(1)
فى عام 2012 كنت قد استضفت الروائي الكبير إبراهيم أصلان - فى ظهور خاص - مع الأستاذ شعبان يوسف والأستاذة شيرين أبو النجا فى حلقة تليفزيونية فى قناة (صدي البلد) مع الأستاذ حمدي رزق.
وقتها اعددت الحلقة - بمساعدة شعبان يوسف - وجاءت السيارة الأولى تعلن عن وصول إبراهيم أصلان - اليوم ذكري رحيله - خارج الاستوديو.. خرجت بسرعة واستقبلته على باب المحطة.
(2)
الجو شديد البرودة وهو يرتدي معطفاً ثقيلاً وعلى وجهه ابتسامة مصرية، طفولية، حانية، وبريئة..
- " أهلا يا أستاذ"!
- "ازيك يا خيري..عارف؟! لولا شعبان يوسف مكنتش جيت فى البرد الشديد ده...
يله هات لنا شاي بسرعة"!
(3)
دخلنا معاً حجرة الضيوف ونسيت البرنامج والمذيع والزملاء والدنيا وما فيها وجلست أتحدث معه من الثقافة إلى السياسة والحياة إلى أن سألته عن (وصية) - كنت قد قرأتها فى كتابه (خلوة الغلبان) - سيرة ذاتية - كان قد أوصاه بها الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتى..فرد قائلاَ:
- "آه..قصدك اللى فيه فصل كان عنوانه.. عشاء أخير مع البياتي"
- قلت: نعم.
نظر لى وشد المعطف على جسده النحيف ثم دخل مصطفي عامل البوفيه - من أسوان أصلاَ - وعلى وجه ابتسامة جميلة وهو يرحب به بعدما قلت له - أي لمصطفي - أن الأستاذ إبراهيم أصلان مؤلف فيلم الكات كات.
رد مصطفي:" بتاع الشيخ حسنى..والله يا أستاذ (جصلان) بموت فى الفيلم ده "
ثم قال وهو يضحك بشدة:" تحب أجيب لك حتة من اللى كان بيحبها الشخ حسنى"؟! فضحكنا جميعاَ قبل أن يغادر مصطفي الحجرة وترك أمامنا الشاي الساخن يتصاعد منه بخاره فى دوائر حلزونية ظلت تطارد برد الحجرة لفترة ليست قليلة.
( 4)
وقبل أن يحدثني إبراهيم أصلان عن تلك (الوصية) قال:" قولى بقي عايز تعرف إيه؟
قلت:" أريد أن أعرف ما هى الأسباب التى (كسرت قلبك) رغم وصية البياتي فى ذلك الزمان؟
وعندما بدأ يستعد للرد والكلام دخل علينا شعبان يوسف بعدما وصل هو الآخر قبل قليل وارتمي بالأحضان مع أصلان ثم قال:" الحقني بالشاي يا أبو الأخيار" ثم انخرطا معاً - وأنا أستمع - فى حديث ساخن عن الأحداث الجارية فى شوارع المحروسة بعد اكتساح تيار الإسلام السياسي للانتخابات البرلمانية فى ذلك الوقت.
( 5)
بعد دقائق رن هاتف شعبان يوسف فخرج للرد عليه...وهنا قررت أن استغل الفرصة وأعاود السؤال على أصلان: يا أستاذ " ما الذى كسر قلبك فى مرحلة السبعينيات" وقبل أن يجيب دخل علينا مصطفي - عامل البوفية - مرة جديدة قائلاَ:" يا أستاذ..جبت لك بقي فنجان قهوة مظبوظ من اللى كان بيحبها الشيخ حسنى...يا سلام على ده حتة فيلم"!
قالها وهو مازال يواصل الضحك! زجرت مصطفي هذه المرة وقلت له :" اتفضل يا درش خلاص...متشكرين" فخرج ضاحكاَ أيضاَ وأغلق الباب خلفه...
( 6)
وبعد لحظات قال إبراهيم أصلان:" عندما تفاقمت الحالة العامة مطلع السبعينيات قال لى البياتي" على الواحد أن يعيش ويراقب ما شاء شرط أن يحرص على بقاء مسافة بينه وبين الواقع، مسافة يأمن معها أن لا ينكسر قلبه"!
قلت ولكنك ذكرت فى الكتاب:" أنا لا أنسي هذه الوصية لأنها شأن الوصايا التى لا تنسي، وقيلت فى وقتها ولم يقلل من قيمتها أن القلب انكسر فعلا"...!
وهذا معناه - رغم الوصية - أن هناك ما حدث فتسبب فى ( كسر ) قلبك؟!
- رد وهو يضحك:" أنت فاكر الجملة كاملة بقي"!
قلت: نعم.. وأريد أن أعرف لماذا - فى ذلك الوقت - انكسر قلبك؟
ابتسم وبدأ يستعد للرد بعدما تحمس للكلام.. لكن لسوء الحظ كانت قد دخلت علينا الحجرة هذه المرة شيرين أبو النجا - الضيف الثالث فى الحلقة - مرحبة بالأستاذ أصلان مع وابل من السلامات والضحكات والتهانى بالعام الجديد مما جعله يتوقف عن ذكر الأسباب مرة أخري!
(7)
وبعد دقائق أخري عاد شعبان يوسف بعدما انتهى من المحادثة الهاتفية ثم جاء بعده مساعد المخرج يطلب من الضيوف - وأنا بصحبتهم - التوجه للأستوديو فوراَ قائلاً:" بسرعة يا أساتذة مفيش وقت..
أصل خيري ممكن يقعد معاكم للصبح يتكلم ويضيع علينا الحلقة..واحنا على الهواء بعد قليل" !
(
وبعد انتهاء الحلقة انتظرت إبراهيم أصلان أمام البلاتوه ومشيت معه حتى السيارة التى كانت تنتظره بالخارج محاولاً أن أنجح - هذه المرة - فى معرفة سبب (كسرة قلبه) فى السبعينيات لكن الوقت كان قد تأخر بنا، والسائق فى عجلة من أمره، والبرد خارج المبني كان قارساَ فركب أصلان السيارة ليحتمي من البرد فيما كان مصطفي عامل البوفيه - رأيته من وراء زجاج المبني - قادماَ بسرعة وفى يده كوب شاي دافئ يحمله قبل أن تتحرك السيارة وهو يقول:" والنبي.. يا أستاذ إبراهيم خد كوباية الشاي دي اشربها علشان البرد محبة فى الشيخ حسنى"!
وبعد لحظات غادرت السيارة مسرعة حتى غابت وراء بنايات مدينة الإنتاج الإعلامي فيما وقفت أنا حزيناَ لأنى لم أستطع أن أعرف منه لماذا انكسر قلبه من مرحلة السبعينيات رغم وصية - ونصيحة - عبد الوهاب البياتي بحفظ مسافة بينه وبين الواقع"
وقلت لنفسي عما قريب سوف أذهب إليه فى بيته فوق جبل المقطم وأعرف منه السبب ..لكن بعد أسابيع - وربما بعد أيام - مات إبراهيم أصلان.
خيري حسن
------------
المصادر:
كتاب : خلوة الغلبان -
أدب السيرة الذاتية - طبعة - 2004
-----------
الصور :
البياتي
أصلان
شعبان يوسف
شيرين أبو النجا
خيري حسن
فى عام 2012 كنت قد استضفت الروائي الكبير إبراهيم أصلان - فى ظهور خاص - مع الأستاذ شعبان يوسف والأستاذة شيرين أبو النجا فى حلقة تليفزيونية فى قناة (صدي البلد) مع الأستاذ حمدي رزق.
وقتها اعددت الحلقة - بمساعدة شعبان يوسف - وجاءت السيارة الأولى تعلن عن وصول إبراهيم أصلان - اليوم ذكري رحيله - خارج الاستوديو.. خرجت بسرعة واستقبلته على باب المحطة.
(2)
الجو شديد البرودة وهو يرتدي معطفاً ثقيلاً وعلى وجهه ابتسامة مصرية، طفولية، حانية، وبريئة..
- " أهلا يا أستاذ"!
- "ازيك يا خيري..عارف؟! لولا شعبان يوسف مكنتش جيت فى البرد الشديد ده...
يله هات لنا شاي بسرعة"!
(3)
دخلنا معاً حجرة الضيوف ونسيت البرنامج والمذيع والزملاء والدنيا وما فيها وجلست أتحدث معه من الثقافة إلى السياسة والحياة إلى أن سألته عن (وصية) - كنت قد قرأتها فى كتابه (خلوة الغلبان) - سيرة ذاتية - كان قد أوصاه بها الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتى..فرد قائلاَ:
- "آه..قصدك اللى فيه فصل كان عنوانه.. عشاء أخير مع البياتي"
- قلت: نعم.
نظر لى وشد المعطف على جسده النحيف ثم دخل مصطفي عامل البوفيه - من أسوان أصلاَ - وعلى وجه ابتسامة جميلة وهو يرحب به بعدما قلت له - أي لمصطفي - أن الأستاذ إبراهيم أصلان مؤلف فيلم الكات كات.
رد مصطفي:" بتاع الشيخ حسنى..والله يا أستاذ (جصلان) بموت فى الفيلم ده "
ثم قال وهو يضحك بشدة:" تحب أجيب لك حتة من اللى كان بيحبها الشخ حسنى"؟! فضحكنا جميعاَ قبل أن يغادر مصطفي الحجرة وترك أمامنا الشاي الساخن يتصاعد منه بخاره فى دوائر حلزونية ظلت تطارد برد الحجرة لفترة ليست قليلة.
( 4)
وقبل أن يحدثني إبراهيم أصلان عن تلك (الوصية) قال:" قولى بقي عايز تعرف إيه؟
قلت:" أريد أن أعرف ما هى الأسباب التى (كسرت قلبك) رغم وصية البياتي فى ذلك الزمان؟
وعندما بدأ يستعد للرد والكلام دخل علينا شعبان يوسف بعدما وصل هو الآخر قبل قليل وارتمي بالأحضان مع أصلان ثم قال:" الحقني بالشاي يا أبو الأخيار" ثم انخرطا معاً - وأنا أستمع - فى حديث ساخن عن الأحداث الجارية فى شوارع المحروسة بعد اكتساح تيار الإسلام السياسي للانتخابات البرلمانية فى ذلك الوقت.
( 5)
بعد دقائق رن هاتف شعبان يوسف فخرج للرد عليه...وهنا قررت أن استغل الفرصة وأعاود السؤال على أصلان: يا أستاذ " ما الذى كسر قلبك فى مرحلة السبعينيات" وقبل أن يجيب دخل علينا مصطفي - عامل البوفية - مرة جديدة قائلاَ:" يا أستاذ..جبت لك بقي فنجان قهوة مظبوظ من اللى كان بيحبها الشيخ حسنى...يا سلام على ده حتة فيلم"!
قالها وهو مازال يواصل الضحك! زجرت مصطفي هذه المرة وقلت له :" اتفضل يا درش خلاص...متشكرين" فخرج ضاحكاَ أيضاَ وأغلق الباب خلفه...
( 6)
وبعد لحظات قال إبراهيم أصلان:" عندما تفاقمت الحالة العامة مطلع السبعينيات قال لى البياتي" على الواحد أن يعيش ويراقب ما شاء شرط أن يحرص على بقاء مسافة بينه وبين الواقع، مسافة يأمن معها أن لا ينكسر قلبه"!
قلت ولكنك ذكرت فى الكتاب:" أنا لا أنسي هذه الوصية لأنها شأن الوصايا التى لا تنسي، وقيلت فى وقتها ولم يقلل من قيمتها أن القلب انكسر فعلا"...!
وهذا معناه - رغم الوصية - أن هناك ما حدث فتسبب فى ( كسر ) قلبك؟!
- رد وهو يضحك:" أنت فاكر الجملة كاملة بقي"!
قلت: نعم.. وأريد أن أعرف لماذا - فى ذلك الوقت - انكسر قلبك؟
ابتسم وبدأ يستعد للرد بعدما تحمس للكلام.. لكن لسوء الحظ كانت قد دخلت علينا الحجرة هذه المرة شيرين أبو النجا - الضيف الثالث فى الحلقة - مرحبة بالأستاذ أصلان مع وابل من السلامات والضحكات والتهانى بالعام الجديد مما جعله يتوقف عن ذكر الأسباب مرة أخري!
(7)
وبعد دقائق أخري عاد شعبان يوسف بعدما انتهى من المحادثة الهاتفية ثم جاء بعده مساعد المخرج يطلب من الضيوف - وأنا بصحبتهم - التوجه للأستوديو فوراَ قائلاً:" بسرعة يا أساتذة مفيش وقت..
أصل خيري ممكن يقعد معاكم للصبح يتكلم ويضيع علينا الحلقة..واحنا على الهواء بعد قليل" !
(
وبعد انتهاء الحلقة انتظرت إبراهيم أصلان أمام البلاتوه ومشيت معه حتى السيارة التى كانت تنتظره بالخارج محاولاً أن أنجح - هذه المرة - فى معرفة سبب (كسرة قلبه) فى السبعينيات لكن الوقت كان قد تأخر بنا، والسائق فى عجلة من أمره، والبرد خارج المبني كان قارساَ فركب أصلان السيارة ليحتمي من البرد فيما كان مصطفي عامل البوفيه - رأيته من وراء زجاج المبني - قادماَ بسرعة وفى يده كوب شاي دافئ يحمله قبل أن تتحرك السيارة وهو يقول:" والنبي.. يا أستاذ إبراهيم خد كوباية الشاي دي اشربها علشان البرد محبة فى الشيخ حسنى"!
وبعد لحظات غادرت السيارة مسرعة حتى غابت وراء بنايات مدينة الإنتاج الإعلامي فيما وقفت أنا حزيناَ لأنى لم أستطع أن أعرف منه لماذا انكسر قلبه من مرحلة السبعينيات رغم وصية - ونصيحة - عبد الوهاب البياتي بحفظ مسافة بينه وبين الواقع"
وقلت لنفسي عما قريب سوف أذهب إليه فى بيته فوق جبل المقطم وأعرف منه السبب ..لكن بعد أسابيع - وربما بعد أيام - مات إبراهيم أصلان.
خيري حسن
------------
المصادر:
كتاب : خلوة الغلبان -
أدب السيرة الذاتية - طبعة - 2004
-----------
الصور :
البياتي
أصلان
شعبان يوسف
شيرين أبو النجا
خيري حسن