يرى أكثر الناس أن الحق جوهر لا يتجزأ، وانه إذا كان عند إنسان أو طائفة من الناس لم يكن عند خصومه أو خصومهم شيء منه. ومن ير هذا الرأي تضؤل ثقافته ويضؤل فكره. وهؤلاء المؤمنون بالحق قد يرون من المنكر الشنيع أن يجزئوه بين خصمين أو أكثر. وفي الناس طائفة أخرى على شيء من الثقافة تستطيع أن ترى ما للأضداد من الحق، ولكنها من أجل ذلك لا تؤمن بالحق لزعمها أن الحق لا يتجزأ، فإن تجزأ انعدم؛ وإنكارها الحق بسبب تجزئه نقص في ثقافتها ينشأ من قليل من الثقافة، فإن بعض الثقافة عن يعوِّق عن بعض. والدهماء وأشباه المتعلمين يغرون بمحاكاة هذه الطائفة في إنكار الحق، والتشبه بها في الزراية عليه من غير بصيرة ولا فهم، ويتشبهون بها في الزراية على كل ذي حق من فضل في العلم أو العمل أو الخلق، ويتشبهون بها في إظهاره بمظهر المزيف المخادع. وإذا كثر أمثال هؤلاء وأشباههم في أمة ماتت روحها وأصابها الركود وإن كانت حية ترزق. والرجل من هؤلاء إذا وجد لإنسان حقاً أنكره، وإذا وجد له نصف حق أنكره، وإذا وجد له ثلث حق أو ربع حق أنكره، لأنه في سريرة نفسه لا يرى لنفسه ذرة صغيرة من الحق تعدل اعترافه بجزء غيره من الحق أو كله. وكلما عظمت الثقافة عرف كل خصم جانب الحق الذي لخصمه، بقدر عرفانه جانب الحق الذي في ناحيته؛ وهم إذا عرفوه حقيقون أن تقل الخصومة بينهم، ولكن ربما لا تنعدم، لان كل إنسان يرى لنفسه من الحق نصيباً أكثر من نصيب غيره، فيتقاتلون على تعيين حدود أجزاء الحق إن لم يتقاتلوا على تعيين حدود الحق كله. على أن الثقافة كفيلة بأن تلطف تلك الخصومة، لأن المثقف الباحث في نفسه المفكر فيها كثيراً ما يراجعها، فإذا عادى عادى وهو يحسب في خصومته حساباً لما قد يكون من خطأ النفس الذي لم يفطن له بعد في تقدير حقها، ويحسب أنه ربما يفطن له في مستقبل أمره. أما غير المثقف فإنه لا يستطيع أن يحسب حساباً لما قد يكون من خطأ النفس الذي لم يفطن له. ولعل ألصق خصائص الثقافة وألزمها لها عرفان أوجه الحق عرفاناً ملحاً يدعو إلى الاعتراف بها ويدعو إلى حسبان سقطات الفكر من غير قصد والى إسقاط المرء الشيء ولو القليل من الثقة بالفكر كي يعدل به ما قد يكون من خطأ لم يفطن له.
وقد ولع بعض الكتاب بالزراية على الحق زراية ليست زراية من يريد أن يقلقل المتنطسين في التشيع لجانب منه عن تنطسهم كي يدركوا الجوانب الاخرى، وإنما هي زراية الجاهل الذي يريد أن تعم الفوضى كي يكتسب فيها ومنها من غير حق، كاللص الذي ينتهز فرصة فوضى العراك كي يسرق دراهم الناس. وأمثال هؤلاء الكتاب يجدون رواجاً في أوساط التدهور حيث يصير السخر بالحق وأوجهه خطة عامة لا يستثنى منها فضل أو علم أو عمل أو خلق. فلا غرابة إذا ماتت روح أمة هذا شأنها وإن كانت حية ترزق. والحق عند الجاهل كالدنيا عند الأبله الساذج بقعة حول نفسه أو داره أو قريته. وكلما زاد المرء علماً كبرت الدنيا في نظره حتى يعرف أنها عوالم ونظم شمسية عديدة لم تحص بعد. وكلما ازداد المرء فطنة وثقافة عظم الحق في ذهنه كعظم الدنيا في رأي علماء الجغرافية والفلك. على إن عظم الحق في نظر المفكر قد يعدم الحق كما رأينا، فيقول المرء لا حقيقة في الحياة، بل كل أقوال الناس دعاوى باطلة، وإنما مَثَلُ نظر هذا المفكر إلى الحق مَثَلُ نظر المُطِلِّ في الماء وقد قذف فيه بحجر، فهو ينظر إلى دائرة موقع الحجر في الماء تتسع حتى تفنى. ولكن هناك حالة من حالات الثقافة يطمئن فيها المرء إلى أن تباين أوجه الحق لا ينفي الحق. ألم تر أن الدواء يشمل الأضداد ويشمل حتى السم، فلا ينفي ذلك أنه دواء. وحبذا لو فطن إلى ذلك أصحاب الأوهام الغريبة الذين لا يرون الخير إلا الخير المطلق الذي ليس متصلا بالشر، والحقيقة المطلقة التي لا تتصل بباطل ولا تتجزأ، فإذا وجدوا أن الخير في الحياة ممتزج بالشر قالوا أن لا خير ولا شر؛ وإذا وجدوا أن الحق ممزوج بالباطل قالوا أن لا باطل ولا حق، وإنما هي كلمات واصطلاحات، وإن كل إنسان يعد الحق والخير ما في ناحيته وما فيه نفعه، ولكن لو أن أحد الناس نظر في وجوه الناس ثم في وجوه الحيوانات والطيور ثم قال: إن اختلافها يدل على أن ليس في الكون ما يسمى وجهاً أكان يكون مصيبا في مقاله؟ وكذلك من نظر إلى الدنيا نظرة الراهب الزاهد فيها ونظرة المقبل على مباهجها وأطايبها ونظر إليها نظرة القوي ثم نظرة الضعيف وجد أن أوجه الحق مختلفة، أكان يكون مصيبا لو قال إن اختلاف أوجه الحق ينفي الحق؟ أليس قوله مثل قول من يعرف أن النور إنما يتكون من ألوان عدة، ويقول إن اختلاف مظاهر الألوان التي يتكون منها شعاع النور ينفي وجود النور. وإنما دفعه إلى إنكار الحق أن نغاير وجوه الحق قد يجعله عند الناس كمقياس من الجلد القابل للتمدد يتخذونه لقياس الأقمشة وهم تارة يمطونه إلى نصف مط، وتارة يمطونه إلى آخر ما يستطاع فيه من المط حسب أهوائهم. وكذلك يطيلون الحق ويقصرونه حسب أهوائهم فيصير الحق مقياس محتال وآلة خداع فتقل حماسة المرء في سبيل الحق، ويحتقر الجهاد في الحياة لنصرة الحق، ويدفعه اختلاف أوجه الحق إلى إنكار الحق، ويهيئ له العذر في نصرة الباطل لأنه يرى أن الإحساس بالحق والباطل يختلف كاختلاف الإحساس بالحر والبرد حسب الأمزجة والطبائع. وإذا نظرنا إلى اكثر الممتعضين من الحياة الراجين إصلاحها وجدناهم من أصحاب المزاج الشاذ أو من ذوي الفشل أو الفقر؛ وبالرغم من أن أساس هذا الامتعاض فردي، وأنه شعور خاص، فإنه من وسائل الرقي والإصلاح، ويؤدي إلى كثير من الخير والحق. وكذلك إذا نظرت إلى أصحاب المزاج المعتاد وأهل النجاح والسعادة وجدتهم يكرهون كل تغير، ويرون صلاح الحياة في بقاء كل قديم على حاله؛ وبالرغم من أن أساس رأيهم شعور خاص بما فيه النفع لهم فإنهم يدافعون عن الحق الكائن والخير القديم ويفطنون إلى ما في رأي الممتعضين من الحياة الراغبين في إصلاحها من وهم وباطل وشر وإن لم يفطنوا إلى ما في رأي هؤلاء من حق وخير. والرجل المثقف هو الذي يستطيع أن يجمع بين النظرتين من غير أن ينعدم الحق في نظره، والذي يعد فريضة التشبث بالقديم ليست من الباطل بل هي الحجر الذي يحتك به زناد المتطلعين إلى منازل الرقي الراغبين في إصلاح الحياة فيوري هذا الاحتكاك نور الحق ونار الحياة. وإنما ضربنا مثل هاتين الطائفتين كي نوضح أن اختلاف منازل الحق لا ينفي الحق. وليس من الصعب تطبيق هذه الفكرة بالرجوع إلى كل أمر من أمور الحياة، والى كل فريق من طوائف الفكر والعمل، والى كل مذهب من مذاهبهما. ومن أجلها كانت كل حقيقة متممة لأختها؛ ولا يتم الحق في رأي إلا بما في نقيضه من حق، كما لا يتم الباطل في رأي إلا بما في نقيضه من باطل متصل به أو قد يتصل به. والذي يحير المفكر الذي لا يجد في الثقافة عزاء ولا هو ممن يتغلب على نزعات الفكر الحر بالتعصب لجانب منه أنه يريد حياة بسيطة ولكنها ليست بسيطة، بل إنها كالخيط المعقد تلوى بعضه في بعض. فإذا استراح المرء إلى الثقافة وجد فيها عزاء، ورحب صدره ولبه بقدر اتساع الحق في نظره، ولم يحزنه اختلاف أوجه الحق، ولم يضله إلا في ساعات كلل الذهن أو ساعات الخوف أو التعب أو السقم والتشاؤم الذي يتهيأ في هذه الحالات أو في مثلها. على أن مذهب من ينكر الحق بسبب اختلاف مظاهره هو أيضاً من الوسائل التي تستقيم بها الحياة وتستفيد منها، فالحياة تتخذ من كل مذهب وسيلة وتقبل نفعه وتدفع ضره، وبمذهب من ينكر الحق لاختلاف مظاهره تستطيع الحياة أن تداوي نقيضه وهو مذهب المتعصب لجانب واحد من جوانب الحق. وإن المفكر ليرى في العقل البشري على العموم خصيصة تمكنه في بعض حالاته من قبول أي رأي أو معتقد سواء أكان قريباً أم بعيداً، متزناً أم غير متزن، جليلاً أم غير جليل. وهذه الخصيصة قد تدعو إلى الباطل، ولكن من الثقافة ألا ييأس المفكر من أجلها لأنها دليل على أن العقل البشري قادر على أن يرى كل جانب من جوانب الحق في الأمور في أثناء التخبط في جوانب الباطل منها. وما دام الرأي لا يصير عادة أو قيداً وسجناً أو ألفاظاً ميتة مستحبة أو شيئاً لا يصح الرجوع عنه بطريق الثقافة، فالأمل معقود في التخبط والتهدي حتى ولو قبل العقل البشري من الآراء في بعض الأماكن والأزمنة والحالات ما قبلته عقول زنوج الغابات ونفوسها وما قبلته عقول القبائل البشرية من آراء رهيبة يصف أمثالها السير جيمس فريزر وسجموند فرويد. وأشد منها رهبة وخطراً على العقول البشرية أن يحرم محرم في أرقى الدول الحديثة حضارة وفكراً على العقل البشري أن يفكر إلا فيما تسمح بالتفكير في تلك الدول، لان الأمل معقود بتخبط الفكر البشري وتهديه ما دامت الثقافة رائدة، وما دام الرجل المثقف يفسح صدره لرأي خصومه، لان كل جانب من جوانب الحق قد يتصل بجانب من جوانب الباطل، إذ بينهما تقارب وتناسب؛ فالرغبة في بلوغ الكمال وولوع الفكر به وبتحقيقه مما يوطد سبل التقدم، ولكنها أمور قد تدفع إما إلى اليأس إذا فشلت، وإما إلى الإجرام في أثناء محاولة تنفيذ أغراضها، فتكون داعية إلى الحق من ناحية. وإلى الباطل من ناحية أخرى، وكذلك الرأي القائل بإنكار استطاعة رقي الإنسانية وكما لها قد يؤدي إلى الحق الذي في جانب الاتزان والتؤدة والمحافظة على الحق المستطاع بدل لفظه في سبيل الحق المنشود. ولكنه قد يؤدي من ناحية أخرى إلى الأثرة وتبرير الفساد الموجود لأنه موجود في وجود أنكر هذا الرأي إمكان إصلاحه. والرأي القائل بالإيثار له جانب حق كما أن للأثرة جانباً آخر يُنشد في تهيئة الآحاد والأفراد بالقوة والإقدام، وفي قوتهم وإقدامهم قوة للمجتمع الإنساني وإقدام له.
وعمل الثقافة في الحياة هي أن تؤسس الحياة على أساس صالح يوفق بين جوانب الحق في الأضداد، وأن تفصل بين كل جانب من جوانب الحق وما يلائمه من جوانب الباطل.
عبد الرحمن شكري
مجلة الرسالة - العدد 285
بتاريخ: 19 - 12 - 1938
وقد ولع بعض الكتاب بالزراية على الحق زراية ليست زراية من يريد أن يقلقل المتنطسين في التشيع لجانب منه عن تنطسهم كي يدركوا الجوانب الاخرى، وإنما هي زراية الجاهل الذي يريد أن تعم الفوضى كي يكتسب فيها ومنها من غير حق، كاللص الذي ينتهز فرصة فوضى العراك كي يسرق دراهم الناس. وأمثال هؤلاء الكتاب يجدون رواجاً في أوساط التدهور حيث يصير السخر بالحق وأوجهه خطة عامة لا يستثنى منها فضل أو علم أو عمل أو خلق. فلا غرابة إذا ماتت روح أمة هذا شأنها وإن كانت حية ترزق. والحق عند الجاهل كالدنيا عند الأبله الساذج بقعة حول نفسه أو داره أو قريته. وكلما زاد المرء علماً كبرت الدنيا في نظره حتى يعرف أنها عوالم ونظم شمسية عديدة لم تحص بعد. وكلما ازداد المرء فطنة وثقافة عظم الحق في ذهنه كعظم الدنيا في رأي علماء الجغرافية والفلك. على إن عظم الحق في نظر المفكر قد يعدم الحق كما رأينا، فيقول المرء لا حقيقة في الحياة، بل كل أقوال الناس دعاوى باطلة، وإنما مَثَلُ نظر هذا المفكر إلى الحق مَثَلُ نظر المُطِلِّ في الماء وقد قذف فيه بحجر، فهو ينظر إلى دائرة موقع الحجر في الماء تتسع حتى تفنى. ولكن هناك حالة من حالات الثقافة يطمئن فيها المرء إلى أن تباين أوجه الحق لا ينفي الحق. ألم تر أن الدواء يشمل الأضداد ويشمل حتى السم، فلا ينفي ذلك أنه دواء. وحبذا لو فطن إلى ذلك أصحاب الأوهام الغريبة الذين لا يرون الخير إلا الخير المطلق الذي ليس متصلا بالشر، والحقيقة المطلقة التي لا تتصل بباطل ولا تتجزأ، فإذا وجدوا أن الخير في الحياة ممتزج بالشر قالوا أن لا خير ولا شر؛ وإذا وجدوا أن الحق ممزوج بالباطل قالوا أن لا باطل ولا حق، وإنما هي كلمات واصطلاحات، وإن كل إنسان يعد الحق والخير ما في ناحيته وما فيه نفعه، ولكن لو أن أحد الناس نظر في وجوه الناس ثم في وجوه الحيوانات والطيور ثم قال: إن اختلافها يدل على أن ليس في الكون ما يسمى وجهاً أكان يكون مصيبا في مقاله؟ وكذلك من نظر إلى الدنيا نظرة الراهب الزاهد فيها ونظرة المقبل على مباهجها وأطايبها ونظر إليها نظرة القوي ثم نظرة الضعيف وجد أن أوجه الحق مختلفة، أكان يكون مصيبا لو قال إن اختلاف أوجه الحق ينفي الحق؟ أليس قوله مثل قول من يعرف أن النور إنما يتكون من ألوان عدة، ويقول إن اختلاف مظاهر الألوان التي يتكون منها شعاع النور ينفي وجود النور. وإنما دفعه إلى إنكار الحق أن نغاير وجوه الحق قد يجعله عند الناس كمقياس من الجلد القابل للتمدد يتخذونه لقياس الأقمشة وهم تارة يمطونه إلى نصف مط، وتارة يمطونه إلى آخر ما يستطاع فيه من المط حسب أهوائهم. وكذلك يطيلون الحق ويقصرونه حسب أهوائهم فيصير الحق مقياس محتال وآلة خداع فتقل حماسة المرء في سبيل الحق، ويحتقر الجهاد في الحياة لنصرة الحق، ويدفعه اختلاف أوجه الحق إلى إنكار الحق، ويهيئ له العذر في نصرة الباطل لأنه يرى أن الإحساس بالحق والباطل يختلف كاختلاف الإحساس بالحر والبرد حسب الأمزجة والطبائع. وإذا نظرنا إلى اكثر الممتعضين من الحياة الراجين إصلاحها وجدناهم من أصحاب المزاج الشاذ أو من ذوي الفشل أو الفقر؛ وبالرغم من أن أساس هذا الامتعاض فردي، وأنه شعور خاص، فإنه من وسائل الرقي والإصلاح، ويؤدي إلى كثير من الخير والحق. وكذلك إذا نظرت إلى أصحاب المزاج المعتاد وأهل النجاح والسعادة وجدتهم يكرهون كل تغير، ويرون صلاح الحياة في بقاء كل قديم على حاله؛ وبالرغم من أن أساس رأيهم شعور خاص بما فيه النفع لهم فإنهم يدافعون عن الحق الكائن والخير القديم ويفطنون إلى ما في رأي الممتعضين من الحياة الراغبين في إصلاحها من وهم وباطل وشر وإن لم يفطنوا إلى ما في رأي هؤلاء من حق وخير. والرجل المثقف هو الذي يستطيع أن يجمع بين النظرتين من غير أن ينعدم الحق في نظره، والذي يعد فريضة التشبث بالقديم ليست من الباطل بل هي الحجر الذي يحتك به زناد المتطلعين إلى منازل الرقي الراغبين في إصلاح الحياة فيوري هذا الاحتكاك نور الحق ونار الحياة. وإنما ضربنا مثل هاتين الطائفتين كي نوضح أن اختلاف منازل الحق لا ينفي الحق. وليس من الصعب تطبيق هذه الفكرة بالرجوع إلى كل أمر من أمور الحياة، والى كل فريق من طوائف الفكر والعمل، والى كل مذهب من مذاهبهما. ومن أجلها كانت كل حقيقة متممة لأختها؛ ولا يتم الحق في رأي إلا بما في نقيضه من حق، كما لا يتم الباطل في رأي إلا بما في نقيضه من باطل متصل به أو قد يتصل به. والذي يحير المفكر الذي لا يجد في الثقافة عزاء ولا هو ممن يتغلب على نزعات الفكر الحر بالتعصب لجانب منه أنه يريد حياة بسيطة ولكنها ليست بسيطة، بل إنها كالخيط المعقد تلوى بعضه في بعض. فإذا استراح المرء إلى الثقافة وجد فيها عزاء، ورحب صدره ولبه بقدر اتساع الحق في نظره، ولم يحزنه اختلاف أوجه الحق، ولم يضله إلا في ساعات كلل الذهن أو ساعات الخوف أو التعب أو السقم والتشاؤم الذي يتهيأ في هذه الحالات أو في مثلها. على أن مذهب من ينكر الحق بسبب اختلاف مظاهره هو أيضاً من الوسائل التي تستقيم بها الحياة وتستفيد منها، فالحياة تتخذ من كل مذهب وسيلة وتقبل نفعه وتدفع ضره، وبمذهب من ينكر الحق لاختلاف مظاهره تستطيع الحياة أن تداوي نقيضه وهو مذهب المتعصب لجانب واحد من جوانب الحق. وإن المفكر ليرى في العقل البشري على العموم خصيصة تمكنه في بعض حالاته من قبول أي رأي أو معتقد سواء أكان قريباً أم بعيداً، متزناً أم غير متزن، جليلاً أم غير جليل. وهذه الخصيصة قد تدعو إلى الباطل، ولكن من الثقافة ألا ييأس المفكر من أجلها لأنها دليل على أن العقل البشري قادر على أن يرى كل جانب من جوانب الحق في الأمور في أثناء التخبط في جوانب الباطل منها. وما دام الرأي لا يصير عادة أو قيداً وسجناً أو ألفاظاً ميتة مستحبة أو شيئاً لا يصح الرجوع عنه بطريق الثقافة، فالأمل معقود في التخبط والتهدي حتى ولو قبل العقل البشري من الآراء في بعض الأماكن والأزمنة والحالات ما قبلته عقول زنوج الغابات ونفوسها وما قبلته عقول القبائل البشرية من آراء رهيبة يصف أمثالها السير جيمس فريزر وسجموند فرويد. وأشد منها رهبة وخطراً على العقول البشرية أن يحرم محرم في أرقى الدول الحديثة حضارة وفكراً على العقل البشري أن يفكر إلا فيما تسمح بالتفكير في تلك الدول، لان الأمل معقود بتخبط الفكر البشري وتهديه ما دامت الثقافة رائدة، وما دام الرجل المثقف يفسح صدره لرأي خصومه، لان كل جانب من جوانب الحق قد يتصل بجانب من جوانب الباطل، إذ بينهما تقارب وتناسب؛ فالرغبة في بلوغ الكمال وولوع الفكر به وبتحقيقه مما يوطد سبل التقدم، ولكنها أمور قد تدفع إما إلى اليأس إذا فشلت، وإما إلى الإجرام في أثناء محاولة تنفيذ أغراضها، فتكون داعية إلى الحق من ناحية. وإلى الباطل من ناحية أخرى، وكذلك الرأي القائل بإنكار استطاعة رقي الإنسانية وكما لها قد يؤدي إلى الحق الذي في جانب الاتزان والتؤدة والمحافظة على الحق المستطاع بدل لفظه في سبيل الحق المنشود. ولكنه قد يؤدي من ناحية أخرى إلى الأثرة وتبرير الفساد الموجود لأنه موجود في وجود أنكر هذا الرأي إمكان إصلاحه. والرأي القائل بالإيثار له جانب حق كما أن للأثرة جانباً آخر يُنشد في تهيئة الآحاد والأفراد بالقوة والإقدام، وفي قوتهم وإقدامهم قوة للمجتمع الإنساني وإقدام له.
وعمل الثقافة في الحياة هي أن تؤسس الحياة على أساس صالح يوفق بين جوانب الحق في الأضداد، وأن تفصل بين كل جانب من جوانب الحق وما يلائمه من جوانب الباطل.
عبد الرحمن شكري
مجلة الرسالة - العدد 285
بتاريخ: 19 - 12 - 1938