يبدو لنا الأدب في النصف الثاني من القرن العشرين أرضًا طرقت عشرات المرات. وأن من الصعب أن يتمكن أحد من العثور علي إحدي الروائع المجهولة فيها، فضلاً عن أن تكون هذه الرائعة مكتوبة بلغة من تلك اللغات الموضوعة تحت الملاحقة الدائمة. ومع ذلك.. إذا بي أكتشف منذ عشر سنوات مضت وأنا أقلب البصر في أغلفة الكتب المهترئة في خرائب الكتب في تشيرنج كروسرود في لندن هذا الكتاب "صيف في بادن". لا يخامرني أدني شك أن هذه الرواية هي واحدة من أثمن منجزات القرن وأكثرها أصالة. عمل أدبي كامل بالمعني الواسع لهذا التعريف.
ليس من العسير أن نقرر لماذا ظل هذا الكتاب مجهولا في الواقع. أولا وقبل كل شيء، لأن مؤلف هذا الكتاب ليس أديبًا، فليونيد تسيبكين هو طبيب وباحث شهير، نشر ما يقرب من مائة بحث علمي في الاتحاد السوڤييتي وخارجه. لندع الآن جانبًا أي مقارنة بالأطباء الأدباء: تشيخوف وبولجاكوف، فتسيبكين لم ير صفحة واحدة مطبوعة من هذه الرواية.
كانت الرقابة ومصاعب أخري وراء ذلك، وهذا مجرد جزء من التاريخ، لم يذهب نثر تسيبكين إطلاقًا للنشر الرسمي، بل إنه لم يذهب حتي إلي "الساميزدات"(1) ولأسباب مختلفة – الكبرياء، الإحساس المزمن باليأس، الخوف من أن ترفضه دور النشر الأدبية غير الرسمية، وهكذا ظل تسيبكين خارج الجماعات الأدبية المستقلة والدوائر الأدبية السرية التي ازدهرت في موسكو في الستينيات والسبعينيات. في هذه السنوات كان تسيبكين يكتب "ويضع في الدرج"، كان يكتب لنفسه، من أجل الأدب. والحقيقة أن رواية "صيف في بادن" قد نجت بأعجوبة.
ولد ليونيد تسيبكين في مينسك عام 1926 لأسرة يهودية، لوالدين يعملان بالطب، فالأم –ڤيرا بولياك، تخصصت في أمراض السل الرئوي، بينما عمل الأب- بوريس تسيبكين جراحًا ومُجبِّرًا، وفي عام 1934، في بداية زمن الرعب الأكبر، ألقي القبض علي الأب، لأسباب ملفقة بالطبع، ولكن سرعان ما أطلق سراحه نتيجة لتدخل أحد المعارف من ذوي النفوذ، بعد أن حاول الأب الانتحار بأن ألقي بنفسه في بئر سلم السجن ليعود إلي بيته علي نقالة وقد كُسرت فقرة من عموده الفقري، لكنها لم تتسبب في إعاقته. ليعود بعد ذلك لممارسة عمله جراحًا حتي وفاته في عام 1961 عن عمر يناهز 64 عامًا. في تلك الفترة اعتقل أخوه وأختاه أيضًا ليختفوا في معتقلات ستالين.
سقطت مدينة مينسك بعد أسبوع واحد من الهجوم الألماني عام 1941 وقد لقت أم بوريس وأخته واثنان من أبناء عمه الصغار حتفهم في الجيتو. وقد ساعده علي الهرب هو وزوجته وابنهما ليونيد البالغ آنذاك خمسة عشر عامًا رئيس أحد الكولخوزات (المزارع الجماعية) المجاورة. كان الرجل مريضًا سابقًا يتلقي لدي أبيه العلاج، ولما كان حافظًا للجميل فقد أمر بإنزال عدد من شكائر الخيار المملح من فوق ظهر إحدي الشاحنات ليضع مكانها الجراح المحترم وعائلته.
بعد عام يلتحق ليونيد تسيبكين بالمعهد الطبي لينهي دراسته فيه في عام 1947 ثم ليعود هو ووالده إلي مينسك بعد أن وضعت الحرب أوزارها. في عام 1948 يتزوج ليونيد تسيبكين من ناتاليا ميتشينيكوفا المتخصصة في علم الاقتصاد وينجبان إبنهما الوحيد ميخائيل في عام 1950، عام كامل سبق هذه الأحداث انطلقت فيه حملة ستالين التي روجت لمعاداة السامية، عندها اضطر إلي الاختفاء في إحدي القري وسط العاملين في أحد مستشفيات الأمراض النفسية. وفي عام 1957 ينجح في الانتقال هو وأسرته للعيش في موسكو، وهناك عُرض عليه العمل أخصائيًا في علم الأمراض في معهد لشلل الأطفال وفيروس التهابات المخ يتمتع بسمعة طيبة. انضم تسيبكين إلي المجموعة التي تعمل في مجال شلل الأطفال والتي كانت معنية بتجهيز لقاح سابين المضاد لفيروس شلل الأطفال علي مستوي الاتحاد السوڤيتي كله. وقد عكست سنوات عمله في المعهد تنوع اهتماماته العلمية، نذكر من بينها "استجابة الأنسجة السرطانية للعدوي الفيروسية الطائرة وأمراض القردة".
كان تسيبكين شديد الولع بالأدب وكان يكتب فيه، سواءً شعرًا أو نثرًا، لنفسه فقط. وكثيرًا ما راودته الرغبة وهو في العشرين من عمره وما بعدها فكرة ترك الطب والتفرغ لدراسة الأدب واحتراف الكتابة.
كانت الأسئلة الروسية الخالدة، من نوع كيف يمكن العيش من دون إيمان؟ من دون إله؟ تمزق تسيبكين. كان يحب تولستوي إلي درجة العبادة، ولكن بمرور الوقت تمكن حبه لدستويڤسكي من إزاحة تولستوي. وكانت السينما هي هوايته الأخري وكانت المفارقة هنا في افتنانه بمايكل أنجلو أنطونيني(2) وليس بمواطنه أندريه تاركوڤسكي(3). ومن ثم فقد عقد العزم في مطلع الستينيات علي الالتحاق بالفصول المسائية بمعهد السينما في موسكو لكي يصبح مخرجًا، ولكنه تراجع عن ذلك، كما اعترف بعد ذلك، لكي يتفرغ لتوفير حاجات أسرته.
في هذا الوقت في مطلع الستينيات بدأ في الكتابة علي نحو جاد. كتب أشعاره الأولي تحت التأثير القوي لمارينا تسڤيتايڤا(4) وبوريس باسترناك(5). وكان يعلق صورهما فوق مكتبه الصغير. وفي سبتمبر عام 1965 قرر أن يعرض بعضًا من إبداعه علي أندريه سينياڤسكي(6)، علي أنه وقبل بضعة أيام من موعد اللقاء المحدد بينهما تم اعتقال سينياڤسكي. وهكذا لم يُكتب لهذين التِربَين أن يلتقيا (كان سينياڤسكي يكبر تسيبكين بعام واحد) مما جعل تسيبكين يصبح أكثر حذرًا. يقول ميخائيل، الذي يعيش الآن في كاليفورنيا: "لم يكن أبي ميالاً للتحدث أو التفكير في السياسة. كان من المتعارف عليه في أسرتنا أن النظام السوڤيتي هو، دون جدل، الشر مُجسدًا. وبعد محاولات عدة بدأها لدفع أشعاره إلي النشر، إذا به يبتعد لعدة سنوات عن الأدب مكرسًا أوقات فراغه لإنهاء أطروحته للحصول علي درجة الدكتوراه في العلوم وعنوانها »دراسة الخصائص المورفولوچية والبيولوچية للخلايا المستنبتة لأنسجة البنكرياس» (كانت أطروحته التي حصل بها علي دكتوراه الفلسفة تتناول نمو أورام المخ عند تكرار الجراحات). انتهت المناقشة الناجحة في عام 1969 بالحصول علي علاوة مالية أضيفت إلي راتبه، وهو ما سمح له بالاستغناء عن العمل بالتشريح مساءً في مستشفي الحي. وبعد أن تجاوز الأربعين من العمر بقليل إذا به يعود إلي الكتابة من جديد ليكتب هذه المرة نثرًا بدلاً من الشعر.
وعلي مدي الثلاثين عامًا التي تبقت من عمره لم يكتب سوي عدد قليل من الأعمال الإبداعية، لكن حجم تراثه الأدبي لا يعطي أي تصور ولو قليلاً عن مدي اتساع وعمق وتركيب هذا الأدب، فبعد الدراسات القصيرة التي كتبها، ظهرت له أعمال أكثر طولاً تميز السرد فيها بتعقيد أكثر، أتبعها بقصتين من نوع السيرة الذاتية "جسر علي نهر نيروتش" و"نورارتاكير"، وأخيرًا عمله الأخير والأكبر "صيف في بادن" وهو نوع من الرواية – الحلم، النائم فيه هو تسيبكين، الذي يربط حياته بحياة دستويڤسكي في ضفيرة واحدة من خلال قوة التخيل ليسيرا معًا في تيار من الحكي المحموم الذي لا يتوقف.
لقد استولي الأدب علي تسيبكين ليبعده كليةً عن الآخرين. يقول ابنه ميخائيل: "من الإثنين إلي الجمعة في الثامنة إلا ربعاً تمامًا، دأب والدي علي الذهاب إلي عمله البعيد (بالقرب من ضاحية فنوكوڤو) في معهد شلل الأطفال. وكان يعود إلي المنزل في السادسة مساءً، وبعد أن يتناول طعام العشاء ويغفو قليلاً، يجلس إلي طاولة الكتابة، فإذا لم يكن ما يكتبه نثرًا، فإنه يكتب مقالات علمية. وفي العاشرة مساءً يذهب للنوم وأحيانًا ما يخرج للتنزه قبل ذلك. وعادةً ما كان يكتب في أيام الإجازات. عمومًا كان والدي يتحين أي فرصة للكتابة، لكن ذلك كان أمرًا بالغ الصعوبة. كان يتعذب في كتابة كل مفردة، ثم يعود فيصحح مخطوطاته بلا توقف. وبعد أن ينتهي من التصحيح يعود من جديد لكتابة النص علي آلة كاتبة ألمانية من غنائم الحرب من طراز "إريكا" تتلألأ من فرط نظافتها، أهداها له عمي في عام 1949، وعلي هذا النحو ذاته من النظافة بقت مخطوطاته التي لم يرسلها إلي هيئات التحرير، والتي لم يرغب أن يدفع لها إلي الساميزدات، خوفا من الدخول في "أحاديث" مع الكي جي بي (لجنة الأمن القومي) فيفقد بسببها عمله.
إلي أي حد يبلغ إيمان المرء بالأدب حتي يظل يكتب دون بارقة أمل في النشر؟ كان الذين يقرأون أعمال تسيبكين إبان حياته يُعدون علي الأصابع: زوجته وابنه وزوج من أصدقاء ابنه في الجامعة، ولم تكن للرجل أدني صلة بالدوائر الأدبية في موسكو.
كانت ليديا بولياك، الأخت الصغري لوالدة تسيبكين، باحثة في الأدب. وهي الشخص الأقرب في العائلة لهذا العلم.
وسوف يلتقي قراء "صيف في بادن" بها منذ الصفحة الأولي من الرواية في القطار المسافر إلي ليننجراد، وسوف يكشف لنا القاص، استنادًا إلي اهتمامه البالغ بوصف تفاصيل أحد الكتب العزيزة علي نفسه من خلال وصفه لغلاف هذا الكتاب والشريط الموشي بالرسم الذي يحفظ للقارئ الصفحة، إن هذا الكتاب القديم المهترئ تقريبًا هو طبعة من "مذكرات" أنَّا جريجوريڤنا دستويڤسكايا، زوجة دستويڤسكي الثانية "استعاره (تسيبكين) من خالته، التي تقتني مكتبة كبيرة، والذي "كان يضمر في داخله رغبة دفينة ألا يعيده إليها".
يقول ميخائيل تسيبكين أن والده جاء علي ذكر ليديا بولياك مرارًا في عدد من قصصه القصيرة بإحساس بالضيم دون أن يلقبها "بالخالة". وهو يصفها بأنها ممثلة مثقفي موسكو وصاحبة العلاقات الأدبية الواسعة. وقد عملت الخالة في معهد الأدب العالمي منذ عام 1930 وظلت به حتي بعد إعفائها من العمل في جامعة موسكو في مطلع الخمسينيات، في فترة الصراع ضد "الكوزموبوليتانية". آنذاك كان أندريه سينياڤسكي زميلها الأصغر في معهد الأدب العالمي وقد تحدثت بولياك معه تحديدًا عن لقائها بتسيبكين. ولكنها لم تبد إعجابها علي ما يبدو بإبداع ابن اختها ولم تأخذه علي مأخذ الجد، وهو ما لم يغفره تسيبكين لها.
في عام 1977 قرر الابن ميخائيل تسيبكين الهجرة ومعه زوجته يلينا. عندئذ كان علي ناتاليا ميتشنيكوڤا أن تتقدم باستقالتها من عملها خشية أن يؤثر عملها السري في هيئة الإمداد الحكومي علي سفر ابنها إلي الخارج، حيث كانت تعمل في القسم المختص بمعدات الطرق والبناء، ناهيك عن أن هذا القسم كان يورد معداته للصناعة الحربية. سمحت السلطات بالسفر لميخائيل ويلينا إلي الولايات المتحدة الأمريكية. وما أن أبلغ الكي جي بي دروزدوف مدير معهد شلل الأطفال بذلك حتي تم نقل تسيبكين علي الفور إلي درجة باحث علمي مبتدئ، علي الرغم من درجته العلمية الرفيعة وخبرة بلغت عشرين عامًا. لم يعد للأسرة الآن من مصدر للدخل سوي راتبه، الذي تم تخفيضه إلي الثلث. واظب تسيبكين علي الذهاب يوميًا إلي المعهد، علي الرغم من أنه حُرم من إمكانية العمل بالبحوث المعملية الجماعية تحديدًا. الواقع أن زملاءه جميعًا امتنعوا عن العمل معه في مجموعة واحدة خوفًا من اعتبارهم شركاء لعنصر "غير مرغوب فيه". لم يكن هناك معني للبحث عن مكان آخر، طالما أنه كان عليه أن يشير في طلبه للعمل أن لديه ابناً سافر للخارج.
في يونيو من عام 1979 تقدم تسيبكين وزوجته وأمه بأوراقهم طلبًا للرحيل. ولكن انتظارهم طال إلي عامين تقريبًا تم بعدها إبلاغهم في أبريل من عام 1981 بالرفض، وتم تفسير ذلك بأن سفرهم "لا طائل من ورائه". أود أن أُذَكِّر هنا أنه بحلول عام 1980 توقف السفر من الاتحاد السوڤيتي فعليًا: آنذاك ساءت العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية بسبب التدخل السوڤيتي في أفغانستان وتوقفت واشنطن عن إعطاء أية تسهيلات لسفر اليهود السوڤيت إليها. وفي هذا الوقت تحديدًا كتب تسيبكين الجزء الأكبر من روايته "صيف في بادن".
بدأ تسيبكين كتابة روايته عام 1977 لينهيها عام 1980. وقد سبق كتابة الرواية سنوات من الإعداد لها: العمل في المكتبات والتردد علي الأماكن وثيقة الصلة بدستويڤسكي وأبطاله. التقط الكاتب صورًا فوتوغرافية للأماكن التي وصفها دستويڤسكي في فصول العام نفسها، بل وحتي في الأيام نفسها، إذا ما كانت قد وردت في رواياته. كان تسيبكين هاويًا للتصوير منذ شبابه وقد اقتني آلة للتصوير بدءًا من الخمسينيات. وبعد أن أنهي كتابة الرواية قدم ألبوم هذه الصور إلي متحف دستويڤسكي في ليننجراد.
كان من المستحيل تصور نشر الرواية في الاتحاد السوڤيتي، ولكن الأمل ظل مرهونًا بنشرها في الخارج – هكذا كان يفعل أفضل كتاب هذا الزمن. وقد قرر تسيبكين الشروع في اتخاذ هذه الخطوة بعد أن طلب من صديقه الصحفي آزاري ميسيرير، الذي حصل في مطلع عام 1981 علي تصريح بالهجرة، أن يُهرِّب له مخطوطة الرواية وعددًا من الصور.
وقد نجح ميسيرير في توصيل الرواية عبر معارفه من الأمريكيين، زوج وزوجة من مراسلي وكالة أنباء UPI للأنباء في موسكو.
في نهاية سبتمبر من العام نفسه يعود آل تسيبكين من جديد ليتقدما بأوراقهما للسفر. علي أن والدته ڤيرا بولياك توفيت في التاسع عشر من أكتوبر عن عمر يناهز ستة وثمانين عامًا. وإذا بالقرار الخاص بالسفر يصدر خلال أقل من شهر.
في مطلع مارس من عام 1982 يتوجه تسيبكين إلي إدارة جوازات موسكو حيث قالوا له: "دكتور، غير مسموح لك بالسفر مطلقًا". وفي يوم الإثنين الخامس عشر من مارس أحاط دروزدوف تسيبكين علمًا بأنه قد تم الاستغناء عنه، وفي اليوم نفسه الذي تم فيه إعفاؤه من العمل أبلغ ميخائيل تسيبكين، الطالب بالدراسات العليا بجامعة هارفارد، أبلغ رئيسه في موسكو هاتفيًا أن روايته قد طبعت أخيرًا يوم السبت الماضي. لقد نجح آزاري ميسيرير في نشر "صيف في بادن" في "نوڤايا جازيتا" (الصحيفة الجديدة)، وهي رواية روسية أسبوعية تصدر في نيويورك. وقد ظهر أول جزء من الرواية مصحوبًا ببعض الصور في العدد الصادر في 13 مارس 1982.
وفي السبت التالي، العشرين من مارس، جلس تسيبكين إلي مكتبه يوم ذكري ميلاده السادس والخمسين ليترجم عن الإنجليزية نصًا طبيًا – ظلت الترجمة التقنية دائمًا واحدة من مصادر الدخل القليلة للمغضوب عليهم، لكنه شعر بإعياء في قلبه لجأ علي أثره إلي فراشه ونادي علي زوجته وما لبث أن لفظ أنفاسه الأخيرة، ولم يكن قد مر علي صدور كتابه سوي سبعة أيام بالتمام والكمال. وخلافًا لرواية جوزيف م.كويتسي (كوتزي)(7) الرائعة "صيف في بطرسبورج" فإن "صيف في بادن" ليست عملاً خياليًا مشبعًا بروح دستويڤسكي، وهو في الوقت نفسه عمل لا ينتمي إلي نوع "الرواية التسجيلية"، علي الرغم من أن الوصف الدقيق للواقع من ناحية الظروف الزمنية والبيوجرافية كان يمثل بالنسبة لتسيبكين شرف المهنة. ولعله، عندما تصور أن الرواية سوف تصدر في كتاب، كان يفكر في أن هذا الكتاب سوف يضم بين دفتيه صوره الفوتوغرافية التي التقطها. وهنا كان تسيبكين يستعيد الأسلوب نفسه الذي اتبعه ق.ج. زيبالد، الذي زيَّن كتبه بالصور مضيفًا عليها جوًا من الغموض والحزن قريبًا من الحقيقة.
ماذا عن رواية "صيف في بادن"؟ تقدم الرواية من البداية عرضًا مزدوجًا. هذا فصل الشتاء، نهاية ديسمبر، لا يشار إلي اليوم، الأحداث كلها تجري "الآن": القاص في طريقه إلي ليننجراد، سان بطرسبورج(8) الماضي والمستقبل. وهذا منتصف أبريل من عام 1867، الزوجان دستويڤسكي، فيودور ميخايلوڤيتش ("فيديا") وزوجته الشابة أنَّا جريجوريڤنا ("آنيا") وقد غادرا بطرسبورج في طريقهما إلي درزدن. رحلة الزوجين دستويڤسكي – أحداث الرواية تدور كلها تقريبًا في الخارج وليس في بادن فقط – وكلها مدروسة تفصيلاً. تلك الأجزاء التي ينشط فيها القاص تسيبكين نفسه، هي أجزاء بيوجرافية صرفة. وحيث إن الخيال والواقع يمكن وضعهما بسهولة كل في مواجهة الآخر، فإننا نميل إلي افتراض إلي أي من أطر النوع الروائي تنتمي الرواية وذلك بفصل المُتخيَّل (القص الفني) عن الحياة الواقعية (التسجيل والسيرة الذاتية). علي أن ذلك كله هو مجازُنا. تنطلق الرواية في القص الياباني علي لسان القاص – "شيشوسيتسو" (Narrator) وهي بالأساس قص للسيرة الذاتية يحتوي علي مقاطع مُتخيلة، وهذا هو شكل النوع السائد.
تخلق "صيف في بادن" علي الفور أكثر من "واقع". وهي تصفهم جميعًا وتصورهم بشكل أقرب ما يكون إلي هلاوس تيار المشاعر.
ترجع أصالة هذه الرواية إلي قدرتها في المقام الأول علي أن تقدم سردًا بيوجرافيًا علي لسان قاص مجهول يسافر وسط الواقع السوڤيتي الجهم ويغامر، في الوقت نفسه، بالدخول إلي تاريخ الزوجين دستويڤسكي المسافرين أيضًا، وإذا بالماضي يتدفق واضحًا علي نحو محموم عبر أطلال الثقافة المعاصرة. يقوم تسيبكين بتحويل رحلته إلي ليننجراد إلي رحلة داخل أرواح شخصيتيه "فيديا" و"آنيا" كاشفًا عن قوة التعاطف المدهش بداخله نحوهما. يتوقف تسيبكين في ليننجراد بضعة أيام. لم يكن ذلك حجه الأول إلي هذه المدينة كما هو واضح. ومما لا شك فيه أن زيارته انتهت بقيامه وحده بزيارة البيت الذي قضي فيه دستويڤسكي نحبه. أما الزوجان دستويڤسكي فيبدآن رحلتهما خاليي الوفاض من المال ليقيما في أوروبا أربعة أعوام (من المناسب أن نذكر هنا أن مؤلف "صيف في بادن" لم يُسمح له بمغادرة الاتحاد السوڤيتي).
درزدن، بادن، بازل، فرانكفورت، باريس. لقد كُتب علي الزوجين أن يعيشا في توتر مقيم بسبب وضعهما المالي الخانق المهين، والذي لم يجدا سبيلاً للخروج منه. كانا مضطرين للدخول في مساومات لا تنتهي مع هؤلاء الغرباء الأفظاظ الوقحين – البوابين، الحوذية، أصحاب البيوت، النُذُل، أصحاب الحوانيت، المرابين ثم مع المشرفين علي موائد القمار؛ فضلاً عن الأهواء الجامحة المفاجئة والانفعالات العاصفة. الولع بالقمار وما يتبعه من تأنيب للضمير، لظي الحمي ولهيب الحب، نار الغيرة وسعير الندم ورجفة الخوف.
لم يكن القمار وحده ولا الإبداع والتدين هو الذي حدد الاتجاه الرئيسي في تصوير حياة دستويڤسكي في هذه الرواية. وإنما الهوي النبيل المتقد، الذي اضطرم بين الزوجين بلا قيد أو شرط. لم يكن هذا الهوي يمتلك ضمانات لتحقيق السعادة. من الذي بإمكانه أن ينسي "إبحار" المحبين في العشق – المجاز الفريد لفعل الحب.
يتناغم حب آنيا، المرأة التي تغفر كل شيء لفيديا مع احتفاظها بكرامتها بشكل تام دائمًا مع إخلاص تسيبكين لأدب دستويڤسكي الكاتب.
لا يوجد في الرواية أي شيء مختلق. وفي الوقت نفسه فهي رواية مبتكرة في كل شيء. الأحداث مبنية حول رحلة إلي أماكن دستويڤسكي ورواياته، لكن هذه الرحلة ليست سوي ذريعة من أجل إبداع هذا الكتاب الذي نمسكه بأيدينا "صيف في بادن" رواية تنتمي إلي جنس الروايات النادرة الاستثنائية، حيث يتناول القص شخصية تاريخية، هي ممثل بارز لعصر يشتبك مع التاريخ الحاضر. يحاول الكاتب أن ينفذ بأكبر قدر من العمق إلي عالم هذه الشخصية، هذا الإنسان الذي كانت العظمة قدره، بل والخلود أيضًا. إنه مثال آخر يقابل "أرتيميزيا" في رائعة الأدب الإيطالي في القرن العشرين لأنَّا بانتي(9).
في الصفحة الأولي يغادر تسيبكين موسكو. وبعد ثلثي الكتاب يصل إلي محطة قطارات موسكو في ليننجراد. وهو يعلم أنه غير بعيد عن هذه المحطة يقع "بيت رمادي عادي من بيوت بطرسبورج"، هو البيت الذي قضي فيه دستويڤسكي السنوات الأخيرة من حياته. يتجه حاملاً حقيبته مُغذًّا السير في عتمة ليلة ثلجية ليعبر شارع نيڤسكي مارًا بأماكن تمثل معالم بارزة لأحداث وقعت في السنوات الأخيرة من حياة دستويڤسكي ثم ليصل أخيرًا حيث اعتاد التوقف دائمًا في ليننجراد في إحدي الشقق المشتركة في بيت متهدم، لينزل عند صديقة أمه التي كتب إليها رسالة لا يمكن التعبير عما جاء بها من رقة وعذوبة.... استقبلته، أطعمته، جهزت له فراشًا قديمًا متهالكًا، ثم ألقت عليه السؤال نفسه الذي ظل يسمعه منها في كل مرة: "أما زلت مغرمًا بدستويڤسكي؟" وعندما ذهبت للنوم، التقط من الرف، كيفما اتفق، مجلدًا من الأعمال الكاملة لدستويڤسكي طبعة ما قبل الثورة، تبين له أنه "مذكرة الكاتب" وعندما راح يفكر في لغز معاداة دستويڤسكي للسامية، إذا به يستغرق في النوم.
وفي الصباح الباكر راح يتحدث مع مضيفته الحنونة ويستمع إلي حكايتها عن أهوال حصار ليننجراد، وعندما راح النهار الشتوي القصير يغرق في العتمة، ذهب ليتجول في المدينة ويلتقط الصور "لبيت راسكولنيكوف" أو "بيت العجوز المرابية" أو "بيت سونيا" أو لتلك البيوت التي عاش فيها الكاتب، هنا تحديدًا، في أكثر فترات حياته غموضًا واختفاء، في السنوات الأولي بعد عودته من المنفي، فيما بعد "مقودًا بشعور ما داخلي" يصل تسيبكين إلي "المكان المطلوب بدقة متناهية" وهنا يشعر كيف "خفق قلبه من الفرح أيضًا من جراء شعور آخر غامض"، لقد اتضح أنه أمام بيت من أربعة طوابق يقع علي الناصية. هذا هو البيت الذي توفي فيه دستويڤسكي، وهو الآن متحف "يسود قاعاته هدوء مطبق كهدوء الكنائس" يدفع بالقص عن الأيام الأخيرة لدستويڤسكي، التي لا تقارن في قوتها إلا بوصف الموت في المشاهد المماثلة عند تولستوي، وذلك في ضوء الحزن الخاص لأنَّا جريجوريڤنا، الذي استمر ساعات لا نهاية لها، جالسة بجوار فراش زوجها وهو يحتضر. في هذا الكتاب لا يخلط تسيبكين بين أشكال الحب بشكل عام. بين الحب العائلي وحب الأدب، كما أنه لا يقارن هذه المشاعر بعضها ببعض، وإنما يعطي كلاً منها ما يستحقه، إذ إن كلا منها يُدخل إلي روايته لهيبه اللافح.
ما الذي بإمكانك أن تفعله إذا كنت تحب دستويڤسكي، وما الذي يمكن أن يفعله اليهودي، وهو يعلم أن دستويڤسكي لا يحب اليهود؟ كيف يمكن تفسير هذه المعاداة الحقودة للسامية التي يعبر عنها "شخص شديد الحساسية" في رواياته تجاه معاناة الناس. هذا المدافع الغيور عن المذلين والمهانين؟ وكيف نفهم أن ذلك بعينه هو السبب "في هذا الانجذاب الخاص لليهود تجاه دستويڤسكي"؟.
قائمة طويلة من اليهود المتخصصين في الدراسات الأدبية، الذين احتكروا تقريبًا دراسة إبداع تراث دستويڤسكي وضعها تسيبكين لنبدأها من صاحب الموهبة الكبري، ولعله الأبرز فيها وهو ليونيد جروسمان(10) (1888-1965)، وتعد أعماله هي المصدر الأهم في البناء البيوجرافي عند تسيبكين. كتاب آخر، إلي جانب "مذكرة دستويڤسكي"، ورد ذكره في مطلع الدراسة، ويعد ثمرة من ثمار العمل العلمي لجروسمان. كان جروسمان قد أعد الطبعة الأولي لمذكرات أنَّا جريجوريڤنا دستويڤسكايا، التي صدرت عام 1925، بعد سبع سنوات من وفاتها. يفترض تسيبكين، أن هذه المذكرات لم يرد فيها أي ذكر "لليهود علي السٌلَّم" أو لأي من التعبيرات المماثلة، ربما لأن أرملة دستويڤسكي كتبت "المذكرات" عشية الثورة، ربما حتي بعد أن تعرفت علي "ليونيد جروسمان".
من الواضح أن تسيبكين كان علي علم بهذه البحوث العامة التي كتبها جروسمان، مثل "بلزاك ودستويڤسكي"(1914) و"مكتبة دستويڤسكي والمواد غير المنشورة" (1919). من المستبعد، بطبيعة الحال، أن يكون قد مر مرور الكرام علي رواية "روليتنبورج" (1932) وهي فانتازيا علي هامش روايته عن الولع بالقمار (كما هو معروف فإن رواية "المقامر" كان اسمها في البداية روليتنبورج) الأرجح أن تسيبكين لم يقرأ كتاب جروسمان "اعترافات يهودي" (1924)، حيث تم منع هذا الكتاب بالفعل من التداول، وهو يتحدث عن حياة أحد أكثر اليهود تفردًا وبؤسًا في الوقت نفسه، من بين اليهود المعجبين بدستويڤسكي، ويدعي أركادي كوڤنر (1842-1909)، وهو من مواليد جيتو مدينة ڤيلنوس، وكان يتبادل الرسائل مع دستويڤسكي.
كان كوڤنر شابًا أرعن علم نفسه بنفسه، فتنته موهبة الكتابة عند دستويڤسكي، بعد أن قرأ "الجريمة والعقاب"، فراح يمارس السرقة من أجل أن يساعد فتاة فقيرة مريضة وقع في هواها. وفي عام 1877 حُكم عليه بالسجن لمدة أربعة أعوام. عشية نقله إلي سيبيريا، كتب كوڤنر خطابًا إلي دستويڤسكي من زنزانته في سجن بوتيرسكايا، اتهمه فيه بكراهية اليهود (وقد تبعه بخطاب آخر تحدث فيه عن موت الروح).
سوف تتناثر أمامنا هنا وهناك علي صفحات رواية "صيف في بادن" شظايا من موضوع معاداة السامية، بدءًا من لحظة وصول تسيبكين إلي ليننجراد، لكن حل هذا السؤال المضني لا ينكشف لنا حتي مع وصول الرواية إلي نهايتها: "(.........) يُخيل إليّ أنه أمر غريب وعجيب أن دستويڤسكي "لم يجد كلمة واحدة يبرر بها أو يدافع من خلالها عن سلوك هؤلاء البشر الذين جري اضطهادهم علي مدي عدة آلاف من السنين – (........)- إنه حتي لم يُسمّ اليهود شعبًا، وإنما وصفهم بالقبيلة، (.......) وأنا أنتمي إلي هذه القبيلة. أنا والعديد من معارفي وأصدقائي، الذين ناقشت معهم أدق مشكلات الأدب الروسي". لكن كل ذلك لم يمنع اليهود أن يحبوا دستويڤسكي. لماذا؟
التفسير الوحيد الذي يطرحه تسيبكين هو إجماع اليهود علي حب الأدب الروسي. هذا الاستنتاج يُذكِّرنا بظاهرة أخري شبيهة: عبادة الألمان لجوته وشيلر، وكان اليهود جزءًا كبيرًا من هذه القضية، إلي أن قررت ألمانيا القضاء عليهم. أن تحب دستويڤسكي يعني أن تحب الأدب.
"صيف في بادن" رواية تجمع، بفضل أسلوبها الفريد الموضوعات الرئيسية للأدب الروسي سوف يُقلِّب القراء صفحات هذه الرواية بحماسة بالغة، كما يفعل المرء عادة عندما يستذكر درسًا ما علي عجل. إن لغة الرواية تسمح بالانتقال بشكل مفاجئ علي نحو شجاع وجذَّاب من ضمير المتحدث إلي ضمير الغائب. من المواقف الشخصية للكاتب – ذكرياته وتأملاته ("أنا") إلي المشاهد الخاصة بدستويڤسكي ("هو"، "هما"، "هي")، وبهذه البساطة تنساب الرواية من الماضي إلي الحاضر. والحاضر في الرواية لا يتوقف قط علي رحلة حج تسيبكين إلي بطرسبورج، كما أن الماضي ليس مجرد رحلة دستويڤسكي إلي بادن أو حياته في الفترة من 1867 إلي 1881. إن حدود الزمن تظل نسبية: دستويڤسكي يخضع للذكريات التي تدفقت عليه في السنوات الأكثر بعدًا، أما القاص فيستدعي ذكريات الماضي وصولاً إلي الحاضر.
عند تسيبكين تبدأ كل فقرة بجملة طويلة للغاية، ترتبط أجزاؤها بعضها ببعض بالعديد من الأشراط أو حروف العطف (وهي الأكثر)، وأدوات أخري مثل "لكن" (أحيانًا)، "علي الرغم من"، "زد علي ذلك"، "في الوقت الذي"، "كأن"، "لأن"، "كما لو أن"، ولا تأتي النقطة إلا في ختام الفقرة. وما دامت الجملة تمتد طويلاً مفعمة بالحماس، فإن تيار الشعور يظل طاغيًا علي السرد فيما يتعلق بحياة دستويڤسكي، ويبتعد به أكثر فأكثر عندما يحكي عن حياة تسيبكين. إن الجملة التي تبدأ بالحكي عن فيديا وآنيا في درزدن، يمكن أن تُذكِّرنا بفترة وجود دستويڤسكي في المعتقل، بينما يمكن للحديث عن نوبة حمي المقامرة أن تستدعي من الذاكرة قصته الغرامية مع أبوليناريا سوسلوڤا، ثم تنتقل بنا لتشتبك مع ذكرياتها عن دراستها في معهد الطب وتأملاتها في أبيات بوشكين الشعرية.
تُذكِّرنا جُمل تسيبكين بأسلوب جوزيه ساراماجو، حيث تتصارع الجمل مع بعضها البعض، فتفجر وصف الحوار، ويُغلف الحوار الوصف العميق للأفعال، التي ترفض بإصرار أن تكون موجودة في الماضي فقط أو في الحاضر فقط. لا نهائية الجُمل عنده وقوتها الجامحة لا تُقارن في تأثيرها إلا بأسلوب توماس برنهارد. لم يقرأ تسيبكين بطبيعة الحال، لا ساراماجو ولا برنهارد. وإنما ساعده "أدب النشوة الروحية" لكتاب القرن العشرين في خلق أسلوبه.
كان تسيبكين معجبًا بأدب باسترناك المبكر، أي "صك الأمان" وليس "الدكتور چيڤاجو". كما أحب تسڤيتايڤا، ولكنه فضل عليهما ريلكه(11) بعض الشيء، وهو الذي هام به حبًا باسترناك وتسڤيتايڤا.
علي العموم فقد اطلع تسيبكين قليلاً علي كتاب الغرب، ناهيك عن أنه قرأهم مترجمين فقط، وقد تسني لـتسيبكين أن يقرأ من بينهم كافكا، وكانت أعماله قد صدرت في الاتحاد السوڤيتي في منتصف الستينيات، وهو أكثر الكتَّاب الذين تركوا لديه انطباعًا قويًا. إن الجمل المدهشة، التي كتب بها روايته "صيف في بادن" هي إبداع خاص وكامل لـتسيبكين.
يحكي ميخائيل تسيبكين أن والده كان شديد الاهتمام بالتفاصيل وكان شديد الدقة في عمله لا يسمح بوقوع أي خطأ. وفي معرض تفسيرها لاختيار تسيبكين أن يصبح أخصائيًا في علم الأمراض، رافضًا رفضًا قاطعًا أن يصبح طبيبًا معالجًا، تقول يلينا تسيبكينا (زوجة ابنه) إنه "كان مهتمًا دومًا بالموت". أغلب الظن، أن هذا الرجل الذي عاني من الوسواس القهري، والذي تملكته أفكار الموت استطاع أن يبتكر جملة تتمتع بالحرية بطريقة فريدة للغاية. إن جُمل تسيبكين تُعد تجسيدًا مثاليًا للتوتر العاطفي وتقدم طيفًا شاملاً لموضوعاته. وإذا كانت هذه الرواية القصيرة نسبيًا قد كتبت بجمل طويلة، فإن هذا يعني أن كل شيء فيها تم حسابه بدقة، وأن كل عبارة فيها ترتبط بغيرها برباط وثيق، كما أن كل شيء هنا يتحرك بخفة في خضم الحماس الواضح للكاتب وإصراره.
وإلي جانب القص عن دستويڤسكي العظيم، فإن رواية تسيبكين هي رحلة رائعة عبر الواقع الروسي. يتمثل أمامنا الماضي السوڤيتي، منذ زمن الرعب الأكبر في الثلاثينيات، وحتي رحلة الحج التي قام بها الكاتب في نهاية السبعينيات، بحذافيره في نظام الأشياء، في هذا البناء العجيب.
تسجل الرواية نبض التاريخ نبضة تلو الأخري، إن "صيف في بادن"، علاوة علي ذلك هي رواية مُلهِمْة ومؤثرة عن الأدب الروسي وعن الكتاب الروسي. سنجد فيها بوشكين وتورجينيف (في مشهد الجدل الحاد بينه وبين دستويڤسكي)، وعلاوة علي ذلك سنجد الشخصيات العظيمة التي مثلت النقيض الأخلاقي لمعايير الأدب السوڤيتي في القرن العشرين – تسڤيتايڤا وسولچينتسسين(12) وساخاروف(13) وبونر(14).
بعد أن تنتهي من قراءة "صيف في بادن" يمكنك أن تتنفس الصعداء لتشعر بعدها بالذهول، لكنك ستشعر أيضًا بالقوة، والأهم، بالامتنان للأدب، لأنه ينطوي أيضًا علي تلك المشاعر، التي بإمكانها أن تبعثها فيك هذه الرواية. لم يكتب تسيبكين رواية طويلة، لكن رحلته في الحياة هي التي بدت لنا طويلة.
يوليو 2001
هوامش المترجم:
1 – الساميزدات: نوع من الكتابة والنشر مارسه المنشقون في الاتحاد السوڤيتي ودول الكتلة الشرقية تحديًا للرقابة علي الكتابات المعارضة المحظورة. تُكتب باليد وتمرر من قارئ إلي آخر. وقد كانت هذه الطريقة محفوفة بالمخاطر، وكان من يدان بنشر أو تداول هذه المنشورات يواجه عقوبات قاسية. لخص ڤلاديمير بوكوڤسكي الساميزدات بقوله: "أكتبها بنفسي، وأحررها، وأراقبها، وأطبعها، وأوزعها، وأسجن من أجلها".
2 – مايكل أنجلو أنطونيني (1912-2007): إيطالي، مخرج سينمائي.
3 –أندريه تاركوڤسكي (1932-2007): مخرج سينمائي روسي عالمي.
4 –مارينا تسڤيتايڤا (1892-1940): تحتل مكانة بارزة بين الشاعرات الروسيات المعاصرات، نشرت ديوانها الأول "ألبوم المساء" في عام 1910، وكانت لا تزال طالبة في المدرسة الثانوية، هاجرت إلي باريس عام 1922، حيث أصدرت واحدًا من أفضل كتبها "ما بعد روسيا" (1928)، عانت من التشرد في المهجر، فعادت إلي وطنها عام 1940 لتتعرض للاضطهاد والضغوط وعدم النشر فأنهت حياتها بالانتحار.
5 –بوريس باسترناك (1890-1960): ينتمي إلي واحدة من أعرق العائلات الروسية ثقافة. صدر ديوانه الأول "توءم في الغيوم" عام 1914. لم ينقطع عن كتابة النثر. تحمل ضغط النظام منذ بداية الثلاثينيات. قادته مقاومته كشاعر وصراعه من أجل أن يظل مستقلاً إلي العزلة وإلي استحالة الكتابة فراح يترجم تراجيديات وليم شكسبير، وفي هذه الفترة بدأ يفكر في عمل روائي ظهر فيما بعد تحت اسم "الدكتور جيڤاجو"، نشر أولاً بالخارج ولم ينشر في بلده إلا في عام 1988 وهي الرواية التي حصلت علي جائزة نوبل في عام 1958.
6 –أندريه سينياڤسكي (1925 موسكو- 1997 باريس): كاتب وشاعر روسي منشق. ألقي القبض عليه في خريف 1965 هو وصديقه يولي دانييل بتهمة معاداة النظام السوڤيتي. سافر إلي باريس بعد انتهاء فترة السجن بدعوة من جامعتها ليعمل أستاذًا للأدب الروسي في كل من السوربون وجامعة باريس. أثار كتابه "جولة مع بوشكين" ضجة كبيرة. أصدر وزوجته مجلة "سينتاكسيس".
7 –جوزيف م.كويتسي: روائي وناقد ومترجم من جنوب أفريقيا. ولد في عام 1940 في كيب تاون. من أعماله الروائية "في انتظار البرابرة"، "الرجل البطيء". حصل علي جائزة البوكر مرتين، وتوجت جوائزه بالحصول علي جائزة نوبل في عام 2003.
8 –سان بطرسبورج: مدينة روسية تقع في شمال غرب روسيا في دلتا نهر نيڤا، شرق خليج فنلندا في بحر البلطيق، وتعتبر أحد أهم مراكز أوروبا الثقافية. أسسها القيصر بطرس الأول (الأكبر) عام 1703 "كنافذة مطلة علي أوروبا". وقد حملت اسمه تخليدا له. عرفت باسم ليننجراد في الفترة من 1924 وحتي 1991، وباسم بتروجراد في الفترة من 1914 إلي 1924.
9 –أنَّا بانتي (1895-1985): الاسم المستعار للكاتبة والناقدة الإيطالية لوتشيا لوبريستي. أشهر أعمالها هو أرتيميزيا وتدور أحداثها حول حياة الفنانة أرتيميزيا جينتيلشي، التي عاشت في القرن السابع عشر.
10–ليونيد جروسمان (1888-1965): ناقد أدبي روسي بارز. له العديد من الأعمال الهامة عن بوشكين ودستويڤسكي وتشيخوف وليسكوف وبلزاك. ترجمت أعماله إلي اللغات الأوروبية. وكان عدد من أعماله قد فرض عليه الحظر في العشرينيات من القرن لأسباب أيديولوجية. انظر ترجمتنا لكتاب "نساء في حياة دستويڤسكي" الصادر في سلسلة الروائع أخبار اليوم. قطاع الثقافة، 2015. القاهرة.
11–راينر ماريا ريلكه (1875-1926): شاعر نمساوي رومانسي، يعد واحدًا من أكثر شعراء الألمانية تميزًا. موضوعه الرئيسي يتمثل في تجاوز الوحدة عبر حب الناس والامتزاج بالطبيعة. من أشهر أعماله "مرثيات دوينو" و"رسائل إلي شاعر شاب".
12–ألكسندر سولچينتسين (1918-2008): تخرج في كلية الفيزياء والرياضيات بجامعة روستوف عام 1941، وفي الوقت نفسه كان منتسبًا للدراسة في معهد موسكو للفلسفة والأدب والتاريخ. التحق جنديًا بالجيش في أكتوبر عام 1941. حاز علي عدد من الأوسمة، تم اعتقاله في فبراير 1945 وهو برتبة النقيب بتهمة "التشهير" بكل من لينين وستالين في مراسلاته الخاصة. في عام 1959 كتب قصة "يوم واحد في حياة إيڤان دينيسوڤيتش" (ترجمت إلي العربية)، وقد نشرت بتعليمات من الزعيم خروشوف واعتبرت حدثًا كبيرًا في تاريخ الأدب الروسي في القرن العشرين، نشر روايته الأشهر "أرخبيل جولاج" في الخارج في الفترة من 1973 وحتي 1975 ولم تنشر في وطن الكاتب إلا في عام 1990، وقد أصبحت هذه الرواية سببًا مباشرًا لحصول سولچينيتسين علي جائزة نوبل عام 1970.
13–أندريه ساخاروف (1921-1989): عالم نووي سوڤيتي، حاصل علي جائزة نوبل للسلام عام 1975 لدفاعه عن حقوق الإنسان وضحايا السياسة.
14–يلينا بونر (1923-2011): ناشطة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان في الاتحاد السوڤيتي السابق. الزوجة الثانية لأندريه ساخاروف، قضت الأعوام الأخيرة من حياتها في الولايات المتحدة الأمريكية.
3/17/2018
* نقلا عن جريدة أخبار الأدب المصرية
ليس من العسير أن نقرر لماذا ظل هذا الكتاب مجهولا في الواقع. أولا وقبل كل شيء، لأن مؤلف هذا الكتاب ليس أديبًا، فليونيد تسيبكين هو طبيب وباحث شهير، نشر ما يقرب من مائة بحث علمي في الاتحاد السوڤييتي وخارجه. لندع الآن جانبًا أي مقارنة بالأطباء الأدباء: تشيخوف وبولجاكوف، فتسيبكين لم ير صفحة واحدة مطبوعة من هذه الرواية.
كانت الرقابة ومصاعب أخري وراء ذلك، وهذا مجرد جزء من التاريخ، لم يذهب نثر تسيبكين إطلاقًا للنشر الرسمي، بل إنه لم يذهب حتي إلي "الساميزدات"(1) ولأسباب مختلفة – الكبرياء، الإحساس المزمن باليأس، الخوف من أن ترفضه دور النشر الأدبية غير الرسمية، وهكذا ظل تسيبكين خارج الجماعات الأدبية المستقلة والدوائر الأدبية السرية التي ازدهرت في موسكو في الستينيات والسبعينيات. في هذه السنوات كان تسيبكين يكتب "ويضع في الدرج"، كان يكتب لنفسه، من أجل الأدب. والحقيقة أن رواية "صيف في بادن" قد نجت بأعجوبة.
ولد ليونيد تسيبكين في مينسك عام 1926 لأسرة يهودية، لوالدين يعملان بالطب، فالأم –ڤيرا بولياك، تخصصت في أمراض السل الرئوي، بينما عمل الأب- بوريس تسيبكين جراحًا ومُجبِّرًا، وفي عام 1934، في بداية زمن الرعب الأكبر، ألقي القبض علي الأب، لأسباب ملفقة بالطبع، ولكن سرعان ما أطلق سراحه نتيجة لتدخل أحد المعارف من ذوي النفوذ، بعد أن حاول الأب الانتحار بأن ألقي بنفسه في بئر سلم السجن ليعود إلي بيته علي نقالة وقد كُسرت فقرة من عموده الفقري، لكنها لم تتسبب في إعاقته. ليعود بعد ذلك لممارسة عمله جراحًا حتي وفاته في عام 1961 عن عمر يناهز 64 عامًا. في تلك الفترة اعتقل أخوه وأختاه أيضًا ليختفوا في معتقلات ستالين.
سقطت مدينة مينسك بعد أسبوع واحد من الهجوم الألماني عام 1941 وقد لقت أم بوريس وأخته واثنان من أبناء عمه الصغار حتفهم في الجيتو. وقد ساعده علي الهرب هو وزوجته وابنهما ليونيد البالغ آنذاك خمسة عشر عامًا رئيس أحد الكولخوزات (المزارع الجماعية) المجاورة. كان الرجل مريضًا سابقًا يتلقي لدي أبيه العلاج، ولما كان حافظًا للجميل فقد أمر بإنزال عدد من شكائر الخيار المملح من فوق ظهر إحدي الشاحنات ليضع مكانها الجراح المحترم وعائلته.
بعد عام يلتحق ليونيد تسيبكين بالمعهد الطبي لينهي دراسته فيه في عام 1947 ثم ليعود هو ووالده إلي مينسك بعد أن وضعت الحرب أوزارها. في عام 1948 يتزوج ليونيد تسيبكين من ناتاليا ميتشينيكوفا المتخصصة في علم الاقتصاد وينجبان إبنهما الوحيد ميخائيل في عام 1950، عام كامل سبق هذه الأحداث انطلقت فيه حملة ستالين التي روجت لمعاداة السامية، عندها اضطر إلي الاختفاء في إحدي القري وسط العاملين في أحد مستشفيات الأمراض النفسية. وفي عام 1957 ينجح في الانتقال هو وأسرته للعيش في موسكو، وهناك عُرض عليه العمل أخصائيًا في علم الأمراض في معهد لشلل الأطفال وفيروس التهابات المخ يتمتع بسمعة طيبة. انضم تسيبكين إلي المجموعة التي تعمل في مجال شلل الأطفال والتي كانت معنية بتجهيز لقاح سابين المضاد لفيروس شلل الأطفال علي مستوي الاتحاد السوڤيتي كله. وقد عكست سنوات عمله في المعهد تنوع اهتماماته العلمية، نذكر من بينها "استجابة الأنسجة السرطانية للعدوي الفيروسية الطائرة وأمراض القردة".
كان تسيبكين شديد الولع بالأدب وكان يكتب فيه، سواءً شعرًا أو نثرًا، لنفسه فقط. وكثيرًا ما راودته الرغبة وهو في العشرين من عمره وما بعدها فكرة ترك الطب والتفرغ لدراسة الأدب واحتراف الكتابة.
كانت الأسئلة الروسية الخالدة، من نوع كيف يمكن العيش من دون إيمان؟ من دون إله؟ تمزق تسيبكين. كان يحب تولستوي إلي درجة العبادة، ولكن بمرور الوقت تمكن حبه لدستويڤسكي من إزاحة تولستوي. وكانت السينما هي هوايته الأخري وكانت المفارقة هنا في افتنانه بمايكل أنجلو أنطونيني(2) وليس بمواطنه أندريه تاركوڤسكي(3). ومن ثم فقد عقد العزم في مطلع الستينيات علي الالتحاق بالفصول المسائية بمعهد السينما في موسكو لكي يصبح مخرجًا، ولكنه تراجع عن ذلك، كما اعترف بعد ذلك، لكي يتفرغ لتوفير حاجات أسرته.
في هذا الوقت في مطلع الستينيات بدأ في الكتابة علي نحو جاد. كتب أشعاره الأولي تحت التأثير القوي لمارينا تسڤيتايڤا(4) وبوريس باسترناك(5). وكان يعلق صورهما فوق مكتبه الصغير. وفي سبتمبر عام 1965 قرر أن يعرض بعضًا من إبداعه علي أندريه سينياڤسكي(6)، علي أنه وقبل بضعة أيام من موعد اللقاء المحدد بينهما تم اعتقال سينياڤسكي. وهكذا لم يُكتب لهذين التِربَين أن يلتقيا (كان سينياڤسكي يكبر تسيبكين بعام واحد) مما جعل تسيبكين يصبح أكثر حذرًا. يقول ميخائيل، الذي يعيش الآن في كاليفورنيا: "لم يكن أبي ميالاً للتحدث أو التفكير في السياسة. كان من المتعارف عليه في أسرتنا أن النظام السوڤيتي هو، دون جدل، الشر مُجسدًا. وبعد محاولات عدة بدأها لدفع أشعاره إلي النشر، إذا به يبتعد لعدة سنوات عن الأدب مكرسًا أوقات فراغه لإنهاء أطروحته للحصول علي درجة الدكتوراه في العلوم وعنوانها »دراسة الخصائص المورفولوچية والبيولوچية للخلايا المستنبتة لأنسجة البنكرياس» (كانت أطروحته التي حصل بها علي دكتوراه الفلسفة تتناول نمو أورام المخ عند تكرار الجراحات). انتهت المناقشة الناجحة في عام 1969 بالحصول علي علاوة مالية أضيفت إلي راتبه، وهو ما سمح له بالاستغناء عن العمل بالتشريح مساءً في مستشفي الحي. وبعد أن تجاوز الأربعين من العمر بقليل إذا به يعود إلي الكتابة من جديد ليكتب هذه المرة نثرًا بدلاً من الشعر.
وعلي مدي الثلاثين عامًا التي تبقت من عمره لم يكتب سوي عدد قليل من الأعمال الإبداعية، لكن حجم تراثه الأدبي لا يعطي أي تصور ولو قليلاً عن مدي اتساع وعمق وتركيب هذا الأدب، فبعد الدراسات القصيرة التي كتبها، ظهرت له أعمال أكثر طولاً تميز السرد فيها بتعقيد أكثر، أتبعها بقصتين من نوع السيرة الذاتية "جسر علي نهر نيروتش" و"نورارتاكير"، وأخيرًا عمله الأخير والأكبر "صيف في بادن" وهو نوع من الرواية – الحلم، النائم فيه هو تسيبكين، الذي يربط حياته بحياة دستويڤسكي في ضفيرة واحدة من خلال قوة التخيل ليسيرا معًا في تيار من الحكي المحموم الذي لا يتوقف.
لقد استولي الأدب علي تسيبكين ليبعده كليةً عن الآخرين. يقول ابنه ميخائيل: "من الإثنين إلي الجمعة في الثامنة إلا ربعاً تمامًا، دأب والدي علي الذهاب إلي عمله البعيد (بالقرب من ضاحية فنوكوڤو) في معهد شلل الأطفال. وكان يعود إلي المنزل في السادسة مساءً، وبعد أن يتناول طعام العشاء ويغفو قليلاً، يجلس إلي طاولة الكتابة، فإذا لم يكن ما يكتبه نثرًا، فإنه يكتب مقالات علمية. وفي العاشرة مساءً يذهب للنوم وأحيانًا ما يخرج للتنزه قبل ذلك. وعادةً ما كان يكتب في أيام الإجازات. عمومًا كان والدي يتحين أي فرصة للكتابة، لكن ذلك كان أمرًا بالغ الصعوبة. كان يتعذب في كتابة كل مفردة، ثم يعود فيصحح مخطوطاته بلا توقف. وبعد أن ينتهي من التصحيح يعود من جديد لكتابة النص علي آلة كاتبة ألمانية من غنائم الحرب من طراز "إريكا" تتلألأ من فرط نظافتها، أهداها له عمي في عام 1949، وعلي هذا النحو ذاته من النظافة بقت مخطوطاته التي لم يرسلها إلي هيئات التحرير، والتي لم يرغب أن يدفع لها إلي الساميزدات، خوفا من الدخول في "أحاديث" مع الكي جي بي (لجنة الأمن القومي) فيفقد بسببها عمله.
إلي أي حد يبلغ إيمان المرء بالأدب حتي يظل يكتب دون بارقة أمل في النشر؟ كان الذين يقرأون أعمال تسيبكين إبان حياته يُعدون علي الأصابع: زوجته وابنه وزوج من أصدقاء ابنه في الجامعة، ولم تكن للرجل أدني صلة بالدوائر الأدبية في موسكو.
كانت ليديا بولياك، الأخت الصغري لوالدة تسيبكين، باحثة في الأدب. وهي الشخص الأقرب في العائلة لهذا العلم.
وسوف يلتقي قراء "صيف في بادن" بها منذ الصفحة الأولي من الرواية في القطار المسافر إلي ليننجراد، وسوف يكشف لنا القاص، استنادًا إلي اهتمامه البالغ بوصف تفاصيل أحد الكتب العزيزة علي نفسه من خلال وصفه لغلاف هذا الكتاب والشريط الموشي بالرسم الذي يحفظ للقارئ الصفحة، إن هذا الكتاب القديم المهترئ تقريبًا هو طبعة من "مذكرات" أنَّا جريجوريڤنا دستويڤسكايا، زوجة دستويڤسكي الثانية "استعاره (تسيبكين) من خالته، التي تقتني مكتبة كبيرة، والذي "كان يضمر في داخله رغبة دفينة ألا يعيده إليها".
يقول ميخائيل تسيبكين أن والده جاء علي ذكر ليديا بولياك مرارًا في عدد من قصصه القصيرة بإحساس بالضيم دون أن يلقبها "بالخالة". وهو يصفها بأنها ممثلة مثقفي موسكو وصاحبة العلاقات الأدبية الواسعة. وقد عملت الخالة في معهد الأدب العالمي منذ عام 1930 وظلت به حتي بعد إعفائها من العمل في جامعة موسكو في مطلع الخمسينيات، في فترة الصراع ضد "الكوزموبوليتانية". آنذاك كان أندريه سينياڤسكي زميلها الأصغر في معهد الأدب العالمي وقد تحدثت بولياك معه تحديدًا عن لقائها بتسيبكين. ولكنها لم تبد إعجابها علي ما يبدو بإبداع ابن اختها ولم تأخذه علي مأخذ الجد، وهو ما لم يغفره تسيبكين لها.
في عام 1977 قرر الابن ميخائيل تسيبكين الهجرة ومعه زوجته يلينا. عندئذ كان علي ناتاليا ميتشنيكوڤا أن تتقدم باستقالتها من عملها خشية أن يؤثر عملها السري في هيئة الإمداد الحكومي علي سفر ابنها إلي الخارج، حيث كانت تعمل في القسم المختص بمعدات الطرق والبناء، ناهيك عن أن هذا القسم كان يورد معداته للصناعة الحربية. سمحت السلطات بالسفر لميخائيل ويلينا إلي الولايات المتحدة الأمريكية. وما أن أبلغ الكي جي بي دروزدوف مدير معهد شلل الأطفال بذلك حتي تم نقل تسيبكين علي الفور إلي درجة باحث علمي مبتدئ، علي الرغم من درجته العلمية الرفيعة وخبرة بلغت عشرين عامًا. لم يعد للأسرة الآن من مصدر للدخل سوي راتبه، الذي تم تخفيضه إلي الثلث. واظب تسيبكين علي الذهاب يوميًا إلي المعهد، علي الرغم من أنه حُرم من إمكانية العمل بالبحوث المعملية الجماعية تحديدًا. الواقع أن زملاءه جميعًا امتنعوا عن العمل معه في مجموعة واحدة خوفًا من اعتبارهم شركاء لعنصر "غير مرغوب فيه". لم يكن هناك معني للبحث عن مكان آخر، طالما أنه كان عليه أن يشير في طلبه للعمل أن لديه ابناً سافر للخارج.
في يونيو من عام 1979 تقدم تسيبكين وزوجته وأمه بأوراقهم طلبًا للرحيل. ولكن انتظارهم طال إلي عامين تقريبًا تم بعدها إبلاغهم في أبريل من عام 1981 بالرفض، وتم تفسير ذلك بأن سفرهم "لا طائل من ورائه". أود أن أُذَكِّر هنا أنه بحلول عام 1980 توقف السفر من الاتحاد السوڤيتي فعليًا: آنذاك ساءت العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية بسبب التدخل السوڤيتي في أفغانستان وتوقفت واشنطن عن إعطاء أية تسهيلات لسفر اليهود السوڤيت إليها. وفي هذا الوقت تحديدًا كتب تسيبكين الجزء الأكبر من روايته "صيف في بادن".
بدأ تسيبكين كتابة روايته عام 1977 لينهيها عام 1980. وقد سبق كتابة الرواية سنوات من الإعداد لها: العمل في المكتبات والتردد علي الأماكن وثيقة الصلة بدستويڤسكي وأبطاله. التقط الكاتب صورًا فوتوغرافية للأماكن التي وصفها دستويڤسكي في فصول العام نفسها، بل وحتي في الأيام نفسها، إذا ما كانت قد وردت في رواياته. كان تسيبكين هاويًا للتصوير منذ شبابه وقد اقتني آلة للتصوير بدءًا من الخمسينيات. وبعد أن أنهي كتابة الرواية قدم ألبوم هذه الصور إلي متحف دستويڤسكي في ليننجراد.
كان من المستحيل تصور نشر الرواية في الاتحاد السوڤيتي، ولكن الأمل ظل مرهونًا بنشرها في الخارج – هكذا كان يفعل أفضل كتاب هذا الزمن. وقد قرر تسيبكين الشروع في اتخاذ هذه الخطوة بعد أن طلب من صديقه الصحفي آزاري ميسيرير، الذي حصل في مطلع عام 1981 علي تصريح بالهجرة، أن يُهرِّب له مخطوطة الرواية وعددًا من الصور.
وقد نجح ميسيرير في توصيل الرواية عبر معارفه من الأمريكيين، زوج وزوجة من مراسلي وكالة أنباء UPI للأنباء في موسكو.
في نهاية سبتمبر من العام نفسه يعود آل تسيبكين من جديد ليتقدما بأوراقهما للسفر. علي أن والدته ڤيرا بولياك توفيت في التاسع عشر من أكتوبر عن عمر يناهز ستة وثمانين عامًا. وإذا بالقرار الخاص بالسفر يصدر خلال أقل من شهر.
في مطلع مارس من عام 1982 يتوجه تسيبكين إلي إدارة جوازات موسكو حيث قالوا له: "دكتور، غير مسموح لك بالسفر مطلقًا". وفي يوم الإثنين الخامس عشر من مارس أحاط دروزدوف تسيبكين علمًا بأنه قد تم الاستغناء عنه، وفي اليوم نفسه الذي تم فيه إعفاؤه من العمل أبلغ ميخائيل تسيبكين، الطالب بالدراسات العليا بجامعة هارفارد، أبلغ رئيسه في موسكو هاتفيًا أن روايته قد طبعت أخيرًا يوم السبت الماضي. لقد نجح آزاري ميسيرير في نشر "صيف في بادن" في "نوڤايا جازيتا" (الصحيفة الجديدة)، وهي رواية روسية أسبوعية تصدر في نيويورك. وقد ظهر أول جزء من الرواية مصحوبًا ببعض الصور في العدد الصادر في 13 مارس 1982.
وفي السبت التالي، العشرين من مارس، جلس تسيبكين إلي مكتبه يوم ذكري ميلاده السادس والخمسين ليترجم عن الإنجليزية نصًا طبيًا – ظلت الترجمة التقنية دائمًا واحدة من مصادر الدخل القليلة للمغضوب عليهم، لكنه شعر بإعياء في قلبه لجأ علي أثره إلي فراشه ونادي علي زوجته وما لبث أن لفظ أنفاسه الأخيرة، ولم يكن قد مر علي صدور كتابه سوي سبعة أيام بالتمام والكمال. وخلافًا لرواية جوزيف م.كويتسي (كوتزي)(7) الرائعة "صيف في بطرسبورج" فإن "صيف في بادن" ليست عملاً خياليًا مشبعًا بروح دستويڤسكي، وهو في الوقت نفسه عمل لا ينتمي إلي نوع "الرواية التسجيلية"، علي الرغم من أن الوصف الدقيق للواقع من ناحية الظروف الزمنية والبيوجرافية كان يمثل بالنسبة لتسيبكين شرف المهنة. ولعله، عندما تصور أن الرواية سوف تصدر في كتاب، كان يفكر في أن هذا الكتاب سوف يضم بين دفتيه صوره الفوتوغرافية التي التقطها. وهنا كان تسيبكين يستعيد الأسلوب نفسه الذي اتبعه ق.ج. زيبالد، الذي زيَّن كتبه بالصور مضيفًا عليها جوًا من الغموض والحزن قريبًا من الحقيقة.
ماذا عن رواية "صيف في بادن"؟ تقدم الرواية من البداية عرضًا مزدوجًا. هذا فصل الشتاء، نهاية ديسمبر، لا يشار إلي اليوم، الأحداث كلها تجري "الآن": القاص في طريقه إلي ليننجراد، سان بطرسبورج(8) الماضي والمستقبل. وهذا منتصف أبريل من عام 1867، الزوجان دستويڤسكي، فيودور ميخايلوڤيتش ("فيديا") وزوجته الشابة أنَّا جريجوريڤنا ("آنيا") وقد غادرا بطرسبورج في طريقهما إلي درزدن. رحلة الزوجين دستويڤسكي – أحداث الرواية تدور كلها تقريبًا في الخارج وليس في بادن فقط – وكلها مدروسة تفصيلاً. تلك الأجزاء التي ينشط فيها القاص تسيبكين نفسه، هي أجزاء بيوجرافية صرفة. وحيث إن الخيال والواقع يمكن وضعهما بسهولة كل في مواجهة الآخر، فإننا نميل إلي افتراض إلي أي من أطر النوع الروائي تنتمي الرواية وذلك بفصل المُتخيَّل (القص الفني) عن الحياة الواقعية (التسجيل والسيرة الذاتية). علي أن ذلك كله هو مجازُنا. تنطلق الرواية في القص الياباني علي لسان القاص – "شيشوسيتسو" (Narrator) وهي بالأساس قص للسيرة الذاتية يحتوي علي مقاطع مُتخيلة، وهذا هو شكل النوع السائد.
تخلق "صيف في بادن" علي الفور أكثر من "واقع". وهي تصفهم جميعًا وتصورهم بشكل أقرب ما يكون إلي هلاوس تيار المشاعر.
ترجع أصالة هذه الرواية إلي قدرتها في المقام الأول علي أن تقدم سردًا بيوجرافيًا علي لسان قاص مجهول يسافر وسط الواقع السوڤيتي الجهم ويغامر، في الوقت نفسه، بالدخول إلي تاريخ الزوجين دستويڤسكي المسافرين أيضًا، وإذا بالماضي يتدفق واضحًا علي نحو محموم عبر أطلال الثقافة المعاصرة. يقوم تسيبكين بتحويل رحلته إلي ليننجراد إلي رحلة داخل أرواح شخصيتيه "فيديا" و"آنيا" كاشفًا عن قوة التعاطف المدهش بداخله نحوهما. يتوقف تسيبكين في ليننجراد بضعة أيام. لم يكن ذلك حجه الأول إلي هذه المدينة كما هو واضح. ومما لا شك فيه أن زيارته انتهت بقيامه وحده بزيارة البيت الذي قضي فيه دستويڤسكي نحبه. أما الزوجان دستويڤسكي فيبدآن رحلتهما خاليي الوفاض من المال ليقيما في أوروبا أربعة أعوام (من المناسب أن نذكر هنا أن مؤلف "صيف في بادن" لم يُسمح له بمغادرة الاتحاد السوڤيتي).
درزدن، بادن، بازل، فرانكفورت، باريس. لقد كُتب علي الزوجين أن يعيشا في توتر مقيم بسبب وضعهما المالي الخانق المهين، والذي لم يجدا سبيلاً للخروج منه. كانا مضطرين للدخول في مساومات لا تنتهي مع هؤلاء الغرباء الأفظاظ الوقحين – البوابين، الحوذية، أصحاب البيوت، النُذُل، أصحاب الحوانيت، المرابين ثم مع المشرفين علي موائد القمار؛ فضلاً عن الأهواء الجامحة المفاجئة والانفعالات العاصفة. الولع بالقمار وما يتبعه من تأنيب للضمير، لظي الحمي ولهيب الحب، نار الغيرة وسعير الندم ورجفة الخوف.
لم يكن القمار وحده ولا الإبداع والتدين هو الذي حدد الاتجاه الرئيسي في تصوير حياة دستويڤسكي في هذه الرواية. وإنما الهوي النبيل المتقد، الذي اضطرم بين الزوجين بلا قيد أو شرط. لم يكن هذا الهوي يمتلك ضمانات لتحقيق السعادة. من الذي بإمكانه أن ينسي "إبحار" المحبين في العشق – المجاز الفريد لفعل الحب.
يتناغم حب آنيا، المرأة التي تغفر كل شيء لفيديا مع احتفاظها بكرامتها بشكل تام دائمًا مع إخلاص تسيبكين لأدب دستويڤسكي الكاتب.
لا يوجد في الرواية أي شيء مختلق. وفي الوقت نفسه فهي رواية مبتكرة في كل شيء. الأحداث مبنية حول رحلة إلي أماكن دستويڤسكي ورواياته، لكن هذه الرحلة ليست سوي ذريعة من أجل إبداع هذا الكتاب الذي نمسكه بأيدينا "صيف في بادن" رواية تنتمي إلي جنس الروايات النادرة الاستثنائية، حيث يتناول القص شخصية تاريخية، هي ممثل بارز لعصر يشتبك مع التاريخ الحاضر. يحاول الكاتب أن ينفذ بأكبر قدر من العمق إلي عالم هذه الشخصية، هذا الإنسان الذي كانت العظمة قدره، بل والخلود أيضًا. إنه مثال آخر يقابل "أرتيميزيا" في رائعة الأدب الإيطالي في القرن العشرين لأنَّا بانتي(9).
في الصفحة الأولي يغادر تسيبكين موسكو. وبعد ثلثي الكتاب يصل إلي محطة قطارات موسكو في ليننجراد. وهو يعلم أنه غير بعيد عن هذه المحطة يقع "بيت رمادي عادي من بيوت بطرسبورج"، هو البيت الذي قضي فيه دستويڤسكي السنوات الأخيرة من حياته. يتجه حاملاً حقيبته مُغذًّا السير في عتمة ليلة ثلجية ليعبر شارع نيڤسكي مارًا بأماكن تمثل معالم بارزة لأحداث وقعت في السنوات الأخيرة من حياة دستويڤسكي ثم ليصل أخيرًا حيث اعتاد التوقف دائمًا في ليننجراد في إحدي الشقق المشتركة في بيت متهدم، لينزل عند صديقة أمه التي كتب إليها رسالة لا يمكن التعبير عما جاء بها من رقة وعذوبة.... استقبلته، أطعمته، جهزت له فراشًا قديمًا متهالكًا، ثم ألقت عليه السؤال نفسه الذي ظل يسمعه منها في كل مرة: "أما زلت مغرمًا بدستويڤسكي؟" وعندما ذهبت للنوم، التقط من الرف، كيفما اتفق، مجلدًا من الأعمال الكاملة لدستويڤسكي طبعة ما قبل الثورة، تبين له أنه "مذكرة الكاتب" وعندما راح يفكر في لغز معاداة دستويڤسكي للسامية، إذا به يستغرق في النوم.
وفي الصباح الباكر راح يتحدث مع مضيفته الحنونة ويستمع إلي حكايتها عن أهوال حصار ليننجراد، وعندما راح النهار الشتوي القصير يغرق في العتمة، ذهب ليتجول في المدينة ويلتقط الصور "لبيت راسكولنيكوف" أو "بيت العجوز المرابية" أو "بيت سونيا" أو لتلك البيوت التي عاش فيها الكاتب، هنا تحديدًا، في أكثر فترات حياته غموضًا واختفاء، في السنوات الأولي بعد عودته من المنفي، فيما بعد "مقودًا بشعور ما داخلي" يصل تسيبكين إلي "المكان المطلوب بدقة متناهية" وهنا يشعر كيف "خفق قلبه من الفرح أيضًا من جراء شعور آخر غامض"، لقد اتضح أنه أمام بيت من أربعة طوابق يقع علي الناصية. هذا هو البيت الذي توفي فيه دستويڤسكي، وهو الآن متحف "يسود قاعاته هدوء مطبق كهدوء الكنائس" يدفع بالقص عن الأيام الأخيرة لدستويڤسكي، التي لا تقارن في قوتها إلا بوصف الموت في المشاهد المماثلة عند تولستوي، وذلك في ضوء الحزن الخاص لأنَّا جريجوريڤنا، الذي استمر ساعات لا نهاية لها، جالسة بجوار فراش زوجها وهو يحتضر. في هذا الكتاب لا يخلط تسيبكين بين أشكال الحب بشكل عام. بين الحب العائلي وحب الأدب، كما أنه لا يقارن هذه المشاعر بعضها ببعض، وإنما يعطي كلاً منها ما يستحقه، إذ إن كلا منها يُدخل إلي روايته لهيبه اللافح.
ما الذي بإمكانك أن تفعله إذا كنت تحب دستويڤسكي، وما الذي يمكن أن يفعله اليهودي، وهو يعلم أن دستويڤسكي لا يحب اليهود؟ كيف يمكن تفسير هذه المعاداة الحقودة للسامية التي يعبر عنها "شخص شديد الحساسية" في رواياته تجاه معاناة الناس. هذا المدافع الغيور عن المذلين والمهانين؟ وكيف نفهم أن ذلك بعينه هو السبب "في هذا الانجذاب الخاص لليهود تجاه دستويڤسكي"؟.
قائمة طويلة من اليهود المتخصصين في الدراسات الأدبية، الذين احتكروا تقريبًا دراسة إبداع تراث دستويڤسكي وضعها تسيبكين لنبدأها من صاحب الموهبة الكبري، ولعله الأبرز فيها وهو ليونيد جروسمان(10) (1888-1965)، وتعد أعماله هي المصدر الأهم في البناء البيوجرافي عند تسيبكين. كتاب آخر، إلي جانب "مذكرة دستويڤسكي"، ورد ذكره في مطلع الدراسة، ويعد ثمرة من ثمار العمل العلمي لجروسمان. كان جروسمان قد أعد الطبعة الأولي لمذكرات أنَّا جريجوريڤنا دستويڤسكايا، التي صدرت عام 1925، بعد سبع سنوات من وفاتها. يفترض تسيبكين، أن هذه المذكرات لم يرد فيها أي ذكر "لليهود علي السٌلَّم" أو لأي من التعبيرات المماثلة، ربما لأن أرملة دستويڤسكي كتبت "المذكرات" عشية الثورة، ربما حتي بعد أن تعرفت علي "ليونيد جروسمان".
من الواضح أن تسيبكين كان علي علم بهذه البحوث العامة التي كتبها جروسمان، مثل "بلزاك ودستويڤسكي"(1914) و"مكتبة دستويڤسكي والمواد غير المنشورة" (1919). من المستبعد، بطبيعة الحال، أن يكون قد مر مرور الكرام علي رواية "روليتنبورج" (1932) وهي فانتازيا علي هامش روايته عن الولع بالقمار (كما هو معروف فإن رواية "المقامر" كان اسمها في البداية روليتنبورج) الأرجح أن تسيبكين لم يقرأ كتاب جروسمان "اعترافات يهودي" (1924)، حيث تم منع هذا الكتاب بالفعل من التداول، وهو يتحدث عن حياة أحد أكثر اليهود تفردًا وبؤسًا في الوقت نفسه، من بين اليهود المعجبين بدستويڤسكي، ويدعي أركادي كوڤنر (1842-1909)، وهو من مواليد جيتو مدينة ڤيلنوس، وكان يتبادل الرسائل مع دستويڤسكي.
كان كوڤنر شابًا أرعن علم نفسه بنفسه، فتنته موهبة الكتابة عند دستويڤسكي، بعد أن قرأ "الجريمة والعقاب"، فراح يمارس السرقة من أجل أن يساعد فتاة فقيرة مريضة وقع في هواها. وفي عام 1877 حُكم عليه بالسجن لمدة أربعة أعوام. عشية نقله إلي سيبيريا، كتب كوڤنر خطابًا إلي دستويڤسكي من زنزانته في سجن بوتيرسكايا، اتهمه فيه بكراهية اليهود (وقد تبعه بخطاب آخر تحدث فيه عن موت الروح).
سوف تتناثر أمامنا هنا وهناك علي صفحات رواية "صيف في بادن" شظايا من موضوع معاداة السامية، بدءًا من لحظة وصول تسيبكين إلي ليننجراد، لكن حل هذا السؤال المضني لا ينكشف لنا حتي مع وصول الرواية إلي نهايتها: "(.........) يُخيل إليّ أنه أمر غريب وعجيب أن دستويڤسكي "لم يجد كلمة واحدة يبرر بها أو يدافع من خلالها عن سلوك هؤلاء البشر الذين جري اضطهادهم علي مدي عدة آلاف من السنين – (........)- إنه حتي لم يُسمّ اليهود شعبًا، وإنما وصفهم بالقبيلة، (.......) وأنا أنتمي إلي هذه القبيلة. أنا والعديد من معارفي وأصدقائي، الذين ناقشت معهم أدق مشكلات الأدب الروسي". لكن كل ذلك لم يمنع اليهود أن يحبوا دستويڤسكي. لماذا؟
التفسير الوحيد الذي يطرحه تسيبكين هو إجماع اليهود علي حب الأدب الروسي. هذا الاستنتاج يُذكِّرنا بظاهرة أخري شبيهة: عبادة الألمان لجوته وشيلر، وكان اليهود جزءًا كبيرًا من هذه القضية، إلي أن قررت ألمانيا القضاء عليهم. أن تحب دستويڤسكي يعني أن تحب الأدب.
"صيف في بادن" رواية تجمع، بفضل أسلوبها الفريد الموضوعات الرئيسية للأدب الروسي سوف يُقلِّب القراء صفحات هذه الرواية بحماسة بالغة، كما يفعل المرء عادة عندما يستذكر درسًا ما علي عجل. إن لغة الرواية تسمح بالانتقال بشكل مفاجئ علي نحو شجاع وجذَّاب من ضمير المتحدث إلي ضمير الغائب. من المواقف الشخصية للكاتب – ذكرياته وتأملاته ("أنا") إلي المشاهد الخاصة بدستويڤسكي ("هو"، "هما"، "هي")، وبهذه البساطة تنساب الرواية من الماضي إلي الحاضر. والحاضر في الرواية لا يتوقف قط علي رحلة حج تسيبكين إلي بطرسبورج، كما أن الماضي ليس مجرد رحلة دستويڤسكي إلي بادن أو حياته في الفترة من 1867 إلي 1881. إن حدود الزمن تظل نسبية: دستويڤسكي يخضع للذكريات التي تدفقت عليه في السنوات الأكثر بعدًا، أما القاص فيستدعي ذكريات الماضي وصولاً إلي الحاضر.
عند تسيبكين تبدأ كل فقرة بجملة طويلة للغاية، ترتبط أجزاؤها بعضها ببعض بالعديد من الأشراط أو حروف العطف (وهي الأكثر)، وأدوات أخري مثل "لكن" (أحيانًا)، "علي الرغم من"، "زد علي ذلك"، "في الوقت الذي"، "كأن"، "لأن"، "كما لو أن"، ولا تأتي النقطة إلا في ختام الفقرة. وما دامت الجملة تمتد طويلاً مفعمة بالحماس، فإن تيار الشعور يظل طاغيًا علي السرد فيما يتعلق بحياة دستويڤسكي، ويبتعد به أكثر فأكثر عندما يحكي عن حياة تسيبكين. إن الجملة التي تبدأ بالحكي عن فيديا وآنيا في درزدن، يمكن أن تُذكِّرنا بفترة وجود دستويڤسكي في المعتقل، بينما يمكن للحديث عن نوبة حمي المقامرة أن تستدعي من الذاكرة قصته الغرامية مع أبوليناريا سوسلوڤا، ثم تنتقل بنا لتشتبك مع ذكرياتها عن دراستها في معهد الطب وتأملاتها في أبيات بوشكين الشعرية.
تُذكِّرنا جُمل تسيبكين بأسلوب جوزيه ساراماجو، حيث تتصارع الجمل مع بعضها البعض، فتفجر وصف الحوار، ويُغلف الحوار الوصف العميق للأفعال، التي ترفض بإصرار أن تكون موجودة في الماضي فقط أو في الحاضر فقط. لا نهائية الجُمل عنده وقوتها الجامحة لا تُقارن في تأثيرها إلا بأسلوب توماس برنهارد. لم يقرأ تسيبكين بطبيعة الحال، لا ساراماجو ولا برنهارد. وإنما ساعده "أدب النشوة الروحية" لكتاب القرن العشرين في خلق أسلوبه.
كان تسيبكين معجبًا بأدب باسترناك المبكر، أي "صك الأمان" وليس "الدكتور چيڤاجو". كما أحب تسڤيتايڤا، ولكنه فضل عليهما ريلكه(11) بعض الشيء، وهو الذي هام به حبًا باسترناك وتسڤيتايڤا.
علي العموم فقد اطلع تسيبكين قليلاً علي كتاب الغرب، ناهيك عن أنه قرأهم مترجمين فقط، وقد تسني لـتسيبكين أن يقرأ من بينهم كافكا، وكانت أعماله قد صدرت في الاتحاد السوڤيتي في منتصف الستينيات، وهو أكثر الكتَّاب الذين تركوا لديه انطباعًا قويًا. إن الجمل المدهشة، التي كتب بها روايته "صيف في بادن" هي إبداع خاص وكامل لـتسيبكين.
يحكي ميخائيل تسيبكين أن والده كان شديد الاهتمام بالتفاصيل وكان شديد الدقة في عمله لا يسمح بوقوع أي خطأ. وفي معرض تفسيرها لاختيار تسيبكين أن يصبح أخصائيًا في علم الأمراض، رافضًا رفضًا قاطعًا أن يصبح طبيبًا معالجًا، تقول يلينا تسيبكينا (زوجة ابنه) إنه "كان مهتمًا دومًا بالموت". أغلب الظن، أن هذا الرجل الذي عاني من الوسواس القهري، والذي تملكته أفكار الموت استطاع أن يبتكر جملة تتمتع بالحرية بطريقة فريدة للغاية. إن جُمل تسيبكين تُعد تجسيدًا مثاليًا للتوتر العاطفي وتقدم طيفًا شاملاً لموضوعاته. وإذا كانت هذه الرواية القصيرة نسبيًا قد كتبت بجمل طويلة، فإن هذا يعني أن كل شيء فيها تم حسابه بدقة، وأن كل عبارة فيها ترتبط بغيرها برباط وثيق، كما أن كل شيء هنا يتحرك بخفة في خضم الحماس الواضح للكاتب وإصراره.
وإلي جانب القص عن دستويڤسكي العظيم، فإن رواية تسيبكين هي رحلة رائعة عبر الواقع الروسي. يتمثل أمامنا الماضي السوڤيتي، منذ زمن الرعب الأكبر في الثلاثينيات، وحتي رحلة الحج التي قام بها الكاتب في نهاية السبعينيات، بحذافيره في نظام الأشياء، في هذا البناء العجيب.
تسجل الرواية نبض التاريخ نبضة تلو الأخري، إن "صيف في بادن"، علاوة علي ذلك هي رواية مُلهِمْة ومؤثرة عن الأدب الروسي وعن الكتاب الروسي. سنجد فيها بوشكين وتورجينيف (في مشهد الجدل الحاد بينه وبين دستويڤسكي)، وعلاوة علي ذلك سنجد الشخصيات العظيمة التي مثلت النقيض الأخلاقي لمعايير الأدب السوڤيتي في القرن العشرين – تسڤيتايڤا وسولچينتسسين(12) وساخاروف(13) وبونر(14).
بعد أن تنتهي من قراءة "صيف في بادن" يمكنك أن تتنفس الصعداء لتشعر بعدها بالذهول، لكنك ستشعر أيضًا بالقوة، والأهم، بالامتنان للأدب، لأنه ينطوي أيضًا علي تلك المشاعر، التي بإمكانها أن تبعثها فيك هذه الرواية. لم يكتب تسيبكين رواية طويلة، لكن رحلته في الحياة هي التي بدت لنا طويلة.
يوليو 2001
هوامش المترجم:
1 – الساميزدات: نوع من الكتابة والنشر مارسه المنشقون في الاتحاد السوڤيتي ودول الكتلة الشرقية تحديًا للرقابة علي الكتابات المعارضة المحظورة. تُكتب باليد وتمرر من قارئ إلي آخر. وقد كانت هذه الطريقة محفوفة بالمخاطر، وكان من يدان بنشر أو تداول هذه المنشورات يواجه عقوبات قاسية. لخص ڤلاديمير بوكوڤسكي الساميزدات بقوله: "أكتبها بنفسي، وأحررها، وأراقبها، وأطبعها، وأوزعها، وأسجن من أجلها".
2 – مايكل أنجلو أنطونيني (1912-2007): إيطالي، مخرج سينمائي.
3 –أندريه تاركوڤسكي (1932-2007): مخرج سينمائي روسي عالمي.
4 –مارينا تسڤيتايڤا (1892-1940): تحتل مكانة بارزة بين الشاعرات الروسيات المعاصرات، نشرت ديوانها الأول "ألبوم المساء" في عام 1910، وكانت لا تزال طالبة في المدرسة الثانوية، هاجرت إلي باريس عام 1922، حيث أصدرت واحدًا من أفضل كتبها "ما بعد روسيا" (1928)، عانت من التشرد في المهجر، فعادت إلي وطنها عام 1940 لتتعرض للاضطهاد والضغوط وعدم النشر فأنهت حياتها بالانتحار.
5 –بوريس باسترناك (1890-1960): ينتمي إلي واحدة من أعرق العائلات الروسية ثقافة. صدر ديوانه الأول "توءم في الغيوم" عام 1914. لم ينقطع عن كتابة النثر. تحمل ضغط النظام منذ بداية الثلاثينيات. قادته مقاومته كشاعر وصراعه من أجل أن يظل مستقلاً إلي العزلة وإلي استحالة الكتابة فراح يترجم تراجيديات وليم شكسبير، وفي هذه الفترة بدأ يفكر في عمل روائي ظهر فيما بعد تحت اسم "الدكتور جيڤاجو"، نشر أولاً بالخارج ولم ينشر في بلده إلا في عام 1988 وهي الرواية التي حصلت علي جائزة نوبل في عام 1958.
6 –أندريه سينياڤسكي (1925 موسكو- 1997 باريس): كاتب وشاعر روسي منشق. ألقي القبض عليه في خريف 1965 هو وصديقه يولي دانييل بتهمة معاداة النظام السوڤيتي. سافر إلي باريس بعد انتهاء فترة السجن بدعوة من جامعتها ليعمل أستاذًا للأدب الروسي في كل من السوربون وجامعة باريس. أثار كتابه "جولة مع بوشكين" ضجة كبيرة. أصدر وزوجته مجلة "سينتاكسيس".
7 –جوزيف م.كويتسي: روائي وناقد ومترجم من جنوب أفريقيا. ولد في عام 1940 في كيب تاون. من أعماله الروائية "في انتظار البرابرة"، "الرجل البطيء". حصل علي جائزة البوكر مرتين، وتوجت جوائزه بالحصول علي جائزة نوبل في عام 2003.
8 –سان بطرسبورج: مدينة روسية تقع في شمال غرب روسيا في دلتا نهر نيڤا، شرق خليج فنلندا في بحر البلطيق، وتعتبر أحد أهم مراكز أوروبا الثقافية. أسسها القيصر بطرس الأول (الأكبر) عام 1703 "كنافذة مطلة علي أوروبا". وقد حملت اسمه تخليدا له. عرفت باسم ليننجراد في الفترة من 1924 وحتي 1991، وباسم بتروجراد في الفترة من 1914 إلي 1924.
9 –أنَّا بانتي (1895-1985): الاسم المستعار للكاتبة والناقدة الإيطالية لوتشيا لوبريستي. أشهر أعمالها هو أرتيميزيا وتدور أحداثها حول حياة الفنانة أرتيميزيا جينتيلشي، التي عاشت في القرن السابع عشر.
10–ليونيد جروسمان (1888-1965): ناقد أدبي روسي بارز. له العديد من الأعمال الهامة عن بوشكين ودستويڤسكي وتشيخوف وليسكوف وبلزاك. ترجمت أعماله إلي اللغات الأوروبية. وكان عدد من أعماله قد فرض عليه الحظر في العشرينيات من القرن لأسباب أيديولوجية. انظر ترجمتنا لكتاب "نساء في حياة دستويڤسكي" الصادر في سلسلة الروائع أخبار اليوم. قطاع الثقافة، 2015. القاهرة.
11–راينر ماريا ريلكه (1875-1926): شاعر نمساوي رومانسي، يعد واحدًا من أكثر شعراء الألمانية تميزًا. موضوعه الرئيسي يتمثل في تجاوز الوحدة عبر حب الناس والامتزاج بالطبيعة. من أشهر أعماله "مرثيات دوينو" و"رسائل إلي شاعر شاب".
12–ألكسندر سولچينتسين (1918-2008): تخرج في كلية الفيزياء والرياضيات بجامعة روستوف عام 1941، وفي الوقت نفسه كان منتسبًا للدراسة في معهد موسكو للفلسفة والأدب والتاريخ. التحق جنديًا بالجيش في أكتوبر عام 1941. حاز علي عدد من الأوسمة، تم اعتقاله في فبراير 1945 وهو برتبة النقيب بتهمة "التشهير" بكل من لينين وستالين في مراسلاته الخاصة. في عام 1959 كتب قصة "يوم واحد في حياة إيڤان دينيسوڤيتش" (ترجمت إلي العربية)، وقد نشرت بتعليمات من الزعيم خروشوف واعتبرت حدثًا كبيرًا في تاريخ الأدب الروسي في القرن العشرين، نشر روايته الأشهر "أرخبيل جولاج" في الخارج في الفترة من 1973 وحتي 1975 ولم تنشر في وطن الكاتب إلا في عام 1990، وقد أصبحت هذه الرواية سببًا مباشرًا لحصول سولچينيتسين علي جائزة نوبل عام 1970.
13–أندريه ساخاروف (1921-1989): عالم نووي سوڤيتي، حاصل علي جائزة نوبل للسلام عام 1975 لدفاعه عن حقوق الإنسان وضحايا السياسة.
14–يلينا بونر (1923-2011): ناشطة في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان في الاتحاد السوڤيتي السابق. الزوجة الثانية لأندريه ساخاروف، قضت الأعوام الأخيرة من حياتها في الولايات المتحدة الأمريكية.
3/17/2018
* نقلا عن جريدة أخبار الأدب المصرية