إذا كان من اللازم توصيف عمل عبد الفتاح كيليطو، سنقول بسرور. small is beautiful (كلّ صغير جميل). هذه الصيغة توافق بشكل محكم كتاباته العديدة: ليست عنده ثرثرة، ليس عنده إسهاب عديم الجدوى. النصوص موجزة، الكتابة مقتضبة، مقتصدة، ممتعة والسبل التي يسلكها لاستحضار النصوص الكبرى للأدب العربي الكلاسيكي هي دائما سبل مثيرة وغير منتظرة. كيليطو ليس من الذين يسلّمونك دراسات نسقية وشاملة للآثار التي يدرسها. على العكس، فهو يعرضها من خلال الشذرة، من خلال الجزئية أوالتفصيل، من خلال النادرة أوالحكاية الصغيرة ، وخاصة يملك فنّ مساءلتها. مقاربة تعمل على تشظية النص، تعمل على أن لا تسمّره وتجمّده في تأويل وحيد، وتمنح للقارئ لذّة التسكّع والحلم. الحلم؟ نعم، لأن دراساته تُقرأ كأنها حكايات بما يندمج فيها من تواريخ وما تترصّع به من مرجعيات وألغاز ظلت دون حلّ. إلى هذا النمط من القراءة يدعونا كتابه الأخير، Les Arabes et l’art du récit . (العرب وفن الحكي، منشورات أكت سود، باريس، يناير 2009 ) .
1 ـ الشغف بألف ليلة وليلة
يعرض عبد الفتاح كيليطو، منذ البداية، مفارقة: يتحدّد العرب، منذ أسحق عهود التاريخ، بأنّهم "شعب الشعر والشعراء بامتياز، ومع ذلك أصبحوا في نظر العالم، أساتذة في فنّ الحكي". في مجرى التنافس الذي كان يضعهم في مزاحمة للماسكين بالتقاليد الفارسية واليونانية، كانوا يواجهونهم بالفخر والتباهي بفنّهم الشعري. من أين أتت إذن إعادة التحديد هذه لتقاليدهم الأدبية؟ يعود الجزء الكبير منها إلى كون القصيدة العربية كان يُحكم عليها دائما بأنّها غير قابلة للترجمة، لا تنقاد إلى الارتحال إلى لغة أخرى. وحتى إن تُرجمت، يظل الولوج إليها صعبا من قبل القارئ غير الناطق بالضّاد لأنّها تفقد من عبقريتها، من إيقاعها ومن قوّتها التعزيمية. هذه الحالة ليست صحيحة فقط بالنسبة للقصيدة العربية. إنها، مع ذلك، وبوجه خاص حقيقية بالنسبة إليها. دون اعتراف الآخر الذي يجهل لغتي، فأنا لا أوجد: "أنا أُترجم إذن أنا موجود" يجمل كيليطو. النتيجة: القصيدة التي لم تكف قطّ عن الوجود وعن احتلال المقام العظيم عند العرب حتى اليوم، ستجد نفسها وقد خسف بها الحكي في أعين غير العرب وأعين الغرب على الخصوص. الشغف المدهش للغربيين بألف ليلة وليلة سيكون مؤثرا في إعادة تأويل للإنتاج الأدبي العربي. كتاب ألف ليلة وليلة، وقد تُرجم للمرة الأولى في التاريخ من قبل الفرنسي أنطوان غالان في نهاية القرن السابع عشر، سيعرف سلالة كونية دون مثيل. كتب غالان في مقدمة ترجمة هذه الحكايات: " لا يجب إلاّ أن تُقرأ حتى نظلّ متفقين على أنه، في هذا الفن، لم نشاهد أجمل منه في أية لغة حتى الآن … إذا كانت الحكايات من هذا الصّنف ممتعة ومسلية بسبب العنصر العجيب والمدهش الذي يعمّها عادة، فإنّها يجب أن تتغلّب وتبزّ لأنّها ‘ تظهر إلى أي مدى فاق العرب الأمم الأخرى في هذا الضرب من التأليف". هكذا، يقلّد غالان العرب سعفة الحكي وإذا جاز القول، سيوقّع لأجل الغربيين عقد ميلاد الأدب السردي العربي. أكثر من ذلك، يستلفت كيليطو الانتباه إلى أنّ الأعمال العربية المعترف والمحتفل بها هي التي يُفترض أنها مارست تأثيرا، مؤكّدا او غير مؤكّد، على الأدب الغربي. هذا هو شأن كليلة ودمنة لابن المقفع بالنسبة لخرافات لافونتين، رسالة الغفران للمعري في نظر الكوميديا الإلهية لدانتي، أو أيضا الرواية الفلسفية حي بن يقظان لابن الطفيل فيما يتعلّق بروبنسون كروزو لدانييل ديفو.
2 ـ الحكي، تقليد إسلامي
لكنّ التفوّق الذي حازه فنّ الحكي على القصيدة في الأدب العربي، ألم يكن له أصل محض عربي، ومتوطد في الديانة الإسلامية؟ القرآن لم يحسب حسابا للشعراء وحرص على تأكيد أنّ الرسول محمد ليس واحدا منهم: "وما علّمناه الشعر وما ينبغي له" (سورة يس، الآية 67 ). لمّا كان وحي الرسول من مصدر إلهي، اقتضى التقليد أن يكون وحي الشاعر من مصدر شيطاني. من ثمّ هذا التعارض في الإسلام بين النبوة والشعر. مع ذلك، لن يمنع هذا الأمر القصيدة العربية من أن تواصل الوجود ومن أن تتطوّر على نحو مزدهر. فيما يتعلّق بالحكي، مارسه العرب مبكّرا وإن لم يكن لهذا الحكي نزعة أدبية خالصة. فأيام العرب الشهيرة، قبل الإسلام، تروي بتفصيل المعــارك التي كانت تنشب بين القبائل وبين فرسانها الأبطال. مع مجيء الإسلام، تعدّدت منابع السّرد: القرآن غني بالمحكيات النبوية (قصص الأنبياء) ؛ الأحاديث، وحسب اشتقاق الكلمة، ليست شيئا آخر سوى السّرد الذي يخبر عن أفعال وأقوال الرسول محمد ؛ السيرة هي سرد لحياة الرسول …ما يوضّحه كيليطو في "العرب وفنّ الحكيّ" هو بخاصّة العلاقة بين الكتابة والسلطة السياسية من خلال القراءة الحاذقة التي يقوم بها لبعض النصوص الكبرى. يشدّد على أنّ عددا لا يستهان به من المحكيات رُويت أو كُتبت بناء على أمر، على طلب وبإذن من الملك. المثال الأكثر رمزية يوجد في ألف ليلة وليلة: شهرزاد مدينة بحياتها، ليس فقط لحيلتها وموهبتها الحكائية، ولكن أيضا وخصوصا لكون الملك، شهريار، يأذن لها كلّ ليلة بمواصلة حكاية الليلة الماضية. صرح آخر من الأدب العربي، كليلة ودمنة، ــ في نسخته الأصلية الهندية ثمّ الفارسية، قبل أن يصبح عربيا ــ لا يفلت من هذه القاعدة إذ أنّه ثمرة طلب انتقل من ملك الهند إلى الفيلسوف بيدبا. يذكّر كليطو أنّ المؤلفين الكلاسيكيين (الحريري، الجاحظ، التوحيدي، إلخ) يعلنون في الغالب ــ للاتقاء وللاستفادة من هذا الشكل من التكليف معا ــ أنّ مؤلفاتهم تلبّي أمر سلطة ما، شريك ما حقيقي أو متخيّل. ضرب من "اكتبْ !" يحاكي "اقرأْ" التي تلقاها الرسول محمد من الملك جبريل. غير أنّ الإحالة إلى النموذج النبوي، وإن كانت ماثلة بجلاء، إلاّ أنّها لا يمكنها الذهاب بعيدا. لا أحد، بالفعل، يمكنه المجازفة بالمنافسة مع لغة القرآن التي جعلت من خاصية الإعجاز المعيار الرفيع لكلّ البلاغة العربية.
3ـ المستويات المزدوجة للقراءة
ولكليطو أن يضيف أنّ هذا الإنتاج تحت الطلب غير منفصل عن ‘"لحذر والخوف من الاضطهاد". في الواقع، وفي الأنظمة المستبدة بخاصة، كلّ حقيقة ليس من الملائم قولها وليس من الملائم قولها أمام أيّ كان. "الكتابة، كما يقول، هي عملية محفوفة بالمخاطر وبأخذ الاحتراسات للاتقاء من العدو المترصّد " هذا ما يفسّر انبثاق خطاب ظاهري منفتح على عامة الناس، مبطّن بخطاب باطني محجوز للخاصة. هكذا، عند ابن المقفع، ماذا يفعل بطلاه، ابنا آوى، كليلة ودمنة سوى أن يسردا نوادر ودسائس البلاط في شكل محتجب من حكايات على ألسنة الحيوانات يمكن للجمهور الواسع ان يستحسنها، وفي نفس الوقت تقدّم نصائح وتلقن قواعد السلوك أو الحكم الموجّهة للأمراء؟ هذا المستوى المزدوج من القراءة يوجد في موضع آخر. إنّها حالة "حي بن يقظان" الذي يقول عنه كيليطو "إنّه يتألف من كتابين، الأول مفتوح للعامّة، الآخر، مقصور على الفلاسفة". الكلام إذن إلى هذه الدرجة محفوف بالمخاطر حتى أنّ كتاب "كليلة ودمنة" لا يكفّ عن تنبيه من يتجرّأ ويتجاسر على تناوله أي الكلام: "الزم السّكوت، فإنّ فيه السلامة … " (ص 56)، غير أن فيلسوف هذه الخرافة، بيدبا، لا يقرضها أذنا ويعتبر، مجازفا بحياته، أنّ من واجبه أن يتكلّم: "ولا يسعنا في حكمتنا إبقاؤه (أي الملك) على ما هو عليه من سوء السيرة وقبح الطريقة " (ص 46). لا يريد بيدبا أن يُقال عنه يوما: "انّه كان بيدبا الفيلسوف في زمان دبشليم الطاغي ولم يردّه عمّا كان عليه " (ص 66). مثال رائع للمثقف الملتزم الذي سيؤدّي الثمن غاليا إذ أنّ الملك سيرميه في السجن قبل أن يتراجع عن قراره ويدرك أن ّ الفيلسوف لم تكن تحركّه إلاّ الحكمة والفضيلة. سيذهب الملك بعيدا، بحيث سيطلب من الفيلسوف أن يضع له كتابا: "وقد أحببت أن تضع لي كتابا بليغا تستفرغ فيه عقلك، يكون ظاهره سياسة العامة وتأديبها وباطنه اخلاق الملوك وسياستها للرعيّة" (ص 68 ).
4 ـ فنّ الاستشهاد
للاحتماء من المخاطر المرتبطة بالكلام وبالكتابة، عثر المؤلفون العرب القدامى على التقيّة أو التوقي: الاقتباس / الاستشهاد. مهرب ممتاز، كما يعتقدون، ليقولوا على ألسنة الآخرين ما هم أنفسهم يريدون تبليغه. غير أنّهم، بالرغم من ذلك، لم يكونوا في مأمن من الإدانة أوالاضطهاد لأنّ الاقتباس / الاستشهاد مزدوج: إنّه، في نفس الوقت، وسيلة حذرة لحجب الفكرة وطريقة ماهرة ولكن خطرة لنزع هذا الحجاب عنها. "الاقتباس / الاستشهاد يوقظ ريبة تواطؤ ما" يوضّح كيليطو. في الواقع، كيف نتيقن أنّ الذي يستشهد ويقتبس ويشرح أقاويل محكوما عليها بالإدانة والعقاب، لا يستغلها ليدعم معتقده الخفي، بالرّغم من الاحتياطات الخطابية المحيطة به؟ عديدون هم الكتاب العرب الذين التجأوا إلى هذا الأسلوب، تمكّنوا، عبر أدب الطلب، عبر الخطاب الظاهر والخطاب الخفي وعبر توظيف الاستشهاد من بين ميزات أخرى، من تطوير حيل الكتابة والقول. من هذه الوجهة، هم يمتـثـلون لما قاله الفيلسوف الألماني المعاصر ليو شتراوس في بحثه "الاضطهاد وفن الكتابة": "الاضطهاد يولّد تقنية خاصة في الكتابة وبالنتيجة نمطا خاصا من الأدب، حيث الحقيقة حول كلّ القضايا الأساسية تُقال وتُعرض حصرا بين السطور". إلى هذه التقنية في الكتابة، يجب أن يناظرها بالضرورة قارئ متمرّس، محنّك ليحلّ رموزها وشفرتها. يعود الأمر، بالطّبع، إلى التأديب، إلى المعاشرة الفطنة والنقدية للنصوص لخلق مثل هذا القارئ. كيليطو يدعونا، على وجه الخصوص، إلى هذا التمرين المحرّض. هو الذي، يمكن أن نتساءل بعد قراءة وإعادة إغلاق "العرب وفن الحكي" إذا لم يكن، على طريقته، كلّ واحد من الأوجه السردية التي حلّلها ببراعة؟
: TELQUEL , N 374 , mai 2009 , p: 68 – 72
روث غروريشار
أستاذة مبرزة في اللغة والحضارة العربية ــ باريس
1 ـ الشغف بألف ليلة وليلة
يعرض عبد الفتاح كيليطو، منذ البداية، مفارقة: يتحدّد العرب، منذ أسحق عهود التاريخ، بأنّهم "شعب الشعر والشعراء بامتياز، ومع ذلك أصبحوا في نظر العالم، أساتذة في فنّ الحكي". في مجرى التنافس الذي كان يضعهم في مزاحمة للماسكين بالتقاليد الفارسية واليونانية، كانوا يواجهونهم بالفخر والتباهي بفنّهم الشعري. من أين أتت إذن إعادة التحديد هذه لتقاليدهم الأدبية؟ يعود الجزء الكبير منها إلى كون القصيدة العربية كان يُحكم عليها دائما بأنّها غير قابلة للترجمة، لا تنقاد إلى الارتحال إلى لغة أخرى. وحتى إن تُرجمت، يظل الولوج إليها صعبا من قبل القارئ غير الناطق بالضّاد لأنّها تفقد من عبقريتها، من إيقاعها ومن قوّتها التعزيمية. هذه الحالة ليست صحيحة فقط بالنسبة للقصيدة العربية. إنها، مع ذلك، وبوجه خاص حقيقية بالنسبة إليها. دون اعتراف الآخر الذي يجهل لغتي، فأنا لا أوجد: "أنا أُترجم إذن أنا موجود" يجمل كيليطو. النتيجة: القصيدة التي لم تكف قطّ عن الوجود وعن احتلال المقام العظيم عند العرب حتى اليوم، ستجد نفسها وقد خسف بها الحكي في أعين غير العرب وأعين الغرب على الخصوص. الشغف المدهش للغربيين بألف ليلة وليلة سيكون مؤثرا في إعادة تأويل للإنتاج الأدبي العربي. كتاب ألف ليلة وليلة، وقد تُرجم للمرة الأولى في التاريخ من قبل الفرنسي أنطوان غالان في نهاية القرن السابع عشر، سيعرف سلالة كونية دون مثيل. كتب غالان في مقدمة ترجمة هذه الحكايات: " لا يجب إلاّ أن تُقرأ حتى نظلّ متفقين على أنه، في هذا الفن، لم نشاهد أجمل منه في أية لغة حتى الآن … إذا كانت الحكايات من هذا الصّنف ممتعة ومسلية بسبب العنصر العجيب والمدهش الذي يعمّها عادة، فإنّها يجب أن تتغلّب وتبزّ لأنّها ‘ تظهر إلى أي مدى فاق العرب الأمم الأخرى في هذا الضرب من التأليف". هكذا، يقلّد غالان العرب سعفة الحكي وإذا جاز القول، سيوقّع لأجل الغربيين عقد ميلاد الأدب السردي العربي. أكثر من ذلك، يستلفت كيليطو الانتباه إلى أنّ الأعمال العربية المعترف والمحتفل بها هي التي يُفترض أنها مارست تأثيرا، مؤكّدا او غير مؤكّد، على الأدب الغربي. هذا هو شأن كليلة ودمنة لابن المقفع بالنسبة لخرافات لافونتين، رسالة الغفران للمعري في نظر الكوميديا الإلهية لدانتي، أو أيضا الرواية الفلسفية حي بن يقظان لابن الطفيل فيما يتعلّق بروبنسون كروزو لدانييل ديفو.
2 ـ الحكي، تقليد إسلامي
لكنّ التفوّق الذي حازه فنّ الحكي على القصيدة في الأدب العربي، ألم يكن له أصل محض عربي، ومتوطد في الديانة الإسلامية؟ القرآن لم يحسب حسابا للشعراء وحرص على تأكيد أنّ الرسول محمد ليس واحدا منهم: "وما علّمناه الشعر وما ينبغي له" (سورة يس، الآية 67 ). لمّا كان وحي الرسول من مصدر إلهي، اقتضى التقليد أن يكون وحي الشاعر من مصدر شيطاني. من ثمّ هذا التعارض في الإسلام بين النبوة والشعر. مع ذلك، لن يمنع هذا الأمر القصيدة العربية من أن تواصل الوجود ومن أن تتطوّر على نحو مزدهر. فيما يتعلّق بالحكي، مارسه العرب مبكّرا وإن لم يكن لهذا الحكي نزعة أدبية خالصة. فأيام العرب الشهيرة، قبل الإسلام، تروي بتفصيل المعــارك التي كانت تنشب بين القبائل وبين فرسانها الأبطال. مع مجيء الإسلام، تعدّدت منابع السّرد: القرآن غني بالمحكيات النبوية (قصص الأنبياء) ؛ الأحاديث، وحسب اشتقاق الكلمة، ليست شيئا آخر سوى السّرد الذي يخبر عن أفعال وأقوال الرسول محمد ؛ السيرة هي سرد لحياة الرسول …ما يوضّحه كيليطو في "العرب وفنّ الحكيّ" هو بخاصّة العلاقة بين الكتابة والسلطة السياسية من خلال القراءة الحاذقة التي يقوم بها لبعض النصوص الكبرى. يشدّد على أنّ عددا لا يستهان به من المحكيات رُويت أو كُتبت بناء على أمر، على طلب وبإذن من الملك. المثال الأكثر رمزية يوجد في ألف ليلة وليلة: شهرزاد مدينة بحياتها، ليس فقط لحيلتها وموهبتها الحكائية، ولكن أيضا وخصوصا لكون الملك، شهريار، يأذن لها كلّ ليلة بمواصلة حكاية الليلة الماضية. صرح آخر من الأدب العربي، كليلة ودمنة، ــ في نسخته الأصلية الهندية ثمّ الفارسية، قبل أن يصبح عربيا ــ لا يفلت من هذه القاعدة إذ أنّه ثمرة طلب انتقل من ملك الهند إلى الفيلسوف بيدبا. يذكّر كليطو أنّ المؤلفين الكلاسيكيين (الحريري، الجاحظ، التوحيدي، إلخ) يعلنون في الغالب ــ للاتقاء وللاستفادة من هذا الشكل من التكليف معا ــ أنّ مؤلفاتهم تلبّي أمر سلطة ما، شريك ما حقيقي أو متخيّل. ضرب من "اكتبْ !" يحاكي "اقرأْ" التي تلقاها الرسول محمد من الملك جبريل. غير أنّ الإحالة إلى النموذج النبوي، وإن كانت ماثلة بجلاء، إلاّ أنّها لا يمكنها الذهاب بعيدا. لا أحد، بالفعل، يمكنه المجازفة بالمنافسة مع لغة القرآن التي جعلت من خاصية الإعجاز المعيار الرفيع لكلّ البلاغة العربية.
3ـ المستويات المزدوجة للقراءة
ولكليطو أن يضيف أنّ هذا الإنتاج تحت الطلب غير منفصل عن ‘"لحذر والخوف من الاضطهاد". في الواقع، وفي الأنظمة المستبدة بخاصة، كلّ حقيقة ليس من الملائم قولها وليس من الملائم قولها أمام أيّ كان. "الكتابة، كما يقول، هي عملية محفوفة بالمخاطر وبأخذ الاحتراسات للاتقاء من العدو المترصّد " هذا ما يفسّر انبثاق خطاب ظاهري منفتح على عامة الناس، مبطّن بخطاب باطني محجوز للخاصة. هكذا، عند ابن المقفع، ماذا يفعل بطلاه، ابنا آوى، كليلة ودمنة سوى أن يسردا نوادر ودسائس البلاط في شكل محتجب من حكايات على ألسنة الحيوانات يمكن للجمهور الواسع ان يستحسنها، وفي نفس الوقت تقدّم نصائح وتلقن قواعد السلوك أو الحكم الموجّهة للأمراء؟ هذا المستوى المزدوج من القراءة يوجد في موضع آخر. إنّها حالة "حي بن يقظان" الذي يقول عنه كيليطو "إنّه يتألف من كتابين، الأول مفتوح للعامّة، الآخر، مقصور على الفلاسفة". الكلام إذن إلى هذه الدرجة محفوف بالمخاطر حتى أنّ كتاب "كليلة ودمنة" لا يكفّ عن تنبيه من يتجرّأ ويتجاسر على تناوله أي الكلام: "الزم السّكوت، فإنّ فيه السلامة … " (ص 56)، غير أن فيلسوف هذه الخرافة، بيدبا، لا يقرضها أذنا ويعتبر، مجازفا بحياته، أنّ من واجبه أن يتكلّم: "ولا يسعنا في حكمتنا إبقاؤه (أي الملك) على ما هو عليه من سوء السيرة وقبح الطريقة " (ص 46). لا يريد بيدبا أن يُقال عنه يوما: "انّه كان بيدبا الفيلسوف في زمان دبشليم الطاغي ولم يردّه عمّا كان عليه " (ص 66). مثال رائع للمثقف الملتزم الذي سيؤدّي الثمن غاليا إذ أنّ الملك سيرميه في السجن قبل أن يتراجع عن قراره ويدرك أن ّ الفيلسوف لم تكن تحركّه إلاّ الحكمة والفضيلة. سيذهب الملك بعيدا، بحيث سيطلب من الفيلسوف أن يضع له كتابا: "وقد أحببت أن تضع لي كتابا بليغا تستفرغ فيه عقلك، يكون ظاهره سياسة العامة وتأديبها وباطنه اخلاق الملوك وسياستها للرعيّة" (ص 68 ).
4 ـ فنّ الاستشهاد
للاحتماء من المخاطر المرتبطة بالكلام وبالكتابة، عثر المؤلفون العرب القدامى على التقيّة أو التوقي: الاقتباس / الاستشهاد. مهرب ممتاز، كما يعتقدون، ليقولوا على ألسنة الآخرين ما هم أنفسهم يريدون تبليغه. غير أنّهم، بالرغم من ذلك، لم يكونوا في مأمن من الإدانة أوالاضطهاد لأنّ الاقتباس / الاستشهاد مزدوج: إنّه، في نفس الوقت، وسيلة حذرة لحجب الفكرة وطريقة ماهرة ولكن خطرة لنزع هذا الحجاب عنها. "الاقتباس / الاستشهاد يوقظ ريبة تواطؤ ما" يوضّح كيليطو. في الواقع، كيف نتيقن أنّ الذي يستشهد ويقتبس ويشرح أقاويل محكوما عليها بالإدانة والعقاب، لا يستغلها ليدعم معتقده الخفي، بالرّغم من الاحتياطات الخطابية المحيطة به؟ عديدون هم الكتاب العرب الذين التجأوا إلى هذا الأسلوب، تمكّنوا، عبر أدب الطلب، عبر الخطاب الظاهر والخطاب الخفي وعبر توظيف الاستشهاد من بين ميزات أخرى، من تطوير حيل الكتابة والقول. من هذه الوجهة، هم يمتـثـلون لما قاله الفيلسوف الألماني المعاصر ليو شتراوس في بحثه "الاضطهاد وفن الكتابة": "الاضطهاد يولّد تقنية خاصة في الكتابة وبالنتيجة نمطا خاصا من الأدب، حيث الحقيقة حول كلّ القضايا الأساسية تُقال وتُعرض حصرا بين السطور". إلى هذه التقنية في الكتابة، يجب أن يناظرها بالضرورة قارئ متمرّس، محنّك ليحلّ رموزها وشفرتها. يعود الأمر، بالطّبع، إلى التأديب، إلى المعاشرة الفطنة والنقدية للنصوص لخلق مثل هذا القارئ. كيليطو يدعونا، على وجه الخصوص، إلى هذا التمرين المحرّض. هو الذي، يمكن أن نتساءل بعد قراءة وإعادة إغلاق "العرب وفن الحكي" إذا لم يكن، على طريقته، كلّ واحد من الأوجه السردية التي حلّلها ببراعة؟
: TELQUEL , N 374 , mai 2009 , p: 68 – 72
روث غروريشار
أستاذة مبرزة في اللغة والحضارة العربية ــ باريس