سنخالف في هذا المقال طريقتنا المألوفة في بناء المقالات؛ والقائمة على الانطلاق من أسئلة إشكالية، لكونه يستهدف تقديم إجابات لحل إشكالية محددة تتصل بالكيفية التي تتمظهر بوساطتها الهوية سردا. نحن نعرف الإجابة التي يُقدمها بول ريكور في هذا الصدد؛ إذ يربط هذا التمظهر بثلاث عناصر: الحبكة السردية، والحياة والفعل المستهدِف. لكننا نرى- من خلال نقدنا السابق لتصوره هذا في المقالات السابقة- أن الهوية السردية لا تنفصل عن علاقة الذات بالموضوع، وما تتميز به من توتر بين التصور (التطلع) والتحقق، ومن تجديل بين ما ينبغي أن يكُون وما ينبغي أن لا يكُون.
ويتم كل فوق أرضية عامة تتمثل في علاقة الإرادة بالبقاء. كما أن الفعل التخييلي لا ينفصل عن الذات وإرادتها في بناء الهوية السردية، وإدراك ذاتها فيه (الفعل)، وأن من اللازم النظر إلى مفهوم الحياة النمطية من زاوية مراجعته، من خلال منظور حياة أخرى يوتوبية؛ وهذه المراجعة تصورية أكثر منها واقعية ملموسة؛ الشيء الذي يجعل من الاستمهاء (هوسرل) واردا، لأن ملموسية الحياة اليوتوبية غير متحققة منذ البداية؛ وهذا يجعل من نقد بول ريكور الأنا المتعالي عند هوسرل من طريق الفعل الملموس محتاجا إلى إعادة النظر؛ فهناك تجديل بين الماهوي (التصوري: إرادة أن أكُون طبيبا لا تحدد طبيبا مشخصا واقعيا) بوصفه وعيا تجاه ما تعطيه لنا الحياة محفوفا بعدم الكفاية ويُعد الفعل الملموس المتجه نحو تجسيد الماهوي قدر تمظهر الهوية السردية. تجعلنا هذه الرؤية المخصوصة نفكر في كون الهوية السردية مبنية ومفتوحة على ما يُنتُج عن التوتر بين التصور (التطلع) المجرد الذهني (رغبات- نوايا- أهداف كامنة ذات طبيعة تفكرية فحسب) وما يُمْكِن فعله من أجل تجسيده في الواقع. هذا التوتر يتمظهر في السرد وفق اشتغال مقولات مُصنفة تُحدد الذات الفاعلة بموجبها انطلاقا من علاقة تجديلية بينها وموضوعها والفعل. ولا يُشترط في هذا الأمر وجود الحبكة أو عدمها؛ فغيابها لا يعني بتاتا انتفاء الذات السردية بوصفها مُريدة، حتى لو كانت خاملة غير فاعلة. أفكر- هنا- بعبد الكريم في رواية «غاندي الصغير» لإلياس خوري، إنه يُمثل ذاتا هي مجرد معبر لأفعال الآخرين، ولا تمتلك تصورا (تطلعا)، لكنها تجد نفسها تفعل وفق تصورات غيرها من الذوات التي تُحدد لها ما ينبغي فعله. ووضعها المحايد تجاه ما يجري في عالمها هو نتاج افتقارها لما ينبغي أن تكُون عليه، بيد أن كل هذا هو نتاج قرار الهجرة من القرية إلى المدينة؛ وهو فعل إرادة قائم على شبه تصور (تطلع)؛ فالهروب من وضع بائس إلى مكان آخر يعني الطموح إلى حياة أفضل. ما هي- إذن- هذه المقولات المُصنفة التي تمظهر اشتغال الهوية سردا؟
نُحدد هذه المقولات المُصنفة في خمس: التحديد، والتوجه، والتثمين، والتقدير، والتعرف. ولا بأس من الحديث- قبل الشروع في فهم محتوى هذه المقولات وطرائق اشتغالها- عن دورها الوظيفي في البناء السردي من جهة، وعن أهميتها في صياغة الهوية السردية من جهة ثانية؛ فهي تساهم أولا في رسم معالم الانتقال من توصيف البنية السردية الدلالية (الترسيمات التي وُضعت لبناء الحكاية: بروب- بريمون- غريماس- ميشال آدم…الخ) في جميع بناءاتها النظرية التي صيغت من قِبل توجهات نظرية مختلفة إلى توصيف الطابع الأنطولوجي والظاهراتي لعلاقة إرادة الذات بموضوعها؛ أي الانتقال من التوصيف الذهني- المنطقي للحكاية إلى فهم تنوعها بفعل تنوع ممارسة العلاقة سابقة الذكر المُجسدة في الواقع الملموس. ولهذا الانتقال تبعات نظرية على مستوى مفهوم الهوية السردية كما سنرى بعد قليل. وتُساهم المقولات المُصنفة ثانيا في بناء الذات السردية بفعل عملها الذي ينقلها من طابعها المجرد الدلالي الماثل في الأدوار والوظائف السردية (النظريات الشكلانية والبنيوية والسيميائية) إلى طابعها الملموس الواقعي المتصِف بالحيوية، والذي يُجدل بين الفكر الذي يتمثل في تصور الاختيارات وكيفيات تحقيقها، ومدى طواعية الواقع لتقبل نتائجه (التصور) ومدى صلاحيته. ويُفضي هذا الانتقال إلى الحديث عن ثلاث هويات سردية، لا هوية واحدة: الهوية المُتصورة والهوية المحققة، والهوية المتخللة؛ فالهوية المتصورة هي هوية ذهنية مجردة وماهوية (ما ينبغي أن أكُون عليه أو ما ينبغي أن لا أكُون عليه)، وتقوم على استشعار عدم كفاية العالم أو الحياة النمطية التي يُوفرها المجتمع للذات بوصفها خيارات للعيش مسننة في السمت الثقافي للجماعة الاجتماعية، وعلى محاولة مجاوزة الواقع نحو بديل حياة آخر. وتُعد الهوية المحققة بمثابة محصلة الجهد في تجسيد الهوية المتصورة بما يعنيه هذا التجسيد من نسبية، ومن تفوق أو إخفاق. وتقوم الهوية المتخللة على تخلل المرور من الهوية المتصورة (الذهني المجرد) إلى الهوية المحققة بوصفها محصلة نهائية، وقد تكُون هذه الهوية المتخللة قوية الحضور أو ضعيفته، وتمثُل في كل أشكال المراجعة التي تُصاحب الصيرورة نحو تحقيق الهدف من الفعل، أو تجسيد التصور (التطلع) في الواقع، وفي كل أشكال التفاوض حول الفعل وصلاحيته، بما يعنيه هذا الأمر من جدال بين الذات وغيرها (راسكولنيكوف وصونيا في «الجريمة والعقاب» لديستويفسكي). وتُعد الهوية المتخللة- التي تقوم بدور الوسيط بين الهوية المتصورة والهوية المحققة – المجال الحيوي لشيئين: أ- فهي مجال الممارسة الدالة على كل أشكال الجدال والصراع والتفاوض حول الفعل، وشرعيته وصلاحيته وطابعه الأخلاقي، ومن ثمة حول شرعية وجود الذات نفسها وهويتها؛ وما يترتب على هذا من اعتراف بها أو إنكارها. ب- وهي مجال التوتر بين التصور والتحققات التي تحدث خلال الصيرورة قبل انغلاق إمكانات الفعل في النهاية، وما يترتب على هذا التوتر من مراجعة للاختيارات إما بتعديلها أو استبدالها.
هناك- إذن- ثلاث هويات، وليست هوية واحدة، ولا تشتغل هذه الهويات من دون تنظيم يُمظهر طبيعة كل واحدة منها من جهة، ويُمظهر اختلافها من جهة ثانية. ويتم هذا التنظيم بوساطة فاعلية المقولات المُصنفة الخمس التي ذكرناها سابقا. وهي مقولات تتعاضد مع تنامي السرد ونوع الهوية السردية على نحو منفرد، كما تتابع عبر جريان السرد. غير أنها تتضافر جميعها في النهاية لتُجيب عن سؤال الاقتناع الأخير (هل هذه هي ذاتي؟)، لا عن سؤال (من يفعل؟ حنا أرندت). صحيح أن هذه المقولات المُصنفة تتصل بتنامي النص السردي، ومروره من مستوى إلى آخر، لكنها تكتسي أهمية أكبر في تحديد هوية الذات السردية. وسنخصص لكل مقولة مقالا خاصا يُوضحها في المقبل من الزمان.
أكاديمي وأديب مغربي
ويتم كل فوق أرضية عامة تتمثل في علاقة الإرادة بالبقاء. كما أن الفعل التخييلي لا ينفصل عن الذات وإرادتها في بناء الهوية السردية، وإدراك ذاتها فيه (الفعل)، وأن من اللازم النظر إلى مفهوم الحياة النمطية من زاوية مراجعته، من خلال منظور حياة أخرى يوتوبية؛ وهذه المراجعة تصورية أكثر منها واقعية ملموسة؛ الشيء الذي يجعل من الاستمهاء (هوسرل) واردا، لأن ملموسية الحياة اليوتوبية غير متحققة منذ البداية؛ وهذا يجعل من نقد بول ريكور الأنا المتعالي عند هوسرل من طريق الفعل الملموس محتاجا إلى إعادة النظر؛ فهناك تجديل بين الماهوي (التصوري: إرادة أن أكُون طبيبا لا تحدد طبيبا مشخصا واقعيا) بوصفه وعيا تجاه ما تعطيه لنا الحياة محفوفا بعدم الكفاية ويُعد الفعل الملموس المتجه نحو تجسيد الماهوي قدر تمظهر الهوية السردية. تجعلنا هذه الرؤية المخصوصة نفكر في كون الهوية السردية مبنية ومفتوحة على ما يُنتُج عن التوتر بين التصور (التطلع) المجرد الذهني (رغبات- نوايا- أهداف كامنة ذات طبيعة تفكرية فحسب) وما يُمْكِن فعله من أجل تجسيده في الواقع. هذا التوتر يتمظهر في السرد وفق اشتغال مقولات مُصنفة تُحدد الذات الفاعلة بموجبها انطلاقا من علاقة تجديلية بينها وموضوعها والفعل. ولا يُشترط في هذا الأمر وجود الحبكة أو عدمها؛ فغيابها لا يعني بتاتا انتفاء الذات السردية بوصفها مُريدة، حتى لو كانت خاملة غير فاعلة. أفكر- هنا- بعبد الكريم في رواية «غاندي الصغير» لإلياس خوري، إنه يُمثل ذاتا هي مجرد معبر لأفعال الآخرين، ولا تمتلك تصورا (تطلعا)، لكنها تجد نفسها تفعل وفق تصورات غيرها من الذوات التي تُحدد لها ما ينبغي فعله. ووضعها المحايد تجاه ما يجري في عالمها هو نتاج افتقارها لما ينبغي أن تكُون عليه، بيد أن كل هذا هو نتاج قرار الهجرة من القرية إلى المدينة؛ وهو فعل إرادة قائم على شبه تصور (تطلع)؛ فالهروب من وضع بائس إلى مكان آخر يعني الطموح إلى حياة أفضل. ما هي- إذن- هذه المقولات المُصنفة التي تمظهر اشتغال الهوية سردا؟
نُحدد هذه المقولات المُصنفة في خمس: التحديد، والتوجه، والتثمين، والتقدير، والتعرف. ولا بأس من الحديث- قبل الشروع في فهم محتوى هذه المقولات وطرائق اشتغالها- عن دورها الوظيفي في البناء السردي من جهة، وعن أهميتها في صياغة الهوية السردية من جهة ثانية؛ فهي تساهم أولا في رسم معالم الانتقال من توصيف البنية السردية الدلالية (الترسيمات التي وُضعت لبناء الحكاية: بروب- بريمون- غريماس- ميشال آدم…الخ) في جميع بناءاتها النظرية التي صيغت من قِبل توجهات نظرية مختلفة إلى توصيف الطابع الأنطولوجي والظاهراتي لعلاقة إرادة الذات بموضوعها؛ أي الانتقال من التوصيف الذهني- المنطقي للحكاية إلى فهم تنوعها بفعل تنوع ممارسة العلاقة سابقة الذكر المُجسدة في الواقع الملموس. ولهذا الانتقال تبعات نظرية على مستوى مفهوم الهوية السردية كما سنرى بعد قليل. وتُساهم المقولات المُصنفة ثانيا في بناء الذات السردية بفعل عملها الذي ينقلها من طابعها المجرد الدلالي الماثل في الأدوار والوظائف السردية (النظريات الشكلانية والبنيوية والسيميائية) إلى طابعها الملموس الواقعي المتصِف بالحيوية، والذي يُجدل بين الفكر الذي يتمثل في تصور الاختيارات وكيفيات تحقيقها، ومدى طواعية الواقع لتقبل نتائجه (التصور) ومدى صلاحيته. ويُفضي هذا الانتقال إلى الحديث عن ثلاث هويات سردية، لا هوية واحدة: الهوية المُتصورة والهوية المحققة، والهوية المتخللة؛ فالهوية المتصورة هي هوية ذهنية مجردة وماهوية (ما ينبغي أن أكُون عليه أو ما ينبغي أن لا أكُون عليه)، وتقوم على استشعار عدم كفاية العالم أو الحياة النمطية التي يُوفرها المجتمع للذات بوصفها خيارات للعيش مسننة في السمت الثقافي للجماعة الاجتماعية، وعلى محاولة مجاوزة الواقع نحو بديل حياة آخر. وتُعد الهوية المحققة بمثابة محصلة الجهد في تجسيد الهوية المتصورة بما يعنيه هذا التجسيد من نسبية، ومن تفوق أو إخفاق. وتقوم الهوية المتخللة على تخلل المرور من الهوية المتصورة (الذهني المجرد) إلى الهوية المحققة بوصفها محصلة نهائية، وقد تكُون هذه الهوية المتخللة قوية الحضور أو ضعيفته، وتمثُل في كل أشكال المراجعة التي تُصاحب الصيرورة نحو تحقيق الهدف من الفعل، أو تجسيد التصور (التطلع) في الواقع، وفي كل أشكال التفاوض حول الفعل وصلاحيته، بما يعنيه هذا الأمر من جدال بين الذات وغيرها (راسكولنيكوف وصونيا في «الجريمة والعقاب» لديستويفسكي). وتُعد الهوية المتخللة- التي تقوم بدور الوسيط بين الهوية المتصورة والهوية المحققة – المجال الحيوي لشيئين: أ- فهي مجال الممارسة الدالة على كل أشكال الجدال والصراع والتفاوض حول الفعل، وشرعيته وصلاحيته وطابعه الأخلاقي، ومن ثمة حول شرعية وجود الذات نفسها وهويتها؛ وما يترتب على هذا من اعتراف بها أو إنكارها. ب- وهي مجال التوتر بين التصور والتحققات التي تحدث خلال الصيرورة قبل انغلاق إمكانات الفعل في النهاية، وما يترتب على هذا التوتر من مراجعة للاختيارات إما بتعديلها أو استبدالها.
هناك- إذن- ثلاث هويات، وليست هوية واحدة، ولا تشتغل هذه الهويات من دون تنظيم يُمظهر طبيعة كل واحدة منها من جهة، ويُمظهر اختلافها من جهة ثانية. ويتم هذا التنظيم بوساطة فاعلية المقولات المُصنفة الخمس التي ذكرناها سابقا. وهي مقولات تتعاضد مع تنامي السرد ونوع الهوية السردية على نحو منفرد، كما تتابع عبر جريان السرد. غير أنها تتضافر جميعها في النهاية لتُجيب عن سؤال الاقتناع الأخير (هل هذه هي ذاتي؟)، لا عن سؤال (من يفعل؟ حنا أرندت). صحيح أن هذه المقولات المُصنفة تتصل بتنامي النص السردي، ومروره من مستوى إلى آخر، لكنها تكتسي أهمية أكبر في تحديد هوية الذات السردية. وسنخصص لكل مقولة مقالا خاصا يُوضحها في المقبل من الزمان.
أكاديمي وأديب مغربي