور من المباشرة والرمزية والاجتهاد الواعي.
القصيدة ارتكزت ببنيانها على جميع أدوات الشعر, والقصيدة هنا هي روح الشاعر كتبته ولم يكتبها, هي العالم الذي يسعى إليه ويشده من خلال أنثاه القصيدة.. وحدة عضوية راسخة ليست طويلة حتى لا تفقد عضويتها وإشراقها
..هناك قيمة إنسانية مطلقة على خلفية هذا النص, عمل متميز وقابل لقراءات أخرى ويتحمل أكثر من مواجهة نقدية, وأنا لست مختصة بعلوم النقد بل أقرأ الجمال والمنطق في نبوءة اللغة وفي المرتكزات الأساسية والبنية الدلالية لأي نص حديث...
(لأجلكِ الشّمس تتوضأ
من كوثر روحي
والقمر في كل ليلة
يسبح في عنبر قلبي
يا لحبي إليك ما أوسعه).
أجمل مافي النص النثري الحديث بدايته ونهايته, النهاية كانت فضاء ميتافيزيقياً على مساحات قلب الشاعر وروحه, لا حدود لعزف الحب في قيثارة روحه.
ندى محمد عادلة .
* كوثر الرّوح..
شعر: مصطفى الحاج حسين.
سيأتيكِ إنهمار صباحي
موشَّحاً بأجنحتي
ويكون ندى شفتيكِ
في اشتعالٍ خصيب
أزوّدُ أغصانَ همسكِ
بصلاةِ قبلاتي
وأعدُّ مافي كفّكِ من رحابٍ
لأدفنَ بكائي
في عمقِ ناركِ
وأركضُ تحتَ خصال بوحكِ
دروباً تفضي إلى آفاقِ أنفاسكِ
أمدُّ إليكِ أدغال عشقي
أعلّقُ موتي على أكتاف المدى
وأبحرُ شوقي في عنقكِ
أشعلُ في فضاء طهركِ
شموس حرماني
أنا المسكونُ بأصداءِ ظلالكِ
أقشّرُ النّسمة من أشواكها
لئلّا تخدشَ رقتكِ
وأعطّرُ لكِ حنانَ السّحاب
لأحمي فراشات ضوئكِ
ألملمُ من تحتِ أقدامكِ
غبار النّقاء
وأفرشُ الأرض بلهفتي
وأغسلُ لكِ ماء البحار
بأمطارِ لهفتي
حبيبتي لأجلكِ الشّمس تتوضّأ
من كوثرِ روحي
والقمر في كلِّ ليلةٍ
يسبحُ في عنبرِ قلبي
يالحبّي إليكِ ما أوسعه؟!.
مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول
## الدكتور المبدع الأديب والناقد المغربي: (نيقوس المهدي)..
في مقابلة مع (العقاد الثاني) القاص والشاعر السوري العصامي (مصطفى الحاج حسين).
(مصطفى الحاج حسين) أو (العقاد الثاني) كما يحلو للأدباء تسميته، أديب عصامي من مواليد حلب سنة1961، انقطع عن الدراسة في حدود المرحلة الابتدائية، وألتحق بمهنة البناء رفقة والده.. بدأت موهبته الادبية تظهر في سن مبكرة.. من خلال شغفه بقراءة القصص والروايات والشعر.. في هذا الحوار يفتح لنا الاستاذ مصطفى الحاج حسين قلبه ليطلعنا على تجربته الابداعية بصدر رحب وبأريحية معهودة فيه.. وببسط معاناته مع الكتابة ومكابداتها و الهجرة والغربة القسرية وما يليها و التي اضطرتها الظروف التي تعيشها سوريا.
- أجرى الحوار لموقع (أنطولوجيا السرد العربي) (نقوس المهدي).
*************************:*****
** - مصطفى الحاج حسين الإنسان والمبدع صفتان إنسانيتان تتضافران الصياغة شخصية عصامية يصفها النقاد (بالعقاد الثاني) ماسر هذا اللقب؟
- منذُ أدركتُ فداحة غلطة أبي بحقّي، حين حرمني من المدرسة لمساعدته في عمله، وبالتالي لتحسين دخله. أمّا أخي الأكبر فقد وجد مخرجاً له في متابعة دراسته في دار المعلّمين، وكان لها نظام داخلي، صار أخي وزملاؤه يتهرّبون من مجالستي ورفقتي، بحجّة أنّهم مقبلون على الامتحانات، لأنّ
وجودي معهم صار يؤثّر، كما يبدو لهم، على دراستهم وتركيزهم، وبالتالي سأتسبّب في ضياع وقتهم. في تلك الأثناء أحسستُ بالغيرة والضّيق والانزعاج والاختناق، فأنا بنظرهم مجرّد عامل بناء، وهم طلبة، أي هم
يشكّلون مستوى آخر، أرفع وأعظم، ولهذا وجدتُني وبدافع التّحدّي وردّ الاعتبار أبادر لكتابة أوّل قصّة لي، كانت تشبه المسرحية، ثمّ اقتحمت على أخي ورفاقه جلستهم وعرضت عليهم ما كتبت، فأعجب أخي وأصحابه بما كتبت، بل قمنا بتحويل
فالقصّة.إلى تمثيلية، وتمّ توزيع الأدوار، حيثُ قام أخي بمهمّة الإخراج وبتأليف موسيقى تصويريّة للعمل، ثمّ سجّلناها على شريط كاسيت. وهكذا أعادوني إلى صحبتهم والسماح لي بمجالستهم، وصرتُ أمضي الوقت والسّهرات معهم، وأنا أقرأ، مثلي مثل أيّ طالب مدرسة، وأثبتُّ لهم بأنّي لست بالجليس الضّارّ والمتسبّب بالضرر وضياع الوقت لهم. اندفعتُ للمطالعة والكتابة، لدرجة أنّ أصدقاء أخي استنكروا عليّ الأمر، وراحوا يشكّون بأنّي أقوم بسرقة قصائد «نزار قباني» وأنّني أنسبها لي، فذهبوا إلى أستاذهم يسألونه: (هل من
المعقول أن يكتب هذه القصائد فتى لا يتجاوز الرابعة عشر من عمره، يعمل في البناء، ولم يحصل على وثيقة الإبتدائي؟!)
ومن حسن الحظّ أنّ أستاذهم في دار
المعلمين، كان ناقداً وروائيّاً كبيراً ومعروفاً على مستوى الوطن العربي، وهو الأديب والناقد «نبيل سليمان»، وحين عرفَ من أخي أنّي مولع بالقراءة ولا أتوقّف عنها، قال: (هذا ممكن.. طالما هذا الفتى يقرأ ويثقّف نفسه،ثمّ أنّ الموهبة لا علاقة لها بالشهادات المدرسية). وهكذا وصلني أوّل وأعظم وأهمّ تشجيع من ناقد وأديب مهمّ
ومعروف، وله قيمته. كانت القراءة
هاجسي، ولذّتي، ومتعتي، وسعادتي، وكلّ شيء في حياتي، أشتري الكتب والجرائد والمجلّات، بكلّ ما أحصل عليه من نقود، فقد كان والدي يمنحني نصف أجرتي، وكنت أبخل على نفسي بشراء المأكولات والشطائر والألبسة والأحذية في سبيل شراء الكتب والدّواوين الشعرية، وخاصة الأعمال
الكاملة، ذات الجلد الأحمر... وكان
أخي يستعير لي الكتب القيّمة والمهمة والتي تهمّني وتفيدني من مكتبة دار المعلمين، حيث كانت المكتبة ضخمة وغنيّة بكنوز من الكتب الأدبيّة والفكريّة والتاريخيّة. أعمل مع والدي في البناء،أحمل الأحجار الثقيلة طوال النهار، وأكون على مرّ الدوام شارداً وحالماً في الكتابة،فلقد عزمتُ على أن أكون شاعراً كبيراً مثل «نزار قباني»، وحين تداهمني جملة شعريّة، أظلّ أردّدها لكي لا أنساها - ومع هذا كم ضاعت منّي جمل وصور شعرية
ونسيتها، لأنّي لم أتمكّن من تسجيل ما يأتيني من إلهام مباشرة، فقد ضاع عنّي ومنّي الكثير، من الصور الشعريّة العظيمة التي لا يمكن لها أن تعوّض... لذلك كنتُ ألجأ أثناء عملي، حين تداهمني قصيدة، أو مقطع منها، إلى حفر كلماتها بالمسمار على الجدران الطّرية التي لم يجفّ إسمنتها بعدُ، وفي اليوم التالي كنت أحضر دفتراً وقلماً لأنقل ما كنت حفرته بالأمس على الحائط، دون أن ينتبه أبي طبعاً، لأنّه كان ينزعج ويغضب ويعتبرني مقصِّراً في شغلي. من روعة حظّي أرسلَ لي اللهُ أخاً يكبرني بهذه الروعة والمستوى، فهو مثقف وموهوب في الغناء والموسيقى، وهو محبّ للأدب والفكر والفلسفة وعلم النفس... وكان دائماً يشجعني ويحثّني ويدفعني للمتابعة، ويطلب منّي أن لا أكون جاهلاً مثل العمال الذين يعملون مع أبي، وأن لا أتأثّر بهم وأقلّدهم في تصرّفاتهم المتخلّفة. كان يسأل أساتذته في دار المعلمين عن أهمّ ما يحمله لي من كتب من المكتبة، وكنت أتلقّفها بنهمٍ شديد... كتب عربية ومترجمة.
كان شغلي الشاغل التعرّف على كلّ أدباء مدينة حلب، بل على كلّ من يهتمّ ويحبّ الأدب، لذلك توسّعتْ علاقاتي وصداقاتي مع الكثير من المبدعين والمثقّفين، وتعرّفت على أشخاص يهتمّون بالثقافة والسّياسة، لذلك توجّهت لألتهم الأدب الروسي، لدرجة أنّي كنت لا أنام، بعد نجيب محفوظ، وحنّا مينه، وزكريا تامر، ومحمود درويش، عشقتُ الأدب الروسي، وأكثرهم«دوستوفسكي» و«تشيخوف»
أفتتح كتباً عديدة لأقرأها دفعة واحدة رواية، قصصاً، شعراً، مسرحاً، نقداً أدبياً، مذكّرات، كتباً تاريخيّة، وعلميّة، وسياسيّة، وفنيّة، حتّى إن تعبتُ من كتاب، أنتقل إلى غيره من غير أن أضيّع وقتي، وكانت إذا انقطعت الكهرباء أقرأ على ضوء الشّموع أو «البيل»، ومطلوب منّي الاستيقاظ باكراً للذهاب للعمل المتعب والذي لا أحبّه. وبدأت المشاكل بيني وبين أبي لأنّي بدأت أتمرّد وأتهرّب من العمل معه، وكانت المشاكل تنعكس على أمّي وأخوتي وأخواتي، فنحن ستّة ذكور وستّ أناث، عائلتنا كبيرة، ومشاكلنا كثيرة لا تتوقّف ولا تنتهي...
وبدافع الخوف عليّ من الجنون
والهستيريا من قبل أمّي وأبي اللذين يعتبران كثرة القراءة والكتابة وقلّة النوم تؤدّي حتماً إلى ضياع العقل والجنون، فلجآ إلى المشايخ ورجال الدّين، لكتابة الحجابات والتعاويذ
لتحميني وتبعدني عن الهوس الأدبي الذي يخشون منه ولا يحبّونه. ففي الوقت الذي كانوا يتضايقون وينتقدون أخي لأنّه لا يولي دروسه الاهتمام الكافي، فهو يمضي جلّ وقته بالغناء والعزف على آلة العود، ومحاولات التلحين، كانوا يتضايقون من سهري وشغفي بالمطالعة التي لا تقدّم ولا تؤخّر طالما أني لستُ طالباً مدرسيّاً، بل عاملَ بناء وعليّ أن أنهض باكراً للذهاب مع والدي إلى العمل... كنت أقول لهم:
(لا عليكم... ولا علاقة لأحد بي...سوف
أستيقظ دون أن أعذّبكم وأذهب للشغل)
بفضل أخي كنت دائماً ألتقي وأصادق من هم أكبر سنّاً منّي وأكثر وعياً وثقافة، وكانوا يحبّونني ويشجّعونني على المواظبة والاستمرار، وكنتُ أستفيد من نقاشاتهم وملاحظاتهم، وهم يدلّونني دائماً على كتب جديدة ومهمّة، عربيّة ومترجمة.
هكذا كانت البدايات، قبل أن أندلّ على مقرّ «اتّحاد الكتّاب العرب». وكان لوصولي إلى اتّحاد الكتّاب العرب، قصّة لا أنساها أبداً...
كنت أتردّد على مكتبة تبيع الكتب الأدبية والجرائد والمجلات، وحدث وكنت هناك أتفحّص الكتب وأقرأ العناوين لأنتقي وأشتري ما يعجبني، وفجأة تنبّهت إلى شخصٍ يعطي نسخا من مجموعة شعرية لصاحب المكتبة، ليعرضها له للببع، فأخذتُ أراقب وأستمع لحديثهما، حتّى تأكّدتُ أن هذا الأستاذ، هو الشاعر صاحب المجموعة الشّعرية... اقتربت منه، ألقيت عليه التحية بارتباك... وحين ردّ عليّ ولمست منه الطّيبة. والتّواضع، سألته: (أستاذ هل أنت شاعر؟ وهل هذه المجموعة الشعرية لك؟ أجابني: (نعم... أنا الشّاعر الفلسطيني«عصام ترشحاني»). قلت بصوتٍ متلعثم :
(أستاذ أنا أكتب الشّعر منذ سنوات، ولكني لا أعرف إلى أين أتوجّه، وعلى من أعرض شعري). قال لي: (تعال إلى اتّحاد الكتاب العرب، وهناك نسمعك وممكن أن نفيدك).
فرحت كثيراً حين دلّني على الاتّحاد
ووعدني أن يكون بانتطاري يوم غد.
عدتُ إلى المنزل وأنا في غاية السّعادةَ والفرحة، لأوّل مرّة في حياتي أقابل شاعراً حقيقيّاً مشهوراً، وله كتب مطبوعة ينشر في الجّرائد والمجلات... وكانت فرحتي أعظم لأنّي سأذهب حيث يجتمع الكتاب وأسمعهم ما أكتب.
وكنّا في حارتنا أنا وأخي والعديد من الأصدقاء نلتقي يومياً مساء، في بيت واحد منّا... واليوم حين التقينا حدّثتهم عن لقائي بالشّاعر عضو اتّحاد الكتّاب وعن موعدنا في يوم غد، في مبنى الاتّحاد... وهنا طلبوا من صديقنا طالب الطّب، الذي نال الدرجة الأولى على القطر السّوري بنجاحه في شهادة البكلوريا... وكان صديقنا هذا أكبر منّي بالطبع وهو يكتب الشّعر العمودي، وكان الجّميع يعتبره نابغة عصره ليس بسبب شعره، بل بسبب نيله الدّرجة الأولى في البكلوريا. أقول لهذا كانت الاقتراحات من الأصدقاء أن يذهب معي وَيُسْمِعَ الأدباء شعرَه، كما سأفعل أنا.. ووجدّت الفكرة جيّدة، لأنّي لو ذهبت لمفردي سوف يكون الأمر صعباً عليّ ومحرجاً.. بينما أكون متشجّعاً لو كان برفقتي.. وهكذا اتفقنا وذهبنا في مساء اليوم الثاني معاً. وذهبنا، ودخلنا مقرّ الاتّ
حاد، وتطلّعتُ فوجدْتُ في
الغرفة الواسعة عدداً غفيراً من الأساتذة، انكمش قلبي، شعرتُ بالحرج والخجل، وأردتُ العودةَ والهرب، من هذا المأزق الذي أوقعت نفسي فيه.. لكنّ الأستاذ «عصام» كان قد شاهدني، وربّما أحسّ بما أنا عليه من ارتباك وحرج، فناداني... فاضطررتُ للدخول أنا وصديقي طالب الطّب... سلمنا على الجّميع، وجلسنا وكنّا في غاية التهيّب
والحرج. الغرفة مليئة بالأدباء، وكانت بينهم أديبة عرفتها فيما بعد، وهي الكاتبة «ضياء قصبجي»، قال لهم الأستاذ عصام: (هذا الشّاب يكتب الشّعر، ويريد أن يسمعنا شيئاً من كتاباته، ليعرف رأينا). التفتوا نحوي، انقبض قلبي، تضاعف حرجي
، ازداد خجلي، انبثق العرق يزخّ منّي بغزارة...سألني أستاذ، جميل الشّكل، يصلح أن يكون ممثّلاً من فرط أناقته وجماله وروعة نظارته، وعظمة غليونه، وقد عرفت أسمه فيما بعد، وهو الأديب الكبير الأستاذ «وليد إخلاصي»: (ماذا تدرس؟). قلت بصوتٍ متلعثم ومرتجف: (أنا لا أدرس... تركت المدرسة قبل أن أحصل على الابتدائيّة، وأعمل في مهنة العمارة). ارتسمت الدّهشة على الأوجه، وازداد الاهتمام من قِبَلِ الجّميع، وبدأت الأسئلة تنهال عليّ من الجميع. وحين عرفوا قصّتي، طلبوا منّي أن أسمعهم ما عندي. أردتُ أن أتدارى أولاً بصديقي، لكي أستمدّ منه الشجاعة، فأنا غير واثق من قراءتي، حتماً سأخطئ في النّحو، وهنا مكمن ضعفي وعدم ثقتي بنفسي، فقلت: (هذا صديقي، وهو طالب سنة أولى طب بشري، وقد نال الدرجة الأولى على سورية في نجاحه بشهادة البكلوريا.. وهو أيضاً يكتب الشعر الموزون، وعنده ديوان ضخم). وهكذا استطعت أن أجعله يبدأ قبلي بإسماعهم قصيدة كان يعتبرها من روائعه، فهي لا تقلّ عظمة عن شعر المتنبي، على حدّ زعمه هو وأصدقاؤنا. ولكنّي وجدت منهم عدم الانشداد والاهتمام، حتّى أنّهم لم يطلبوا منه أن يسمعهم قصيدة ثانية. جاء دوري
أخيراً، بدأت أقرأ، بالتأكيدِ كان وجهي محمرّاً، وصوتي مرتجفاً.. ولكنّي لمحت إطلالةً لبعض الابتسامات، وبريقاً في
العيون، واهتزازاً بالرؤوس، وهذا ما
أراحني، وجعلني أتنفّس وتتسرّب إليّ الطمأنينة... وحين انتهيت، وقبل أن أجمع أوراقي، طلب منّي أحد الأساتذة أن أسمعهم قصيدة ثانية... وكان هذا الأستاذ هو الشاعر «سعيد رجّو» كما عرفتُ فيما بعد، وهو شاعر عصامي معروف، وهذا كان سبباً لي لتزداد شجاعتي وثقتي بنفسي وفي المستقبل. أسمعتهم ثلاث قصائد...واستطعت أن أنال التعاطف والاستحسان...
في حين لم توجّه أيّة كلمة طيّبة لصديقي طبيب المستقبل. وطلب مني الشّاعر«سعيد رجو» والأستاذ «عصام ترشحاني» أن أبقى أتردّد على اتّحاد الكتّاب، لأحضر الأماسي والنشاطات التي تقام بشكل أسبوعي. وصرت دائماً أذهب وأسمع ما أكتب للأستاذ «سعيد رجو» الموظف بالاتّحاد، وكذلك للأستاذ «عصام»، وكانا لا يبخلان عليّ بالنصائح والتشجيع.
أعترف أن سؤالك يا أستاذ «مهدي» هذا طويل وصعب، ويمكن لي أن أردّ عليه برواية من أجزاء عدّة.. حتّى أصل إلى سرِّ لقب «العقّاد الثّاني» الذي أطلقه عليّ الأستاذ الأديب والناقد «محمد بن يوسف كرزون». ولا أدري هل أفرح بهذا اللقب الذي هو فوق ما كنت أتصور وأتخيّل وأحلم، أم أبقى مرعوباً ومرتجفاً من هذا الشّرف العظيم الذي لا أستطيع الإجابة عليه، لذلك اعذرني.
** - يقولون أنّ الأسلوب هو الكاتب، وقد عرفناك قاصّاً، فما هي قصّتك أنت بالذات؟..نودّ أن تحدّثنا عن البدايات، وكيف تسترجع محطات تشكّل هذا الشغف بالكتابة؟.
- الأدب الشعبي الموروث، هو السّبب
والأساس في تفجير الموهبة عندي، السّير الشّعبية، والملاحم، والحكايا، وسّعت عندي مدارك الخيال، وكان للبساطة في الطرح الدّور الكبير، عشقت السّندباد البحري، والزير سالم، وأبو زيد الهلالي، وعنترة، وهارون الرشيد.. وصرت أحلم أن أكون مثلهم، العفويّة والصدق والقدرة على الإقناع لشدّ إنتباه المتلقي.. هذا ما عملت عليه منذ البداية. في البداية كتبت الشعر، ولكنّني كنت مولع جداً بقراءة القصص والروايات والسّير الذّاتية والمذكرات الشّخصية للأدباء، أو أيّ فنّان وعبقري..وأدركت أنّ المجد الأدبيّ يصنعه الأديب بنفسه.. أي الإبداع عمل فردي، يختلف عن العمل في السّياسة الذي يعتمد في النهاية على العمل الجماعي والمنظّم. وكنت أحبّ الشخصيات المتميّزة والمتمرّدة، حيث لكلِّ أديب تجربته الخاصّة، وقصّته المختلفة، والغنيّة، وهذا ينطبق على الأدباء العرب وغيرهم من الأدباء الأجانب.. فكنت أحبّ أن أدرس وأعرف خصوصية كلّ أديب.. لأنّ في خصوصيته تكمن أسرار عطائه وإبداعه.. فمن لا يعرف تاريخ الأديب الشخصي وتفاصيل حياته، لا يمكن له أن يفهم أو يدرك فحوى كتاباته، ولن يصل إلى قرارها وأعماقها. ولأنّ قراءتي للأدب غيّرتني وهذّبتني وحوّلتني من فتى طائش كثير المشاكل.. أدركت أن للأدب قدرة هائلة على التأثير والتغيير، وإيقاظ الحسّ
الإنساني عند كلّ شخص.. وبالتالي تحوّله من إنسان سلبيّ إلى إنسان إيجابي.. وبالتالي فهمت أن للأدب دور ورسالة.. والأديب هو القائد الحقيقي الذي يقود الناس، ولكن بشكل غير مباشر، ومن دون أسلحة وجنود.
** - صدرت لكَ إبداعات ورقية حدّثنا عنها؟.
- صدر لي.. والآن يصدر لي.. وخلال فترة وجيزة سيصدر لي.. وعندي كتابات كثيرة، اتّفقت مع الناشر على طباعتها بالتسلسل في أسرع وقت ممكن، خشية أن أموتَ وتموت كتاباتي معي، لأني متأكّد أن لا أحد. سيهتمّ بكتاباتي بعد موتي.
ولكن سأقول الحقيقة المؤلمة والموجعة والمبكية والمضحكة.. فأنا حتّى الآن لا أعتبر أنّ كتاباً واحداً طبع ونشر لي.. هل أنا أخدعكم؟!.. هل أكذب على نفسي؟!.. أم على القرّاء والتاريخ؟!.
صدر لي ولم يوزّع ما أصدرته، فما
الفائدة؟!.. صدر لي ولم يصل ما نشرته للقارئ!!!.. إلّا نسخ معدودة وضئيلة وزَّعت كهدايا.. وعلى أشخاص معظمهم لا يهتمون بالأدب، وقد لا يقرؤون كتابي، ويمكن أن يرموه بأقرب حاوية، هديّتهمُ مجاملة، وأخذوا الهديّة مجاملة، فهم أشباه أمّيين ولا يكترثون بالأدب. أطبع على حسابي، نسخاً قليلة، وأضع الكتب في كراتين في منزلي.
فقد كتب الشعر ردحاً من حياته، وكان شعره خالياً من الإيقاع الخارجي، فهو - من هذه الجهة - قد ينتمي إلى ما يسمى (قصيدة النثر) لكنه من حيث التصوير والبناء الشعري قد ينتمي إلى شعر التفعيلة.
يزخر شعره بالصور المحلّقة، فهو يملك مخيلة واسعة الأفق ، ويرى أن القصيدة يجب أن تكون مليئة بالصور الجديدة المدهشة لذلك تراه يسعى سعياً حثيثاً إلى المزيد من التصوير الفني.
أمّا موضوعات شعره فمتنوّعة، ولكن يغلب عليها موضوعان أساسيان هما: الهم السياسي - الاجتماعي، والغزل. وقد كتب في الحب نيفاً ومئة قصيدة أطلق عليها أصدقاؤه تسمية (الندويات). وقد جمع أشعاره بين دفتي مخطوط بعنوان (نوافذ على الجرح).
تحوّل إلى كتابة القصة القصيرة، فأنجز مجموعة كبيرة من القصص، تقدم بمجموعة منها تحت عنوان (الضّحك على اللحى) إلى مسابقة الدكتورة (سعاد الصباح) في الكويت
ففاز بالجائزة الثانية، وتقدم بمجموعة أخرى تحت عنوان (قهقهات الشيطان) إلى اتحاد الكتاب العرب بدمشق، فوافق على طبعها بالتعاون.
إنّه القاص (مصطفى الحاج حسين)، العين الراصدة، والحدقة الجريئة التي تلج عالمه الداخلي، كما تتسلل إلى عوالم الآخرين دون استئذان، لكنها تخرج منها بعوالم قصصية ناجحة.
إنّه القاص الذي لم يغادر - في قصصه - حلب وضواحيها
فهو مخلص للمكان مرتبط به ارتباطاً وثيقاً، يؤمن بأن أية بقعة من الكون تنبض بمئات القصص، وما على القاص المبدع إلاّ أن يستلّ قلمه، ويحاكي ما حوله تسجيلاً فنياً مبدعاً.
إن كل شيء حوله قابل لتحويله إلى قصة قصيرة، كل حدث مهما كان صغيراً، وكل شخصية أيضاً يملكان كمّاً قصصياً هائلاً لذا نجد قصصه متحركة في جميع الأبعاد، متسوبة إلى كل الزوايا، متنوعة المآكل.
وإذاً، فلا شيء - على الإطلاق - لديه عصي على القصة وبالتالي يغدو كل شيء في الحياة فنّياً، إذا ما تيسّر له فنان يستطيع تطويعه، وتدجينه في أحد الأجناس الأدبية أو الفنّية.
قد يقودنا هذا القول إلى أنّ قصص (مصطفى الحاج حسين) واقعية، وهذا صحيح تماماً، لكنها واقعية تمتلك حرية الاختيار، فهو - على الرغم من إخلاصه للوقائع إلى درجة التسجيلية أحياناً - يتدخل بخياله الفني، ليضفي على الأحداث ما يتلاءم وفكرة القصة، أو الرؤيا التي يحبّ أن يطرحها من خلالها، وهكذا تغدو واقعية (مصطفى) في قصصه واقعية ذات بعدين:
1- واقعية المضمون:
فهو لا يكتب قصة من قصصه بمنأى عن أحد المصادر التالية:
التجارب الذاتية، تجارب الأهل والأقارب، تجارب الأصدقاء، الموروث الشعبي، أو ما يشتهر من أحداث الواقع المحيط.
فهو كاتب مفرط الواقعية، يختار قصصه من الواقع المعيش غالباً، فتطغى على قصصه سمة التجربة الحياتية الحقيقية، فكل ما يكتب عنه - بلا استثناء - رآه حقيقة، وعاش جزءاً منه، أو سمع عنه نقلاً عن رواة ثقاة، لذلك نرى تأثير قصصه - في الغالب الأعم - سريعاً ومباشراً، وهو يعمل على الفكرة أحياناً، لكنها يجب ألاّ تكون فكرة متخيلة، فيكتب قصة الفكرة، ولكن تكون قبساً نموذجياً مما يحدث في الواقع عادة وإن كانت غالبية قصصه قصة حدث. ولنأخذ مثلاً على قصة الفكرة، تلك القصة التي كانت عنوان مجموعته المنشورة(قهقهات الشيطان) حيث نجد (رضوان) بطل القصة، وهو غلام بسيط، يدخل إلى البيت، فيفاجأ بوفاة أبيه، ويرى الجميع مجتمعين يبكون، فلا يستطيع أن يذرف دمعةً واحدةً.
ويبدأ التفكير بأنه يشعر بالأسى لأنّ أباه مات، ولكنه - في الوقت نفسه - يسعد لهذا، ويسمي هذا التفكير وسوسة من الشيطان، فلا يمكنه إلاّ أن يبتسم رغماً عنه، ها هو يقول:
(لقد مات أبي، ينبغي أن أبكي، حسدت أمي ومريم وزوجة عمي وابنتها، حسدتهنّ على دموعهنّ، المرأة دائماً جاهزة للبكاء.. يالسعادتها.. ابتهلت إلى الله أن يمنّ عليّ بدمعة واحدة، لعنت الشيطان الرجيم في سري، صممت آذاني عن سماع صراخه: - لقد أصبحت حرّاً طليقاً - ابتعد أيها الشيطان القذر، فأنا أحبّ أبي رغم كلّ شيء، لقد سامحته.. أسرعت إلى غرفتي، وعلى الفور بللّت إصبعي بلعابي، ثمّ دهنت جفني).
إنّه يتذكر قسوة أبيه عليه، وأنّه كان السبب في عذاباته فهو قد حرمه من متابعة الدراسة، وأجبره على العمل.
وفي محاولة منه لإقناع الشيطان بالحزن على أبيه، يهرب من الجميع خوفاً من أن يكتشفوا ابتساماته. وفي المقبرة يبث شكواه إلى جده الظالم الذي كان السبب الحقيقي في بناء شخصية أبيه.
كثرت الشخصيات في هذه القصة
ولكنها ظلّت جانبية، بسيطة الحضور، وقد سيطر السرد على القصة على الرغم من وجودالشخصيات والحوار القصير الذي يدور بينها، عبر ارتباطها بالبطل، وكانت الخاتمة قوية، فثمة دمعةواحدة حقيقية انحدرت من عينيه، ويحرص (رضوان) على إبقائها، غير أنّ جنازة أبيه ما تزال بعيدة.
2 - واقعية الشكل:
(مصطفى) كاتب غير مولع بالتجديد كثيراً، فهو - غالباً - ما يسرد قصصه بواقعية حادة، معتمداً المباشرة لفظاً ومعنى، واضعاً نصب عينيه قارئه، فهو كثير الاهتمام به، لذا يبتعد عن كل ما يبعده عن القارئ، ولا تكاد أمسية من الفعاليات الثقافية بحلب شارك فيها (مصطفى الحاج حسين) تخلو من تعلق المتلقين بقصصه ومن تأثيرها المباشر فيهم.
إنّ القصة التي يكتبها (حاج حسين) تبقى عالقة في الذهن مستمرة فينا بعد قراءتها، أو سماعها، ولذلك يعود - في ظني - إلى أمرين، أولهما الحرارة التي تمتلكها قصصه، فهو يختار المواضيع الساخنة، بحيث تظهر حيوية متدفقة، توحي بطزاجة الحدث وواقعيته وتلامسنا أياً ما كان انتماؤنا أو اتجاهنا الفكري، وثانيهما بروز جانب النقد الاجتماعي الذي يعتمد على السخرية المرّة غالباً، وهكذا نراه يكشف زيف علاقاتنا الاجتماعية ويقوم بتشريح دواخلنا، ونحن نستمع إليه مستمتعين، ونتابعه لأننا نلمس في قصصه واقعية انتقادية محببة، تسعى إلى تغيير الظواهر السلبية بثورية مقنعة، تتسلل إلى النفس، لتفعل فعلها النقدي الواقعي العميق.
ويقودنا هذا إلى الحديث عن قدرة (مصطفى الحاج حسين) على الدخول إلى عوالم النفس الإنسانية، بحيث يستطيع استكناه الدوافع الداخلية، فيتتبع خطاها بقدرة فائقة، إنّه قادر على سبر أعماق الإنسان ببساطة مدهشة، وبذلك نجد غالبية أبطاله مصابين بعقدة (مركب النقص)، فهم يحاولون جاهدين لتغطية عقدتهم تلك بأساليب وسلوكيات مختلفة، تبدو
مضحكة أحياناً، وهذا ما نجده واضحاً في معظم ققص (حاج حسين)، من مثل قصة (واقتنى تميم نقاده) حيث نرى شخصية (تميم) هذا شخصية مأزومة منذ البداية، فهو شاب مدلل، غير أنه يشعر بالعجز لرسوبه المتكرر بالجامعة، فيجرّب التمثيل في المسرح الجامعي، فيفشل ويغدو أخيراً شاعراً بالمصادفة الساخرة، وهي مصادفة تعتمد النقد الفكري والفني من قبل القاص، فالناقد الشاب هو الذي منح (تميماً) إجازة الشعر، على الرغم من لجنة التقييم وآرائها، في المهرجان الشعري الجامعي، وحيث يصبح بيت (تميم) مزاراً لكل محرري الجرائد والمجلات من العاصمة، فإنّ القصة ترصد المال والجاه قيماً عليا في الأدب والفن.
.
والقاص (مصطفى الحاج حسين) يرسم شخصياته بعناية ويهتم بعرض جزئيات من حياتهم، فقد يضطر - أحياناً - إلى العودة نحو الماضي لاستكمال صورتها منه وغالباً ما يرسم الصفات الجسدية والخارجية للشخصية وذلك للوصول إلى قدر أكبر من تحديدها، وبخاصة تلك الصفات التي تمنح القصة سلاح السخرية الحاد، في النقد الواقعي، وتعرية السلبيات فيه.
إنّ تجربة (مصطفى الحاج حسين) تجربة غنية فيما يبدو فهو قد أفاد من تجربته الشعرية بحيث نلحظ الشعرية في لغته القصصية، وكذلك قدرته على التصوير الفني المتقن، يجسد لنا الشخصيات والأحداث تجسيداً حيّاً ومباشراً، فنكاد نلمسها بأيدينا، وهو - في سبيل ذلك - يصر على جعل المتلقي يلهث وراء الحدث، عبر حشد الكثير من التراكيب والألفاظ والصفات، معتمداً عنصر المبالغة في عملية التشويق، لشد المتلقي الذي يضطر - بدافع الفضول على الأقل - لمتابعة القصة، وكثيراً ما تنجح هذه المحاولة، فتترك آثارها الإيجابية الباقية في المتلقين.
وربما كان من الضروري الإشارة إلى أنّ أجواء قصص (الحاج حسين) هي أجواء متنوعة متباينة، فهو يمتح من الذاكرة أحياناً، فيكتب قصصاً تعود إلى تجارب قديمة، تصور جانباً هاماً من مدينة (الباب) مدينته الأم، فيكشف
من خلالها الواقع المتردي، ويصور ما
فيها من أمراض اجتماعية وأخلاقية وفكرية، وقد يتجه إلى عوالم المثقفين
والأدباء منهم بخاصة فيسجل ما يعتمل في هذه العوالم من زيف وخداع، ويعري شخصيات هذا العالم، بجرأة تصل حدّ الفضيحة، في بعض الأحيان وهذا ما جعلني أطلق عليه ذات يوم صفة (الكاتب الفضائحي)، وكان ذلك في النادي العربي الفلسطيني، في أمسية أقيمت احتفالاً بالأدباء الذين فازوا بمسابقة دار سعاد الصباح من حلب وكان منهم، وكذلك في نادي التمثيل العربي للأدب والفنون.
إنّه كاتب لا بتحرّج من رصد سلوكيات الأدباء أحوالهم الداخلية، ويبدو كل ذلك نابعاً من تجربة حقيقية له، إذ عايش، ويعايش واقع الأدباء وتربطه بمعظمهم صداقات كثيرة.
فقد كتب الكثير من القصص، كان أبطالها شعراء وقصاصين ونقاداً، من مثل (واقتنى تمتوم نقاده - إجراءات - الضحك على اللحى - القصيدة الميتة - المبدع ذو الضفتين).
ولنأخذ الأخيرة مثالاً على ذلك، حيث نرى شخصية أدبية ومثقفة، أو هكذا يدعي صاحبها، متخمة بجنون العظمة، وهذا - فيما يبدو - معادل موضوعي للشعور بالنقص.
وتقوم القصة بفضح هذه الشخصية من كل الجوانب، ورصد تحركاتها النفسية من خلال كلامها، ويأتي السرد عن طريق البطل ( الراوي بصيغة الأنا ).
والقصة تسجل انتقاداً صارخاً لكل أولئك الذين يستسهلون العملية الإبداعية، وأيضاً تنتقد الثقافة وأوضاعها الراهنة ابتداء من النشر وانتهاء بالإبداع الحقيقي، وكذلك تنتقد الدارسين الجامعيين، وغيرهم من النقاد والمثقفين.
ويبدو التأزم في القصة واضحاً منذ البداية، ويأتي التسلسل الزمني في سبيل عرض الحالة والاستغراق فيها أكثر، فالبطل - هو ربّ الشعر كما يقول - يقرر كتابة القصة القصيرة، مفتخراً بكل تجاربه على جميع الأصعدة، ويبدو أنّه مضطر إلى الكتابة القصصية، فهو وصل إلى قناعة مفادها أن القصة أكثر استيعاباً لحوادث الحياة وهمومها من الشعر، وكذلك فإن زوجته تحب القصة، وهو الآن يميل إليها. وقد برزت في هذه القصة شخصيّة واحدة، وزمن واحد، وإن كان ثمة أزمان ماضية ذكرت من خلال السرد، وجاءت الإنارة داخلية، فلا غموض ولا إبهام في القصة.
وكذلك يمتح القاص (الحاج حسين) من قاع المجتمع الغائص في مستنقع العادات والتقاليد البالية، فيكشف لنا أنماطاً من السلوكيات والتصرفات في هذا الواقع، يعرض بأخلاقيات هذا المجتمع وقواعده، معرياً زيف بعض شخصياته، من مثل قصة (دستور من خاطره) التي ترصد شخصية مدّع شيخ طريقة، وهو يظهر التقوى ويدعي الإيمان ولكنه - في الحقيقة - بؤرة للرذائل، وأصناف الفجور.
وقد يعتمد القاص (مصطفى الحاج حسين) على الموروث الشعبي في بناء قصته، مفيداً من حادثة شعبية صغيرة يقوم برسمها في قصة فنية متكاملة، كما في قصة (باثور رئيس المخفر ) وأيضاً في قصة (تل مكسور)، وتعد هذه الأخيرة من أجمل قصصه، فهي - وإن كانت مبنية على واقعة صغيرة، فحدثت في إحدى القرى التابعة لمدينة حلب - إلاٌ أنه استطاع - من خلالها - تناول واقع القرية، وما فيها من جهل وتخلف وخوف، وبخاصة أمام معلم المدرسة المتعلم، وهو معلم وحيد، ينفش ريشه كالطاووس، ويخدع أهل القرية مدّعياً بأنّه مسنود من العاصمة، ويتخذ من التهديد بتقاريره السياسية سلاحاً له أمام الأهالي، الذي يخضعون له في النهاية، بما فيهم المختار، ولا يملكون حياله أي فعل، وتتأزم القصة، فتكون الذروة عندما يشاهد المعلم تلاميذه يلعبون بكرة صنعوها من الخرق يهجم عليهم، فيكتشف أنّ علم المدرسة قد حشر أيضاً في الكرة الخرقية، وتبدأ المأساة فهو لا يرضى بمثل هذا الفعل، وتتنامى القصة بأحداثها لتصل إلى المواجهة الصارخة بين معلم الابتدائي وبين (خديجة) زوجة الشهيد، وابنها (جمعة الخلف) تلميذ المدرسة، حيث يتهمه المعلم لأن الأخير يرغب بأمه التي تأبّت عليه كثيراً، ويبدأ بضربه، وتجتمع القرية، وتكثر التوسلات، ويتدخل المختار ولكن المعلم لا يرضى، ويهدد ويزبد بأنه سيكتب تقريراً للسلطات الأمنية، وسيسجن هذا الخائن، وتقف (خديجة) الأم بين الجمع، وبخبث يجرها المعلم للحديث والاسترحام، حيث يبدأ بالتهجم على زوحها، متهماً إياه بالخيانة لأنه والد (جمعة)، وهنا تنفجر (خديجة) فزوجها مات شهيداً، ولا تقبل مثل هذه الإهانة، فتحقر المعلم، وتهجم عليه لتضربه، وتأتي النهاية لتشير بطرف خفي إلى استشراء الخوف، وانتشار الجهل الذي يجعل الجميع يقفون مكتوفي الأيدي، يدفعون ضريبة جهلهم وخوفهم وتكون الخاتمة القوية التي تعد من أجمل خواتيم قصص (الحاج حسين) حيث يوقف اللحظة الزمنية ويد (خديجة) مرتفعة للأعلى قبل أن تنزل على خد المعلم، وكأنها ترتفع بدلاً من علم البلاد.
إنها قصة ناجحة قصصياً وفنّياً
تمتاز بالحرارة والصدق، وحركاتها المكانية والزمانية تندغمان ليضيع الوصف والسرد في خضم الأحداث.
وكثيراً ما نرى شخصيات قصصه نموذجية، أو بتعبير أدق، يصورها القاص ويرسم أبعادها لتغدو نموذجية، ولا نعني - هنا - الحكم القيمي عليها، فقد تكون سلبية أو إيجابية. وربما كان من الضروري أن نشير إلى أنّ معظم شخصياته هم من الشباب الذين يعيشون أزماتهم الواقعية والإجتماعية، وفي أحيان أخرى أزماتهم العاطفية والفكرية ،ولا شك أن ذلك نابع من كون القاص شاباً حتى الآن طبعاً.
وها هي قصة (الإنزلاق) تبدأ بوصف
حافلة مكتظة بركابها، وتتجه العدسة نحو البطل المثقف، مدرس الفلسفة وعلم النفس محشوراً بين الجموع، إنّه فقير يعيل أمه وأخواته العوانس، مكبوت لا يقدر على الزواج، يقف وراء شقراء في الحافلة المزدحمة، وتبدأ هواجس الكبت والأخلاق بالصراع في رأسه وعبر المونولوج الداخلي يكشف القاص بطله وهو يؤكد لنفسه بقوله:
(سقط القناع… إنّي بكل بساطة أنقسم إلى اثنين، مدرس فلسفة يتشبث بالأخلاق.. وحيوان شهواني) ويسقط في خضم الصراع يدفعه كبته الجنسي
ولكنه يكتشف أنّ هذه الفتاة إحدى طالباته.
ولا تغيب المرأة عن قصص (الحاج حسين)، فهي موجودة في كل قصة تقريباً ولكن ثمة علاقة مشوهة - وأحياناً - بين تلك المرأة من جهة، وبين الرجل من جهة أخرى إذ غالباً ما تظهر العلاقة غير سوية بينهما، ولا نقصد علاقة الحب فقط، بل المرأة أماً وزوجة وابنة وحبيبة. وتظهر المرأة لديه أحياناً أخرى قوية فعالة، وصاحبة موقف حقيقي، من مثل قصة (شرف العائلة) و (تل مكسور).
وكذلك لا يغيب الوطن ولا الأرض عن قصصه، حيث نجدهما كثيراً، وبخاصة في قصة (شرف العائلة)
وذلك عبر رمزية تشف عن المغزى من ورائها فهي - فيما يبدو - قصة فلسطين الجريحة، ويبدو الأعمام الكثيرون، وهم في القصة رمز للدول العربية، غير مبالين إلاّ بأنفسهم ومصالحهم، وهم يعرضون على ابن عمهم / الأب في القصة، أن يقوم ابنه بقتل الفاجرة، التي خرجت على قواعد العائلة وشرفها، فهم يريدون غسل العار، ولكن ليس بأيديهم أو أيدي أبنائهم ودون أية خسائر، وكذلك في قصة( تل مكسور ) التي تشي عن رمزها بوضوح تام، حين ترتفع يد زوجة الشهيد في وجه المعلم مثل علم البلاد خفاقة مشرقة.
وإذا كان لا بد من الإشارة - في، النهاية - إلى بعض الملحوظات الفنية، فإنني أشير إلى أن قاصنا يعتمد على السرد كثيراً، وهو ما يسوقه إلى الاستطراد، الذي يوسع من حدقة القصة القصيرة، أو يشغلها بحوادث جانبيةوسخصيات إضافية.
هذا مع الإشارة إلى أنّ القاص يجيد عملية القص في النسق الحكائي، ولكنه يتدخل - أحياناً - في صلب القصة، فيعلّق، أو يضيف عبارات توضيحية لا داعي لها. كما أننا نلمس، خطابية ومباشرة في عبارات قصصه ومفرداتها
ولربما تقوده إليها رغبته العارمة بالمبالغة والإثارة، ولكنه يستطيع - بما يملك من قدرة على الحبكة ونسج خيوطها الفنية - إذكاء حدّة الصراع بين الشخصيات، ورسم عدة عقد في القصة الواحدة، أو أكثر من ذروة فيها، وهذا يؤدي إلى تأثيرها في المتلقي وربطها به ربطاً حميمياً عبر نمو عنصر التشويق والإثارة.
كما يمكن الإشارة إلى نمطية اللغة القصصية، هذا مع التنبيه إلى نجاح لغة الحوار في قصصه غالباً، حيث نراها مناسبة للشخصيات، تميل إلى الحديث العادي، دون اللجوء إلى عامية مغرقة، أو فصيحة معقدة.
وأخيراً يمكن القول إنّ تجربة القاص (مصطفى الحاج حسين) تجربة غنية و واعدة حقاً، تنبئ عن خير كثير وعطاء فني متميز، فيما إذا تابع معاناة الأدب حياة وقراءة وكتابة. ولا أجد ما يلخص ويصور شخصية قاصنا إلاّ قول الشاعر أبي الطيب المتنبي حين قال:
وإذا كانت النفوس كباراً
تعبت في مرادها الأجسام.
إبراهيم محمد كسار
حلب..
## (سامي الحاج حسين):
لعلي كنت ولاأزال حين أتأمل في شخصك ألمح فيها طبع الشاعر أبي الطيب المتنبي رغم انك تكتب بنكهة الحداثة وأقرأ في سلوكك وأشعارك الخصائص النفسية التي تتجلى لي بوضوح في كل من الشخصيتين أنت والمتنبي :
فالتشابه كبير في بنيتيكما النفسية وبلاغتكما في المدح والقدح وفي معظم السمات حيث النزق وسرعة الاستثارة والغضب، وسهولة التأثر بالإيحاء، وطيبة القلب، والروح الاجتماعية الودودة،والعلاقات الواسعة،وشدة الاعتداد بالنفس،والنزوع أحياناً إلى التهور والاندفاع وحب المغامرة والتمرد،وقلة الصبر،وامتلاك الروح الثورية المحِبة للتغيير والتجدد،والطبيعة الصريحة الواضحة، والتمتع بخصوبة الخيال،والأسلوب الخطابي المباشر، والميل إلى المبالغة الكبيرة في الأقوال والتوصيف والتصوير وفي العواطف والتصورات، وفي رسم الخطط والمشاريع الضخمة غير التامة، وفي الخيال المدهش،والتميز بالحنكة السياسية والاجتماعية،وتقلب المزاج في الحب والكره والفرح والغضب،وسيطرة اللحظة الحاضرة،والعفويّة الكبيرة،وحدّة العواطف وقوة التعبير، والميل إلى المغامرة،وامتلاك روح المبادرة والتطلعات الثورية،وامتلاك القدرة الفائقة على تثوير الآخرين، والاتصاف بردود الأفعال السريعة أو بالترجيع القريب، والنزعة الساخرة،والحياة ذات الطبيعة الصاخبة، والتفاؤل الروحي بالمستقبل، رغم الطبيعة الغضبية المتمردة.
أحيي بك شاعريتك الكبيرة التي تسكن فيها، وموهبتك المتدفقة، وقدرتك على المثابرة ،وإني لأعتز بالمزايا الثرية لطبعك الفاعل والمهم،كما أعتز بمنجزك الإبداعي الذي لاينضب..ودمت العزيز البهي في قلبي على الدوام.*
سامي الحاج حسين.
حلب
## قراءة لقصيدة (أخاديد الظَّلام).
الدكتور المبدع: (لحجاب أبو جمال)..
مراكش
القصيدة.. للشاعر والأديب السوري:
(مصطفى الحاج حسين).
(أخاديد الظلام) هو عبارة عن مضاف ومضاف إليه بصيغة مجازية: فالأخاديد تكون محفورة على ماهو مادي صلب وملموس مثل الجبال والهضاب.. بفعل مجرى الماء.. لكن أخاديد الشاعر هنا هي أخاديد ظلام وسواد.
يمكن تقسيم هذا النص إلى أربع حقول دلالية وتركيبية:
@ الحقل الأول حسب تقسيم النص إلى فقرات:
الفقرة الأولى:
(يهاجمني ظلي
ينقض على خطاي
يشعل القش في صوتي
ويأمرني:
لا تكمل الدرب.)
وهنا الشاعر يعيش صراعاً مريراً مع ظله الذي يهجم ويعيق مسيره.. ويخنقه ويمنعه بصيغة الأمر من مواصلة السير على الدرب. وهو صراع مرتبط بحاضر الشاعر.. وذلك لكون الشاعر وظف أفعال المضارع: يهاجمني.. ينقضُ.. يشعلُ.. مع فعل أمر "لا تكمل".
ولعلّ الصّراع هنا صراع مع الذات.. ويبقى"الظّل" رمزاً لما يعانيه الشاعر من هواجس وقناعات فكرية تتضارب أحيانا لسبب أو لآخر وتمنعه عن مواصلة دربه.
والعلاقة بين الذات والظّل هي علاقة فيزيائية .. وهي علاقة جزء (الظّل) من كل (الذّات).. وأوضح من خلال الفقرة الأولى هو أن الجزء أقوى من الكل؟!
وذلك بالنظر إلى السلطة التي يمارسها الظل على ذات الشاعر؟!.
@ الحقل الثاني من خلال الفقرة الثانية:
(كانت انفاسي حفرت
أخاديد الظلام
وأصابعي أمسكت نافذة الفجر
تجمّعت في دمي طيور الحنين
وتحرّكت بداخلي مراكب الانعتاق
وكنتُ قد هممتُ باشعال أمواجي
حين داهمني خراب الأجنحة
من كسّر شواطئي هو منّي!
من حطّم عليائي
هو توأم انتصاري!
أيا درب البرق التّائه
هطل دمع الهزيمة
وناحت فوق أغصاني
فواجع السراب).
هنا الشاعر رحل بنا إلى ماضيه المجيد والجميل والغني بالمواقف الفكرية والقوة والعزم والإصرار من أجل التحرر من المعوقات والإنعتاق والإنتصار لغد مشرق وبديل.
ولعل الحنين إلى الماضي جعله يلجأ إلى أسلوب الحكي.. والذي برع فيه بتركيز.. و بشاعرية.. وعبر أفعال الماضي... وعبر توظيف صور بلاغية وتعابير مجازية رائعة.. مثلا:
كانت أنفاسي.. حفرت أخاديد الظلام. (هنا الشاعر جعل للظلام أخاديد)؟!
و: وأصابعي أمسكت نافدة الفجر(هنا الشاعر جعل للفجر نافذة)؟!
و: تجمعت في دمي طيور الحنين.
و: وتحركت بداخلي مراكب الإنعتاق.
و: وكنت قد هممت بإشعال أمواجي.
وكلها صور بلاغية بليغة وتعابير مجازية استطاع الشاعر من خلالها أن يعبر بعمق عما يخالج نفسه من أحاسيس وعزم واستعداد وتحدي لواقع يعيشه ولا يرضاه.
يتابع الشاعر حكيه الشعري والشاعري.. ويعلن لنا عن حقيقة مرة هي سبب معاناته وانكسار عزائمه المتوهجة.. وهي أن سبب الإنكسار والهزيمة هو جزء من الشاعر؟!.. وهذا الجزء الذي خذله في نظري قد يكون متعددا.. فهو الظل.. لكن بتجلياته المتنوعة: فكرية.. اجتماعية.. سياسية ألخ.
لكن ما يبهر هو نوعية التعبير البلاغي ومهارة توظيف المجاز:
مثلا : من كسّر شواطئي هو مني!
و: من حطم عليائي
هو توأم انتصاري!
ولعل خيبة وتدمير الشاعر بسبب جزء منه جعلته ينادي بحسرة ومرارة.. درب برقه (الضوء.. النور.. الحلم.. الأمل..الغد
المشرق..) بجودة عالية في التعبير:
(أيا درب البرق التائه
هطل دمع الهزيمة
وناحت فوق أغصاني
فواجع السراب).
إنها صورة دلالية وشاعرية بليغة جدا.
@ الحقل الدلالي الثالث: من خلال الفقرة الثالثة:
(مهما ابتعدتُ عن النار
أراها تفيضُ من مساماتي
ومهما ارتحلتْ عنّي صحرائي
أجدُ رملَ الندى يهمي فوق أنفاسي).
هنا الشاعر انشطر في التعبيرعن ذاته وتجربته بين الماضي والحاضر.. فلا شيء يسعفه مهما حاول تجنب العراقيل والمعوقات؟!
ودائما يتفوق شاعرنا في التعبير.. البلاغة وشاعرية فائقة.
@ بين الحقل الدلالي والأخير... من خلال الفقرة الأخيرة في النص:
(إني أحارب مجاديف الحصار
أعارك جموح رؤايَ
أحطّم أسوار يباسي
وأصعد أعالي شهقاتي
لأعلن عن ميلاد المدى
القادم بلا ريب
من تحت الرماد).
هنا الشاعر يعود بنا للحديث عن ذاته الآن في الحاضر بتوظيف أفعال المضارع كلها دلالة على عودة عزيمة الشاعر.. وانتعاش روح التحدي لديه لاستئناف مقاومته من أجل التحرر والإنعتاق... ومن أجل تحديده لكل العقبات التي تعيق مساره ومصيره نحو درب البرق.. ونافذة الفجر.. حيث استجمع كل قواه الفكرية والمعنوية ليعلن عن ميلاد المدى القادم بلا ريب من تحت الرماد.
في إشارة إلى"طائر الفينق" الذي ينبعث من الرماد.. ربّما.
وبذلك يكون الشاعر قد جدد عزائمه
.. و تجاوز صورة الحزن والمعاناة التي طبعت النص في مراحله الأولى.. وعبر عن ذلك بلغة كلها أمل وتحدي.. وشاعرية.. وبلاغة.. جمالية. وهذا يجعل من هذا يمتلك مقومات شعرية وإبداعية ورؤى فكرية ذات جودة عالية.
هنيئاً لشاعرنا مصطفى الحاج حسين بهذا النص الرائع.
وأتمنى أن أكون قد وفقت في قراءتي له.
الدكتور: لحجاب أبو جمال.
_______________________________
** أخاديد الظّلام...
أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.
يهاجمُني ظلّي
ينقضُّ على خطايَ
يشعلُ القَشَّ في صوتي
ويأمرُني:
- لا تكملِ الدّربَ
كانت أنفاسي حفرت
أخاديدَ الظّلامِ
وأصابعي أمسكتْ نافذةَ الفجرِ
تجمَّعتْ في دمي طيورُ الحنينِ
وتحرَّكتْ بداخلي مراكبُ الانعتاقِ
وكنتُ قَدْ هممتُ بإشعالِ أمواجي
حينَ داهمني خرابُ الأجنحةِ
مَنْ كسَّرَ شواطئي هُوَ منّي!
مَنْ حطَّمَ عليائي
هُوَ توأمُ انتصاري!
أيا دربَ البرقِ التَّائهِ
هطلَ دمعُ الهزبمةِ
وناحتْ فوقَ أغصاني
فواجعُ السّرابِ
مهما ابتعدتُ عنِ النّارِ
أراها تفيضُ من مساماتي
ومهما ارتحلتْ عنّي صحرائي
أجدُ رملَ الندى يهمي فوقَ أنفاسي
إنِّي أحاربُ مجاذيفَ الحصارِ
أعاركُ جموحَ رؤايَ
أحطّمُ أسوارَ يباسي
وأصعدُ أعالي شهقاتي
لأعلنَ عن ميلادِ المدى
القادمِ بلا ريبٍ
من تحتِ الرَّمادِ.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
## الأستاذة الشاعرة:
(قمر صالوني):
في قراءة لها.. لقصيدة (في بلادي)
للأديب الشاعر السوري:
(مصطفى الحاج حسين).
نص جميل ومؤثر حاكى الواقع بكل شجن العبارات فعندما يكثر القتل والغدر يفتك الفقر البشر ويحصدون الغلال دما وتترمل النساء ويتيتم الاطفال كما جاء بوصف الشاعر أنهم يرضعون من سموم الانفجارات واي
فاجعة حين يعم هذا الرعب فبدل أن تشرق الشمس بالأمل حال بينها وبين البشر رماد الحرب ودخان الحريق واي غد هذا الذي يحمل كل هذه الكوارث؟! ما أوجع المشهد:
(في بلادي يذبح الأخ أخاه
حتى امتلات الارض بالدم
ونبتت الأشجار جثثا).
كل شيء تبدد إلى خراب واسود الدمع في العيون ياله من توصيف مؤثر
كل التقدير للشاعر الذي استطاع بكل عمق الشعور ان ينسج من المعاني وحنكة فكره لغته المتفردة و تمكن استقطاب الشعور بإسقاطات ورمزية رائعة حيث صور لنا ما آلت إليه أوضاع البلاد من فساد نتيجة الكوارث التي مرت بها بكل دقة.. بالتوفيق.
الشاعرة: قمر صابوني.
* في بلادي..
أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.
في بلادي
يحصدُ الفقراءُ
غلالَ الدّمِ
وتقطفُ النّساءُ
سِلالَ الدّمعِ
ويرضعُ الأطفالُ
ُحليبَ الانفجاراتِ
وتتزيّنُ الفتياتُ
بالشّحوبِ والارتجافِ
ويحملُ الرّجالُ على أكتافِهِمْ
جثَّةَ الخرابِ.
في بلادي
ترسلُ الشَّمسُ أشعَةَ الهلاكِ
وتتمترسُ الجبالُ
خلفَ المدافعِ
وتأوي العصافيرُ
إلى حجرِ النّارِ.
في بلادي
ننصبُ فخاً للقمرِ
نعلّقُهُ على عَمودِ الحقدِ
ونسلخُ عنهُ الضّوءَ.
في بلادي
يذبحُ الأخُ أخاهُ
بتهمةِ الخيانةِ
وتكونُ سكّينُهُ
يدَ الغريبِ.
في بلادي
صارَتِ الأشجارُ تورِقُ جثثاً
وصارَ النّهارُ يُطِلُّ
على الفاجعةِ
وغدا النّدى
قطرانَ السّرابِ.
في بلادي
تفحَّمَ الهواءُ
وصارَ السّلامُ
رماداً
وعمَّ الانهيارُ
وتراكمَ السّخطُ
في صدرِ الغمامِ
في بلادي.
جفَّتْ خطواتُنا
وتحوَّلَ نبضُنا يباساً.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
## (محمد إبراهيم أحمد داود)
- قراءة في نص (ثالثة الحروب)..
للشاعر والأديب السوري:
(مصطفى الحاج حسين).
تحتوي القراءة على:
مقدمة.
تمهيد للنص.
القراءة.
الخلاصة.
خاتمة.
كلمات النص.
المقدمة العامة:
الرمز هو كل ما يحل محل شيء آخر في الدلالة عليه.. ليس بطريقة المطابقة التامة وإنما بالإيحاء أو.. بوجود علاقة عرضية أو متعارف عليها.. وعادة ما يكون الرمز بهذا المعنى شيئا ملموسا يحل محل المجرد.. وعادة ما يلجأ المبدعون إلى توظيف الرموز في إبداعاتهم للتعبير عن ذواتهم وما يعتلج في صدورهم من قلق وإضطراب علاوة على الكبت وعدم الحرية في التعبير المطلق.. أو عن مظاهر الفرح.. كما أنهم على دراية بأهمية توظيف الرمز إذ يؤدي إلى إرتحال القارئ عبر رؤية فسيحة وفضاء رحب كي يظفر بالمغزى وما يروم إليه الرمز من دلالات.
تمهيد للنص:
إعتمد اديبنا في هذا النص النثري والثري بكم هائل من النظرات الفلسفية للحياة المعاصرة على إشاعة جو من الإيحاءات الرمزية حيث يستعيض عن الحدث الواقع بالحدث الفانتازي ويوظف الحلم.. ويعيد تنظيم الزمان والمكان ويزلزل البناء التقليدي للنص ويستغل الأسطورة والتاريخ وعلوم الفضاء وما إلى غير ذلك.. في النص لا يراهن اديبنا الفاضل على الفعل بقدر ما يراهن على الرغبة في الفعل حيث اننا نلمس في النص كومة من الرغائب المتشظية إلا أنها تتوسل الخطاب الثوري غير المباشر أو غير المعلن وبرمزية عميقة.
القراءة في النص:
منذ العنونة ثالثة الحروب _ حقق النص وظيفة والتكثيف فالشاعرية لغة تكثيفية تقدم صورا حافلة بالمفاجآت فتسبغ على المتلقي ظلالا من الدهشة تثير حواسه وتنبه ذاته للإكتشاف..
يستهل النص صور تعبيرية للوحات مثيرة تهيئ أرضية أفكار المتلقي عن سردية النص وطقوسه من خلال توظيف أشكال بيانية في بنية النص:
تتجمد الشمس
والأفق يتناثر
يتصحر الغمام
ويترمد الندى
تتعرى الأرض من ترابها
يبقر البحر ماءه
والشجر يغتال ثماره
تتخلى الدروب عن جهاتها
لا شئ إلا الرماد
يرفع راية النصر..
هذه السردية إذا لم تحمل على التشبيه
لن يستقيم النص فيكون قد إختل وفسد الكلام لأن الشمس مصدر الحرارة فكيف لها بأن تتجمد!
وكيف للأرص أن تتعرى من ترابها!
وغير ذلك مما ذكر في النص
فأي شمس هذه التي تتخلى عن حرارتها وتتجمد؟!
واي ارض هذه التي تتخلى عن ترابها؟!
هكذا ستكون الأسئلة..
نلمس في هذه الأسطر السالفة أن اديبنا قد وظف أدواته الكتابية كالرمز والإنزياح والغموض تاركا تأثيرا جماليا في نفس المتلقي بالإضافة إلى توظيف اشكال من البيان كالاستعارة والتشببه والكناية والتقديم والتأخير والحذف وغيرها من أشكال فنون النسج الكتابي التي أضفت على النص سمة الشاعرية المطلقة في رسم لوحة تعمها فوضى الخراب والدمار حيث يكمل النص:
الركام يختال بعنجهية
جثة الهواء معلقة على جدار العدم
الينابيع غائرة الأعين
لسان النهار مدلى
والقمر يرتدي العباءة السوداء
لا أثر للإنسان...
الحقيقة أن النص من فئة النصوص المراوغة أوهم المتلقي بالمعنى الظاهري القريب وجعله يصل إلى حد الرعب من صور الأحداث..
لكنه يوقظه دون سابق إنذار من خلال ما يختبئ بين اسباره الباطنة التي قد يفهم تأويلها ضمنا تحت إلحاح التمعن في النسيج العام فيوقن المتلقي حينها بأن ليس كل ما يقرأ يقصد...
ولذلك سرعان ما يغلف النص جملة معترضة تضعنا على عتابات تفكيك الرمزية للنص وهي جملة:
لا أثر للإنسان..
القارئ للنص هنا يصاب بخيبة حادة مردها هذه الجملة المطوية في سياق النص بين صور هرمت بلا أمل وهي _ الإنسان _ من الإنسانية..
والإنسانية من الانس والمحبة والألفة والسلام فذهب بنا النص إلى مفهوم عكسي للإنسانية المقصودة حيث الحياة المعاصرة بكل ما فيها من ويلات وآلام...
إنه الإبداع النصي الخلاق المرن الذي يستوعب تقلبك ومزاجك واوجاعك وآمالك وماضيك وحاضرك ومستقبلك وهذا حاضر في النص بقوة حيث يستطرد النص:
على رحاب السديم..
إن جماليات تأثير هذه الجملة النصية قد أبرزت قدرة اديبنا على الصوغ الفني القائم على تفجير إمكانيات اللغة وإعطائها بعدا جماليا (تناسليا) حيث لا يكتفي اديبنا الفاضل بجمالية الكلمة لتوصيل أفكاره ومشاعره فحسب بل ينتقي آليات وصورا مصبوغة بالوان بيانية تقول مشاعره وتنقل أفكاره مما قد أهل هذا النص لأن يكون نموذجا خصبا تنفتح فيه القراءة على عدد لا متناه من المدلولات ومساعدة المتلقي على فهم الواقع وقراءة التاريخ ومن ثم إتخاذ المواقف تجاه أحداثه..
فالسديم هو مزيج من الغبار الكوني والغازات..
ومن الضرورة بمكان أن تحدث إنسان عن شيء ما وهو يعرف عنه وإلا هذا يعني انك ستكون في واد بينما هو في واد آخر ومن أهم الأولويات الذاتية الضرورية لتحقيق المعرفة الصحيحة وتراكمها لغاية الوصول إلى الحقائق تأتي المصطلحات والكلمات ودلالاتها الفلسفية الدقيقة وفي هذا السياق نشير إلى أن اللغة تشكل الوعاء الذي يحتوي الأفكار و وسيلة للتفكير ووسيلة للتواصل مع الآخرين ووسيلة لمعرفة العالم ووسيلة أساسية للتفاعل بين الكائن ووسطه لذلك من الضروري تعريف بعض المفاهيم والمصطلحات الفلسفية التي استعملها الكاتب مع التركيز على الاصطلاحات الهامة الأساسية التي تتعرض للالتباس في النص بحيث نستعمل المجازي بدون تدقيق واقعي حقيقي لما تعنيه هذا الكلمات الفلسفية ومدلولاتها..
كما لكل اختصاص مصطلحاته او مهنة او علم كذلك الفلسفة لها علمها ونظامها و مصطلحاتها وطريقة تفسير هذه المصطلحات ونحن هنا ليس بصدد بحث اللغة كلغة ولكنها أساسية في فهم الموضوع ولو أراد الإنسان أن يعرف جميع مصطلحات لغته لوحدها سيقضي ربما زمن عمرين افتراضين من عمره دون أن يصل إلى نصف ذلك فهذا معناه أن عليه أن يعرف جميع الاختصاصات البشرية المعروفة وهي طبعا تزيد عن آلاف الاختصاصات وهي في نمو متواصل مع نمو المعرفة وتفرعها لذلك علينا الاتفاق وتوضيح المفاهيم المستخدمة أي جواهر الظواهر وكشف مكنوناتها العميقة في النص حيث نجد مفهوم _ السديم _ الفلسفي يعني بالتحديد المساحة المتاحة لمراقبتنا ما يدور حولنا وهذا يعني الوجود المعرفي الذهني والواقعي بالنسبة لنا والتعرف على مكان وسبب وجودنا في هذا العالم المتاح لنا والبحث عن مستقبلنا ومصيرنا في النهاية وإلى إين نسير على هذا الكوكب الصغير الهش..
يكمل النص المشهد:
لا قصيدة شعر تمكث
في جيوب الكوكب
لا سنبلة موسيقا
لا بسمة لموجة حنان
الحروب إنتصرت
من النافل القول أن اديبنا تطرق في هذه الجمل السالفة إلى الأخلاق الحميدة التي ابتعدت عن واقعنا المعاش وان النص قد ذهب بنا بعيدا بل وتجاوز حدود الحاجة إلى هذه الأخلاق التي أضحت في عداد الفقد المجتمعي وأصبحت هذه المفاهيم مع الزمن أكثر إبتعادا عن الواقع تائهة في سديم من المعاني والدلالات المتتاخمة والمتداخلة والمتقاطعة..
لقد إنفصلت هذه المفاهيم عن الواقع الذي تريد إضاءته وضاعت في متاهات التفكير الإنساني المطلق المجرد ذاته وأصبحت نفسها في أمس الحاجة إلى العقلنة الواقعية وهذا يعني أن هذه المفاهيم التي تحلق فوق الواقع وتعيش في ابراجها العاجية تحتاج اليوم إلى الارتباط بالواقع الذي إنبثقت وصدرت عنه نتيجة للغموض الذي إكتنفها في دائرة التحليق والدوران حول ذاتها وفقدان المحور الذي يربطها بالواقع العملي نفسه...
ويعد مفهوم الاخلاق من المفاهيم المجردة التي بالغت في الدوران حول ذاتها ففقدت كثيرا من قدرتها حيث يكمل النص:
الحروب إنتصرت
ووضع الموت أوزاره
لا شيء يعلو على صوت السكون..
نعم.. لقد سكنت الحياة أي قد أصابها الموات في الضمير الإنساني الحي.. يتابع النص في الاسقاط _ الخاتمة _ في علاقة ما بين رمزية الخير ممثلة بالبسطاء من فقراء الأمم مشمولين
بنظرة ملائكية وبين رموز الشر ويمثلهم ابليس يقول النص:
مقابر على مد نظر الملائكة
وإبليس يرفض أن يدفن الفقراء..
هنا يذكر اديبنا المتلقي بالآية الكريمة في سورة البقرة:
(قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء)
إذا هي مقابر الصالحين من البشر على أيدي الفاسدين منهم..
وهؤلاء يرفضون دفن الفقراء بما لديهم من خير وفير وأملاك وأموال طائلة بل هو التسلط والقتل والسلب حتى لو كانت الحياة جاعلون إبليس لهم أسوة في تصرفاتهم وهمجيتهم.
الخلاصة:
رغم أن اديبنا قد صور لنا في نصه تصوراته الخاصة وإنطباعه العام..
إلا أن هذا الانطباع قد يعمم كونه فردا من أفراد المجتمع وهذه الأحداث قد لا تتغير.. أو أنها تحتاج إلى مدة زمنية قد تستغرق حياتنا الحاضرة
فالنص عبارة عن صورة أحادية الصوت والحدث الا أن النص يشكل معنى عام وصوره تتضافر معا لرسم صورة أكثر وضوحا وأعمق دلالة فتتسع فيها الرؤية وتتعدد زواياها وتجعل المتلقي يرتشف دلالة رؤياه رشفة رشفة ذلك لأن أديبنا قد اجبر المتلقي خلال سياق النص على إنتظار سكب الشهد رويدا رويدا وبسلام إلى عالم أكثر رحابة وانفتاحا على المستقبل المجهول
حيث أراد منهم أن يتجاوزوا كل عثراته وأن يستقبلوا الحياة مفعمين بالأمل وأن لا ينجروا وراء مستجدات العصر المليئة بالتناقضات.
..............................
خاتمة:
إن إنزياح لغة اديبنا الفاضل النصية الخارجة عن المألوف لم تكن عشوائية أو إعتباطا ولذلك فإن الإنزياح في اللغة المألوفة إلى لغة مبدعة يدخل هذه اللغة إلى دائرة الشاعرية المائزة ..
لقد وظف لغته بطريقة ساهمت في تفرد إبداعه ومنحه قوة وتأثيرا على المتلقي..
قبعتي أديبنا الفاضل.
...........................
كلمات النص :
* ثالثة الحروب:
تتجمَّدُ الشّمسُ
والأفقُ ُيتناثرُ
يتصحَّرُ الغمامُ
ويترمَّدُ النَّدى
تتعرَّى الأرضُ من ترابِها
يبقر ُالبحرُ ماءَهُ
والشَّجرُ يغتالُ ثمارَه
تتخلَّى الدُّروبُ عن جهاتِها
لا شيءَ إلَّا الرَّمادَ
يرفعُ رايةَ النَّصرِ
الرّكامُ يختالُ بعنجهيَّةٍ
جثَّةُ الهواءِ معلَّقةٌ على جدارِ
العدمِ
الينابيعُ غائرةٌ الأعينُ
لسانُ النَّهارِ مدلَّى
والقمرُ يرتدي العباءةَ السَّوداءَ
لا أثرَ للإنسانِ
على رحابِ السَّديمِ
لا قصيدةَ شعرٍ تمكُثُ
في جيوبِ الكوكبِ
لا سنبلةَ موسيقى
لا بسمةَ لموجةِ حنانٍ
الحروبُ انتصرتْ
ووضعَ الموتُ أوزارَهُ
لا شيءَ يعلو على صوتِ
السّكونِ
مقابرٌ على مدِّ بصرِ
الملائكةِ
وابليس يرفضُ أنْ يدفنَ
الفقراءَ.
مصطفى الحاج حسين
إسطنبول
## د. عبد الحق الشلوفي ..
لي عودة ثانية سأكمل فيها النص وسأحاول الكشف عن فرضية للقراءة ارتأيت أن أستنتجها من الجمع بين مطلع القصيدة/في بلادي، ومقطعها/وتحول نبضنا يباسا.حيث يرسم الشاعر ملامح وتفاصيل التحول والتغيير بين اليوم الامس، تحول من الخصب إلى الجذب، ومن الأرتقاء والازدهار إلى الجمود والتقهقر. فما مظاهر هذا التحول في النص؟ وكيف عبر عنها الشاعر؟ وماوسائطه في ذلك؟...
عودة إلى النص، وانا أقرأ القصيدة تطالعني بعض النصوص الغائبة الحاضرة، فكل نص هو فسيفساء من نصوص سابقة. يتضمنها بشكل من الأشكال، حيث يبدو التناص واضحا مع نصوص من مدرسة رواد الشعر الحديث، فالعنوان واللازمة يحيلان على قصيدة "الناس في بلادي" للبياتي، ونواةالدلالة المتمثلة في الصيرورة والتحول من الخصب والأمن إلى الجذب والدمار تستلهم مضمون أسلوب التكرار الهندسي البديع في تحفة أنشودة المطر لبدر شاكر السياب:
أصيح بالخليج
ياخليج
ياو
واهب اللؤلؤ والمحار والردى
فيرجع النشيج
كأنه الصدى
ياخليج
ياواهب المحار والردى.
حيث بلاغة الحذف استدعت من السياب إسقاط لفظ اللؤلؤ، ليصير المعنى في العبارة الثانية نقيض نقيض المعنى في الأولى ،فيكسر بذلك أفق انتظار القرئ ويكشف عن طبيعة الصيرورة والتحول.أما شاعرنا فقد اختار أن يعبر عن نفس المضمون بنبرة خطابية مشحونةبالتوتر الحاصل على مستوى التركيب حيث يقابل دلالة الأفعال التي ترمز إلى الخصب (يحصد-تقطف-يرضع...) مفاعيل تحمل نقيض الدلالة (غلال الدم/سلال الدمع/حليب الانفجارات). وإذا كان السياب قد وظف بلاغة الحذف للتعبير عن واقع اجتماعي تغيب فيه العدالة الاجتماعية، ةينتفي فيه التوزيع العادل للثروة بسبب نظام الحكم القائم على النهب، فإن شاعرنا يوظف بلاغة الإضافة المتمثلة في المضاف إليه بعد المفعول به، قصد التعبير عن واقع تفرضه قوى خارجية بمباركة وتواطؤ مع تيارات محلية، ويفسره قول الشاعر:
في بلادي
يدبح الأخ أخاه
بتهمة الخيانة
وتكون سكينه
يد الغريب.
د. عبد الحق الشلوفي
* في بلادي ...*
شعر : مصطفى الحاج حسين .
في بلادي
يحصدُ الفقراءُ
غلالَ الدّمِ
وتقطفُ النّساءُ
سِلالَ الدّمعِ
ويرضعُ الأطفالُ
ُحليبَ الانفجاراتِ
وتتزيّنُ الفتياتُ
بالشّحوبِ والارتجافِ
ويحملُ الرّجالُ على أكتافِهِمْ
جثَّةَ الخرابِ
في بلادي
ترسلُ الشَّمسُ أشعَةَ الهلاكِ
وتتمترسُ الجبالُ
خلفَ المدافعِ
وتأوي العصافيرُ
إلى حجرِ النّارِ
في بلادي
ننصبُ فخاً للقمرِ
نعلّقُهُ على عَمودِ الحقدِ
ونسلخُ عنهُ الضّوءَ
في بلادي
يذبحُ الأخُ أخاهُ
بتهمةِ الخيانةِ
وتكونُ سكّينُهُ
يدَ الغريبِ
في بلادي
صارَتِ الأشجارُ تورِقُ جثثاً
وصارَ النّهارُ يُطِلُّ
على الفاجعةِ
وغدا النّدى
قطرانَ السّرابِ
في بلادي
تفحَّمَ الهواءُ
وصارَ السّلامُ
رماداً
وعمَّ الانهيارُ
وتراكمَ السّخطُ
في صدرِ الغمامِ
في بلادي
جفَّتْ خطواتُنا
وتحوَّلَ نبضُنا يباساً *.
مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول
## قصيدة: كوثر الرّوح )..
للشاعر والأديب السوري:
مصطفى الحاج حسين.
بقلم الأديبة: ندى محمد عادلة
كوثر الروح..(ومصطفى الحاج حسين), وآيات من السحر إلى أعماق الحياة, وترف للغد بتدفقات من الوله.. وأي سحر يقوده إلى أغوار النفس إلى جنتها المخضلة بالضوء الفاعمة بطيب الوجد والشوق :
(سيأتيكِ انهمار صباحي
موشحاً بأجنحتي
ويكون ندى شفتيكِ
في اشتعالٍ خصيب).
أقرأ حكاية شعرية مخبأة بالقلب, من أبداع وتجليات شاعر انطباعي سوري حد النخاع, يخرج بأي نص بأنغام عذبة سحرية،وهنا حكايته الممتدة بين الوطن وغربة الروح , تعانق المحسوس, تمشي بحذر موشحه بإيقاع المعنى, بصيرة وريد ينتفض حباً يتطلع إلى محاسن ألأنثى, بشغف وتصوير جامح للحبيبة الموصوفة بكوثر الروح...
ليس لدى ذاكرتي شاعر لم يكتب الحب, ولا يوجد في جوهره جموح للغزل, يخفيه بالرموز بالدلالات ولكن هنا الشاعر يجمع بين الحب والغربة وزمن الحرب في أزمنة البؤس, الشاعر الكبير هو الذي يصنع من هذه الماسي طراوة وجمالاً وبرهانا على إنسانية الإنسان بكل الظروف... أتكلم عن آلية التذوق لهذا النص عن استقرائي له
وتأويله واستقصاء بريق الجمال وانعكاسه علينا الأنثى في هذا النص هي المناخ الإنساني للشاعر ,وهي المكان الهادئ والآمن, الشاعر يعاني الغربة والبعد عن الديار نتيجة الحرب
, لذلك يبحث عن الفردوس المفقود سواء في الخيال أم الواقع, انه بموقف
حيادي يتدفق حبا ويتماهى ويكتشف انثاه, لهفة وكوثرا للروح......
( وأفرش الأرض بلهفتي
وأغسل لك ماء البحار
بأمطار لهفتي ).
وأي جنون للعشق وأي لهفة بهذه الدهشة والحميمية.. النفس لحن كما قال(ملارميه) وهذا يعني أن اللحن حقيقة يؤدي مهمته في إشاعة النشوة بصور ممتدة منبسطة غير معقدة ولا متكلفة تضيف الحركة وتشع جمالا بالحياة, في شعر الحب لدى شاعرنا شيء من الوله الروحي, قوة ضمنية ناطقة,حواس تتمثل الجمال...
الشاعر يمزجك بالطبيعة بأدغال عشقها, يطيرك نحو السحاب إنها ايجابية مطلقة وتجلي بصور حية متحركة تختزن الموسيقى والجرس
... وهذا يدلك على انطباعية الشاعر ومثاليته في الاندماج العاطفي:
(أنا المسكون بأصداء ظلالكِ
أقشر النسمة من أشواكها
لئلا تخدش رقتكِ
وأعطر لكِ حنان السّحب
لأحمي فراشات ضوئك).
شلال من الشعر يومض بالحياة نعومة بالألفاظ تشعرك أن الشعر هو المرأة التي يقدسها الشاعر وإبداعه من طيفها ومن غوامضها المكنون.. الشاعر صياد ماهر للصورة الشعرية, بديع في خلقها, ترابط بينه وبين المحسوس انه مخزون من (الليبيدو) كأي إنسان ويحاول أن يجسد مبهمات هذا (الليبيدو)ويستخرجها برموز محسوسة
...
كان(رامبو) الشاعر الفرنسي يتخيل أن لبعض الأحرف ألوانا وأصباغا في اجتماعها, وكيف ينبغي أن يقوم اللفظ برسالته الإنسانية الحقه مع هذه الألوان, انه الشاعر المتمكن, هو البارع الذي يستطيع استحضار ألفاظ تضج بالحياة واستمرارها وانسجامها,
كأنغام ندية تناغم القلب فيحن إليها ويحنو إليها بصور سخية تغازل الحياة
.. القصيدة جميلة تقيم علاقة روحية مع الآخر بجسور من المباشرة والرمزية والاجتهاد الواعي.
القصيدة ارتكزت ببنيانها على جميع أدوات الشعر, والقصيدة هنا هي روح الشاعر كتبته ولم يكتبها, هي العالم الذي يسعى إليه ويشده من خلال أنثاه القصيدة.. وحدة عضوية راسخة ليست طويلة حتى لا تفقد عضويتها وإشراقها
..هناك قيمة إنسانية مطلقة على خلفية هذا النص, عمل متميز وقابل لقراءات أخرى ويتحمل أكثر من مواجهة نقدية, وأنا لست مختصة بعلوم النقد بل أقرأ الجمال والمنطق في نبوءة اللغة وفي المرتكزات الأساسية والبنية الدلالية لأي نص حديث...
(لأجلكِ الشّمس تتوضأ
من كوثر روحي
والقمر في كل ليلة
يسبح في عنبر قلبي
يا لحبي إليك ما أوسعه).
أجمل مافي النص النثري الحديث بدايته ونهايته, النهاية كانت فضاء ميتافيزيقياً على مساحات قلب الشاعر وروحه, لا حدود لعزف الحب في قيثارة روحه.
ندى محمد عادلة .
* كوثر الرّوح..
شعر: مصطفى الحاج حسين.
سيأتيكِ إنهمار صباحي
موشَّحاً بأجنحتي
ويكون ندى شفتيكِ
في اشتعالٍ خصيب
أزوّدُ أغصانَ همسكِ
بصلاةِ قبلاتي
وأعدُّ مافي كفّكِ من رحابٍ
لأدفنَ بكائي
في عمقِ ناركِ
وأركضُ تحتَ خصال بوحكِ
دروباً تفضي إلى آفاقِ أنفاسكِ
أمدُّ إليكِ أدغال عشقي
أعلّقُ موتي على أكتاف المدى
وأبحرُ شوقي في عنقكِ
أشعلُ في فضاء طهركِ
شموس حرماني
أنا المسكونُ بأصداءِ ظلالكِ
أقشّرُ النّسمة من أشواكها
لئلّا تخدشَ رقتكِ
وأعطّرُ لكِ حنانَ السّحاب
لأحمي فراشات ضوئكِ
ألملمُ من تحتِ أقدامكِ
غبار النّقاء
وأفرشُ الأرض بلهفتي
وأغسلُ لكِ ماء البحار
بأمطارِ لهفتي
حبيبتي لأجلكِ الشّمس تتوضّأ
من كوثرِ روحي
والقمر في كلِّ ليلةٍ
يسبحُ في عنبرِ قلبي
يالحبّي إليكِ ما أوسعه؟!.
مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول
## الدكتور المبدع الأديب والناقد المغربي: (نيقوس المهدي)..
في مقابلة مع (العقاد الثاني) القاص والشاعر السوري العصامي (مصطفى الحاج حسين).
(مصطفى الحاج حسين) أو (العقاد الثاني) كما يحلو للأدباء تسميته، أديب عصامي من مواليد حلب سنة1961، انقطع عن الدراسة في حدود المرحلة الابتدائية، وألتحق بمهنة البناء رفقة والده.. بدأت موهبته الادبية تظهر في سن مبكرة.. من خلال شغفه بقراءة القصص والروايات والشعر.. في هذا الحوار يفتح لنا الاستاذ مصطفى الحاج حسين قلبه ليطلعنا على تجربته الابداعية بصدر رحب وبأريحية معهودة فيه.. وببسط معاناته مع الكتابة ومكابداتها و الهجرة والغربة القسرية وما يليها و التي اضطرتها الظروف التي تعيشها سوريا.
- أجرى الحوار لموقع (أنطولوجيا السرد العربي) (نقوس المهدي).
*************************:*****
** - مصطفى الحاج حسين الإنسان والمبدع صفتان إنسانيتان تتضافران الصياغة شخصية عصامية يصفها النقاد (بالعقاد الثاني) ماسر هذا اللقب؟
- منذُ أدركتُ فداحة غلطة أبي بحقّي، حين حرمني من المدرسة لمساعدته في عمله، وبالتالي لتحسين دخله. أمّا أخي الأكبر فقد وجد مخرجاً له في متابعة دراسته في دار المعلّمين، وكان لها نظام داخلي، صار أخي وزملاؤه يتهرّبون من مجالستي ورفقتي، بحجّة أنّهم مقبلون على الامتحانات، لأنّ
وجودي معهم صار يؤثّر، كما يبدو لهم، على دراستهم وتركيزهم، وبالتالي سأتسبّب في ضياع وقتهم. في تلك الأثناء أحسستُ بالغيرة والضّيق والانزعاج والاختناق، فأنا بنظرهم مجرّد عامل بناء، وهم طلبة، أي هم
يشكّلون مستوى آخر، أرفع وأعظم، ولهذا وجدتُني وبدافع التّحدّي وردّ الاعتبار أبادر لكتابة أوّل قصّة لي، كانت تشبه المسرحية، ثمّ اقتحمت على أخي ورفاقه جلستهم وعرضت عليهم ما كتبت، فأعجب أخي وأصحابه بما كتبت، بل قمنا بتحويل
فالقصّة.إلى تمثيلية، وتمّ توزيع الأدوار، حيثُ قام أخي بمهمّة الإخراج وبتأليف موسيقى تصويريّة للعمل، ثمّ سجّلناها على شريط كاسيت. وهكذا أعادوني إلى صحبتهم والسماح لي بمجالستهم، وصرتُ أمضي الوقت والسّهرات معهم، وأنا أقرأ، مثلي مثل أيّ طالب مدرسة، وأثبتُّ لهم بأنّي لست بالجليس الضّارّ والمتسبّب بالضرر وضياع الوقت لهم. اندفعتُ للمطالعة والكتابة، لدرجة أنّ أصدقاء أخي استنكروا عليّ الأمر، وراحوا يشكّون بأنّي أقوم بسرقة قصائد «نزار قباني» وأنّني أنسبها لي، فذهبوا إلى أستاذهم يسألونه: (هل من
المعقول أن يكتب هذه القصائد فتى لا يتجاوز الرابعة عشر من عمره، يعمل في البناء، ولم يحصل على وثيقة الإبتدائي؟!)
ومن حسن الحظّ أنّ أستاذهم في دار
المعلمين، كان ناقداً وروائيّاً كبيراً ومعروفاً على مستوى الوطن العربي، وهو الأديب والناقد «نبيل سليمان»، وحين عرفَ من أخي أنّي مولع بالقراءة ولا أتوقّف عنها، قال: (هذا ممكن.. طالما هذا الفتى يقرأ ويثقّف نفسه،ثمّ أنّ الموهبة لا علاقة لها بالشهادات المدرسية). وهكذا وصلني أوّل وأعظم وأهمّ تشجيع من ناقد وأديب مهمّ
ومعروف، وله قيمته. كانت القراءة
هاجسي، ولذّتي، ومتعتي، وسعادتي، وكلّ شيء في حياتي، أشتري الكتب والجرائد والمجلّات، بكلّ ما أحصل عليه من نقود، فقد كان والدي يمنحني نصف أجرتي، وكنت أبخل على نفسي بشراء المأكولات والشطائر والألبسة والأحذية في سبيل شراء الكتب والدّواوين الشعرية، وخاصة الأعمال
الكاملة، ذات الجلد الأحمر... وكان
أخي يستعير لي الكتب القيّمة والمهمة والتي تهمّني وتفيدني من مكتبة دار المعلمين، حيث كانت المكتبة ضخمة وغنيّة بكنوز من الكتب الأدبيّة والفكريّة والتاريخيّة. أعمل مع والدي في البناء،أحمل الأحجار الثقيلة طوال النهار، وأكون على مرّ الدوام شارداً وحالماً في الكتابة،فلقد عزمتُ على أن أكون شاعراً كبيراً مثل «نزار قباني»، وحين تداهمني جملة شعريّة، أظلّ أردّدها لكي لا أنساها - ومع هذا كم ضاعت منّي جمل وصور شعرية
ونسيتها، لأنّي لم أتمكّن من تسجيل ما يأتيني من إلهام مباشرة، فقد ضاع عنّي ومنّي الكثير، من الصور الشعريّة العظيمة التي لا يمكن لها أن تعوّض... لذلك كنتُ ألجأ أثناء عملي، حين تداهمني قصيدة، أو مقطع منها، إلى حفر كلماتها بالمسمار على الجدران الطّرية التي لم يجفّ إسمنتها بعدُ، وفي اليوم التالي كنت أحضر دفتراً وقلماً لأنقل ما كنت حفرته بالأمس على الحائط، دون أن ينتبه أبي طبعاً، لأنّه كان ينزعج ويغضب ويعتبرني مقصِّراً في شغلي. من روعة حظّي أرسلَ لي اللهُ أخاً يكبرني بهذه الروعة والمستوى، فهو مثقف وموهوب في الغناء والموسيقى، وهو محبّ للأدب والفكر والفلسفة وعلم النفس... وكان دائماً يشجعني ويحثّني ويدفعني للمتابعة، ويطلب منّي أن لا أكون جاهلاً مثل العمال الذين يعملون مع أبي، وأن لا أتأثّر بهم وأقلّدهم في تصرّفاتهم المتخلّفة. كان يسأل أساتذته في دار المعلمين عن أهمّ ما يحمله لي من كتب من المكتبة، وكنت أتلقّفها بنهمٍ شديد... كتب عربية ومترجمة.
كان شغلي الشاغل التعرّف على كلّ أدباء مدينة حلب، بل على كلّ من يهتمّ ويحبّ الأدب، لذلك توسّعتْ علاقاتي وصداقاتي مع الكثير من المبدعين والمثقّفين، وتعرّفت على أشخاص يهتمّون بالثقافة والسّياسة، لذلك توجّهت لألتهم الأدب الروسي، لدرجة أنّي كنت لا أنام، بعد نجيب محفوظ، وحنّا مينه، وزكريا تامر، ومحمود درويش، عشقتُ الأدب الروسي، وأكثرهم«دوستوفسكي» و«تشيخوف»
أفتتح كتباً عديدة لأقرأها دفعة واحدة رواية، قصصاً، شعراً، مسرحاً، نقداً أدبياً، مذكّرات، كتباً تاريخيّة، وعلميّة، وسياسيّة، وفنيّة، حتّى إن تعبتُ من كتاب، أنتقل إلى غيره من غير أن أضيّع وقتي، وكانت إذا انقطعت الكهرباء أقرأ على ضوء الشّموع أو «البيل»، ومطلوب منّي الاستيقاظ باكراً للذهاب للعمل المتعب والذي لا أحبّه. وبدأت المشاكل بيني وبين أبي لأنّي بدأت أتمرّد وأتهرّب من العمل معه، وكانت المشاكل تنعكس على أمّي وأخوتي وأخواتي، فنحن ستّة ذكور وستّ أناث، عائلتنا كبيرة، ومشاكلنا كثيرة لا تتوقّف ولا تنتهي...
وبدافع الخوف عليّ من الجنون
والهستيريا من قبل أمّي وأبي اللذين يعتبران كثرة القراءة والكتابة وقلّة النوم تؤدّي حتماً إلى ضياع العقل والجنون، فلجآ إلى المشايخ ورجال الدّين، لكتابة الحجابات والتعاويذ
لتحميني وتبعدني عن الهوس الأدبي الذي يخشون منه ولا يحبّونه. ففي الوقت الذي كانوا يتضايقون وينتقدون أخي لأنّه لا يولي دروسه الاهتمام الكافي، فهو يمضي جلّ وقته بالغناء والعزف على آلة العود، ومحاولات التلحين، كانوا يتضايقون من سهري وشغفي بالمطالعة التي لا تقدّم ولا تؤخّر طالما أني لستُ طالباً مدرسيّاً، بل عاملَ بناء وعليّ أن أنهض باكراً للذهاب مع والدي إلى العمل... كنت أقول لهم:
(لا عليكم... ولا علاقة لأحد بي...سوف
أستيقظ دون أن أعذّبكم وأذهب للشغل)
بفضل أخي كنت دائماً ألتقي وأصادق من هم أكبر سنّاً منّي وأكثر وعياً وثقافة، وكانوا يحبّونني ويشجّعونني على المواظبة والاستمرار، وكنتُ أستفيد من نقاشاتهم وملاحظاتهم، وهم يدلّونني دائماً على كتب جديدة ومهمّة، عربيّة ومترجمة.
هكذا كانت البدايات، قبل أن أندلّ على مقرّ «اتّحاد الكتّاب العرب». وكان لوصولي إلى اتّحاد الكتّاب العرب، قصّة لا أنساها أبداً...
كنت أتردّد على مكتبة تبيع الكتب الأدبية والجرائد والمجلات، وحدث وكنت هناك أتفحّص الكتب وأقرأ العناوين لأنتقي وأشتري ما يعجبني، وفجأة تنبّهت إلى شخصٍ يعطي نسخا من مجموعة شعرية لصاحب المكتبة، ليعرضها له للببع، فأخذتُ أراقب وأستمع لحديثهما، حتّى تأكّدتُ أن هذا الأستاذ، هو الشاعر صاحب المجموعة الشّعرية... اقتربت منه، ألقيت عليه التحية بارتباك... وحين ردّ عليّ ولمست منه الطّيبة. والتّواضع، سألته: (أستاذ هل أنت شاعر؟ وهل هذه المجموعة الشعرية لك؟ أجابني: (نعم... أنا الشّاعر الفلسطيني«عصام ترشحاني»). قلت بصوتٍ متلعثم :
(أستاذ أنا أكتب الشّعر منذ سنوات، ولكني لا أعرف إلى أين أتوجّه، وعلى من أعرض شعري). قال لي: (تعال إلى اتّحاد الكتاب العرب، وهناك نسمعك وممكن أن نفيدك).
فرحت كثيراً حين دلّني على الاتّحاد
ووعدني أن يكون بانتطاري يوم غد.
عدتُ إلى المنزل وأنا في غاية السّعادةَ والفرحة، لأوّل مرّة في حياتي أقابل شاعراً حقيقيّاً مشهوراً، وله كتب مطبوعة ينشر في الجّرائد والمجلات... وكانت فرحتي أعظم لأنّي سأذهب حيث يجتمع الكتاب وأسمعهم ما أكتب.
وكنّا في حارتنا أنا وأخي والعديد من الأصدقاء نلتقي يومياً مساء، في بيت واحد منّا... واليوم حين التقينا حدّثتهم عن لقائي بالشّاعر عضو اتّحاد الكتّاب وعن موعدنا في يوم غد، في مبنى الاتّحاد... وهنا طلبوا من صديقنا طالب الطّب، الذي نال الدرجة الأولى على القطر السّوري بنجاحه في شهادة البكلوريا... وكان صديقنا هذا أكبر منّي بالطبع وهو يكتب الشّعر العمودي، وكان الجّميع يعتبره نابغة عصره ليس بسبب شعره، بل بسبب نيله الدّرجة الأولى في البكلوريا. أقول لهذا كانت الاقتراحات من الأصدقاء أن يذهب معي وَيُسْمِعَ الأدباء شعرَه، كما سأفعل أنا.. ووجدّت الفكرة جيّدة، لأنّي لو ذهبت لمفردي سوف يكون الأمر صعباً عليّ ومحرجاً.. بينما أكون متشجّعاً لو كان برفقتي.. وهكذا اتفقنا وذهبنا في مساء اليوم الثاني معاً. وذهبنا، ودخلنا مقرّ الاتّ
حاد، وتطلّعتُ فوجدْتُ في
الغرفة الواسعة عدداً غفيراً من الأساتذة، انكمش قلبي، شعرتُ بالحرج والخجل، وأردتُ العودةَ والهرب، من هذا المأزق الذي أوقعت نفسي فيه.. لكنّ الأستاذ «عصام» كان قد شاهدني، وربّما أحسّ بما أنا عليه من ارتباك وحرج، فناداني... فاضطررتُ للدخول أنا وصديقي طالب الطّب... سلمنا على الجّميع، وجلسنا وكنّا في غاية التهيّب
والحرج. الغرفة مليئة بالأدباء، وكانت بينهم أديبة عرفتها فيما بعد، وهي الكاتبة «ضياء قصبجي»، قال لهم الأستاذ عصام: (هذا الشّاب يكتب الشّعر، ويريد أن يسمعنا شيئاً من كتاباته، ليعرف رأينا). التفتوا نحوي، انقبض قلبي، تضاعف حرجي
، ازداد خجلي، انبثق العرق يزخّ منّي بغزارة...سألني أستاذ، جميل الشّكل، يصلح أن يكون ممثّلاً من فرط أناقته وجماله وروعة نظارته، وعظمة غليونه، وقد عرفت أسمه فيما بعد، وهو الأديب الكبير الأستاذ «وليد إخلاصي»: (ماذا تدرس؟). قلت بصوتٍ متلعثم ومرتجف: (أنا لا أدرس... تركت المدرسة قبل أن أحصل على الابتدائيّة، وأعمل في مهنة العمارة). ارتسمت الدّهشة على الأوجه، وازداد الاهتمام من قِبَلِ الجّميع، وبدأت الأسئلة تنهال عليّ من الجميع. وحين عرفوا قصّتي، طلبوا منّي أن أسمعهم ما عندي. أردتُ أن أتدارى أولاً بصديقي، لكي أستمدّ منه الشجاعة، فأنا غير واثق من قراءتي، حتماً سأخطئ في النّحو، وهنا مكمن ضعفي وعدم ثقتي بنفسي، فقلت: (هذا صديقي، وهو طالب سنة أولى طب بشري، وقد نال الدرجة الأولى على سورية في نجاحه بشهادة البكلوريا.. وهو أيضاً يكتب الشعر الموزون، وعنده ديوان ضخم). وهكذا استطعت أن أجعله يبدأ قبلي بإسماعهم قصيدة كان يعتبرها من روائعه، فهي لا تقلّ عظمة عن شعر المتنبي، على حدّ زعمه هو وأصدقاؤنا. ولكنّي وجدت منهم عدم الانشداد والاهتمام، حتّى أنّهم لم يطلبوا منه أن يسمعهم قصيدة ثانية. جاء دوري
أخيراً، بدأت أقرأ، بالتأكيدِ كان وجهي محمرّاً، وصوتي مرتجفاً.. ولكنّي لمحت إطلالةً لبعض الابتسامات، وبريقاً في
العيون، واهتزازاً بالرؤوس، وهذا ما
أراحني، وجعلني أتنفّس وتتسرّب إليّ الطمأنينة... وحين انتهيت، وقبل أن أجمع أوراقي، طلب منّي أحد الأساتذة أن أسمعهم قصيدة ثانية... وكان هذا الأستاذ هو الشاعر «سعيد رجّو» كما عرفتُ فيما بعد، وهو شاعر عصامي معروف، وهذا كان سبباً لي لتزداد شجاعتي وثقتي بنفسي وفي المستقبل. أسمعتهم ثلاث قصائد...واستطعت أن أنال التعاطف والاستحسان...
في حين لم توجّه أيّة كلمة طيّبة لصديقي طبيب المستقبل. وطلب مني الشّاعر«سعيد رجو» والأستاذ «عصام ترشحاني» أن أبقى أتردّد على اتّحاد الكتّاب، لأحضر الأماسي والنشاطات التي تقام بشكل أسبوعي. وصرت دائماً أذهب وأسمع ما أكتب للأستاذ «سعيد رجو» الموظف بالاتّحاد، وكذلك للأستاذ «عصام»، وكانا لا يبخلان عليّ بالنصائح والتشجيع.
أعترف أن سؤالك يا أستاذ «مهدي» هذا طويل وصعب، ويمكن لي أن أردّ عليه برواية من أجزاء عدّة.. حتّى أصل إلى سرِّ لقب «العقّاد الثّاني» الذي أطلقه عليّ الأستاذ الأديب والناقد «محمد بن يوسف كرزون». ولا أدري هل أفرح بهذا اللقب الذي هو فوق ما كنت أتصور وأتخيّل وأحلم، أم أبقى مرعوباً ومرتجفاً من هذا الشّرف العظيم الذي لا أستطيع الإجابة عليه، لذلك اعذرني.
** - يقولون أنّ الأسلوب هو الكاتب، وقد عرفناك قاصّاً، فما هي قصّتك أنت بالذات؟..نودّ أن تحدّثنا عن البدايات، وكيف تسترجع محطات تشكّل هذا الشغف بالكتابة؟.
- الأدب الشعبي الموروث، هو السّبب
والأساس في تفجير الموهبة عندي، السّير الشّعبية، والملاحم، والحكايا، وسّعت عندي مدارك الخيال، وكان للبساطة في الطرح الدّور الكبير، عشقت السّندباد البحري، والزير سالم، وأبو زيد الهلالي، وعنترة، وهارون الرشيد.. وصرت أحلم أن أكون مثلهم، العفويّة والصدق والقدرة على الإقناع لشدّ إنتباه المتلقي.. هذا ما عملت عليه منذ البداية. في البداية كتبت الشعر، ولكنّني كنت مولع جداً بقراءة القصص والروايات والسّير الذّاتية والمذكرات الشّخصية للأدباء، أو أيّ فنّان وعبقري..وأدركت أنّ المجد الأدبيّ يصنعه الأديب بنفسه.. أي الإبداع عمل فردي، يختلف عن العمل في السّياسة الذي يعتمد في النهاية على العمل الجماعي والمنظّم. وكنت أحبّ الشخصيات المتميّزة والمتمرّدة، حيث لكلِّ أديب تجربته الخاصّة، وقصّته المختلفة، والغنيّة، وهذا ينطبق على الأدباء العرب وغيرهم من الأدباء الأجانب.. فكنت أحبّ أن أدرس وأعرف خصوصية كلّ أديب.. لأنّ في خصوصيته تكمن أسرار عطائه وإبداعه.. فمن لا يعرف تاريخ الأديب الشخصي وتفاصيل حياته، لا يمكن له أن يفهم أو يدرك فحوى كتاباته، ولن يصل إلى قرارها وأعماقها. ولأنّ قراءتي للأدب غيّرتني وهذّبتني وحوّلتني من فتى طائش كثير المشاكل.. أدركت أن للأدب قدرة هائلة على التأثير والتغيير، وإيقاظ الحسّ
الإنساني عند كلّ شخص.. وبالتالي تحوّله من إنسان سلبيّ إلى إنسان إيجابي.. وبالتالي فهمت أن للأدب دور ورسالة.. والأديب هو القائد الحقيقي الذي يقود الناس، ولكن بشكل غير مباشر، ومن دون أسلحة وجنود.
** - صدرت لكَ إبداعات ورقية حدّثنا عنها؟.
- صدر لي.. والآن يصدر لي.. وخلال فترة وجيزة سيصدر لي.. وعندي كتابات كثيرة، اتّفقت مع الناشر على طباعتها بالتسلسل في أسرع وقت ممكن، خشية أن أموتَ وتموت كتاباتي معي، لأني متأكّد أن لا أحد. سيهتمّ بكتاباتي بعد موتي.
ولكن سأقول الحقيقة المؤلمة والموجعة والمبكية والمضحكة.. فأنا حتّى الآن لا أعتبر أنّ كتاباً واحداً طبع ونشر لي.. هل أنا أخدعكم؟!.. هل أكذب على نفسي؟!.. أم على القرّاء والتاريخ؟!.
صدر لي ولم يوزّع ما أصدرته، فما
الفائدة؟!.. صدر لي ولم يصل ما نشرته للقارئ!!!.. إلّا نسخ معدودة وضئيلة وزَّعت كهدايا.. وعلى أشخاص معظمهم لا يهتمون بالأدب، وقد لا يقرؤون كتابي، ويمكن أن يرموه بأقرب حاوية، هديّتهمُ مجاملة، وأخذوا الهديّة مجاملة، فهم أشباه أمّيين ولا يكترثون بالأدب. أطبع على حسابي، نسخاً قليلة، وأضع الكتب في كراتين في منزلي.