## قراءة تحليلية لقصيدة الأديب والشاعر الكبير الاستاذ:
(مصطفى الحاج الحسين)
في قصيدة: (موقد السراب)..
قراءة: ذ /(larbi Izaabel Maroc).
تنقسم هذه القصيدة الرائعة من أديبنا وشاعرنا الكبير من إسطنبول إلى جزءين اثنين: أولهما: استرجاع لماضي الشباب حيث "القصيدة" تتحدى الشاعر بل وتتحداه ظروف و أمكنة و متاهات الروتين الحياتية مثله مثل كل الناس؛ وكأن في كل منعطف حياتي يكتسب التجارب و تحتد عناصر شخصية الشاعر.. لا الحاجة تقف حجر عثرة أمامه ولا اليتم أناخ ظهره، ولا كل اكراهات الزمن المشيب قادر على أن يترك فيه بصمة أذى....وقف الشامخ متحديا كل الصعاب ويشحذ هممه لتحقيق غاية سامية ظلت عالقة في الفكر والروح والوجدان والفؤاد وهذه الرغبة الأكيدة هي الفكرة الثانية لمضمون هذه القصيدة الرائعة شكلا ومضمونا:
الفكرة، هي: محاورته (القصيد) أي الشعر في أبهى صور وارقى بوح، أسر لها بما في القلب والوجدان والروح والفكر واعطاها من نفسه الجمال والقوة النابعة من داخل شخصية محنكة حنكتها تجاربه الحياتية في كثير من الميادين التي اشتغل فيها...فصاغها حكمة وقوة وقولا فصلا نتيجة كل ذلك..
وها هو ذا في هذه القصيدة يبدع منذ استهلالها لها بعنوان مجازي قوي (موقد السّراب)!! فلماذا حذف الشاعر اللبيب الحكيم هنا المبتدأ وجاء بالخبر (موقد) مضافا إلى كلمة (السّراب) إنها لغة المجاز اللفظي حيث: الموقد هو الشاعر نفسه يحترق؛ في داخله خليط من الأحاسيس والعواطف تضطرب فلا الأرض أرض ولا السماء سماء.. وجاء بالسراب وكأنه يقول: كم تجربة مرت من عمري وكم أمنية سعيت إلى تحقيقها في جد ونشاط وعزم وقوة وإصرار على أمل مستقبل/ حاضر أكثر سعادة وهناء وراحة من الماضي القريب... كل ذلك ذهب ادراج الرياح وكأنني لم أكن شيئا أو كأني كمن وضع قدرا فارغةعلى نار ينتظر أن ينضج
(السراب).. وهل السراب ملموس حقيقي؟؟ أم يريد القول إن تجاربه في الحياة علمته ألا شيء يدوم على وجه هذه البسيطة؟!
ليواصل الشاعر قصيدته في حبكة متراصة الحلقات متدرجة الأفكار متماسكة النفس الشعري من بداية النص إلى نهايته في أسلوب شاعري راق ومميز وكأنه غدير رقراق يسيل عذوبة ورقة وجمالا وتوهجا....
فالموسيقى الخارجية للنص ليست إلّا إحساساً بالإنتصار على ظروف قاهرة وهذا الانتصار مرده إلى زمانة وتعقل الشاعر وقوة شخصيته في تحقيق الذات....
اشتغل الشاعر على مجموعة من الأساليب البلاغية وخاصة المجاز والكناية لكن في أسلوب سهل ممتنع ساعده ذلك على أن يستهل قصيدته حسن استهلال وان يوصل فكرته في يسر وسهولة وأن يختم قصيدته ختما راقيا فكرا وعمقا ووجدانا.
تحية تقدير لكم استاذ (مصطفى الحاج حسين) المحترم.. لقد أبدعت واوفيت وما قصرت... قصيدة رائعة... تحياتي وتقديري واحترامي لكم أستاذي.
الدكتور: العربي إزعبل.
* موقدُ السَّراب..
أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.
على موقدِ السَّرابِ
أشعلَني الانتظارُ
كانَ السَّيفُ ينقُشُ صرختي
على امتدادِ عُنُقي
وكنتُ في قبضةِ الانهيارِ
ألبَسُ دمعتي
وأحضُنُ رعشتي
وأصعدُ سلَّمَ الاكتواءِ
الأرضُ منْ فوقي
شاخصةُ الجهاتِ
السَّماءُ منْ تحتيَ
فَقَدَتْ بصيرتَها
والزمنُ
لا مكانَ يأويهِ
والأمكنةُ تنسابُ في جدولِ
الهَباءِ
ضحِكَ الرَّمادُ منْ يفاعةِ أمواجي
وقهقَهَ العدمُ
حين أبصرَ عنادَ نبضي
الأفقُ يحترسُ منْ نافذتي
المطرُ يلتفُّ على صحرائي
والجهاتُ لا تقتربُ منْ حنيني
مَنْ زوَّدَ اللَّيلَ بشموعِ دمي؟!
من أعطى النارَ
حقَّ التوغُّلِ في يباسي؟!
أنا
لا أذكُرُ أنِّي كنت أنا
كانتْ روحيَ على خصامٍ
مع جسدي
دمي
لم يطِقِ الإقامةَ في عروقي
أهدتني أمِّي
إلى حمائمِ السَّحابِ
أودعني أبي
عند ضفيرةِ النَّدى
وأخذتْني قصيدتي
إلى بوابةِ الينابيعِ
فَمَنْ دَلَّ الصَّمتَ على صوتي؟!
مَنْ أعطى الأرقَ
مفتاحَ الأسئلةِ؟!
آنِّي أحبو فوقَ قُيودي
أحفُرُ بحراً لمراكبي
العائمةِ على موتي.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
## قصيدة: (وقالت خطاي)..
للشاعر والأديب السوري:
(مصطفى الحاج حسين).
للنّاقد والشّاعر: (محمد زكريّا حيدر).
في المسافة التي تفصل بين موت البلاد، وحضور القصيدة.. يقف الشاعر
(مصطفى الحاج حسين)، ليرفع ماتبقّى
من صراخٍ، في حنجرةٍ تعبت من اللهاثِ
خلفَ بلاد تنأى.
يطارد البلاد بالقصائد، ولكنَّ الكلمات
التي صارت حطباًلم تعد توقد في القصيدة ما يغري البلاد بالتّوقف عن الانهيار ما يغري القلب بالنكوص عن التشظّي.
حتى الغربة صارت تُهمة وتحتاج أن تختفي في نفقٍ يبحثُ عن الأسماءِ التي أضحت سرّية.
وعلى حدودِ الخرائط التي شرذمت
الوطن، فصار لعبة الأمم، بتنا لا نحارب إلّا بخيباتنا.. فهل تقودنا الخيانات إلى سياج الندى؟!.
ويبقى الشاعر يلهث بلهفتهِ العارمة،
طالباً إلى المدى أن يُفسح طريقاً لغُصّتهِ وقامة جرحه وهزائمه..
واحتضاره.
وحتى لا يبقى النداء فردياً تجد الشاعر
يربط جرحه بجرحٍ جماعي، فهو سينادي على(جثثٍ تشبهه)، ليواجه معها قهقهات ذابحيه وقاتلي وطنه.
إنّه يقف بشموخِ ألمهِ يريد أن يحاصر
الكراهية، التي تضغط على أنفاس البلاد...
ويعجب للعالم (المتحضّر) الذي أصبح
يقتات على استغاثات الضّعفاء.
صرخة الشّاعر شديدة الإيحاء.. تمرّ على الرّوح مرتدية أبهى الصّور وأكثرها عنفاً وجموحاً في تراكم صوري يؤدي إلى تشكيل لوحة ماتعة من الحضور التخييلي، الذي يتفاعل في وحدة القصيدة، ووحدة الألم ليعلن حضوره الأخّاذ.
محمد زكريا حيدر
سوري.. مقيم في الإمارات
* (وقالت خطايَ)..
أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.
وقالت لي خطايَ توقّف
عنِ المجيءِ
فما عادَ للأرضِ دروبٍ
المسافاتُ تقوّضت في صدركَ
الكلامُ صارَ حطباً
تتدفأ عليه القصيدة
ويطلُّ من لهفتكَ
سحابٌ أسودٌ جائعٌ
يبتلعُ المدى ويطاردُ رؤاكَ
فيا أيّها المشظّى اتّئد
تجمّع في صحارى الدّمع
سنحفرُ لغربتنا نفقاً
يُودِي لاسمائنا
ونكتبُ على عثراتِ دمنا
أهازيجَ السّراب
ونرتّلُ على الجّماجمِ
خرائط البلاد المشرذمة
فيا أيّها الصّبح
تمسّك بأصابعِ خيبتي
لتقودكَ نحوَ سياج النّدى
قد تبصر حناياكَ
أخاديدَ لهفتنا النّادبة
وَسِّع أيّها المدى لغصّتي
ستعبر من هنا قامة جرحي
وتمرّ هزائمي كلّها
عبرَ هذا الرّكام
وينادي احتضاري في كلّ البلاد
على جثثٍ تشبهني
لنرسمَ على أبوابِ صرختنا
شكلَ الضّحكة التي ذبحتنا
وكانت تتقلّد سواد الضّغينة
بلدي تتقاذفها الكراهيّة
والعالم المتحضّر
يقتاتُ على استغاثاتنا
الطّازجة.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
## الأديبة الناقدة الأستاذة:
(غزلان شوفي) تكتب:
قراءة في قصيدة (لجوء)..
للشاعر والأديب السوري :
(مصطفى الحاج حسين) .
===========================
نحن اليوم أمام نص إبداعي من توقيع الشاعر مصطفى الحاج حسين،نص ذي حمولة كبيرة وعميقة، تفتح الباب على مصراعيه للغوص في معانيه وأفكاره.
العنوان: يتكون من كلمة واحدة، عبارة عن مصدر من الفعل الثلاثي( لجأ/ يلجأ/ لجوءً، فهو لاجئ) مما يمنح القارئ انطباعا أوليا، ومنذ الوهلة الأولى، بأن القصيدة تحتمل الغوص في بحار شتى، فقد يكون الشاعر باحثا عن لجوء عاطفي، وجداني، أو ربما حتى سياسي، على اعتبار أن اللفظ يُستعمل في حقول دلاليه عدة؛ هذا اللجوء الذي لن تتضح معالمه إلا بالتنقل بين كلمات القصيدة، والتشبع بمعانيها، خصوصا وأن الشاعر أدرج اللفظة نكرة ،مما يضعنا في موقف الحيرة، وهنا تجدر الإشارة إلى أن النص نثري، مما أتاح للشاعر التحرر من ضوابط الوزن والتفعيلة والقافية، وهذا يتماشى مع المضمون، كما سنرى لاحقا…
ينطلق الشاعر في نصه من الاعتراف بحالة الخصام والتنافر التي يعيشها مع ذاته، حالةٍ آنية، مستمرة بدليل استعمال المضارع في تصريف الافعال( يختبئ/ أتهرب/ أشيح)، ليستمر في تأكيد الحالة بتوظيف لا النافية للجنس(لا كلام/لا توافق/لا سلام) وهذا يضعنا أمام صدمة عاطفية منذ الاستهلالية، ويستمر ذا الهروب من خلال موقعة الشاعر لذاته خارج النبض( نبض قلبه؟؟؟؟؟/ هل الأمر يتعلق هنا بخيبة عاطفية، أم أن الأمر أعمق من ذلك بكثير؟؟؟؟……)
وتستمر القسوة، ومخاصمة الذات فيما يلي من الأبيات، لكن الملاحظ أن الشاعر،في معرض قصيدته انتقل إلى الزمن الماضي، وهنا حدثت خلخلة في السيرورة الزمنية، هل هي مقصودة، لتأكيد قِدم الوجع؟؟أم فلتة من فلتات القلم؟؟( هربت/ سقطت/ صار/ خانتني/ تخلت)……
قمة الوجع والاغتراب والألم تظهر في إشراك العناصر الطبيعية الكونية من أرض وسماء وغيوم في الحالة النفسيه لشاعرنا، بل إنها تآمرت عليه، وأمعنت في تعذيبه،وما انتشلته من ضياعه….. وهنا وظف الشاعر صورا راقية جدا، مع انزياحات بليغة، باستعمال المفردات والضدية فيما يُفترض بها من دور( الهواء اعتصر حنجرتي/ الندى سلبني أزهاري/ وعتم الضوء غرفتي…..)
في الجزء الأخير من القصيدة، يعود الشاعر إلى استعمال الزمن المضارع في سياقات جدا عميقة، وجدا صادمة، فقد أصبح يتوق لمفارقة الحياة، ومعانقة الموت، الذي أصبح يراه أرحم و وأدفأ من الوحدة التي تُغلف وجوده وحياته، لدرجة التخلي عن هويته، وكينونته وحقيقته، والرضا بحالة العدم التي سيتيحها له الموت حين يحوله إلى رماد…… إلى رميم، إلى استقرار ولو بالجحيم كمصير…….
وفي المجمل، يمكن القول أن الألفاظ المستعملة خدمت المعنى بشكل كبير، إلا أن تٓحدّرٓها من معجم ملفوف بالسواد، مضغوط بالتشتت والتشظي ألبس القصيدة رداء من التشاؤم، جعل القارئ ينفر في بعض المواقع، وهذا راجع لوحدة الموضوع، وعدم التنويع،… إلا أنه لا يفوتني أن أثني هنا على الشاعر كونه قام بتشكيل كثير من الكلمات كي تسهل على المتلقي القراءة، كما أنه اعتمد الجمل القصيرة ، مما جعلنا في حالة تركيز دائم مع النص، مع غياب أي لبس أو تعقيد لفظي أو معنوي….. لكن غاب عن النص ذلك الجرس الموسيقي في مجمله، رغم وجود نثرات منه في قلة من المواضع( أزهاري/ انكساري….) لكن الموسيقى تمنح الشعر حياة…….
فيما يخص الأسلوب ، فكله خبري إقرارا لحقيقة الضياع، وتأكيدا لها…….. وهنا، آخذ على الشاعر عدم تشبثه ببصيص من نور وأمل،في مجمل قصيدته، مما جعلها ناطقة بالسوداوية، موغلة في الانعزال، دون تفصيل لأسباب هذه الحالة……
وفي الختام، أشكر شاعرنا القدير على جمالية أسلوبه، وخلو لغته من الأخطاء، وابتعاده عن الحشو والإطناب، وأتمنى أن نقرأ له نصوصا على نفس المستوى من الكفاءة، لكن بمواضيع أكثر تفاؤلا، وأميل إلى الأمل والانفتاح…….
غزلان شرفي
المغرب.. فاس.
***************************************
* لجوء..
أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.
يختبئُ وَجهِي منِّي
وأتهرَّبُ من أنفاسِي
أبتَعِدُ عن دَمِي
وأشيحُ عن قامَتِي نَظَري
لا كَلامَ مع قلبي
لا تَوافقَ مع روحي
ولا سَلامَ مع دَمعَتِي
إنِّي خارجَ نَبضِي
إنِّي وراءَ غِيَابِي
هَرَبَتْ مِنِّي خُطَايَ
وسَقَطْتُ في مستنقعِ الصَّمتِ
صارَ الكلامُ شَوكاً
وقَصيدَتي مَنفىً لِلذَاكِرَةِ
خَانَتنِي الأرضُ
وتخلَّتِ السَّماءُ عَنِّي
فَعَلى عَطَشِي تآمَرتِ الغُيومُ
وقبري باعَ جثماني للضواري
النَّارُ نَهَشَتْ بَسمَتي
الهواءُ اعتَصَرَ حنجرتي
والنَّدى سَلبَني أزهاري
وعَتَّمَ الضَّوءُ غُربتي
وصوتُ الطفولةِ نَخَرَ انكساري
أُنَادِي على مَوتٍ رَحِيمٍ
يَنتشلُ صَقيعَ وحدَتي
أستجيرُ بالعَدَمِ
أنْ يَقَبَّلَ أوراقَ اعتمادي
ويُعطيِني جِنسِيَّةً جَدِيدَةَ
اسمِي:
- رَمَادٌ
كنيتِي:
- رَمِيْمٌ
وَطَنِي:
- جَهَنَّمُ
لُغَتِي:
- الخَرَسْ.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
## قصيدة: (تعقب)..
للشاعر والأديب السوري:
(مصطفى الحاج حسين).
الناقد والشاعر:(عدنان بصل).
إنّ النصّ المعنون ب(تعقّب) يحمل همّا جميلا وجماله متأتّ من كونه وجداني بامتياز إنّما استخدام الكاتب لأسلوب الخبري أصبغ النص بالسردية التي هبطت بمستوى النص إلى مستوى الخاطرة وحتى إلى التقريرية في هذه الخاطر فمستلزمات
النص المبدع تقتضي التنوع بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي الأمر الذي يعطي حركيّة للنص فكما يستخدم الفنان التشكيلي الألوان المتنوعة في لوحته فتبدو مترعة بالجمال فعلى الأديب أن يستخدم تنوع الأسايب فإذا كان المبتغى
خلق قصيدة نثر فلا بأس باستخدام
الأسلوب الخبري ولن يجب أن يوظف
توظيفا بلاغيا كي يحقق الغاية منه وفي نص (تعقب) الذي أرى فيه نصا جميلا وحضورا لافتا للمجاز بأشكال مختلفة كنت أتمنّى ان يكون قد شغل عليه بشكل أفضل كي يأخذ مكانه كقصيدة نثر وأنا لم أورد شواهد عن الجمل الخبريّة لأنّ النص برمته خبري .
الشاعر عدنان بصل .
* (تعقّب)..
أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.
أتعقّبُ غيابي
أُرسلُ خطايَ خلفَ انهزامي
وأطلقُ أجنحة هواجسي
لأعرفَ أمكنةَ نزيفي
أتلصّصُ على حنيني
لأباغتَ قلبي متلبّساً بدموعهِ
هربت منّي أيّامي
وأنكرتني الذّكريات
ووشت بي قصيدتي
إلى الفضاءِ الأصمِّ
صارَ لهاثي يحاصرني بالاختناقِ
انقضّت الجّهاتُ على رؤايا
وأمسكت جثتي بالغيوم
لتنوح الدّروب فوق رفيفي
أنا احتراقُ الدّمع في الحنجرة
ونموّ الدّم في الشّهيقِ
تعثّرت بي خيبتي
وأنا أنادي الرّيح
لتحملَ عنّي تشرّدي
وتزحف نحوي الانكسارات
تحتاطني ظنوني
تقفزُ الحُرقة من دهشتي
حينَ تمدُّ لي الهاوية يدها
تتعرّى منّي الكلمات
تفتضحُ أسرار صمتي
لأعلن على مرآى موتي
ولادة عنادي
سأرسم لأشواقي خارطة الحلم
سأفتح نافذة في جدرانِ الألمِ
وأُطَيّرُ للمدى شمس فؤادي
أنا سليل القهر والاندحار
أعلنُ عن قيامةِ الخراب
سينهضُ بنا الرّماد
ونعودُ للبلادِ التي
لفظتنا بمجون.*
مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول
## وكان الناقد والأديب والشاعر:
(محمد بن يوسف كرزون):
قراءة مخالفة لقراءة عدنان بصل:
َوهذا ما كتبه(محمد بن يوسف كرزون)
هذا ليس تحليلاً لنصّ، هذا درسٌ في
الكتابة الشعرية، أرادَ الناقدُ أن يقدّمَ درساً تفصيلياً في ما يرغبُ هو أن يرى الشعر عليه... لا أكثر ، ويلقّنه لشاعرنا الماجد «مصطفى الحاج حسين».
ولو أنّه كان يريدُ أن يحلّل ويظهرَ المحاسن والمساوئ لكان عليه أن يأخذ حجماً أكبر ممّا كتب.
هو يقدّم تعليقاً لا غير، ولم يُظهر من
مواطن الجمال فيالنصّ الشعري سوى
عبارة (همّاً جميلاً) في بداية مقالته،
و(أرى فيه نصا جميلا وحضورا لافتا للمجاز بأشكال مختلفة) في نهاية المقالة، وكلمتاه هاتان عموميّتان إنشائيتان، لم يثم الدليل عليهما في نصّه النقديّ، ولم يحلّل أيّ صورة مجازيّة من صور النصّ الكثيرة بل التي أُتخِمَ فيها النصّ لجماله.
يكتبُ الشاعر (مصطفى الحاج حسين)
قصيدتَهُ بألمِ أمّته الذي امتزَجَ بألمه
الشخصيّ،فلم نعد نرى الحدود الفاصلةَ
بين الألمين.
هو يستخدمُ الضمير الشخصيّ الفردي (أنا) وما يلحقُ به من ياء المتكلّم والفعل المضارع الذي صيغَ على بالصياغة الفرديّة ذاتها، ولكن قراءتنا لتفاصيل قصيدته لا تخفي امتزاج ألمه بألمِ أمّته جميعاً، التي تغوصُ الآنَ (في عُتمةِ النار)، والتي (تلملمُ انكسارات موتها)، وكأنّها (تعدو صوبَ شهقاتِ الأفول)، ورغم تراثها العظيم، الذي اتّخذ الشاعر من اللغة رمزاً له، فإنّ هذه اللغة الرمز لم تعد تنفع شيئاً، فهي ليست سوى (أجنحةٍ تمتدُّ لتعلنَ خرابَ أمّةٍ كاملة):(أمدُّ لغتي أجنحة لخرابي).
ثمّ ينقلنا إلى تفصيل آخر لا يقلّ دهشةً
وغرابةً، ولكنّه واقع وحقيقة: (أوزّعُ ينابيع دهشتي على خريرِ اختناقي).
فهذه الأمّة تصرخ وهي تكادُ أن تختنقَ ممّا هي فيه من ويلات وحروب ومؤامرات، في دهشةٍ غريبة من مواقف العالَم كلّه تجاه ما تعاني منه.
وينهي القصيدة كما ابتدأها، بالموت أو
النهاية:
(لا شيء يشبه اسمي
إلاّ أمواج العدم) .
القصيدةُ في تفاصيلها تكادُ تكون ملحمة مصغّرة، تحاكي ما يجري في الواقع المرير، وتنبئُ عن أنّ الأمّة تسير إلى نهايتها إلى تفتُّتِها، إلى موتها المحتوم، وهي الأمّة التي عاشت قروناً طويلة صابرةً على الشدائد والمحن، وصمدتْ.
ويأتي تحذيرُ الشاعر في غاية الأناقة
والجمال، عندما يمزج (الأنا) بــ(نحن)،
ويعلنُ أنّ وجعه هو في العمقِ والأزمة التي يكادُ لا ينفعُ معها دواء.
القصيدة مُترَعةٌ بالصور المدهشة، والمجازات المذهلة، التي لا تشبه قصيدةً أخرى من قصائد الشعر النثريّ المعاصر والحديث في تفاصيلها، وإن كان قد استندَ في واحدةٍ منها إلى البلاغة القرآنية، في قوله:
(ورحتُ أهزُّ بجذعِ قهري
تساقطَ عليَّ جمرُ صمتي).
فهي تذكّرنا بآياتٍ من «سورة مريم»:
(وهزّي إليكِ بجذعِ
النخلةِ تساقط عليكِ رطباً جنيّاً).
ولكنّ نتيجة هزّه لقهره كانَ جمر الصمتِ الذي يكوينا جميعاً ولا نستطيعُ الفكاكَ منه، عندما نرى أمّتَنا تُذبَحُ وريداً وريداً ونحنُ صامتون.
محمد بن يوسف كرزون .
## قصيدة:(لو لم يخفق قلبي)..
للشاعر والأديب السوري..
(مصطفى الحاج حسين).
بقلم: الناقدة والأديبة والشاعرة:
(بسمة الحاج يحيى)..
المسيرة تبدأ بخفقة تعطي الوليد حياة، تطلقه على إثرها الى معنى الوجود، و تملي عليه سرد الحكايا و التيه و الأنات.. شاعرنا، تربع عرش القصيدة منذ العتبات الاولى، تبنى لغة الخلق و الابداع، فتألّه ليعطي الحياة لروح هي نابعة من اعماقه و تسكن فيها و ابدع ليحيي قصيدة هي
الروح لروحه و هي السكن فيه و فيها.. ليزيد من قوة خلقه و الانفراد بالألوهية، تعمد لغة سكب على بساطتها و سلاستها منطق القوة و السلطة؛ « لو »، إن دلت على سحر و جمالية، فإنها تحمل كذلك في طياتها سرّ الالوهية و القوّة فلا خلق لو لم
يكن لخفقة قلبه ولادة لكامل القصيدة، بل و يستدعي عناصر الطبيعة؛ جلّها و أجملها ليشهد خلقه ما ابدع لإضافة مسحة الجمال بهذا الكون، و ليحقق كنه العشق في شرايين تحمل روح الوجد و تحاكي الشّفافية......
فأين منّا بدفء الشمس جاءت حثيثة تلقى مهمّتها شعاعا دافئا لاجل حبيبته و نستنير بفظل عشيقة لأجلها رذاذ الاشعة يتقاطر علينا ضوء و نورا!!
شاعرنا طوّع الابجدية نوارس تحلّق فوق أعتاب الحروف، تخفق كلماتها أجنحة تحملنا و تحمل معشوقته الى سماء الأحلام، تهدينا ألف جناح يحلق بنا عاليا بين النجوم و الكواكب و السحب الشفافة... فهل نحتسب وقوعا او هبوطا مفاجئا!! طالما نسق التحليق ياخذنا إلى اقسى سرعته، فاحتمال الوقوع او الاستفاقة من عمق المسافة قد يخلق لنا ارباكا إن لم نتحصّن من فوارق الزمن و المناخ بذي عالم !! لكن الشاعر ، احكم سَنّ قوانينه، فبنود الرّبوبيّة لا تحتمل الخطأ، لاسيّما و ان المحبوبة معنا على نفس السفينة تعتلي اغوار القصيدة ، فقد خاطبها من علياءه أن الارض ازهرت ليكون النزول بسلام و تنتهي الرحلة بأمان على سطح بساطه سندسي الالوان، يرفل بكساء الطيب و الزهر و عبق الاقحوان،
حتى تلين البسيطة تستقبل حبيبته، بعدما ارجحها بين سماء و بيض
السحب و بين التيه و الاحلام..
لكن بين كفيه حياتها و بلمسة من انامله نجاتها، فمازال شاعرنا يتلاعب باللغة فتطيعه بلا مقاومة، فكل هذا السحر آية مسبوقة ب "ما" و آية اخرى سبقتها "لا"، كأنما ينفي الحياة التي ما صارت لها نكهة الا بما خفق بفؤاده و ما كانت ليكون لها طعم في غياب ما اعتمل في قلبه..
ف "ما صار لإسمك كل هذا المعنى" ؛ فهو معنى الحياة و معنى الوجود و معنى الحيوية، بفضله، تقبّل الجبين له و اليد وحلم السّنين..
فلتقبل حبيبته يد من الهمها الحياة و سكب الالوان بروحها و زادها من نفسه فاهمها جمالها و ثباتها.. و نفى عنها الظلام حتى صارت اوصافها؛ خليط فراشات لونها ولين الندى ملمسها، و صيّر النّبيذ معتّقا من مبسمها، أ فلا يحق بعدها ان يخضع القمر لحراسة الكنوز موصوفة على اوتارها حبيبته !!! فبإشارة منه يمتثل البدر و النجم و الشجر، أوليس من حباها الحياة و اعطاها الاسم و اختار لها الممات "لو" #لم تمتثل لهواه ،"لو" #لا يكون لها شأن داخل مجرته الكونية، "لو" #ما سخر عناصر الطبيعة لتغدق عليها من روحه!!
فهل يحق لإله في عظمته أن يتنازل عن عرشه أو يتساوى في التكوين بمعبودته!!؟ فاللغة، سلاحه و مصدر إلهامه و قوته، ادارت له وجهها الثاني ، فصارت هي من تتحكم به بعدما كان يسيطر على الكلم والمعاني، فمن نفي و جزم و حروف شرط بالابجدية ، نزلت او هي تهاوت حروف العشق، فتمردت على اثرها حركات النَّصب
و الجزم على إله القصيدة و بقافيتها تربعت لتتولى الحكم و سَنّ الاوامر و كذا البنود فسرقت الموسيقى عذبَ الرحاب من صوت معبودته، و تباهت السماء بعبق رذاذها يبلّل التّراب بتيهٍ فريحُهُ يلثم الذّرّات من ريح ساحرة اهدت عبيرها الطبيعة او هي تآمرت و اتحدت معها لتعلن ثورة ضدّ ربّ
القصيدة!! ام تراه ربُّ الكلم الطيب و
سفير الحروف بالصّدر و العجز ، تهاوى عن عرشه لما خرق قانون الكون و وقع في عشق عبده و أمته ، فصار الخالق عاشقا والمخلوقة معبودته!!؟
تنازل عن عرشه و الألوهية، و خانته اللغة و سحر حروف الابجدية؛ "ف"... "ف" كانت الطامة الكبرى؛ بعد كل عملية خلق طوّعها لأجل سيدة الكون، بعد كل عنصر سخّره لخدمة سيدة القلب، بعد كل "كن" لأجل ان تكون مختلفة عن كل نساء الكون، وقعت منه الحروف ليعتلي حرف "الفاء" سر
الكونية، فيسبق الجنّ و يطوّع
الموسيقى والسّماء و الاشجار و البحار وحتى البوح والسّكينة و كذا الطير و الينابيع و الانهار.. لاغراضه، لمآربه، ليغيّر نمط العشق و يحدّد الإله من المألوه المؤله،،؛ فصارت الاشجار ملهمة الندى بوحي من الحبيبة، اعتلت عرش القصيدة فصارت الآمرة، من تعطي الحب، من تمنح قطر الندى للاغصان، صارت الحالمة تُهدي جمالها تعكس صورته الانهار فيغار الكوثر و يسبق بالعشق النهار، يطلبه حثيثا و يعزف اللحن فريدا، تستعيره نوتات الموسيقى فتكسيه الأوتار..
لعمري، هذا عشق مُدمّر، أردى القتيل إلهًا والإلهَ عبدا يبني حروف القصيدة.. فإن لم يحكم تسيير مركبته برّا و بحرا كربّان أضاع المسير، فتاهَ عن بوصلة العشق و توغل لُجّ الزمهريرا، انّى لصخب عيون المخلوقات أن ترديَ قتيلا، و تُأنسِن الجان فيضطربَ الموجُ لُجيّا و بعنفوان، ثم تلين لها الملائكة فيتّحد الاثنان؛ و تصير ملاكا قتلت بلحظها رَبّ البيت و القافية و اعتلت صدر القصيدة فلاذ بالفرار، يتوسّل ثم يتساءل هل من مزيد،!!؟ تخلّت عنه الابجدية، فعار على إلهٍ يعشق فيتيهُ عن الربوبية، فتلهو العصافير و تترقرق الينابيع لسيّدة في الحسن أطاحت بسلطان، ليعود فيتحسّر مجدّدا ب "لو" بعدما كانت سلاحه و شرط منْحِه الحياة لمن صارت الآن بالعلياء ترمقه، ينعي حظه فيبكيه،" أن "
(( لو لم يخفق قلبي لك
لما كان للحب وجود
و "ما" كان من داع لأحيا
لأكتب كل يوم عن عذابي
من هجرانك المميت))
فانقلب السحر على الساحر ، و صار القاهر مقهورا، و خلقت حواء من إلهها و معبودها عبدا يسعى لرضاها، و يتمنى "لو" ترحمه برحمتها من عذابه، ف"لا" يموت اليوم، بل تحييه " لو" "لا" تهجره هجرا خفيفا و "لا" مطولا فحياته رهينة بخفقة؛ إما تحييه أو
ترديه قتيلا..
فالحياة رهينة خفقة واحدة، إما تحييه
او تميته.. الحياة و الموت بفوهة
قصيدة.. فجاءت القصيدة بثراء ما بين مسيرة تقفز من فوق مهد و تتهاوى على لحد، بين السماء و الأرض..
القصيدة ثرية جدا، فالشاعر الاستاذ
(مصطفى الحاج حسين)، توخى الحذر
في سرد تراتيل عشق عجائبي، فكانت له السلطة على عناصر الكون ساعدته في ذلك لغته العميقة وتحَكُّمه بالمعجم
، فمن «لو» الشرطية الى «لم» الجازمة و «لا» النافية وكذا الشأن مع «ما»، تنقل خلالها ليفرض قانونا ابجديا يخول له التحكم في الحياة و الممات و كذلك السيطرة على مكونات الجمال و مبيحات العشق ليضع لمساته الاولى و الاخيرة على حروف قصيدة ولدت
ناضجة، حلقت بنا بسماء و مجرات و
كواكب، تحملنا اليها اشعة شمس مطيعة تؤرجحنا برفق فلا نخشى الوقوع و لا النزول اضطراريا فربان المركبة إله و بيده الأمر و النّهي، وهو من يعطي الحياة ويقرر الموت، بل و يخضع مخلوقات للاعتراف بقدراته،
..لكن ما إن حطّ بنا على الأرض و نزلنا بأمان، بجنة الرحمان و بساط سندسي
و زهر و مرجان ،حتى انقلب السحر وصارت السماوات و الشمس و الانهار و كذا البحار و الموسيقى و الطيور و الشجر و حتى المحيطات، صارت كلها بكفّ الحبيبة، رهن إشارتها و طوع يدها؛ سلّمتها مقاليد الحكم و مفاتيح الربوبية لتجلس على كرسيّ العرش، تأمر بكل عفوية، ملاك عشقه رب القصيدة، فانبرى على الحروف و الكلم الطيب ، لكن خانته الأبجدية.. فصارت «لو» تحمل معنى مغايرا، ينشد عبره أن "رفقا بي، ليتك تنصفيني، آه لو تنصفيني ! " ف"لو" لم ينبض قلبه لما كان مآله الهلاك و رحمة ينتظرها من ملاك !! ف سحر حروف اللغة غيرت شكلها واكتست بالمعاني الثنائية، خلعت معنى الشرط و الجزم لتركن الى التّوسل والاستفهام عن و لمستقبل مبهم ، مجهول التوقعية..
الشاعر اتقن استعمال اللغة و طوعها، فكان اجمل ما يحسب له، نفس البيتين بدأ بهما القصيدة ثم قفل عبرهما أواخر النص، لكن على العتبات الأولى، كان منطق القوة هو السائد، هو ما يلفّ المعاني،في حين حلّت المفارقة بالنهاية
لتكتسي نفس الأبيات نفَسا مغايرا فصارت نبرة التوسل هي المسيطرة.
فما اعظم اللغة لما يتفنن بها شاعرنا فيجعل من نفس العبارات و التراكيب و ظاهر المعاني آيتان متناقضتان، تحملان في طياتهما برزخا يفصل الفوارق بينهما ما يفصل بين السماء و الارض.. فلمّا كانت الحروف رتقا موحّدا لمن بسطح اللغة يسبح و لا يفقه ، فإن لكاتب النص،
سلاح ذو حدين؛ فبقدر ما تآمرت عليه
الأبجدية، إلا انه و من موقعه كناظم
لحروف القصيدة فقد سبح بأعماق اللغة فكان له أن فتق ما رُتّق و خلق ذاك التنافر الجليّ في المعنيين، من عتبات القصيد إلى نهاياته، من سلطان متحكّم بيده الحياة والموت الى عبد مسكين يرجو الحياة ويخشى الممات،، و تتلاحق المتضادات في بناءه للقصيدة ممّا يكسبها رونقا و سحرا
يضفي عليها قوة التوغل بمكونات النحو والصرف لتنحو الأبيات بحرا من الشعر والنظم يحدوهما برزخ يفصل بينهما فيشكّل ضفاف موجها،.. يتنازع المدّ و الجزر بحكم من العاشق الذي صار هو نفسه في مدّ وجزر تحكمه قوى الحب و قوى فاقت قدراته، قوى العشق و عاشقة خاوت الملائكة و اتّحدت في جمالها عناصر الطبيعة لتزيد من إرباك الشاعر، فأنّى لعاشق أن يتخلّى أو ينجوَ من جبروت ملهمته، أو يفكّرَ في عصيانها و قد أخذت عنه زمام الأمور، فما عاد بإمكانه أن يتخلى
عنها أو ينساها..! فهل ينسى الجمال سحر الملائكة ترفل في حلة العفة و الطهر بعفوية!!!.
بسمة حاج يحيى .
تونس
* لو لم يخفق قلبي..
أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.
لو لم يخفق لكِ قلبي
ما كانت الشّمس تنبّهت إليكِ
ولا استدلَّت عليكِ أسراب القصائد
وما صار لاسمكِ كلّ هذا المعنى
ولا الأرضُ
أزهرت كلٌ هذا العطر
ولظلّ الظّلام
مغلقاً على أوصافكِ
أنا من أخبرَ النّدى
عن خصالكِ
ومن نبّهَ الفراشات
على نبيذِ ضحكتكِ
ومن أشار على القمر الشّقي
أن يسهر على حراستكِ
وصفتُ للموسيقى صوتكِ
فسرقت منهُ الرّحاب
أعطيتُ للسماءِ رائحة أنفاسكِ
فأنجبت المطر
وكشفتُ للأشجار عن قطافكِ
فتراكضَ النّدى على أغصانها
أنا من كلّم الأنهار
عن ريقكِ
فتعلّقَ بكِ الكوثر
وحدّثتُ البحار عن صخبِ عينيكِ
فهاجَت أجنحة الموج
رويتُ للبوحِ مافي أصابعكِ من هديل
وللسكينةِ ماتسكنهُ يداكِ
كلّ العصافير ترفرفُ حولَ مداكِ
والينابيع تترقرقُ لتشرب منكِ الابتسام
لو لم يخفق قلبي لكِ
لما كان للحبِّ وجود
وماكان من داعٍ لأحيا
لأكتب كلّ يوم عن عذابي
من هجرانكِ المُميت.*
مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول
## قراءة في قصيدة:
(عناكبُ الحنينِ)..
للشاعر والأديب :
(مصطفى الحاج حسين)..
الناقد والفنان والملحن والأديب:
(سامي الحاج حسين)..
** تحياتي ومحبتي شقيقي المرهف الغالي مصطفى..
قصيدتك ملأى بالتصوير المريع، وبالتعابير المدهشة التي يكتنفها العذاب اللامتناهي؛ ومشاعر التذمر والاستياء من الواقع الثقيل؛ والخوف من المصير المجهول، تنطوي على انسجام في المتناقضات الشعرية العذبة البادية من عنوانها وصولاً إلى خاتمتها.
وقد استطعت في قصيدتك أن توظف بكل جمالية وجدارة الشاعر المقتدر معظم عناصر ومظاهر الطبيعة الخارقة من أرض وسماء وبحار ونار ورماد في خدمة مشاعرك، وكذلك وظفت ما يعتري الإنسان من ضعف وهواجس ومواقف تجاه العدم أو الموت المحتم وكل المنعكسات الموضوعية الخارجية على وجدانات ومشاعر هذا الكائن المفرط الحساسية من انبعاثات الحنينٍ والشوق والألم والمرارة والخوف من العدم أو المجهول.
مفرداتك الحادة تشي بقلقٍ فظيع من الوحدة والاغتراب وتصف بعنفٍ عذابات الإنسان وآلامه وعجزه عن الفعل أمام أحداث حاضره ومفروضة ومصيره مرتقب مرعب.
ولعلّ هذه الحدة العفوية جاءت نابعة من أعماق ذاتك للتمرُّد على إحساسك القوي بالظلم الكوني والاجتماعي ولتؤكِّد جبرية الطبيعة والإلزام الاجتماعي وفضح الوجود المفروض بسادية مفرطة على ضعفنا الإنساني بلا رحمة.
ولعلَّ زحمة الصور وكثافتها في القصيدة راحت تأخذ بك نحو التوحد بالطبيعة على وسعها، تلك الطبيعة التي تحكمها قوانين صارمة وآبدة، وقد راح كل ما فيها يسكن فينا وينطق بعذاباتنا..
فلَكم تأخذك قصائدك اليوم نحو فلسفات سوداوية تشاؤميّة معقدة وكم أصبحتَ تشكو فيها من الوجود الإنساني التعس في الحياة، وتأسفُ من خلالها على مصائر البشر
السوداوية..
ولعل أكثر ما أدهشني هو الخاتمة الشاعرية المثالية في قصيدتك هذه؛ بأن ينام المرء على رماد جسده، وكأنَّما روحه أو روحك المستفيقة الهائمة باتت متحرِّرةً من جسدك المنهك المحروق، فتبدو محلِّقةً دائماً، لتأوي إليه بعد طول عناءٍ عند النوم، فتتوسده وترتاح فوقه، وكأنها حارسة لرماده وتشكل من ذاتها غطاءً له..
أحييك وأبكي معك ماضينا وحاضرنا ووحدة مصيرنا أيها الغالي..
ويالك من شاعر حداثي عملاق..تكتب قصيدتك بمشاعر صادقة نابعة من قلب ثوري حارٍّ وبِصوَرٍ يرسمها بالرهافة خيالُك الخصيب..
وفقك الله وأسعدك ودمت في ألقٍ وبهاء.
سامي الحاج حسين .
=============================
القصيدة :
/// عناكبُ الحنينِ..
أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.
أمسَكَ بيَ الشوقُ
انقضَّ على دمي
أشعلَ وقتي بسكينِهِ
وراحَ يعوي على أنفاسي
ركضتُ داخلَ دمعتي
صرختْ نوافذُ موتي
وتكالبتْ على خطواتي المسافاتُ
حدَّقَ بيَ الأرقُ
تفرَّستنِيَ الهواجسُ
وجزَّتْ لهفتي الكلماتُ
إنِّي أبصرُ عناكبَ الحنينِ
تقتاتُ على نبضي
تشربُ نسغَ رؤاي
وتلبسُ ناري
تتجمعُ الأماكنُ في اختناقي
تسكنُني العاصفةُ
وتطلُّ منِّيَ المرارةُ
السَّماءُ تتكورُ داخلَ الصمتِ
الأرضُ تغوصُ في لوعتي
والبحرُ يسبحُ في ركنِ عذاباتي
أنا حائطُ الغمامِ
بوَّابةُ السَّعيرِ
منبتُ العدمِ
أسرجتُ ضعفيَ للذّكرياتِ
ورحتُ أتشمَّمُ كفنَ النهايةِ
لأنامَ على رمادِ جسدي.*
مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول
## قصيدة:(عراء الرّوح)..
للشاعر والأديب السوري:
(مصطفى الحاج حسين).
القاص والناقد: (علاء الدّين حسّو):
إن كانت الغربة هي الانتقال البدني من
مكان إلى مكان آخر، وباتت عرفاً في أدبياتنا تحمل دلالات المعاناة والقهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي فإن الاغتراب الذي يعبرعن الانتقال الروحي النفسي وان كان البدن لم يغادر المكان
، فهو انعزال عن العالم والواقع المحيط به، بينما الاستلاب هو فقد مادي وروحي . فكيف الحال بما يعاني من الغربة الاغتراب والاستلاب؟.
يقدم لنا الشاعر (مصطفى الحاج حسين) قصيدة تفوح من كل حرف من حروفها المعاناة النفسية والجسدية تنقل إلينا هذا الشعور عبر انزياحات وتراكيب وصور تخيلية تنقل براعة وصدق الشاعر في نقل احساسه لنا فتحقق المتعة والفائدة والمواساة.
يبدأ النص بانزياح مثير (يتقيّؤني ظلّي) عادة يكون التقيؤ لاخراج الطعام من البطن نتيجة التسمم أو لسبب آخر ، ولكن أن يقوم الظل بلفظ الأصل فذلك يدل على الفقد الكامل حسياً وروحياً، فظله لم يعد يعرفه، ونبذه، وهنا الاغتراب الذي عرّفه هيجل على أنه "فقد الإنسان لشخصيته الأولى".
ولكن هذا (اللفظ) أين يكون؟ يكون (على رصيفِ الهباء) في العدم فقد بات غباراً تناثر في العدم.
ثم يعبر الشاعر عن ألمه وملله في الانتظار بانزياحات جميلة وصادمة ترتقي في اللغة والتركيب، فالذكريات سكين تجرح جسده (ذاكرتي تخمش انتظاري) وهو غير القادر على الحديث المجبر على السكوت وهو ذاته الم في الحلق مثل الم العطش الذي يسببه للحلق (أحاور عطش الصّمت).
وهذة الفكرة الأولى للقصيدة.
وينتقل الشاعر بعدها إلى حقل الأمنيات، وهي الفكرة الثانية للنص ، حيث يرغب من طائر الخيال(السراب) أن يحلق به إلى السماء (العماء) ينقذه من القهر الذي يخنقه مهما كان المسير متعباً وشاقاً وحارقاً مؤلماً .
فلم يعد يطيق هذه المعاناة، فألمه يكفي لإطلاق الروح من الجسد، وهي الأمنية التي بات يطلبها ليكون ثوباً يغطي الروح العارية فيبلغ (المدى) حيث هي نهاية الغاية. فقد بلغت المعاناة المتراكمة عنان السماء، ولم يعد للعدل منفذ، وقد غطاه الظلم برداءه المعتم، ودون اكتراث لصياح المعذبين (العواء).
ثم يخاطب المدينة التي استقر فيها، وهي الفكرة الثالثة في النص، بأن تمنحه الفرصة (جرعة الهواء) لتحقيق الأمنية وتفسح له الطريق وهو المقلوع من جذوره ويرغب العودة إلى وطنه (قلعة تنهض بسقوطي).
فالقلعة هنا ليس المقصود منها الحصن
المنيع بل ما يقلع من جذوره كالنخلة،
ويطلب العودة إلى البلد الأم (صوت أمي الذي يصرخ) ليدفن فيها. فهي تناديه وهناك أمنيته وأمله ومستقبله وجذوره وكان عودته للحياة من جديد:
(سأغرسُ شهقتي فيهِ..
لتنمو شتائل النّدى).
لقد استطاع الشاعر في قصيدته بدئاً من العنوان الموفق الذي كان رديفاً للقصيدة، ومجملاً للمحتوى، كاد أن يكون بحد ذاته قصيدة منفردة ومفاتحا لفهم القصيدة، وحقق شروط القصدية الحديثة حيث وظف جمالية الشكل لنقل المضون فحقق الفائدة والمتعة.*
علاء الدين حسو
عنتاب 04/07/2017
* عراء الرّوح..
أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.
يتقيّؤني ظلّي
على رصيفِ الهباء
ذاكرتي تخمش انتظاري
أحاور عطش الصّمت
يا أجنحةَ السّراب احمليني
واصعدي صوب قهري
أُلامسُ نبض العماء
أقرعُ أجراسَ الاختناق
سأنثر على النّار خطاي
وأمضي في دروبِ العناء
وجعي يشعلُ فوانيس الاحتضار
فيا أيّها الحلم المسجّى
اِدخل من نوافذِ هروبي
واتّجه نحوَ عراء الرّوح
إسأل المدى عن ركامِ السّماء
الشّمس تتعثّر بعباءةِ الليل
والليلُ يتمسَّك بقبّعةِ العواء
أعطِ الهواء جرعةَ تنفّسٍ
للقلبِ فتات النّبض
للأرضِ دربٌ واحدٌ لا أمتطيهِ
يابلداً يسكنُ ارتحالي
ياقلعةً تنهضُ بسقوطي
ياصوتَ أمّي الذي يصرخُ
في غُصّتي
يترعرعُ في صوتي الرّماد
قصيدتي تذبح أشواقي
يناديني التّراب
سأغرسُ شهقتي فيهِ
لتنمو شتائل النّدى
أطول من قامةِ عشقي
أنا العاشق المصلوب
من لهاثهِ
أترنّح فوق بكائي.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
## (قبل أن يستفيق الضّوء)..
للشَّاعر والأديب السُّوري:
(مصطفى الحاج حسين).
/// بقلم: الأديبة والشاعرة والناقدة:
(نجاح إبراهيم).
مثلُ تراتيل موشاة بالسّذاب المقدّس، تبدو قصائد ديوان”قبل أن يستفيقَ الضو” للشاعر (مصطفى الحاج حسين) إذ تنبلجُ من أسمى المطالع: العشق والجرح.
فالشاعرُ يرشحُ عشقاً ظهر له كليلة القدر، ليختزلَ ما جبّ من أعمار قبله راحت هباءً وعناءً، فيرهن المداد والنفس والرّوح له. يسخّر الحبر، يؤرّثه خلوداً، يكتبه قبل أن يكتبه غيره، وهل أقدر من الشاعر على رصد حالة نبيلة تمورُ به؟!
إنّ المتتبع للتواريخ التي أُمْهرتْ بها القصائد، لوجدها كُتبت جميعُها في وقت قصيرٍ متقارب ومتلاهث، وهذا يؤكّد أنّ في داخل الشاعر بركانٌ ثار دفعة واحدة نتيجة انصهار كبير وضغط أكبر.
وثمّة عوامل كثيرة أسهمت في تشكيلها، لعلّ أولها: موهبة وثقافة الشاعر، وعهده بكتابة السّرد، وثانيها:
الألم النابض، المتدفق الذي يفيضُ في عروقه، والذي لا يمكن أن يظلّ خبيئاً أومخنوقاً، فالألم كما يُقال يصنعُ المعجزات، وعند المبدع يغدو إعصاراً هائجاً، بركاناً لا يقف في وجهه شيء، عطاءاً لا يُحدّ من التبريكات.
وثالثها: حبٌّ عظيم نضجَ بسرعة الضوء ليصير عشقاً كبيراً يوازي عشق وطن غادره الشاعر قسراً، ولم تختف رائحته من مسامه، بل ظلت تفضحه وتنمّ عنه.
ورابعها: أنّ الشاعر اتخذ الشعر صهوةً لتعبيرٍ راقٍ أراد أن يجسّد حالاته الجوّانية ، فجاء سلاحاً كما سلاح الفقراء في ليل الهزيمة كما قال البياتي عن الشعر.
فلولا الشعر، ولولا تلك القصائد الرّاعفة لكان (مصطفى الحاج حسين) يتيماً، مقهوراً أمام غليانه الدّاخلي واحتقانات مشاعره، لأنه مستلب ومأزوم، وموجوع حتى الترمّد، يعاني اغتراباتٍ عديدة. لهذا أراد وبإصرار أن يتقن لعبة اغتصاب العالم بالكلمات، بل مفاجأته وخطف ذهوله، ثم غناءه تراتيلَ على فوهة جرح ما يزال يرعف أنيناً صامتاً، نبيلاً وموحياً:
"أقضمُ الوقت
غريباً
أنزفُ العمر
شريداً
أبعثرُ أدمعي
على سفوح الآلهة
والأنين..”
في الدّيوان اثنتان وخمسون قصيدة نثرية، ترسمُ كلّ واحدة لوحة خاشعة أمام صلاة، زاخرة بالضوء والأقمار والمطر واللون والعشق، بطلها الشاعر، يتقمّص الذات العاشقة، المتيّمة، والمتسربلة بالمعاناة والألم والحبّ:
”أحتطبُ قهري من حقول الرّوح
وأجمعُ أسراب عذابات الحنين
أفنّد نبضه من آهات الشوق
وأسألُ عمري عن دربه
الذي أطاح بخطاه
عن مفترق الضلالة..”
من اللافت أنّ الشاعرَ يعملُ على كتابة قصيدته بشكلٍ مغايرٍ، ولعلّ ما يشي بذلك، اللغة الشعرية الرّافلة بحضورها البهيّ، حيث يقوم بتحريرها من التقليد بممارسة أسلوب التكثيف واعتماد الرّمز والتنويعات الدّلالية التي لا يحدّها حدّ ، والتي تدفعُ إلى الأسئلة باستمرار، والرّغبة في الكشف، خاصّة وأنّ الشاعر يعزفُ على وترِ شعرٍ ذي بنية فنيّة قويّة، وأبعاد ذاتية وموضوعية، بأسلوب تلقائي يأتي كماء نبع، وإحساس بارق كشهاب. فجاءت كتابته مختلفة لأنه يرى العالم برؤية أخرى في تفاصيله وموحياته، والرّغبة المستميتة في تقديم صور مُدهشة للحياة ، ومفرداتها، وجماليات انبعاثاتها، وما تثيره الذات المبدعة من حسّ جماليّ يناضلُ الشاعر ليحيلها إلى خطاب يرتقي بها عالياً ويتمايز من خلالها:
” سأمضي إلى عطشٍ
أسقي منه ندى أيامي
وأرشّ الماءَ على الليل
ليغتسلَ
وأبللَ جذوة الوقت
فقد تيبست أصابعُ الحلم..”
لم تكتفِ قصيدةُ الشاعر “مصطفى الحاج حسين” في أن تتميّز بانفلاتها من القوالب الشعرية، بل ارتأت أن تستقل بلغتها الخاصّة وتعابيرها وصورها التي اختارها بفنيّة فائقة لتطير في فضاءات تجدّدها، فعملية بناء اللغة التي قام عليها في جملته الشعرية ليست بالأمر السهل، إنه يؤرّثها من دمه لتتسم بالمختلف من حيث التعبير.
القصائد تدورُ في فلك الحبيبة التي يلاحقُ الشاعر خيوط انسرابها فيه، فهو كالفراشة التي تلاحق الضوء وإن احترقت به، المهم أنها تبغي نهاية نبيلة ومؤثرة، بينما لا نلمح تبادل المرأة له بهذا الشعور. أراد أن يُبقيها بعيداً، غير متفاعلة كي يبقى معذباً، متألماً، متراعفاً، وحالماً في ملكوت الاحتراق، ولو أنها بادلته الحبّ لاكتفى بذلك، ووقف عنده، ولنضب نسغ تدفقه:
” أحبيني
لأحبّ نفسي
وأرى العالم أجمل
وأنجو من موت يلاحقني..”
بيد أنه يرغب في أن تحبّه، لأنه سيرى اختلافاً في الوجود، وسيعيد للعمر هسيس الضحكة، وسيُدخل الفرحة إلى بابه. بينما نجده في قصائد أخرى يلوم قلبه على ما يعتمل فيه من حبٍّ يتعاظم كلّ حين، فيزجره ويرغمه على السكون ويصفق بوجهه الأبواب.
ويستمرئ هذا الحلم في صدّ وردّ، يشتعل لائباً على همسة منها، كسرة دفء في صقيع الغربة، ابتسامة تحيي فيه الرّوح الغاربة. لينتهي الحلم برؤية وجهها فقط، يتمنى أن يشرق عليه ليشهد على انهياره الأخير، يهديها انهزامه وينتعل الرحيل ويمضي:
” سأهديك انهزامي وأرحل
وأوزع حسرتي على شبابيك
السخرية
أدركت بعد عمر ونيف
لا شيء يجمعنا سوى الألم
القاسم المشترك بيني وبينك..”
إنّ معنى عباراته في القصيدة يهمي كمطر حامضٍ لا يعرف التوقف، معنى له أبعاد راعفة، فدلالاته شديدة الاشتعال، ينضحُ بما تفيضُ به الرّوح ورغبتها الحثيثة في الحياة المأمولة والقضاء على الغربة التي تكاد لا تخلو قصيدة من لذوعة طعمها، والتي ولدت من جرّاء حرب على وطن الشاعر، فصنعت منه مغترباً ما كان راغباً في أن يكونه، وإنما ظروف قاهرة حملته إلى أن يغادر الحدود، وقلبه وروحه ينظران إلى الوراء حيث حبّ يتدحرج على أرضه المغسولة بالأرجوان والأنين. لينتجَ عن هذه الغربة اغترابات شتى، جعلت منه ذاتاً لائبة، مأزومة ومتألمة:
” هو الاغتراب اللعين
سأمشي
حيث لا جهة تودي إليك
ولا شمس
تشرق من صوبك
وحيث
قلبي لا يعرف العودة
سأحمل غصتي على ظهري
وحزم أشواقي الناحبات
وأجر روحي عنوة..”
وعلى الرّغم من انشغال القصائد بموضوعة الحبّ، إلا أنها تشفّ حزناً وتبدي مرارة ووجعاً لما لاقاه الشاعر من فقد للأحبة وفراق أصدقاء، و نزول محن وفواجع وخراب نال من البلاد، فعزف على وتر الألم اللامنتهي، لهذا فمن البديهي أن تحملَ القصائد رائحته
، وطعم ما يفرزه الواقع من أوضاع يُعاني منها كفرد ينحلّ في الجماعة المحترقة، وذلك من خلال عملية إبداع ينتضي الشاعر دمه وسيفه ليرسمها بحدّه الوهاج، لتنعكس رؤيته بوصفه الخالق للقصيدة، لهذا فإن ماتعاني منه الذات إنّما هي معاناة شعبٍ ووطن:
”ومازالت تقاوم
توحّد العالمُ على قتلها
الصديق
قبل العدو
كلٌّ يدمرُ ما يرغب فيها
ويقتلُ من شعبها..”
تختلف القصائد التي يتناول فيها الشاعر وطنه ومأساته وحربه، نجده يشفّ فيها وضوحاً، يخفف من اللغة الشعرية التي يمتلكها، يترجل عنها ليقارب بؤرة الغُصة والوجع، فتبدو القصيدة سهلة الفهم، سلسة، تنز ألماً.
بينما فيما تبقى من قصائد حملت مواضيع أخرى نجده يمتطي زقورة بنائية سردية مغايرة، محتفية به كنبيّ صغيرٍ قادرٍ على مزج ما بين مخيال وواقع من خلال لغة متفردة تشكل جسدها اليانع الرّافل بالإيحاء. ومع ذلك وعلى الرّغم من حجم الانكسارات التي فرضتها الحرب، واغترابه الموجع، حاملاً تشرده وضياعه على أرصفة بلاد باردة الوجه، سميكة القلب والجلد، إلا أننا نلمح صبره، واتقانه في رسم أفق للنجاة والأمل، ورغبة في مصير مريح، وهذا يدل على وعي الشاعر وقدرته على التعبير من خلال قصائده التي تنفتح على أسئلة متناسلة، وما هذه التساؤلات إلا مرآة تعكس قلق الشاعر وبحثه الحثيث عن إجابات مضنية أراد أن تُغني بناءه الفنيّ لأنه في حركة دؤوبة تشبه التمرّد المستعر، يمتطي الشاعر صهوتها من أجل الخلاص الذي يرتئيه، واطمئنان الإنسان الذي فيه، وولادات الذات المبدعة التي يمارس مخاضاتها. ماضياً بنا إلى مطالع الضوء لتمنحنا قصائده استيحاءً فريداً لواقع يتشظى احتراقاً ورغائب مقدّسة تبْرَع في ارتداء الحلم.. في هذه القصائد وفي تلك..
وبين ضفتيّ ”قبل أن يستفيق الضوء” من هجوعه نقبضُ عليه، على شاعر مسكون بالشعر، يقدّم بوحاً ذاتياً وموضوعياً، فيجيء صادقاً لأنه
يخاطب الإنسان، بأسلوب يبحث عن الاختلاف من خلال لوبانه عن عشق له صفة الدّيمومة، عشق الحياة، النفس، المرأة، يوقدُ من خلاله معنىً نبيلاً، وانفتاحاً على أمل وحلم، ليناهض الخراب الذي ملأ أرجاء وطنٍ محترق.
إنها مسؤولية الكلمة التي يحملها الشاعر على عاتقه، مسؤولية قطف الجمال واللهاث نحو عبارة يأتي بها عابرةً ملامحه القديمة ، وصولاً إلى بوابة المغاير والجديد، وهذا ما جعلها تتجه صوب فضاءات مثيرة ورحبة.
نجاح إبراهيم.
## الأديب السوري مصطفى الحاج حسين في حوار صحفي
ومقابلة رواسي الوطن "روا "
تلتقي الأديب السوري..
(مصطفى الحاج حسين).
غزة – خاص – روا - عثرات الحياة صنعت منه شاعرا رغم رحيله باكرا عن مقاعد الدراسة، ليكتب على جدران مهنته قصائده التي ولدت من رحم شمس آذار ونيسان، وشمس تموز اللهاب، ليكتب للوطن وللأجيال قصة شاعر حفت حياته بألوان قوس قزح السبع، عصامه وصدقه دفع لأجلهما الكثير ليحافظ على صفاء كلماته ونقاء جوهره و أصالة معدنه، أحب وطنه فرأى كل ما فيه جميل رغم الوجع والترحال بين نكباته وأحلامه اللا منتهية ، فامتزج بقلبه عشق الوطن والحرية ، لم تقتصر كتاباته للوطن بل للجار والصديق القريب والبعيد، ليكون كما يحب أن يكون.
إنه شاعر المطرقة والعجان، شاعر التجوال والترحال، ابن (الباب) الشامية الحلبية، الشاعر السوري الأصل العربي القومي النسب مصطفى الحاج حسين
فكان لنا معه شرف اللقاء والحوار رغم الحدود والأسلاك.
نص الحوار:
** - حدثنا عن نفسك؟.
أنا مصطفى الحاج حسين، من مدينة الباب التابعة لمحافظة حلب، عشت طفولتي في البلدة، وفي بداية سن المراهقة ، انتقلت عائلتنا إلى حلب. حرمت من متابعة الدراسة قبل أن أكمل المرحلة الإبتدائية، وعملت مع والدي في مهنة البناء الشاقة لسنوات عديدة ، وتعلّمت منه صنعة العمارة.. لم أكن أحب هذه المهنة بسبب صعوبتها، لكنني كنت أحترم المهنة وأدرك قيمتها
ولم أستطع التحرر منها إلّا بعد أن سرّحت من خدمة العلم، لأنّ والدي كان يفرض عليّ العمل معه، وحين كنت أتركه ، كان غضبه يطال العائلة بأكملها
توظّفت في المؤسسة العامة للمخابز، كأمين مستودع إنتاج في مخبز آلي، ولأنّ المدير يعرفني ويعرف أنّي أكتب الشعر ، كلّفني بذلك.. لأنّي لا يحق لي هذا المنصب قانونياً، بسبب عدم استحواذي على شهادة علمية. ثلاث سنوات وأنا في هذا المخبز، المدير كان شريفاً لا يسرق، لكنه غير مدعوم فهو دون سند لدى القيادات.. ولهذا كان المدير يخاف على نفسه ويخشى على منصبه، وهذا ما كان يجعله يخضع لكلّ صاحب حظوة، ويوظّف لأيّ مسؤول كلّ من يريد، وهكذا تحوّل المخبز إلى مزرعة من المدعومين والمسنودين أصحاب الواسطات.. وانعكس هذا عليّ في المتابعة، وسبّب لي المشاكل والتعب لأنّي كنت أحارب كلّ من يقصّر بعمله، أو يحاول السرقة
.. وأخيراً طلبت نقلي إلى مخبز آخر وهناك كان المدير مدعوماً للغاية، لذلك كان يسرق بطريقة شبه علنية.. وكان المطلوب مني غضّ النظر، ولقد عرضوا عليّ أضعاف ما أتقاضاه من راتب شهري..أردت أن أنجو بنفسي ولا أتلوّث
وأسيء لسمعتي.. قلت للمدير لا أستطيع أن أكون حرامي وشاعر في وقت واحد. عملتُ في مهنٍ عديدة.. من البناء، إلى الوظيفة، إلى تصليح الغسالات وأفران الغاز، إلى بائع الدهانات، إلى صاحب كشك، إلى التطريز الإلكتروني.. لدرجة أن كتبوا عني في الصحافة (مسبّع الكارات)، وكنت في كل هذه المهن والأعمال أحصد الخيبة والفشل.. نعم فشلت، وسُرقت، وتدمّرت مراراً، وخسرت، وسجنت، وهذا لأني أجد نفسي لا أصلح إلّا للكتابة.. ولكنّ الكتابة حتى الآن لا تطعم خبزاً، على الأقل بالنسبة لي.. فما زلت أدفع من جيبي، دون أيّ مقابل، رغم أنني أعمل دون ملل أو كلل، أو حتى عطلة أو استراحة.. وهذا ما يجعل معظم من هم حولي يأسّفون على عمري ووقتي، ويعتبرون الكتابة مضيعة للوقت لا أكثر، فأيّ عمل مهما كان عظيماً، يكون دون مقابل مادي يعتبر في مجتمعنا لا قيمة له، ولا يستحق التقدير والاحترام.. فقيمة الشخص عندنا بما يربح ويملك حتى لو كان عن طرقٍ غير شريفة وشرعية.
** - كيف كانت البداية؟.
وأنا في الصف الرابع حدث وكان أستاذنا مريضاً، فأخذونا أنا وزملائي لنحضر في الصف الآخر، الصف الخامس، وكان الأستاذ يعطي طلابه درساً عن رحلة السندباد البحري، وأنشددتُ بقوة لقصة السندباد، أعجبتُ ، بل سحرتُ، وبهرتُ، تعلقتُ به.. فاستعرت الكتاب.. وحفظت القصة بكاملها، لم نكن نعرف في تلك الأيام أفلام الكرتون الخيالية، بل لم نكن نعرف شيئاً عن التلفاز.. ومن هنا بدأ الاهتمام، صرت أقرأ السيرة النبوية، ثم قصة الزير سالم، وتغريبة بني هلال.. تركت المدرسة وأنا في قمة عشقي للقراءة والمطالعة.. ولكن بشكل غير موجّه، فلا وجود لمن يوجّهني ويأخذ بيدي. كنت محباً للقراءة دون أن أتخيل نفسي أجرؤ على التفكير بكتابة الشعر. وحدث وكان ابن عمتي رحمه الله، يكتب الشعر وهو طالب جامعي وأكبر مني بخمس سنوات، وهو من دلني على قراءة الأدب الحديث حين تنبه لحبي للمطالعة سابقاً، دلني على نزار قباني ونجيب محفوظ.. واليوم أراد أن يسمعني بعض كتاباته الشعرية
وحين بدأ يقرأ عليّ قصائده، خطر لي فجأة، لماذا أنا لا أكتب الشعر؟ وشردت عنه، صرت أتمنى أن يتوقف عن القراءة لأذهب إلى المنزل وأجرّب كتابة الشعر بنفسي.. وحين توقفت عن القراءة قفزت من مكاني لأهرع لبيتنا وأجرب الكتابة، وحين دخلت المنزل أحضرت على الفور وبحماس شديد دفتراً وقلماً وكتبت أولّ قصيدة لي.. كنت أكتب وقلبي يدق بداخلي بعنف وارتجاف.. ولمّا انتهيت من كتابتها هرعت وعدت لعند ابن عمتي لأسمعه ماكتبت حتى أعرف رأيه. وكم فرحت حين أعجبته القصيدة.. شجعني وطلب مني المتابعة.. وهكذا ولدت عندي أول قصيدة، ولقد أسمعتها لعمي أستاذ المدرسة وأخي الأكبر، فلاقيت منهم كل التشجيع والاستحسان.
** - كيف استطعت أن تمزج مابين تخصصك وكتاباتك الأدبية؟.
في البداية كان هناك تنافر بين عملي وموهبتي الأدبية، حيث أعمل في الحجر والإسمنت والعرق والغبار والسّلالم والأدراج والسّقالات، عمل متعب وخطر، وثياب متّسخة وهذا ماكنت أكرهه وأخجل منه أمام الناس والجيران والأقارب.. حيث كنت أعيش حالة تكاد تكون فصامية، ففي النهار أكون عامل بناء أعايش العمال الجهلة ، وفي المساء أرتدي الثياب النظيفة والجديدة، بعد أن أستحم ثم أتوجه إلى إتحاد الكتاب العرب، أو المركز الثقافي، أو المكتبة الوطنية، أو المقهى حيث يتواجد الكتاب والمثقفون. وكنت وأنا في عملي المرهق، أمارس الكتابة، بل هناك كانت تتفجر عندي الكتابة ، وكم من مرّة حفرت قصائدي بالمسمار على الجدران المشيّدة حديثاً، ثم أقوم لنقلها على الورق في وقت آخر. وكنت لا أضيع من وقتي، طوال الليل أكون ساهراً أقرأ أو أكتب.. ودائماً حين ألجأ للنوم، تداهمني القصيدة فأقفز من فراشي لأكتبها. كتبت في الحدائق، وفي الباصات، والسّرفيس ، والعمل، ونوبات الحراسة في الجيش، وفي المخبز ، والكشك، والسجن.
** - ماهو تعريفك للشعر؟.
يقول شاعرنا العظيم محمود درويش: (أستطيع أن أقول لك ماهو ليس بالشعر، لكن الشعر هو أكبر مما يعرّف). هكذا أتذكر معنى قوله.. ولكنني أتجرأ وأقول الشعر هو مايتسرّب من أعماق النفس المتوهجة بشكل عفوي.
** - هل في الشعر حظ؟.
الحظ قد يخدم الموهبة، ويساعدها على النمو والإنتشار.. ولكن من كان من دون موهبة فلا الحظ ولا المعجزات ممكن أن تفيده.
** - هل للمدارس دور في تشجيع الموهبة والإبداع؟.
للوهلة الأولى نعم.. ممكن للمدرسة والجامعة أن تساعد على نمو وتطوير الموهبة ، وتدفع للإبداع والعطاء.. ولكن وللأسف الشديد وجدت معظم من درس الأدب العربي وكان قد اختار هذا الاختصاص بدافع موهبته وحبه لكتابة الأدب، وجدتهم قد انصهروا في قوالب بلاستيكية جامدة أو ميتة.. وتحوّلوا إلى الكلاسيكية والتقليدية والنمطية.
** - كيف تنظر إلى واقع الشعر العربي وما هو تقيمك له؟.
الشعر العربي كان في حالة تطور ورقي لفترة ليست بالقصيرة، وكان مشغولاً بالحداثة والإنفتاح على ثقافات عالمية هامة. لكن وللأسف الشديد بعد مجيء الربيع العربي الدامي، صرنا نجده أي الشعر العربي قد تراجع وانكمش وأصبح بحالة بائسة يرثى لها.. حيث عادت القصيدة الكلاسيكية والتقليدية تحتل الساحة الأدبية وعادت للقصيدة روح الخطابة والمباشرة والصراخ والسباب والشتائم والبكائيات في كلام منظوم لا علاقة له بالشعر ولا يمس الوجدان ومبتور الخيال.. طغت القصيدة السياسية الفجة على معظم المنابر الثقافية والجرائد والمجلات.. وخاصة المواقع الإلكترونية.. وكل هذا بسبب حدّة الألم والفجيعة التي حلت بنا.
** - إلى أي من أنواع الشعر والقصة تهوى كتابته وتدعمه؟.
أنا لا أفكر وأخطط بطريقة الكتابة، ولا أختار الشكل والاسلوب.. فلست ممن يلهث خلف الحداثة.. بل كل مايهمني أن أستطيع التعبير عمّا أحسّه وأعيشه بطريقة بسيطة تصل وتؤثر وتقنع الآخرين.. ولكن يجب أن تكون كتاباتي لا تشبه كتابات أحد، والصدق في الحالة ينقذني من تكرار تجارب الآخرين كل ماعليّ أن أسمع صوت أعماقي لأقرأ ذاتي بدقة ووضوح، وعليّ أن أسجل هذا بأمانة وصدق. مايهمني.. أن تكون قصيدتي متحررة من أيّ قيود خارجية أو صياغات جاهزة. وكذلك بالنسبة للقصة، فقد أختار أبسط الأشكال والطرق في التعبير.. المهم قوة التصوير والوضوح وعدم السقوط في الرتابة والملل، لأني أراهن على صداقة المتلقي ليبقى معي ولا يشرد أو يتخلّى عني منذ السطر الأول من القصة .. فيجب أن لا يصاب القارئ بالضجر والملل ويداهمه النعاس، بل عليّ أن أوقظ جميع حواسه ليشاركني في كتابة القصة حتى نهايتها.
** - لمن تحب أن تقرأ؟.
أقرأ لأي كان إن إستطاع أن يشدني ويجعلني أكمل وأتابع.. فأنا منذ الجملة الأولى أستطيع أن أحدد وأدرك المستوى الفني لهذا العمل في الشعر والقصة والرواية فأنا أقتنع بمقولة (المكتوب واضح من عنوانه) لذلك أحياناً أقرأ من العمل جملة أو بضعة أسطر وأترك ولا أكمل.. وهناك نصوص تسحرني فأغوص فيها ولا أتمنى لها أن تنتهي، أعتمد على الذائقة والمتعة في القراءة.
**- ماهي أبرز منعطفاتك خلال مشوارك الأدبي؟.
مررت بمراحل عديدة وكثيرة، ولكنني لا أسميها منعطفات، كنت بفعل التجربة والسن والنضج الثقافي أشعر بين الحين والحين بأن قصيدتي قد تطورت، لذلك كنت أهرع لأمزق وأحرق ماكتبته سابقاً، مزقت وأحرقت الكثير، وأنا اليوم نادم لأني فعلت هذا. المنعطف الحقيقي عودتي لكتابة الشعر بعد توقف وانقطاع مدة عشرين سنة، تحولت لكتابة القصة تقريبا في عام 1990م، ونجحت في القصة وانعرفت ووجدت تشجيعاً أكثر من الشعر، بل ونلت الجوائز المتتالية على صعيد المحلي والقطري ثم العربي، وبرغم هذا وأنا في قمة النشاط والنجاح وحين فتحت أمامي كل الأبواب، توقفت فجأة عن كتابة القصة كما توقفت عن كتابة الشعر سابقاً. انقطعت عن الكتابة والمتابعة والحضور والنشر ةالاهتمام، بل ومعاشرة الكتاب، مدة تزيد عن عشرين سنة، تفرغت لعملي في التطريز الإلكتروني، ونسيت كل مايربطني بالأدب والأدباء.. ولهذا أجدني اليوم مقصراً، وبيني وبين الأدباء ومانشروه في السنوات الأخيرة فجوة وانقطاع وعليّ أن أتداركه وبسرعة. بعد أن هجرت بلدي أنا وعائلتي ولجأنا إلى تركيا، وبعد أكثر من سنة من الإقامة في إسطنبول، وجدتني وبلا تفكير أو تخطيط أعود إلى كتابة الشعر. كنت في البداية متخوف ومرتبك، ولم أكن أعرف قيمة ماأكتبه، هل هذا شعر؟.. هل أكتب بمستوى جيد؟.. وهل أكتب أجمل مما كتبت سابقاً؟.. ولكي أطمئن وأسترجع الثقة بنفسي، أرسلت عبر الفيس ماأكتبه لأصدقائي القدامى لأسألهم عن رأيهم.. مع العلم صارت تنهال عليّ الإعجابات والتعليقات المشجعة من جمهور الفيس، ولكني تخوفت من المجاملة، خاصة وإني جديد على هذه العوالم.. وكان من أصدقائي القدامى من تجاهل الإجابة على سؤالي، ومنهم من اكتفى بإعذائي لايك إعجاب، ومنهم من قال أنا لا أحب هذا النوع من الشعر، ومنهم من قال أكتب وتوكل على الله، وهناك من طالبني بالعودة لكتابة القصة، وهناك من قال أنت تقع في الاسترسال، والأهم هناك من تضايق وانزعج وقاطعني لأني أكتب بغزارة، فهو كل عدة أشهر ينجز قصيدة ذهنية، فكيف لي أن أكتب في اليوم الواحد قصيدة أو أكثر.. وبدأت تطالني الاتهامات والتجريحات والتهجمات والانتقادات ومغادها كلها أنني ضيف في النحو والإملاء.. مع أن كتاباتي تنشر على الفيس وقد تكون نصوصي أقل النصوص تشكو من هذه العيوب. كنت بحاجة ماسة لمن يشجعني ويقول لي كلمة جميلة، ويشدّ من أزري، فأنا في قمة حيرتي.. هل أتابع وأكتب أم أعود لمملكة الصمت؟.. وفي هذه الظروف وفجأة منّ الله عليّ بصداقة كاتبة رائعة شجعتني جداً ووقفت إلى جانبي وكتبت لي مقدمتان لديواني الأول (قبل أن يستفيق الضوء) والديوان الثاني (راية الندى) وهي الأديبة الكبيرة والناقدة المتميزة والمتعددة المواهب الأستاذة (نجاح إبراهيم)، فإليها أدين بالشكر الكبير، فلولاها كان ممكن لي أن لا أتابع. ثم وجدت من الأستاذ الأديب الناقد (محمد يوسف كرزون) أيضاً الاحتضان والتشجيع ومساعدتي بالنشر وطباعة الكتب .حيث كتب لي مقدمة لمجموعتي القصصية التي أعدت طباعتها (قهقهات الشيطان)، ثم مقدمته لديواني الرابع (أصابع الركام) وفي هذه المقدمة أطلق عليّ اللقب الذي أرعبني وأربكني (العقاد الجديد) ومازلت حتى الآن إتحسّب وأتخوف وأتحرّج ، من هذا الشرف العظيم الذي أغدقه عليّ، ولا أدري هل فعلاً أستحق هذه التسمية؟!. وهناك أيضاً ناقدة مغربية عظيمة بعثها الله لتقف إلى جانبي وتساندني بأروعة مقدمة لديواني الثالث (تلابيب الرّجاء)، وهذة الأديبة الناقدة المتميزة والتي لها مكانة سامقة في النقد الأدبي هي (مجيدة السباعي) ولها مني كل الشكر والتقدير.
** - كيف تنظر لمدى تفاعل الجمهور الأدبي في الوطن العربي والسوري؟.
- الجمهور دائماً في حالة تفاعل رائع، وهو يبحث عن الأصالة والجديد والصدق، ولا أحد يستطيع خداعه أو الكذب عليه، الخوف ليس من الجمهور
فالجمهور يقدر ويحترم ويشجع ولا ينسى أو يتنكر للمبدعين. ولكن الخوف من المؤسسات والمنابر الثقافية التي تبحث عن النفاق وتتآمر على الإبداع، بمساعدة رموز ثقافية باعت نفسها للشيطان، وتتحرك بدافع المصلحة والغيرة والحسد وضيق العين وعقد النقص، متخذة من سيف السلطان السلاح والحجج والذريعة.. ففي الوقت الذي نلت جائزة على مستوى الوطن العربي، وكان عدد المشاركين من الوطن العربي بالآلاف، وكان معظمهم بل جميعهم يحمل من الشهادات العليا والدكتوراه، وأنا أقل واحد فيهم مستوى في التعليم والدراسة، وبدل التهنئة والاحتفال كتبت بحقي عشرات التقارير، وأغلبها من الزملاء والأصدقاء
ولو كان الأمر بيدهم لكانوا نفذوا بي حكم الإعدام بدون أدنى شفقة، فقد حاربوني بشراسة ووقاحة لا تصدق، لدرجة أنهم قاطعوا أيّ مهرجان أو أمسية أدبية أو كتاب نقدي سيذكر اسمي ويتحدث عني، كنت حديث المقاهي، هناك من كان ينفعل ويكفر ويشتم ويقول عني لا يحمل الإبتدائية
وذهبوا لمن كتب عن مجموعتي (قهقهات الشيطان) عاتبوه لأنه يذكر اسم (تشيخوف) في سياق حديثه عن قصصي، سببوا لعائلتي الذعر والخوف والقلق، وكانوا والدي وأمي وأخوتي وأخواتي وزوجتي يرتعبون كلما سمعوا صوت سيارة في الليل تقف بالقرب من بيتنا، يظنون أن رجال المخابرات قد أتوا ليأخذوني. أنا أكثر إنسان في الدنيا خاب ظنه من أصدقائه، أكثر من خدع، من غدر، من تعرض للخيانة والتآمر والمكائد.. فجأة تحولت لعدو لكثر من الأصدقاء والزملاء.. حتى ممن نال الجائزة معي أو قبلي بسنوات، ذلك لأنهم نالوها مناصفة، في حين كانت كاملة لي.. ولهذا أحجموا عن الكتابة عن مجموعتي يوم أصدرتها بالتعاون مع إتحاد الكتاب العرب، حتى من كان معجبا بها، فقد أصابهم الخرس وأطبق عليهم الصمت، بل التحرك السلبي ضدي.. فهذا هو التفاعل المخزي والمبكي والمقزز ياصديقي، لذلك كرهت الأدب والأدباء وابتعدت عن الجميع وهجرت الكتابة.
** - ما تأثير واقع المحتل عليه؟.
لم يغب المحتل يوماً عن الأدب العربي والسوري، وأقصد هنا الأدب الجاد والملتزم، سواء بشكله المباشر أو اللامباشر وهو في اعتقادي الأهم. الأدب الحقيقي دائماً مع الحياة، وهو في معركة مستمرة ومتواصلة مع أعداء الحرية والحياة.. فحين يتصدى عمل أدبي للخائن والمخادع والظالم والفاسد والمنافق، يكون يتصدى للمحتل وبشكل قوي.. لأنّ هؤلاء سبب وجود المحتل واستمراريته، وهم العائق القوي والحقيقي أمام التصدي للمحتل ومخططاته.. أمّا الكتابة المباشرة والتقليدية التي تضج بالمفرقعات واللغة الخطابية والمباشرة فأثرها آني وزائل ولا يحمل بذور التغيير والتجديد.
** - هل للقصيدة السورية من سمات تميزها عن غيرها؟.
- القصيدة السورية دائماً هي الرائدة والسّباقة في الشكل والمضمون، منذ نزار قباني، إلى أدونيس، ومحمد الماغوط، وصولاً إلى رياض صالح الحسين، وهناك أسماء كثيرة تستحق الوقوف والتقدير والدراسة، منهم على سبيل المثال لا الحصر عبد السلام حلوم، ومحمد زكريا حيدر، ولقمان ديركي، وإبراهيم كسار، ومحمد علي الشريف، وحسين بن حمزة، وفواز حجو، ونجاح إبراهيم، وعمر قدور، وندى الدانا، ومحمد فؤاد محمد فؤاد، وعبد القادر أبو رحمة، وغالية خوجة، ولميس الزين، وميادة لبابيدي، وحنان مراد.. وهناك أسماء كثيرة جادة وناضجة
(مصطفى الحاج الحسين)
في قصيدة: (موقد السراب)..
قراءة: ذ /(larbi Izaabel Maroc).
تنقسم هذه القصيدة الرائعة من أديبنا وشاعرنا الكبير من إسطنبول إلى جزءين اثنين: أولهما: استرجاع لماضي الشباب حيث "القصيدة" تتحدى الشاعر بل وتتحداه ظروف و أمكنة و متاهات الروتين الحياتية مثله مثل كل الناس؛ وكأن في كل منعطف حياتي يكتسب التجارب و تحتد عناصر شخصية الشاعر.. لا الحاجة تقف حجر عثرة أمامه ولا اليتم أناخ ظهره، ولا كل اكراهات الزمن المشيب قادر على أن يترك فيه بصمة أذى....وقف الشامخ متحديا كل الصعاب ويشحذ هممه لتحقيق غاية سامية ظلت عالقة في الفكر والروح والوجدان والفؤاد وهذه الرغبة الأكيدة هي الفكرة الثانية لمضمون هذه القصيدة الرائعة شكلا ومضمونا:
الفكرة، هي: محاورته (القصيد) أي الشعر في أبهى صور وارقى بوح، أسر لها بما في القلب والوجدان والروح والفكر واعطاها من نفسه الجمال والقوة النابعة من داخل شخصية محنكة حنكتها تجاربه الحياتية في كثير من الميادين التي اشتغل فيها...فصاغها حكمة وقوة وقولا فصلا نتيجة كل ذلك..
وها هو ذا في هذه القصيدة يبدع منذ استهلالها لها بعنوان مجازي قوي (موقد السّراب)!! فلماذا حذف الشاعر اللبيب الحكيم هنا المبتدأ وجاء بالخبر (موقد) مضافا إلى كلمة (السّراب) إنها لغة المجاز اللفظي حيث: الموقد هو الشاعر نفسه يحترق؛ في داخله خليط من الأحاسيس والعواطف تضطرب فلا الأرض أرض ولا السماء سماء.. وجاء بالسراب وكأنه يقول: كم تجربة مرت من عمري وكم أمنية سعيت إلى تحقيقها في جد ونشاط وعزم وقوة وإصرار على أمل مستقبل/ حاضر أكثر سعادة وهناء وراحة من الماضي القريب... كل ذلك ذهب ادراج الرياح وكأنني لم أكن شيئا أو كأني كمن وضع قدرا فارغةعلى نار ينتظر أن ينضج
(السراب).. وهل السراب ملموس حقيقي؟؟ أم يريد القول إن تجاربه في الحياة علمته ألا شيء يدوم على وجه هذه البسيطة؟!
ليواصل الشاعر قصيدته في حبكة متراصة الحلقات متدرجة الأفكار متماسكة النفس الشعري من بداية النص إلى نهايته في أسلوب شاعري راق ومميز وكأنه غدير رقراق يسيل عذوبة ورقة وجمالا وتوهجا....
فالموسيقى الخارجية للنص ليست إلّا إحساساً بالإنتصار على ظروف قاهرة وهذا الانتصار مرده إلى زمانة وتعقل الشاعر وقوة شخصيته في تحقيق الذات....
اشتغل الشاعر على مجموعة من الأساليب البلاغية وخاصة المجاز والكناية لكن في أسلوب سهل ممتنع ساعده ذلك على أن يستهل قصيدته حسن استهلال وان يوصل فكرته في يسر وسهولة وأن يختم قصيدته ختما راقيا فكرا وعمقا ووجدانا.
تحية تقدير لكم استاذ (مصطفى الحاج حسين) المحترم.. لقد أبدعت واوفيت وما قصرت... قصيدة رائعة... تحياتي وتقديري واحترامي لكم أستاذي.
الدكتور: العربي إزعبل.
* موقدُ السَّراب..
أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.
على موقدِ السَّرابِ
أشعلَني الانتظارُ
كانَ السَّيفُ ينقُشُ صرختي
على امتدادِ عُنُقي
وكنتُ في قبضةِ الانهيارِ
ألبَسُ دمعتي
وأحضُنُ رعشتي
وأصعدُ سلَّمَ الاكتواءِ
الأرضُ منْ فوقي
شاخصةُ الجهاتِ
السَّماءُ منْ تحتيَ
فَقَدَتْ بصيرتَها
والزمنُ
لا مكانَ يأويهِ
والأمكنةُ تنسابُ في جدولِ
الهَباءِ
ضحِكَ الرَّمادُ منْ يفاعةِ أمواجي
وقهقَهَ العدمُ
حين أبصرَ عنادَ نبضي
الأفقُ يحترسُ منْ نافذتي
المطرُ يلتفُّ على صحرائي
والجهاتُ لا تقتربُ منْ حنيني
مَنْ زوَّدَ اللَّيلَ بشموعِ دمي؟!
من أعطى النارَ
حقَّ التوغُّلِ في يباسي؟!
أنا
لا أذكُرُ أنِّي كنت أنا
كانتْ روحيَ على خصامٍ
مع جسدي
دمي
لم يطِقِ الإقامةَ في عروقي
أهدتني أمِّي
إلى حمائمِ السَّحابِ
أودعني أبي
عند ضفيرةِ النَّدى
وأخذتْني قصيدتي
إلى بوابةِ الينابيعِ
فَمَنْ دَلَّ الصَّمتَ على صوتي؟!
مَنْ أعطى الأرقَ
مفتاحَ الأسئلةِ؟!
آنِّي أحبو فوقَ قُيودي
أحفُرُ بحراً لمراكبي
العائمةِ على موتي.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
## قصيدة: (وقالت خطاي)..
للشاعر والأديب السوري:
(مصطفى الحاج حسين).
للنّاقد والشّاعر: (محمد زكريّا حيدر).
في المسافة التي تفصل بين موت البلاد، وحضور القصيدة.. يقف الشاعر
(مصطفى الحاج حسين)، ليرفع ماتبقّى
من صراخٍ، في حنجرةٍ تعبت من اللهاثِ
خلفَ بلاد تنأى.
يطارد البلاد بالقصائد، ولكنَّ الكلمات
التي صارت حطباًلم تعد توقد في القصيدة ما يغري البلاد بالتّوقف عن الانهيار ما يغري القلب بالنكوص عن التشظّي.
حتى الغربة صارت تُهمة وتحتاج أن تختفي في نفقٍ يبحثُ عن الأسماءِ التي أضحت سرّية.
وعلى حدودِ الخرائط التي شرذمت
الوطن، فصار لعبة الأمم، بتنا لا نحارب إلّا بخيباتنا.. فهل تقودنا الخيانات إلى سياج الندى؟!.
ويبقى الشاعر يلهث بلهفتهِ العارمة،
طالباً إلى المدى أن يُفسح طريقاً لغُصّتهِ وقامة جرحه وهزائمه..
واحتضاره.
وحتى لا يبقى النداء فردياً تجد الشاعر
يربط جرحه بجرحٍ جماعي، فهو سينادي على(جثثٍ تشبهه)، ليواجه معها قهقهات ذابحيه وقاتلي وطنه.
إنّه يقف بشموخِ ألمهِ يريد أن يحاصر
الكراهية، التي تضغط على أنفاس البلاد...
ويعجب للعالم (المتحضّر) الذي أصبح
يقتات على استغاثات الضّعفاء.
صرخة الشّاعر شديدة الإيحاء.. تمرّ على الرّوح مرتدية أبهى الصّور وأكثرها عنفاً وجموحاً في تراكم صوري يؤدي إلى تشكيل لوحة ماتعة من الحضور التخييلي، الذي يتفاعل في وحدة القصيدة، ووحدة الألم ليعلن حضوره الأخّاذ.
محمد زكريا حيدر
سوري.. مقيم في الإمارات
* (وقالت خطايَ)..
أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.
وقالت لي خطايَ توقّف
عنِ المجيءِ
فما عادَ للأرضِ دروبٍ
المسافاتُ تقوّضت في صدركَ
الكلامُ صارَ حطباً
تتدفأ عليه القصيدة
ويطلُّ من لهفتكَ
سحابٌ أسودٌ جائعٌ
يبتلعُ المدى ويطاردُ رؤاكَ
فيا أيّها المشظّى اتّئد
تجمّع في صحارى الدّمع
سنحفرُ لغربتنا نفقاً
يُودِي لاسمائنا
ونكتبُ على عثراتِ دمنا
أهازيجَ السّراب
ونرتّلُ على الجّماجمِ
خرائط البلاد المشرذمة
فيا أيّها الصّبح
تمسّك بأصابعِ خيبتي
لتقودكَ نحوَ سياج النّدى
قد تبصر حناياكَ
أخاديدَ لهفتنا النّادبة
وَسِّع أيّها المدى لغصّتي
ستعبر من هنا قامة جرحي
وتمرّ هزائمي كلّها
عبرَ هذا الرّكام
وينادي احتضاري في كلّ البلاد
على جثثٍ تشبهني
لنرسمَ على أبوابِ صرختنا
شكلَ الضّحكة التي ذبحتنا
وكانت تتقلّد سواد الضّغينة
بلدي تتقاذفها الكراهيّة
والعالم المتحضّر
يقتاتُ على استغاثاتنا
الطّازجة.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
## الأديبة الناقدة الأستاذة:
(غزلان شوفي) تكتب:
قراءة في قصيدة (لجوء)..
للشاعر والأديب السوري :
(مصطفى الحاج حسين) .
===========================
نحن اليوم أمام نص إبداعي من توقيع الشاعر مصطفى الحاج حسين،نص ذي حمولة كبيرة وعميقة، تفتح الباب على مصراعيه للغوص في معانيه وأفكاره.
العنوان: يتكون من كلمة واحدة، عبارة عن مصدر من الفعل الثلاثي( لجأ/ يلجأ/ لجوءً، فهو لاجئ) مما يمنح القارئ انطباعا أوليا، ومنذ الوهلة الأولى، بأن القصيدة تحتمل الغوص في بحار شتى، فقد يكون الشاعر باحثا عن لجوء عاطفي، وجداني، أو ربما حتى سياسي، على اعتبار أن اللفظ يُستعمل في حقول دلاليه عدة؛ هذا اللجوء الذي لن تتضح معالمه إلا بالتنقل بين كلمات القصيدة، والتشبع بمعانيها، خصوصا وأن الشاعر أدرج اللفظة نكرة ،مما يضعنا في موقف الحيرة، وهنا تجدر الإشارة إلى أن النص نثري، مما أتاح للشاعر التحرر من ضوابط الوزن والتفعيلة والقافية، وهذا يتماشى مع المضمون، كما سنرى لاحقا…
ينطلق الشاعر في نصه من الاعتراف بحالة الخصام والتنافر التي يعيشها مع ذاته، حالةٍ آنية، مستمرة بدليل استعمال المضارع في تصريف الافعال( يختبئ/ أتهرب/ أشيح)، ليستمر في تأكيد الحالة بتوظيف لا النافية للجنس(لا كلام/لا توافق/لا سلام) وهذا يضعنا أمام صدمة عاطفية منذ الاستهلالية، ويستمر ذا الهروب من خلال موقعة الشاعر لذاته خارج النبض( نبض قلبه؟؟؟؟؟/ هل الأمر يتعلق هنا بخيبة عاطفية، أم أن الأمر أعمق من ذلك بكثير؟؟؟؟……)
وتستمر القسوة، ومخاصمة الذات فيما يلي من الأبيات، لكن الملاحظ أن الشاعر،في معرض قصيدته انتقل إلى الزمن الماضي، وهنا حدثت خلخلة في السيرورة الزمنية، هل هي مقصودة، لتأكيد قِدم الوجع؟؟أم فلتة من فلتات القلم؟؟( هربت/ سقطت/ صار/ خانتني/ تخلت)……
قمة الوجع والاغتراب والألم تظهر في إشراك العناصر الطبيعية الكونية من أرض وسماء وغيوم في الحالة النفسيه لشاعرنا، بل إنها تآمرت عليه، وأمعنت في تعذيبه،وما انتشلته من ضياعه….. وهنا وظف الشاعر صورا راقية جدا، مع انزياحات بليغة، باستعمال المفردات والضدية فيما يُفترض بها من دور( الهواء اعتصر حنجرتي/ الندى سلبني أزهاري/ وعتم الضوء غرفتي…..)
في الجزء الأخير من القصيدة، يعود الشاعر إلى استعمال الزمن المضارع في سياقات جدا عميقة، وجدا صادمة، فقد أصبح يتوق لمفارقة الحياة، ومعانقة الموت، الذي أصبح يراه أرحم و وأدفأ من الوحدة التي تُغلف وجوده وحياته، لدرجة التخلي عن هويته، وكينونته وحقيقته، والرضا بحالة العدم التي سيتيحها له الموت حين يحوله إلى رماد…… إلى رميم، إلى استقرار ولو بالجحيم كمصير…….
وفي المجمل، يمكن القول أن الألفاظ المستعملة خدمت المعنى بشكل كبير، إلا أن تٓحدّرٓها من معجم ملفوف بالسواد، مضغوط بالتشتت والتشظي ألبس القصيدة رداء من التشاؤم، جعل القارئ ينفر في بعض المواقع، وهذا راجع لوحدة الموضوع، وعدم التنويع،… إلا أنه لا يفوتني أن أثني هنا على الشاعر كونه قام بتشكيل كثير من الكلمات كي تسهل على المتلقي القراءة، كما أنه اعتمد الجمل القصيرة ، مما جعلنا في حالة تركيز دائم مع النص، مع غياب أي لبس أو تعقيد لفظي أو معنوي….. لكن غاب عن النص ذلك الجرس الموسيقي في مجمله، رغم وجود نثرات منه في قلة من المواضع( أزهاري/ انكساري….) لكن الموسيقى تمنح الشعر حياة…….
فيما يخص الأسلوب ، فكله خبري إقرارا لحقيقة الضياع، وتأكيدا لها…….. وهنا، آخذ على الشاعر عدم تشبثه ببصيص من نور وأمل،في مجمل قصيدته، مما جعلها ناطقة بالسوداوية، موغلة في الانعزال، دون تفصيل لأسباب هذه الحالة……
وفي الختام، أشكر شاعرنا القدير على جمالية أسلوبه، وخلو لغته من الأخطاء، وابتعاده عن الحشو والإطناب، وأتمنى أن نقرأ له نصوصا على نفس المستوى من الكفاءة، لكن بمواضيع أكثر تفاؤلا، وأميل إلى الأمل والانفتاح…….
غزلان شرفي
المغرب.. فاس.
***************************************
* لجوء..
أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.
يختبئُ وَجهِي منِّي
وأتهرَّبُ من أنفاسِي
أبتَعِدُ عن دَمِي
وأشيحُ عن قامَتِي نَظَري
لا كَلامَ مع قلبي
لا تَوافقَ مع روحي
ولا سَلامَ مع دَمعَتِي
إنِّي خارجَ نَبضِي
إنِّي وراءَ غِيَابِي
هَرَبَتْ مِنِّي خُطَايَ
وسَقَطْتُ في مستنقعِ الصَّمتِ
صارَ الكلامُ شَوكاً
وقَصيدَتي مَنفىً لِلذَاكِرَةِ
خَانَتنِي الأرضُ
وتخلَّتِ السَّماءُ عَنِّي
فَعَلى عَطَشِي تآمَرتِ الغُيومُ
وقبري باعَ جثماني للضواري
النَّارُ نَهَشَتْ بَسمَتي
الهواءُ اعتَصَرَ حنجرتي
والنَّدى سَلبَني أزهاري
وعَتَّمَ الضَّوءُ غُربتي
وصوتُ الطفولةِ نَخَرَ انكساري
أُنَادِي على مَوتٍ رَحِيمٍ
يَنتشلُ صَقيعَ وحدَتي
أستجيرُ بالعَدَمِ
أنْ يَقَبَّلَ أوراقَ اعتمادي
ويُعطيِني جِنسِيَّةً جَدِيدَةَ
اسمِي:
- رَمَادٌ
كنيتِي:
- رَمِيْمٌ
وَطَنِي:
- جَهَنَّمُ
لُغَتِي:
- الخَرَسْ.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
## قصيدة: (تعقب)..
للشاعر والأديب السوري:
(مصطفى الحاج حسين).
الناقد والشاعر:(عدنان بصل).
إنّ النصّ المعنون ب(تعقّب) يحمل همّا جميلا وجماله متأتّ من كونه وجداني بامتياز إنّما استخدام الكاتب لأسلوب الخبري أصبغ النص بالسردية التي هبطت بمستوى النص إلى مستوى الخاطرة وحتى إلى التقريرية في هذه الخاطر فمستلزمات
النص المبدع تقتضي التنوع بين الأسلوب الخبري والأسلوب الإنشائي الأمر الذي يعطي حركيّة للنص فكما يستخدم الفنان التشكيلي الألوان المتنوعة في لوحته فتبدو مترعة بالجمال فعلى الأديب أن يستخدم تنوع الأسايب فإذا كان المبتغى
خلق قصيدة نثر فلا بأس باستخدام
الأسلوب الخبري ولن يجب أن يوظف
توظيفا بلاغيا كي يحقق الغاية منه وفي نص (تعقب) الذي أرى فيه نصا جميلا وحضورا لافتا للمجاز بأشكال مختلفة كنت أتمنّى ان يكون قد شغل عليه بشكل أفضل كي يأخذ مكانه كقصيدة نثر وأنا لم أورد شواهد عن الجمل الخبريّة لأنّ النص برمته خبري .
الشاعر عدنان بصل .
* (تعقّب)..
أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.
أتعقّبُ غيابي
أُرسلُ خطايَ خلفَ انهزامي
وأطلقُ أجنحة هواجسي
لأعرفَ أمكنةَ نزيفي
أتلصّصُ على حنيني
لأباغتَ قلبي متلبّساً بدموعهِ
هربت منّي أيّامي
وأنكرتني الذّكريات
ووشت بي قصيدتي
إلى الفضاءِ الأصمِّ
صارَ لهاثي يحاصرني بالاختناقِ
انقضّت الجّهاتُ على رؤايا
وأمسكت جثتي بالغيوم
لتنوح الدّروب فوق رفيفي
أنا احتراقُ الدّمع في الحنجرة
ونموّ الدّم في الشّهيقِ
تعثّرت بي خيبتي
وأنا أنادي الرّيح
لتحملَ عنّي تشرّدي
وتزحف نحوي الانكسارات
تحتاطني ظنوني
تقفزُ الحُرقة من دهشتي
حينَ تمدُّ لي الهاوية يدها
تتعرّى منّي الكلمات
تفتضحُ أسرار صمتي
لأعلن على مرآى موتي
ولادة عنادي
سأرسم لأشواقي خارطة الحلم
سأفتح نافذة في جدرانِ الألمِ
وأُطَيّرُ للمدى شمس فؤادي
أنا سليل القهر والاندحار
أعلنُ عن قيامةِ الخراب
سينهضُ بنا الرّماد
ونعودُ للبلادِ التي
لفظتنا بمجون.*
مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول
## وكان الناقد والأديب والشاعر:
(محمد بن يوسف كرزون):
قراءة مخالفة لقراءة عدنان بصل:
َوهذا ما كتبه(محمد بن يوسف كرزون)
هذا ليس تحليلاً لنصّ، هذا درسٌ في
الكتابة الشعرية، أرادَ الناقدُ أن يقدّمَ درساً تفصيلياً في ما يرغبُ هو أن يرى الشعر عليه... لا أكثر ، ويلقّنه لشاعرنا الماجد «مصطفى الحاج حسين».
ولو أنّه كان يريدُ أن يحلّل ويظهرَ المحاسن والمساوئ لكان عليه أن يأخذ حجماً أكبر ممّا كتب.
هو يقدّم تعليقاً لا غير، ولم يُظهر من
مواطن الجمال فيالنصّ الشعري سوى
عبارة (همّاً جميلاً) في بداية مقالته،
و(أرى فيه نصا جميلا وحضورا لافتا للمجاز بأشكال مختلفة) في نهاية المقالة، وكلمتاه هاتان عموميّتان إنشائيتان، لم يثم الدليل عليهما في نصّه النقديّ، ولم يحلّل أيّ صورة مجازيّة من صور النصّ الكثيرة بل التي أُتخِمَ فيها النصّ لجماله.
يكتبُ الشاعر (مصطفى الحاج حسين)
قصيدتَهُ بألمِ أمّته الذي امتزَجَ بألمه
الشخصيّ،فلم نعد نرى الحدود الفاصلةَ
بين الألمين.
هو يستخدمُ الضمير الشخصيّ الفردي (أنا) وما يلحقُ به من ياء المتكلّم والفعل المضارع الذي صيغَ على بالصياغة الفرديّة ذاتها، ولكن قراءتنا لتفاصيل قصيدته لا تخفي امتزاج ألمه بألمِ أمّته جميعاً، التي تغوصُ الآنَ (في عُتمةِ النار)، والتي (تلملمُ انكسارات موتها)، وكأنّها (تعدو صوبَ شهقاتِ الأفول)، ورغم تراثها العظيم، الذي اتّخذ الشاعر من اللغة رمزاً له، فإنّ هذه اللغة الرمز لم تعد تنفع شيئاً، فهي ليست سوى (أجنحةٍ تمتدُّ لتعلنَ خرابَ أمّةٍ كاملة):(أمدُّ لغتي أجنحة لخرابي).
ثمّ ينقلنا إلى تفصيل آخر لا يقلّ دهشةً
وغرابةً، ولكنّه واقع وحقيقة: (أوزّعُ ينابيع دهشتي على خريرِ اختناقي).
فهذه الأمّة تصرخ وهي تكادُ أن تختنقَ ممّا هي فيه من ويلات وحروب ومؤامرات، في دهشةٍ غريبة من مواقف العالَم كلّه تجاه ما تعاني منه.
وينهي القصيدة كما ابتدأها، بالموت أو
النهاية:
(لا شيء يشبه اسمي
إلاّ أمواج العدم) .
القصيدةُ في تفاصيلها تكادُ تكون ملحمة مصغّرة، تحاكي ما يجري في الواقع المرير، وتنبئُ عن أنّ الأمّة تسير إلى نهايتها إلى تفتُّتِها، إلى موتها المحتوم، وهي الأمّة التي عاشت قروناً طويلة صابرةً على الشدائد والمحن، وصمدتْ.
ويأتي تحذيرُ الشاعر في غاية الأناقة
والجمال، عندما يمزج (الأنا) بــ(نحن)،
ويعلنُ أنّ وجعه هو في العمقِ والأزمة التي يكادُ لا ينفعُ معها دواء.
القصيدة مُترَعةٌ بالصور المدهشة، والمجازات المذهلة، التي لا تشبه قصيدةً أخرى من قصائد الشعر النثريّ المعاصر والحديث في تفاصيلها، وإن كان قد استندَ في واحدةٍ منها إلى البلاغة القرآنية، في قوله:
(ورحتُ أهزُّ بجذعِ قهري
تساقطَ عليَّ جمرُ صمتي).
فهي تذكّرنا بآياتٍ من «سورة مريم»:
(وهزّي إليكِ بجذعِ
النخلةِ تساقط عليكِ رطباً جنيّاً).
ولكنّ نتيجة هزّه لقهره كانَ جمر الصمتِ الذي يكوينا جميعاً ولا نستطيعُ الفكاكَ منه، عندما نرى أمّتَنا تُذبَحُ وريداً وريداً ونحنُ صامتون.
محمد بن يوسف كرزون .
## قصيدة:(لو لم يخفق قلبي)..
للشاعر والأديب السوري..
(مصطفى الحاج حسين).
بقلم: الناقدة والأديبة والشاعرة:
(بسمة الحاج يحيى)..
المسيرة تبدأ بخفقة تعطي الوليد حياة، تطلقه على إثرها الى معنى الوجود، و تملي عليه سرد الحكايا و التيه و الأنات.. شاعرنا، تربع عرش القصيدة منذ العتبات الاولى، تبنى لغة الخلق و الابداع، فتألّه ليعطي الحياة لروح هي نابعة من اعماقه و تسكن فيها و ابدع ليحيي قصيدة هي
الروح لروحه و هي السكن فيه و فيها.. ليزيد من قوة خلقه و الانفراد بالألوهية، تعمد لغة سكب على بساطتها و سلاستها منطق القوة و السلطة؛ « لو »، إن دلت على سحر و جمالية، فإنها تحمل كذلك في طياتها سرّ الالوهية و القوّة فلا خلق لو لم
يكن لخفقة قلبه ولادة لكامل القصيدة، بل و يستدعي عناصر الطبيعة؛ جلّها و أجملها ليشهد خلقه ما ابدع لإضافة مسحة الجمال بهذا الكون، و ليحقق كنه العشق في شرايين تحمل روح الوجد و تحاكي الشّفافية......
فأين منّا بدفء الشمس جاءت حثيثة تلقى مهمّتها شعاعا دافئا لاجل حبيبته و نستنير بفظل عشيقة لأجلها رذاذ الاشعة يتقاطر علينا ضوء و نورا!!
شاعرنا طوّع الابجدية نوارس تحلّق فوق أعتاب الحروف، تخفق كلماتها أجنحة تحملنا و تحمل معشوقته الى سماء الأحلام، تهدينا ألف جناح يحلق بنا عاليا بين النجوم و الكواكب و السحب الشفافة... فهل نحتسب وقوعا او هبوطا مفاجئا!! طالما نسق التحليق ياخذنا إلى اقسى سرعته، فاحتمال الوقوع او الاستفاقة من عمق المسافة قد يخلق لنا ارباكا إن لم نتحصّن من فوارق الزمن و المناخ بذي عالم !! لكن الشاعر ، احكم سَنّ قوانينه، فبنود الرّبوبيّة لا تحتمل الخطأ، لاسيّما و ان المحبوبة معنا على نفس السفينة تعتلي اغوار القصيدة ، فقد خاطبها من علياءه أن الارض ازهرت ليكون النزول بسلام و تنتهي الرحلة بأمان على سطح بساطه سندسي الالوان، يرفل بكساء الطيب و الزهر و عبق الاقحوان،
حتى تلين البسيطة تستقبل حبيبته، بعدما ارجحها بين سماء و بيض
السحب و بين التيه و الاحلام..
لكن بين كفيه حياتها و بلمسة من انامله نجاتها، فمازال شاعرنا يتلاعب باللغة فتطيعه بلا مقاومة، فكل هذا السحر آية مسبوقة ب "ما" و آية اخرى سبقتها "لا"، كأنما ينفي الحياة التي ما صارت لها نكهة الا بما خفق بفؤاده و ما كانت ليكون لها طعم في غياب ما اعتمل في قلبه..
ف "ما صار لإسمك كل هذا المعنى" ؛ فهو معنى الحياة و معنى الوجود و معنى الحيوية، بفضله، تقبّل الجبين له و اليد وحلم السّنين..
فلتقبل حبيبته يد من الهمها الحياة و سكب الالوان بروحها و زادها من نفسه فاهمها جمالها و ثباتها.. و نفى عنها الظلام حتى صارت اوصافها؛ خليط فراشات لونها ولين الندى ملمسها، و صيّر النّبيذ معتّقا من مبسمها، أ فلا يحق بعدها ان يخضع القمر لحراسة الكنوز موصوفة على اوتارها حبيبته !!! فبإشارة منه يمتثل البدر و النجم و الشجر، أوليس من حباها الحياة و اعطاها الاسم و اختار لها الممات "لو" #لم تمتثل لهواه ،"لو" #لا يكون لها شأن داخل مجرته الكونية، "لو" #ما سخر عناصر الطبيعة لتغدق عليها من روحه!!
فهل يحق لإله في عظمته أن يتنازل عن عرشه أو يتساوى في التكوين بمعبودته!!؟ فاللغة، سلاحه و مصدر إلهامه و قوته، ادارت له وجهها الثاني ، فصارت هي من تتحكم به بعدما كان يسيطر على الكلم والمعاني، فمن نفي و جزم و حروف شرط بالابجدية ، نزلت او هي تهاوت حروف العشق، فتمردت على اثرها حركات النَّصب
و الجزم على إله القصيدة و بقافيتها تربعت لتتولى الحكم و سَنّ الاوامر و كذا البنود فسرقت الموسيقى عذبَ الرحاب من صوت معبودته، و تباهت السماء بعبق رذاذها يبلّل التّراب بتيهٍ فريحُهُ يلثم الذّرّات من ريح ساحرة اهدت عبيرها الطبيعة او هي تآمرت و اتحدت معها لتعلن ثورة ضدّ ربّ
القصيدة!! ام تراه ربُّ الكلم الطيب و
سفير الحروف بالصّدر و العجز ، تهاوى عن عرشه لما خرق قانون الكون و وقع في عشق عبده و أمته ، فصار الخالق عاشقا والمخلوقة معبودته!!؟
تنازل عن عرشه و الألوهية، و خانته اللغة و سحر حروف الابجدية؛ "ف"... "ف" كانت الطامة الكبرى؛ بعد كل عملية خلق طوّعها لأجل سيدة الكون، بعد كل عنصر سخّره لخدمة سيدة القلب، بعد كل "كن" لأجل ان تكون مختلفة عن كل نساء الكون، وقعت منه الحروف ليعتلي حرف "الفاء" سر
الكونية، فيسبق الجنّ و يطوّع
الموسيقى والسّماء و الاشجار و البحار وحتى البوح والسّكينة و كذا الطير و الينابيع و الانهار.. لاغراضه، لمآربه، ليغيّر نمط العشق و يحدّد الإله من المألوه المؤله،،؛ فصارت الاشجار ملهمة الندى بوحي من الحبيبة، اعتلت عرش القصيدة فصارت الآمرة، من تعطي الحب، من تمنح قطر الندى للاغصان، صارت الحالمة تُهدي جمالها تعكس صورته الانهار فيغار الكوثر و يسبق بالعشق النهار، يطلبه حثيثا و يعزف اللحن فريدا، تستعيره نوتات الموسيقى فتكسيه الأوتار..
لعمري، هذا عشق مُدمّر، أردى القتيل إلهًا والإلهَ عبدا يبني حروف القصيدة.. فإن لم يحكم تسيير مركبته برّا و بحرا كربّان أضاع المسير، فتاهَ عن بوصلة العشق و توغل لُجّ الزمهريرا، انّى لصخب عيون المخلوقات أن ترديَ قتيلا، و تُأنسِن الجان فيضطربَ الموجُ لُجيّا و بعنفوان، ثم تلين لها الملائكة فيتّحد الاثنان؛ و تصير ملاكا قتلت بلحظها رَبّ البيت و القافية و اعتلت صدر القصيدة فلاذ بالفرار، يتوسّل ثم يتساءل هل من مزيد،!!؟ تخلّت عنه الابجدية، فعار على إلهٍ يعشق فيتيهُ عن الربوبية، فتلهو العصافير و تترقرق الينابيع لسيّدة في الحسن أطاحت بسلطان، ليعود فيتحسّر مجدّدا ب "لو" بعدما كانت سلاحه و شرط منْحِه الحياة لمن صارت الآن بالعلياء ترمقه، ينعي حظه فيبكيه،" أن "
(( لو لم يخفق قلبي لك
لما كان للحب وجود
و "ما" كان من داع لأحيا
لأكتب كل يوم عن عذابي
من هجرانك المميت))
فانقلب السحر على الساحر ، و صار القاهر مقهورا، و خلقت حواء من إلهها و معبودها عبدا يسعى لرضاها، و يتمنى "لو" ترحمه برحمتها من عذابه، ف"لا" يموت اليوم، بل تحييه " لو" "لا" تهجره هجرا خفيفا و "لا" مطولا فحياته رهينة بخفقة؛ إما تحييه أو
ترديه قتيلا..
فالحياة رهينة خفقة واحدة، إما تحييه
او تميته.. الحياة و الموت بفوهة
قصيدة.. فجاءت القصيدة بثراء ما بين مسيرة تقفز من فوق مهد و تتهاوى على لحد، بين السماء و الأرض..
القصيدة ثرية جدا، فالشاعر الاستاذ
(مصطفى الحاج حسين)، توخى الحذر
في سرد تراتيل عشق عجائبي، فكانت له السلطة على عناصر الكون ساعدته في ذلك لغته العميقة وتحَكُّمه بالمعجم
، فمن «لو» الشرطية الى «لم» الجازمة و «لا» النافية وكذا الشأن مع «ما»، تنقل خلالها ليفرض قانونا ابجديا يخول له التحكم في الحياة و الممات و كذلك السيطرة على مكونات الجمال و مبيحات العشق ليضع لمساته الاولى و الاخيرة على حروف قصيدة ولدت
ناضجة، حلقت بنا بسماء و مجرات و
كواكب، تحملنا اليها اشعة شمس مطيعة تؤرجحنا برفق فلا نخشى الوقوع و لا النزول اضطراريا فربان المركبة إله و بيده الأمر و النّهي، وهو من يعطي الحياة ويقرر الموت، بل و يخضع مخلوقات للاعتراف بقدراته،
..لكن ما إن حطّ بنا على الأرض و نزلنا بأمان، بجنة الرحمان و بساط سندسي
و زهر و مرجان ،حتى انقلب السحر وصارت السماوات و الشمس و الانهار و كذا البحار و الموسيقى و الطيور و الشجر و حتى المحيطات، صارت كلها بكفّ الحبيبة، رهن إشارتها و طوع يدها؛ سلّمتها مقاليد الحكم و مفاتيح الربوبية لتجلس على كرسيّ العرش، تأمر بكل عفوية، ملاك عشقه رب القصيدة، فانبرى على الحروف و الكلم الطيب ، لكن خانته الأبجدية.. فصارت «لو» تحمل معنى مغايرا، ينشد عبره أن "رفقا بي، ليتك تنصفيني، آه لو تنصفيني ! " ف"لو" لم ينبض قلبه لما كان مآله الهلاك و رحمة ينتظرها من ملاك !! ف سحر حروف اللغة غيرت شكلها واكتست بالمعاني الثنائية، خلعت معنى الشرط و الجزم لتركن الى التّوسل والاستفهام عن و لمستقبل مبهم ، مجهول التوقعية..
الشاعر اتقن استعمال اللغة و طوعها، فكان اجمل ما يحسب له، نفس البيتين بدأ بهما القصيدة ثم قفل عبرهما أواخر النص، لكن على العتبات الأولى، كان منطق القوة هو السائد، هو ما يلفّ المعاني،في حين حلّت المفارقة بالنهاية
لتكتسي نفس الأبيات نفَسا مغايرا فصارت نبرة التوسل هي المسيطرة.
فما اعظم اللغة لما يتفنن بها شاعرنا فيجعل من نفس العبارات و التراكيب و ظاهر المعاني آيتان متناقضتان، تحملان في طياتهما برزخا يفصل الفوارق بينهما ما يفصل بين السماء و الارض.. فلمّا كانت الحروف رتقا موحّدا لمن بسطح اللغة يسبح و لا يفقه ، فإن لكاتب النص،
سلاح ذو حدين؛ فبقدر ما تآمرت عليه
الأبجدية، إلا انه و من موقعه كناظم
لحروف القصيدة فقد سبح بأعماق اللغة فكان له أن فتق ما رُتّق و خلق ذاك التنافر الجليّ في المعنيين، من عتبات القصيد إلى نهاياته، من سلطان متحكّم بيده الحياة والموت الى عبد مسكين يرجو الحياة ويخشى الممات،، و تتلاحق المتضادات في بناءه للقصيدة ممّا يكسبها رونقا و سحرا
يضفي عليها قوة التوغل بمكونات النحو والصرف لتنحو الأبيات بحرا من الشعر والنظم يحدوهما برزخ يفصل بينهما فيشكّل ضفاف موجها،.. يتنازع المدّ و الجزر بحكم من العاشق الذي صار هو نفسه في مدّ وجزر تحكمه قوى الحب و قوى فاقت قدراته، قوى العشق و عاشقة خاوت الملائكة و اتّحدت في جمالها عناصر الطبيعة لتزيد من إرباك الشاعر، فأنّى لعاشق أن يتخلّى أو ينجوَ من جبروت ملهمته، أو يفكّرَ في عصيانها و قد أخذت عنه زمام الأمور، فما عاد بإمكانه أن يتخلى
عنها أو ينساها..! فهل ينسى الجمال سحر الملائكة ترفل في حلة العفة و الطهر بعفوية!!!.
بسمة حاج يحيى .
تونس
* لو لم يخفق قلبي..
أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.
لو لم يخفق لكِ قلبي
ما كانت الشّمس تنبّهت إليكِ
ولا استدلَّت عليكِ أسراب القصائد
وما صار لاسمكِ كلّ هذا المعنى
ولا الأرضُ
أزهرت كلٌ هذا العطر
ولظلّ الظّلام
مغلقاً على أوصافكِ
أنا من أخبرَ النّدى
عن خصالكِ
ومن نبّهَ الفراشات
على نبيذِ ضحكتكِ
ومن أشار على القمر الشّقي
أن يسهر على حراستكِ
وصفتُ للموسيقى صوتكِ
فسرقت منهُ الرّحاب
أعطيتُ للسماءِ رائحة أنفاسكِ
فأنجبت المطر
وكشفتُ للأشجار عن قطافكِ
فتراكضَ النّدى على أغصانها
أنا من كلّم الأنهار
عن ريقكِ
فتعلّقَ بكِ الكوثر
وحدّثتُ البحار عن صخبِ عينيكِ
فهاجَت أجنحة الموج
رويتُ للبوحِ مافي أصابعكِ من هديل
وللسكينةِ ماتسكنهُ يداكِ
كلّ العصافير ترفرفُ حولَ مداكِ
والينابيع تترقرقُ لتشرب منكِ الابتسام
لو لم يخفق قلبي لكِ
لما كان للحبِّ وجود
وماكان من داعٍ لأحيا
لأكتب كلّ يوم عن عذابي
من هجرانكِ المُميت.*
مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول
## قراءة في قصيدة:
(عناكبُ الحنينِ)..
للشاعر والأديب :
(مصطفى الحاج حسين)..
الناقد والفنان والملحن والأديب:
(سامي الحاج حسين)..
** تحياتي ومحبتي شقيقي المرهف الغالي مصطفى..
قصيدتك ملأى بالتصوير المريع، وبالتعابير المدهشة التي يكتنفها العذاب اللامتناهي؛ ومشاعر التذمر والاستياء من الواقع الثقيل؛ والخوف من المصير المجهول، تنطوي على انسجام في المتناقضات الشعرية العذبة البادية من عنوانها وصولاً إلى خاتمتها.
وقد استطعت في قصيدتك أن توظف بكل جمالية وجدارة الشاعر المقتدر معظم عناصر ومظاهر الطبيعة الخارقة من أرض وسماء وبحار ونار ورماد في خدمة مشاعرك، وكذلك وظفت ما يعتري الإنسان من ضعف وهواجس ومواقف تجاه العدم أو الموت المحتم وكل المنعكسات الموضوعية الخارجية على وجدانات ومشاعر هذا الكائن المفرط الحساسية من انبعاثات الحنينٍ والشوق والألم والمرارة والخوف من العدم أو المجهول.
مفرداتك الحادة تشي بقلقٍ فظيع من الوحدة والاغتراب وتصف بعنفٍ عذابات الإنسان وآلامه وعجزه عن الفعل أمام أحداث حاضره ومفروضة ومصيره مرتقب مرعب.
ولعلّ هذه الحدة العفوية جاءت نابعة من أعماق ذاتك للتمرُّد على إحساسك القوي بالظلم الكوني والاجتماعي ولتؤكِّد جبرية الطبيعة والإلزام الاجتماعي وفضح الوجود المفروض بسادية مفرطة على ضعفنا الإنساني بلا رحمة.
ولعلَّ زحمة الصور وكثافتها في القصيدة راحت تأخذ بك نحو التوحد بالطبيعة على وسعها، تلك الطبيعة التي تحكمها قوانين صارمة وآبدة، وقد راح كل ما فيها يسكن فينا وينطق بعذاباتنا..
فلَكم تأخذك قصائدك اليوم نحو فلسفات سوداوية تشاؤميّة معقدة وكم أصبحتَ تشكو فيها من الوجود الإنساني التعس في الحياة، وتأسفُ من خلالها على مصائر البشر
السوداوية..
ولعل أكثر ما أدهشني هو الخاتمة الشاعرية المثالية في قصيدتك هذه؛ بأن ينام المرء على رماد جسده، وكأنَّما روحه أو روحك المستفيقة الهائمة باتت متحرِّرةً من جسدك المنهك المحروق، فتبدو محلِّقةً دائماً، لتأوي إليه بعد طول عناءٍ عند النوم، فتتوسده وترتاح فوقه، وكأنها حارسة لرماده وتشكل من ذاتها غطاءً له..
أحييك وأبكي معك ماضينا وحاضرنا ووحدة مصيرنا أيها الغالي..
ويالك من شاعر حداثي عملاق..تكتب قصيدتك بمشاعر صادقة نابعة من قلب ثوري حارٍّ وبِصوَرٍ يرسمها بالرهافة خيالُك الخصيب..
وفقك الله وأسعدك ودمت في ألقٍ وبهاء.
سامي الحاج حسين .
=============================
القصيدة :
/// عناكبُ الحنينِ..
أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.
أمسَكَ بيَ الشوقُ
انقضَّ على دمي
أشعلَ وقتي بسكينِهِ
وراحَ يعوي على أنفاسي
ركضتُ داخلَ دمعتي
صرختْ نوافذُ موتي
وتكالبتْ على خطواتي المسافاتُ
حدَّقَ بيَ الأرقُ
تفرَّستنِيَ الهواجسُ
وجزَّتْ لهفتي الكلماتُ
إنِّي أبصرُ عناكبَ الحنينِ
تقتاتُ على نبضي
تشربُ نسغَ رؤاي
وتلبسُ ناري
تتجمعُ الأماكنُ في اختناقي
تسكنُني العاصفةُ
وتطلُّ منِّيَ المرارةُ
السَّماءُ تتكورُ داخلَ الصمتِ
الأرضُ تغوصُ في لوعتي
والبحرُ يسبحُ في ركنِ عذاباتي
أنا حائطُ الغمامِ
بوَّابةُ السَّعيرِ
منبتُ العدمِ
أسرجتُ ضعفيَ للذّكرياتِ
ورحتُ أتشمَّمُ كفنَ النهايةِ
لأنامَ على رمادِ جسدي.*
مصطفى الحاج حسين .
إسطنبول
## قصيدة:(عراء الرّوح)..
للشاعر والأديب السوري:
(مصطفى الحاج حسين).
القاص والناقد: (علاء الدّين حسّو):
إن كانت الغربة هي الانتقال البدني من
مكان إلى مكان آخر، وباتت عرفاً في أدبياتنا تحمل دلالات المعاناة والقهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي فإن الاغتراب الذي يعبرعن الانتقال الروحي النفسي وان كان البدن لم يغادر المكان
، فهو انعزال عن العالم والواقع المحيط به، بينما الاستلاب هو فقد مادي وروحي . فكيف الحال بما يعاني من الغربة الاغتراب والاستلاب؟.
يقدم لنا الشاعر (مصطفى الحاج حسين) قصيدة تفوح من كل حرف من حروفها المعاناة النفسية والجسدية تنقل إلينا هذا الشعور عبر انزياحات وتراكيب وصور تخيلية تنقل براعة وصدق الشاعر في نقل احساسه لنا فتحقق المتعة والفائدة والمواساة.
يبدأ النص بانزياح مثير (يتقيّؤني ظلّي) عادة يكون التقيؤ لاخراج الطعام من البطن نتيجة التسمم أو لسبب آخر ، ولكن أن يقوم الظل بلفظ الأصل فذلك يدل على الفقد الكامل حسياً وروحياً، فظله لم يعد يعرفه، ونبذه، وهنا الاغتراب الذي عرّفه هيجل على أنه "فقد الإنسان لشخصيته الأولى".
ولكن هذا (اللفظ) أين يكون؟ يكون (على رصيفِ الهباء) في العدم فقد بات غباراً تناثر في العدم.
ثم يعبر الشاعر عن ألمه وملله في الانتظار بانزياحات جميلة وصادمة ترتقي في اللغة والتركيب، فالذكريات سكين تجرح جسده (ذاكرتي تخمش انتظاري) وهو غير القادر على الحديث المجبر على السكوت وهو ذاته الم في الحلق مثل الم العطش الذي يسببه للحلق (أحاور عطش الصّمت).
وهذة الفكرة الأولى للقصيدة.
وينتقل الشاعر بعدها إلى حقل الأمنيات، وهي الفكرة الثانية للنص ، حيث يرغب من طائر الخيال(السراب) أن يحلق به إلى السماء (العماء) ينقذه من القهر الذي يخنقه مهما كان المسير متعباً وشاقاً وحارقاً مؤلماً .
فلم يعد يطيق هذه المعاناة، فألمه يكفي لإطلاق الروح من الجسد، وهي الأمنية التي بات يطلبها ليكون ثوباً يغطي الروح العارية فيبلغ (المدى) حيث هي نهاية الغاية. فقد بلغت المعاناة المتراكمة عنان السماء، ولم يعد للعدل منفذ، وقد غطاه الظلم برداءه المعتم، ودون اكتراث لصياح المعذبين (العواء).
ثم يخاطب المدينة التي استقر فيها، وهي الفكرة الثالثة في النص، بأن تمنحه الفرصة (جرعة الهواء) لتحقيق الأمنية وتفسح له الطريق وهو المقلوع من جذوره ويرغب العودة إلى وطنه (قلعة تنهض بسقوطي).
فالقلعة هنا ليس المقصود منها الحصن
المنيع بل ما يقلع من جذوره كالنخلة،
ويطلب العودة إلى البلد الأم (صوت أمي الذي يصرخ) ليدفن فيها. فهي تناديه وهناك أمنيته وأمله ومستقبله وجذوره وكان عودته للحياة من جديد:
(سأغرسُ شهقتي فيهِ..
لتنمو شتائل النّدى).
لقد استطاع الشاعر في قصيدته بدئاً من العنوان الموفق الذي كان رديفاً للقصيدة، ومجملاً للمحتوى، كاد أن يكون بحد ذاته قصيدة منفردة ومفاتحا لفهم القصيدة، وحقق شروط القصدية الحديثة حيث وظف جمالية الشكل لنقل المضون فحقق الفائدة والمتعة.*
علاء الدين حسو
عنتاب 04/07/2017
* عراء الرّوح..
أحاسيس: مصطفى الحاج حسين.
يتقيّؤني ظلّي
على رصيفِ الهباء
ذاكرتي تخمش انتظاري
أحاور عطش الصّمت
يا أجنحةَ السّراب احمليني
واصعدي صوب قهري
أُلامسُ نبض العماء
أقرعُ أجراسَ الاختناق
سأنثر على النّار خطاي
وأمضي في دروبِ العناء
وجعي يشعلُ فوانيس الاحتضار
فيا أيّها الحلم المسجّى
اِدخل من نوافذِ هروبي
واتّجه نحوَ عراء الرّوح
إسأل المدى عن ركامِ السّماء
الشّمس تتعثّر بعباءةِ الليل
والليلُ يتمسَّك بقبّعةِ العواء
أعطِ الهواء جرعةَ تنفّسٍ
للقلبِ فتات النّبض
للأرضِ دربٌ واحدٌ لا أمتطيهِ
يابلداً يسكنُ ارتحالي
ياقلعةً تنهضُ بسقوطي
ياصوتَ أمّي الذي يصرخُ
في غُصّتي
يترعرعُ في صوتي الرّماد
قصيدتي تذبح أشواقي
يناديني التّراب
سأغرسُ شهقتي فيهِ
لتنمو شتائل النّدى
أطول من قامةِ عشقي
أنا العاشق المصلوب
من لهاثهِ
أترنّح فوق بكائي.*
مصطفى الحاج حسين.
إسطنبول
## (قبل أن يستفيق الضّوء)..
للشَّاعر والأديب السُّوري:
(مصطفى الحاج حسين).
/// بقلم: الأديبة والشاعرة والناقدة:
(نجاح إبراهيم).
مثلُ تراتيل موشاة بالسّذاب المقدّس، تبدو قصائد ديوان”قبل أن يستفيقَ الضو” للشاعر (مصطفى الحاج حسين) إذ تنبلجُ من أسمى المطالع: العشق والجرح.
فالشاعرُ يرشحُ عشقاً ظهر له كليلة القدر، ليختزلَ ما جبّ من أعمار قبله راحت هباءً وعناءً، فيرهن المداد والنفس والرّوح له. يسخّر الحبر، يؤرّثه خلوداً، يكتبه قبل أن يكتبه غيره، وهل أقدر من الشاعر على رصد حالة نبيلة تمورُ به؟!
إنّ المتتبع للتواريخ التي أُمْهرتْ بها القصائد، لوجدها كُتبت جميعُها في وقت قصيرٍ متقارب ومتلاهث، وهذا يؤكّد أنّ في داخل الشاعر بركانٌ ثار دفعة واحدة نتيجة انصهار كبير وضغط أكبر.
وثمّة عوامل كثيرة أسهمت في تشكيلها، لعلّ أولها: موهبة وثقافة الشاعر، وعهده بكتابة السّرد، وثانيها:
الألم النابض، المتدفق الذي يفيضُ في عروقه، والذي لا يمكن أن يظلّ خبيئاً أومخنوقاً، فالألم كما يُقال يصنعُ المعجزات، وعند المبدع يغدو إعصاراً هائجاً، بركاناً لا يقف في وجهه شيء، عطاءاً لا يُحدّ من التبريكات.
وثالثها: حبٌّ عظيم نضجَ بسرعة الضوء ليصير عشقاً كبيراً يوازي عشق وطن غادره الشاعر قسراً، ولم تختف رائحته من مسامه، بل ظلت تفضحه وتنمّ عنه.
ورابعها: أنّ الشاعر اتخذ الشعر صهوةً لتعبيرٍ راقٍ أراد أن يجسّد حالاته الجوّانية ، فجاء سلاحاً كما سلاح الفقراء في ليل الهزيمة كما قال البياتي عن الشعر.
فلولا الشعر، ولولا تلك القصائد الرّاعفة لكان (مصطفى الحاج حسين) يتيماً، مقهوراً أمام غليانه الدّاخلي واحتقانات مشاعره، لأنه مستلب ومأزوم، وموجوع حتى الترمّد، يعاني اغتراباتٍ عديدة. لهذا أراد وبإصرار أن يتقن لعبة اغتصاب العالم بالكلمات، بل مفاجأته وخطف ذهوله، ثم غناءه تراتيلَ على فوهة جرح ما يزال يرعف أنيناً صامتاً، نبيلاً وموحياً:
"أقضمُ الوقت
غريباً
أنزفُ العمر
شريداً
أبعثرُ أدمعي
على سفوح الآلهة
والأنين..”
في الدّيوان اثنتان وخمسون قصيدة نثرية، ترسمُ كلّ واحدة لوحة خاشعة أمام صلاة، زاخرة بالضوء والأقمار والمطر واللون والعشق، بطلها الشاعر، يتقمّص الذات العاشقة، المتيّمة، والمتسربلة بالمعاناة والألم والحبّ:
”أحتطبُ قهري من حقول الرّوح
وأجمعُ أسراب عذابات الحنين
أفنّد نبضه من آهات الشوق
وأسألُ عمري عن دربه
الذي أطاح بخطاه
عن مفترق الضلالة..”
من اللافت أنّ الشاعرَ يعملُ على كتابة قصيدته بشكلٍ مغايرٍ، ولعلّ ما يشي بذلك، اللغة الشعرية الرّافلة بحضورها البهيّ، حيث يقوم بتحريرها من التقليد بممارسة أسلوب التكثيف واعتماد الرّمز والتنويعات الدّلالية التي لا يحدّها حدّ ، والتي تدفعُ إلى الأسئلة باستمرار، والرّغبة في الكشف، خاصّة وأنّ الشاعر يعزفُ على وترِ شعرٍ ذي بنية فنيّة قويّة، وأبعاد ذاتية وموضوعية، بأسلوب تلقائي يأتي كماء نبع، وإحساس بارق كشهاب. فجاءت كتابته مختلفة لأنه يرى العالم برؤية أخرى في تفاصيله وموحياته، والرّغبة المستميتة في تقديم صور مُدهشة للحياة ، ومفرداتها، وجماليات انبعاثاتها، وما تثيره الذات المبدعة من حسّ جماليّ يناضلُ الشاعر ليحيلها إلى خطاب يرتقي بها عالياً ويتمايز من خلالها:
” سأمضي إلى عطشٍ
أسقي منه ندى أيامي
وأرشّ الماءَ على الليل
ليغتسلَ
وأبللَ جذوة الوقت
فقد تيبست أصابعُ الحلم..”
لم تكتفِ قصيدةُ الشاعر “مصطفى الحاج حسين” في أن تتميّز بانفلاتها من القوالب الشعرية، بل ارتأت أن تستقل بلغتها الخاصّة وتعابيرها وصورها التي اختارها بفنيّة فائقة لتطير في فضاءات تجدّدها، فعملية بناء اللغة التي قام عليها في جملته الشعرية ليست بالأمر السهل، إنه يؤرّثها من دمه لتتسم بالمختلف من حيث التعبير.
القصائد تدورُ في فلك الحبيبة التي يلاحقُ الشاعر خيوط انسرابها فيه، فهو كالفراشة التي تلاحق الضوء وإن احترقت به، المهم أنها تبغي نهاية نبيلة ومؤثرة، بينما لا نلمح تبادل المرأة له بهذا الشعور. أراد أن يُبقيها بعيداً، غير متفاعلة كي يبقى معذباً، متألماً، متراعفاً، وحالماً في ملكوت الاحتراق، ولو أنها بادلته الحبّ لاكتفى بذلك، ووقف عنده، ولنضب نسغ تدفقه:
” أحبيني
لأحبّ نفسي
وأرى العالم أجمل
وأنجو من موت يلاحقني..”
بيد أنه يرغب في أن تحبّه، لأنه سيرى اختلافاً في الوجود، وسيعيد للعمر هسيس الضحكة، وسيُدخل الفرحة إلى بابه. بينما نجده في قصائد أخرى يلوم قلبه على ما يعتمل فيه من حبٍّ يتعاظم كلّ حين، فيزجره ويرغمه على السكون ويصفق بوجهه الأبواب.
ويستمرئ هذا الحلم في صدّ وردّ، يشتعل لائباً على همسة منها، كسرة دفء في صقيع الغربة، ابتسامة تحيي فيه الرّوح الغاربة. لينتهي الحلم برؤية وجهها فقط، يتمنى أن يشرق عليه ليشهد على انهياره الأخير، يهديها انهزامه وينتعل الرحيل ويمضي:
” سأهديك انهزامي وأرحل
وأوزع حسرتي على شبابيك
السخرية
أدركت بعد عمر ونيف
لا شيء يجمعنا سوى الألم
القاسم المشترك بيني وبينك..”
إنّ معنى عباراته في القصيدة يهمي كمطر حامضٍ لا يعرف التوقف، معنى له أبعاد راعفة، فدلالاته شديدة الاشتعال، ينضحُ بما تفيضُ به الرّوح ورغبتها الحثيثة في الحياة المأمولة والقضاء على الغربة التي تكاد لا تخلو قصيدة من لذوعة طعمها، والتي ولدت من جرّاء حرب على وطن الشاعر، فصنعت منه مغترباً ما كان راغباً في أن يكونه، وإنما ظروف قاهرة حملته إلى أن يغادر الحدود، وقلبه وروحه ينظران إلى الوراء حيث حبّ يتدحرج على أرضه المغسولة بالأرجوان والأنين. لينتجَ عن هذه الغربة اغترابات شتى، جعلت منه ذاتاً لائبة، مأزومة ومتألمة:
” هو الاغتراب اللعين
سأمشي
حيث لا جهة تودي إليك
ولا شمس
تشرق من صوبك
وحيث
قلبي لا يعرف العودة
سأحمل غصتي على ظهري
وحزم أشواقي الناحبات
وأجر روحي عنوة..”
وعلى الرّغم من انشغال القصائد بموضوعة الحبّ، إلا أنها تشفّ حزناً وتبدي مرارة ووجعاً لما لاقاه الشاعر من فقد للأحبة وفراق أصدقاء، و نزول محن وفواجع وخراب نال من البلاد، فعزف على وتر الألم اللامنتهي، لهذا فمن البديهي أن تحملَ القصائد رائحته
، وطعم ما يفرزه الواقع من أوضاع يُعاني منها كفرد ينحلّ في الجماعة المحترقة، وذلك من خلال عملية إبداع ينتضي الشاعر دمه وسيفه ليرسمها بحدّه الوهاج، لتنعكس رؤيته بوصفه الخالق للقصيدة، لهذا فإن ماتعاني منه الذات إنّما هي معاناة شعبٍ ووطن:
”ومازالت تقاوم
توحّد العالمُ على قتلها
الصديق
قبل العدو
كلٌّ يدمرُ ما يرغب فيها
ويقتلُ من شعبها..”
تختلف القصائد التي يتناول فيها الشاعر وطنه ومأساته وحربه، نجده يشفّ فيها وضوحاً، يخفف من اللغة الشعرية التي يمتلكها، يترجل عنها ليقارب بؤرة الغُصة والوجع، فتبدو القصيدة سهلة الفهم، سلسة، تنز ألماً.
بينما فيما تبقى من قصائد حملت مواضيع أخرى نجده يمتطي زقورة بنائية سردية مغايرة، محتفية به كنبيّ صغيرٍ قادرٍ على مزج ما بين مخيال وواقع من خلال لغة متفردة تشكل جسدها اليانع الرّافل بالإيحاء. ومع ذلك وعلى الرّغم من حجم الانكسارات التي فرضتها الحرب، واغترابه الموجع، حاملاً تشرده وضياعه على أرصفة بلاد باردة الوجه، سميكة القلب والجلد، إلا أننا نلمح صبره، واتقانه في رسم أفق للنجاة والأمل، ورغبة في مصير مريح، وهذا يدل على وعي الشاعر وقدرته على التعبير من خلال قصائده التي تنفتح على أسئلة متناسلة، وما هذه التساؤلات إلا مرآة تعكس قلق الشاعر وبحثه الحثيث عن إجابات مضنية أراد أن تُغني بناءه الفنيّ لأنه في حركة دؤوبة تشبه التمرّد المستعر، يمتطي الشاعر صهوتها من أجل الخلاص الذي يرتئيه، واطمئنان الإنسان الذي فيه، وولادات الذات المبدعة التي يمارس مخاضاتها. ماضياً بنا إلى مطالع الضوء لتمنحنا قصائده استيحاءً فريداً لواقع يتشظى احتراقاً ورغائب مقدّسة تبْرَع في ارتداء الحلم.. في هذه القصائد وفي تلك..
وبين ضفتيّ ”قبل أن يستفيق الضوء” من هجوعه نقبضُ عليه، على شاعر مسكون بالشعر، يقدّم بوحاً ذاتياً وموضوعياً، فيجيء صادقاً لأنه
يخاطب الإنسان، بأسلوب يبحث عن الاختلاف من خلال لوبانه عن عشق له صفة الدّيمومة، عشق الحياة، النفس، المرأة، يوقدُ من خلاله معنىً نبيلاً، وانفتاحاً على أمل وحلم، ليناهض الخراب الذي ملأ أرجاء وطنٍ محترق.
إنها مسؤولية الكلمة التي يحملها الشاعر على عاتقه، مسؤولية قطف الجمال واللهاث نحو عبارة يأتي بها عابرةً ملامحه القديمة ، وصولاً إلى بوابة المغاير والجديد، وهذا ما جعلها تتجه صوب فضاءات مثيرة ورحبة.
نجاح إبراهيم.
## الأديب السوري مصطفى الحاج حسين في حوار صحفي
ومقابلة رواسي الوطن "روا "
تلتقي الأديب السوري..
(مصطفى الحاج حسين).
غزة – خاص – روا - عثرات الحياة صنعت منه شاعرا رغم رحيله باكرا عن مقاعد الدراسة، ليكتب على جدران مهنته قصائده التي ولدت من رحم شمس آذار ونيسان، وشمس تموز اللهاب، ليكتب للوطن وللأجيال قصة شاعر حفت حياته بألوان قوس قزح السبع، عصامه وصدقه دفع لأجلهما الكثير ليحافظ على صفاء كلماته ونقاء جوهره و أصالة معدنه، أحب وطنه فرأى كل ما فيه جميل رغم الوجع والترحال بين نكباته وأحلامه اللا منتهية ، فامتزج بقلبه عشق الوطن والحرية ، لم تقتصر كتاباته للوطن بل للجار والصديق القريب والبعيد، ليكون كما يحب أن يكون.
إنه شاعر المطرقة والعجان، شاعر التجوال والترحال، ابن (الباب) الشامية الحلبية، الشاعر السوري الأصل العربي القومي النسب مصطفى الحاج حسين
فكان لنا معه شرف اللقاء والحوار رغم الحدود والأسلاك.
نص الحوار:
** - حدثنا عن نفسك؟.
أنا مصطفى الحاج حسين، من مدينة الباب التابعة لمحافظة حلب، عشت طفولتي في البلدة، وفي بداية سن المراهقة ، انتقلت عائلتنا إلى حلب. حرمت من متابعة الدراسة قبل أن أكمل المرحلة الإبتدائية، وعملت مع والدي في مهنة البناء الشاقة لسنوات عديدة ، وتعلّمت منه صنعة العمارة.. لم أكن أحب هذه المهنة بسبب صعوبتها، لكنني كنت أحترم المهنة وأدرك قيمتها
ولم أستطع التحرر منها إلّا بعد أن سرّحت من خدمة العلم، لأنّ والدي كان يفرض عليّ العمل معه، وحين كنت أتركه ، كان غضبه يطال العائلة بأكملها
توظّفت في المؤسسة العامة للمخابز، كأمين مستودع إنتاج في مخبز آلي، ولأنّ المدير يعرفني ويعرف أنّي أكتب الشعر ، كلّفني بذلك.. لأنّي لا يحق لي هذا المنصب قانونياً، بسبب عدم استحواذي على شهادة علمية. ثلاث سنوات وأنا في هذا المخبز، المدير كان شريفاً لا يسرق، لكنه غير مدعوم فهو دون سند لدى القيادات.. ولهذا كان المدير يخاف على نفسه ويخشى على منصبه، وهذا ما كان يجعله يخضع لكلّ صاحب حظوة، ويوظّف لأيّ مسؤول كلّ من يريد، وهكذا تحوّل المخبز إلى مزرعة من المدعومين والمسنودين أصحاب الواسطات.. وانعكس هذا عليّ في المتابعة، وسبّب لي المشاكل والتعب لأنّي كنت أحارب كلّ من يقصّر بعمله، أو يحاول السرقة
.. وأخيراً طلبت نقلي إلى مخبز آخر وهناك كان المدير مدعوماً للغاية، لذلك كان يسرق بطريقة شبه علنية.. وكان المطلوب مني غضّ النظر، ولقد عرضوا عليّ أضعاف ما أتقاضاه من راتب شهري..أردت أن أنجو بنفسي ولا أتلوّث
وأسيء لسمعتي.. قلت للمدير لا أستطيع أن أكون حرامي وشاعر في وقت واحد. عملتُ في مهنٍ عديدة.. من البناء، إلى الوظيفة، إلى تصليح الغسالات وأفران الغاز، إلى بائع الدهانات، إلى صاحب كشك، إلى التطريز الإلكتروني.. لدرجة أن كتبوا عني في الصحافة (مسبّع الكارات)، وكنت في كل هذه المهن والأعمال أحصد الخيبة والفشل.. نعم فشلت، وسُرقت، وتدمّرت مراراً، وخسرت، وسجنت، وهذا لأني أجد نفسي لا أصلح إلّا للكتابة.. ولكنّ الكتابة حتى الآن لا تطعم خبزاً، على الأقل بالنسبة لي.. فما زلت أدفع من جيبي، دون أيّ مقابل، رغم أنني أعمل دون ملل أو كلل، أو حتى عطلة أو استراحة.. وهذا ما يجعل معظم من هم حولي يأسّفون على عمري ووقتي، ويعتبرون الكتابة مضيعة للوقت لا أكثر، فأيّ عمل مهما كان عظيماً، يكون دون مقابل مادي يعتبر في مجتمعنا لا قيمة له، ولا يستحق التقدير والاحترام.. فقيمة الشخص عندنا بما يربح ويملك حتى لو كان عن طرقٍ غير شريفة وشرعية.
** - كيف كانت البداية؟.
وأنا في الصف الرابع حدث وكان أستاذنا مريضاً، فأخذونا أنا وزملائي لنحضر في الصف الآخر، الصف الخامس، وكان الأستاذ يعطي طلابه درساً عن رحلة السندباد البحري، وأنشددتُ بقوة لقصة السندباد، أعجبتُ ، بل سحرتُ، وبهرتُ، تعلقتُ به.. فاستعرت الكتاب.. وحفظت القصة بكاملها، لم نكن نعرف في تلك الأيام أفلام الكرتون الخيالية، بل لم نكن نعرف شيئاً عن التلفاز.. ومن هنا بدأ الاهتمام، صرت أقرأ السيرة النبوية، ثم قصة الزير سالم، وتغريبة بني هلال.. تركت المدرسة وأنا في قمة عشقي للقراءة والمطالعة.. ولكن بشكل غير موجّه، فلا وجود لمن يوجّهني ويأخذ بيدي. كنت محباً للقراءة دون أن أتخيل نفسي أجرؤ على التفكير بكتابة الشعر. وحدث وكان ابن عمتي رحمه الله، يكتب الشعر وهو طالب جامعي وأكبر مني بخمس سنوات، وهو من دلني على قراءة الأدب الحديث حين تنبه لحبي للمطالعة سابقاً، دلني على نزار قباني ونجيب محفوظ.. واليوم أراد أن يسمعني بعض كتاباته الشعرية
وحين بدأ يقرأ عليّ قصائده، خطر لي فجأة، لماذا أنا لا أكتب الشعر؟ وشردت عنه، صرت أتمنى أن يتوقف عن القراءة لأذهب إلى المنزل وأجرّب كتابة الشعر بنفسي.. وحين توقفت عن القراءة قفزت من مكاني لأهرع لبيتنا وأجرب الكتابة، وحين دخلت المنزل أحضرت على الفور وبحماس شديد دفتراً وقلماً وكتبت أولّ قصيدة لي.. كنت أكتب وقلبي يدق بداخلي بعنف وارتجاف.. ولمّا انتهيت من كتابتها هرعت وعدت لعند ابن عمتي لأسمعه ماكتبت حتى أعرف رأيه. وكم فرحت حين أعجبته القصيدة.. شجعني وطلب مني المتابعة.. وهكذا ولدت عندي أول قصيدة، ولقد أسمعتها لعمي أستاذ المدرسة وأخي الأكبر، فلاقيت منهم كل التشجيع والاستحسان.
** - كيف استطعت أن تمزج مابين تخصصك وكتاباتك الأدبية؟.
في البداية كان هناك تنافر بين عملي وموهبتي الأدبية، حيث أعمل في الحجر والإسمنت والعرق والغبار والسّلالم والأدراج والسّقالات، عمل متعب وخطر، وثياب متّسخة وهذا ماكنت أكرهه وأخجل منه أمام الناس والجيران والأقارب.. حيث كنت أعيش حالة تكاد تكون فصامية، ففي النهار أكون عامل بناء أعايش العمال الجهلة ، وفي المساء أرتدي الثياب النظيفة والجديدة، بعد أن أستحم ثم أتوجه إلى إتحاد الكتاب العرب، أو المركز الثقافي، أو المكتبة الوطنية، أو المقهى حيث يتواجد الكتاب والمثقفون. وكنت وأنا في عملي المرهق، أمارس الكتابة، بل هناك كانت تتفجر عندي الكتابة ، وكم من مرّة حفرت قصائدي بالمسمار على الجدران المشيّدة حديثاً، ثم أقوم لنقلها على الورق في وقت آخر. وكنت لا أضيع من وقتي، طوال الليل أكون ساهراً أقرأ أو أكتب.. ودائماً حين ألجأ للنوم، تداهمني القصيدة فأقفز من فراشي لأكتبها. كتبت في الحدائق، وفي الباصات، والسّرفيس ، والعمل، ونوبات الحراسة في الجيش، وفي المخبز ، والكشك، والسجن.
** - ماهو تعريفك للشعر؟.
يقول شاعرنا العظيم محمود درويش: (أستطيع أن أقول لك ماهو ليس بالشعر، لكن الشعر هو أكبر مما يعرّف). هكذا أتذكر معنى قوله.. ولكنني أتجرأ وأقول الشعر هو مايتسرّب من أعماق النفس المتوهجة بشكل عفوي.
** - هل في الشعر حظ؟.
الحظ قد يخدم الموهبة، ويساعدها على النمو والإنتشار.. ولكن من كان من دون موهبة فلا الحظ ولا المعجزات ممكن أن تفيده.
** - هل للمدارس دور في تشجيع الموهبة والإبداع؟.
للوهلة الأولى نعم.. ممكن للمدرسة والجامعة أن تساعد على نمو وتطوير الموهبة ، وتدفع للإبداع والعطاء.. ولكن وللأسف الشديد وجدت معظم من درس الأدب العربي وكان قد اختار هذا الاختصاص بدافع موهبته وحبه لكتابة الأدب، وجدتهم قد انصهروا في قوالب بلاستيكية جامدة أو ميتة.. وتحوّلوا إلى الكلاسيكية والتقليدية والنمطية.
** - كيف تنظر إلى واقع الشعر العربي وما هو تقيمك له؟.
الشعر العربي كان في حالة تطور ورقي لفترة ليست بالقصيرة، وكان مشغولاً بالحداثة والإنفتاح على ثقافات عالمية هامة. لكن وللأسف الشديد بعد مجيء الربيع العربي الدامي، صرنا نجده أي الشعر العربي قد تراجع وانكمش وأصبح بحالة بائسة يرثى لها.. حيث عادت القصيدة الكلاسيكية والتقليدية تحتل الساحة الأدبية وعادت للقصيدة روح الخطابة والمباشرة والصراخ والسباب والشتائم والبكائيات في كلام منظوم لا علاقة له بالشعر ولا يمس الوجدان ومبتور الخيال.. طغت القصيدة السياسية الفجة على معظم المنابر الثقافية والجرائد والمجلات.. وخاصة المواقع الإلكترونية.. وكل هذا بسبب حدّة الألم والفجيعة التي حلت بنا.
** - إلى أي من أنواع الشعر والقصة تهوى كتابته وتدعمه؟.
أنا لا أفكر وأخطط بطريقة الكتابة، ولا أختار الشكل والاسلوب.. فلست ممن يلهث خلف الحداثة.. بل كل مايهمني أن أستطيع التعبير عمّا أحسّه وأعيشه بطريقة بسيطة تصل وتؤثر وتقنع الآخرين.. ولكن يجب أن تكون كتاباتي لا تشبه كتابات أحد، والصدق في الحالة ينقذني من تكرار تجارب الآخرين كل ماعليّ أن أسمع صوت أعماقي لأقرأ ذاتي بدقة ووضوح، وعليّ أن أسجل هذا بأمانة وصدق. مايهمني.. أن تكون قصيدتي متحررة من أيّ قيود خارجية أو صياغات جاهزة. وكذلك بالنسبة للقصة، فقد أختار أبسط الأشكال والطرق في التعبير.. المهم قوة التصوير والوضوح وعدم السقوط في الرتابة والملل، لأني أراهن على صداقة المتلقي ليبقى معي ولا يشرد أو يتخلّى عني منذ السطر الأول من القصة .. فيجب أن لا يصاب القارئ بالضجر والملل ويداهمه النعاس، بل عليّ أن أوقظ جميع حواسه ليشاركني في كتابة القصة حتى نهايتها.
** - لمن تحب أن تقرأ؟.
أقرأ لأي كان إن إستطاع أن يشدني ويجعلني أكمل وأتابع.. فأنا منذ الجملة الأولى أستطيع أن أحدد وأدرك المستوى الفني لهذا العمل في الشعر والقصة والرواية فأنا أقتنع بمقولة (المكتوب واضح من عنوانه) لذلك أحياناً أقرأ من العمل جملة أو بضعة أسطر وأترك ولا أكمل.. وهناك نصوص تسحرني فأغوص فيها ولا أتمنى لها أن تنتهي، أعتمد على الذائقة والمتعة في القراءة.
**- ماهي أبرز منعطفاتك خلال مشوارك الأدبي؟.
مررت بمراحل عديدة وكثيرة، ولكنني لا أسميها منعطفات، كنت بفعل التجربة والسن والنضج الثقافي أشعر بين الحين والحين بأن قصيدتي قد تطورت، لذلك كنت أهرع لأمزق وأحرق ماكتبته سابقاً، مزقت وأحرقت الكثير، وأنا اليوم نادم لأني فعلت هذا. المنعطف الحقيقي عودتي لكتابة الشعر بعد توقف وانقطاع مدة عشرين سنة، تحولت لكتابة القصة تقريبا في عام 1990م، ونجحت في القصة وانعرفت ووجدت تشجيعاً أكثر من الشعر، بل ونلت الجوائز المتتالية على صعيد المحلي والقطري ثم العربي، وبرغم هذا وأنا في قمة النشاط والنجاح وحين فتحت أمامي كل الأبواب، توقفت فجأة عن كتابة القصة كما توقفت عن كتابة الشعر سابقاً. انقطعت عن الكتابة والمتابعة والحضور والنشر ةالاهتمام، بل ومعاشرة الكتاب، مدة تزيد عن عشرين سنة، تفرغت لعملي في التطريز الإلكتروني، ونسيت كل مايربطني بالأدب والأدباء.. ولهذا أجدني اليوم مقصراً، وبيني وبين الأدباء ومانشروه في السنوات الأخيرة فجوة وانقطاع وعليّ أن أتداركه وبسرعة. بعد أن هجرت بلدي أنا وعائلتي ولجأنا إلى تركيا، وبعد أكثر من سنة من الإقامة في إسطنبول، وجدتني وبلا تفكير أو تخطيط أعود إلى كتابة الشعر. كنت في البداية متخوف ومرتبك، ولم أكن أعرف قيمة ماأكتبه، هل هذا شعر؟.. هل أكتب بمستوى جيد؟.. وهل أكتب أجمل مما كتبت سابقاً؟.. ولكي أطمئن وأسترجع الثقة بنفسي، أرسلت عبر الفيس ماأكتبه لأصدقائي القدامى لأسألهم عن رأيهم.. مع العلم صارت تنهال عليّ الإعجابات والتعليقات المشجعة من جمهور الفيس، ولكني تخوفت من المجاملة، خاصة وإني جديد على هذه العوالم.. وكان من أصدقائي القدامى من تجاهل الإجابة على سؤالي، ومنهم من اكتفى بإعذائي لايك إعجاب، ومنهم من قال أنا لا أحب هذا النوع من الشعر، ومنهم من قال أكتب وتوكل على الله، وهناك من طالبني بالعودة لكتابة القصة، وهناك من قال أنت تقع في الاسترسال، والأهم هناك من تضايق وانزعج وقاطعني لأني أكتب بغزارة، فهو كل عدة أشهر ينجز قصيدة ذهنية، فكيف لي أن أكتب في اليوم الواحد قصيدة أو أكثر.. وبدأت تطالني الاتهامات والتجريحات والتهجمات والانتقادات ومغادها كلها أنني ضيف في النحو والإملاء.. مع أن كتاباتي تنشر على الفيس وقد تكون نصوصي أقل النصوص تشكو من هذه العيوب. كنت بحاجة ماسة لمن يشجعني ويقول لي كلمة جميلة، ويشدّ من أزري، فأنا في قمة حيرتي.. هل أتابع وأكتب أم أعود لمملكة الصمت؟.. وفي هذه الظروف وفجأة منّ الله عليّ بصداقة كاتبة رائعة شجعتني جداً ووقفت إلى جانبي وكتبت لي مقدمتان لديواني الأول (قبل أن يستفيق الضوء) والديوان الثاني (راية الندى) وهي الأديبة الكبيرة والناقدة المتميزة والمتعددة المواهب الأستاذة (نجاح إبراهيم)، فإليها أدين بالشكر الكبير، فلولاها كان ممكن لي أن لا أتابع. ثم وجدت من الأستاذ الأديب الناقد (محمد يوسف كرزون) أيضاً الاحتضان والتشجيع ومساعدتي بالنشر وطباعة الكتب .حيث كتب لي مقدمة لمجموعتي القصصية التي أعدت طباعتها (قهقهات الشيطان)، ثم مقدمته لديواني الرابع (أصابع الركام) وفي هذه المقدمة أطلق عليّ اللقب الذي أرعبني وأربكني (العقاد الجديد) ومازلت حتى الآن إتحسّب وأتخوف وأتحرّج ، من هذا الشرف العظيم الذي أغدقه عليّ، ولا أدري هل فعلاً أستحق هذه التسمية؟!. وهناك أيضاً ناقدة مغربية عظيمة بعثها الله لتقف إلى جانبي وتساندني بأروعة مقدمة لديواني الثالث (تلابيب الرّجاء)، وهذة الأديبة الناقدة المتميزة والتي لها مكانة سامقة في النقد الأدبي هي (مجيدة السباعي) ولها مني كل الشكر والتقدير.
** - كيف تنظر لمدى تفاعل الجمهور الأدبي في الوطن العربي والسوري؟.
- الجمهور دائماً في حالة تفاعل رائع، وهو يبحث عن الأصالة والجديد والصدق، ولا أحد يستطيع خداعه أو الكذب عليه، الخوف ليس من الجمهور
فالجمهور يقدر ويحترم ويشجع ولا ينسى أو يتنكر للمبدعين. ولكن الخوف من المؤسسات والمنابر الثقافية التي تبحث عن النفاق وتتآمر على الإبداع، بمساعدة رموز ثقافية باعت نفسها للشيطان، وتتحرك بدافع المصلحة والغيرة والحسد وضيق العين وعقد النقص، متخذة من سيف السلطان السلاح والحجج والذريعة.. ففي الوقت الذي نلت جائزة على مستوى الوطن العربي، وكان عدد المشاركين من الوطن العربي بالآلاف، وكان معظمهم بل جميعهم يحمل من الشهادات العليا والدكتوراه، وأنا أقل واحد فيهم مستوى في التعليم والدراسة، وبدل التهنئة والاحتفال كتبت بحقي عشرات التقارير، وأغلبها من الزملاء والأصدقاء
ولو كان الأمر بيدهم لكانوا نفذوا بي حكم الإعدام بدون أدنى شفقة، فقد حاربوني بشراسة ووقاحة لا تصدق، لدرجة أنهم قاطعوا أيّ مهرجان أو أمسية أدبية أو كتاب نقدي سيذكر اسمي ويتحدث عني، كنت حديث المقاهي، هناك من كان ينفعل ويكفر ويشتم ويقول عني لا يحمل الإبتدائية
وذهبوا لمن كتب عن مجموعتي (قهقهات الشيطان) عاتبوه لأنه يذكر اسم (تشيخوف) في سياق حديثه عن قصصي، سببوا لعائلتي الذعر والخوف والقلق، وكانوا والدي وأمي وأخوتي وأخواتي وزوجتي يرتعبون كلما سمعوا صوت سيارة في الليل تقف بالقرب من بيتنا، يظنون أن رجال المخابرات قد أتوا ليأخذوني. أنا أكثر إنسان في الدنيا خاب ظنه من أصدقائه، أكثر من خدع، من غدر، من تعرض للخيانة والتآمر والمكائد.. فجأة تحولت لعدو لكثر من الأصدقاء والزملاء.. حتى ممن نال الجائزة معي أو قبلي بسنوات، ذلك لأنهم نالوها مناصفة، في حين كانت كاملة لي.. ولهذا أحجموا عن الكتابة عن مجموعتي يوم أصدرتها بالتعاون مع إتحاد الكتاب العرب، حتى من كان معجبا بها، فقد أصابهم الخرس وأطبق عليهم الصمت، بل التحرك السلبي ضدي.. فهذا هو التفاعل المخزي والمبكي والمقزز ياصديقي، لذلك كرهت الأدب والأدباء وابتعدت عن الجميع وهجرت الكتابة.
** - ما تأثير واقع المحتل عليه؟.
لم يغب المحتل يوماً عن الأدب العربي والسوري، وأقصد هنا الأدب الجاد والملتزم، سواء بشكله المباشر أو اللامباشر وهو في اعتقادي الأهم. الأدب الحقيقي دائماً مع الحياة، وهو في معركة مستمرة ومتواصلة مع أعداء الحرية والحياة.. فحين يتصدى عمل أدبي للخائن والمخادع والظالم والفاسد والمنافق، يكون يتصدى للمحتل وبشكل قوي.. لأنّ هؤلاء سبب وجود المحتل واستمراريته، وهم العائق القوي والحقيقي أمام التصدي للمحتل ومخططاته.. أمّا الكتابة المباشرة والتقليدية التي تضج بالمفرقعات واللغة الخطابية والمباشرة فأثرها آني وزائل ولا يحمل بذور التغيير والتجديد.
** - هل للقصيدة السورية من سمات تميزها عن غيرها؟.
- القصيدة السورية دائماً هي الرائدة والسّباقة في الشكل والمضمون، منذ نزار قباني، إلى أدونيس، ومحمد الماغوط، وصولاً إلى رياض صالح الحسين، وهناك أسماء كثيرة تستحق الوقوف والتقدير والدراسة، منهم على سبيل المثال لا الحصر عبد السلام حلوم، ومحمد زكريا حيدر، ولقمان ديركي، وإبراهيم كسار، ومحمد علي الشريف، وحسين بن حمزة، وفواز حجو، ونجاح إبراهيم، وعمر قدور، وندى الدانا، ومحمد فؤاد محمد فؤاد، وعبد القادر أبو رحمة، وغالية خوجة، ولميس الزين، وميادة لبابيدي، وحنان مراد.. وهناك أسماء كثيرة جادة وناضجة