في ليالي رمضان كنت أبتهج عندما تطلب مني أمي أن أبقى لأنام
في بيت ستي أم العبد
– عمتها- لأنها وحيدة بعد رحيل زوجها ...فبيتها (عقد) قديم تطل نوافذه الواسعة في
الطابق العلوي على باحة جامع الزيتونة العامر بالمصلين السهيرة في الليالي الفضيلة..
أسهر معهم مستأنسة بلحظات وضوئهم تحت ألعريشة(المظلة) الجميلة الخضراء
المضلعة ,المسقوفة بالقرميد والتي طالما بهرتني بألوانها في طفولتي...بانت بعيني
فراشة طائرة بين أشجار الموز الباسقة العريضة الأوراق ... أتابع خرير الماء وأقدامهم
الواقفة على عتبات رخامية, وأدعية يلهجون بها ..ثم يصدح أذان العشاء الذي يهز فضاء
المدينة وأعشقه ...صوت جدي لأمي المؤذن ألحاج حسين بعمامته البيضاء ولحيته الطويلة
ومعطفه الأبيض فوق الشروال الأبيض...وأكون قد لحقت به عندما أتى ليرفع أذان الظهر
مع بقية الصحبة الجالسة على عتبتي بوابة الجامع الرخاميتين ,وما أن يدخل الباب المؤدي
الى درج المئذنة اللولبي حتى نلحق به بصمت متسترين, ننتظر اختفاء طرف معطفه الأبيض
الخفيف وعكازه لنصعد, واذا به ينهرنا بصوته الجهوري لننزل...أبقى وحدي وأصر وأصعد
متسرقة الخطوات الصغيرة حتى أصل غير مصدقة الدرجة الأخيرة أمام فتحة الباب ..
ألمح جدي يدور حول المئذنة بخشوع المتصوف منتظرا سقوط الشمس في البحر...ويلمحني
في دورته الثانية بنظرتي المتوسلة حنيته..ويا للمفاجأة ..يبتسم لي, يأخذني من يدي حتى تطأ
قدماي أرض شرفة المئذنة "الحلم" ودقات قلبي رفيف عصفور بين ضلوعي..يقول لي :
" امسكي الدرابزين منيح يا جدي" أطيعه بامتنان فرح...لأول مرة أشاهد عكا من فوق والبحر
ككف اليد فأصاب بذهول طفلة تحولت كل كلها الى عينين ويكون صوت جدي قد انطلق
كمدفع الافطار مسبحا الخالق..لا أنسى سحر ما رأيت وماذا فعل بي وكأنه اليوم...
وأكون أيضا قد قمت بمشواري الرمضاني اليومي قبل الافطار ..حاملة صحن الطبيخ
الساخن الذي ترسلني به ستي أم العبد للشيخ أبي علي رضوان القاطن في جامع الزيتونة
" بحنحن عليه يا ستي , وحداني ملوش حدا...اخطية... " فقد رحل أهله مع الهجيج المحزن
يوم النكبة... وتمزح أحيانا " يالله يا ستي تعالي ودي الصحن لخطيبي" ضاحكة كاشفة عن
أسنانها المنتظمة- لم أع أنذاك أنها ليست طبيعية- أحمل الصحن الممتلئ بحذر وأعبر
الزاروب الى بوابة الجامع أدخل الزقاق الداخلي المقنطر, أمر بشبابيك الحرم عن يميني,
مسيجة بحديد على شكل مربعات, أنظر كما عادتي الى الداخل أرى المصلين كيف يسجدون
وصوت الامام الذي أعهده الشيخ أحمد الضرير...وتشدني بسحرها كلمة ( ألرحمن )لا أدري
لماذا؟! أهو حرف النون المقعر نصف دائرة كالقمر والنقطة تجمله سابحة في بطنه ؟
أم أن موسيقاها ترن في أذني مسبحة ياسم الله ...وظلت تلفتني حتى كبرت وفوجئت باعجاب
شاعرنا العظيم درويش بها..واستوقفني الأمر ..ذكر الكلمة – ألرحمن- ووصف النون يا ألله
وأنهى القصيدة:" فبأي اّلاء ربكما تكذبان"؟! تسمرت عندها, لدى قراءتي , منسحبة الى نفسي,
الي هناك, وكأني أسقي حبق الطفولة ليفح الشذا...أخطو على مهل ..لأصل الى عريشة
الوضوء ..تستوقفني وصحن الطبيخ يئن فوق كفي..أنظر هذه المرة اليها من أسفل متفحصة
داخلها وتقعر الخيمة الجميلة التي سحرتني مطلة عليها من النافذة...بتؤدة أتحرك بمحاذاة
السياج واذا بصوت ستي تمازحني من فوق " يالله يا ستي قبل أذان المغرب "..
اقترب موعد الافطار وأنا كالطفلة الزنجية الجميلة في فيلم – ذهب مع الريح- في طريقها
لاستدعاء الطبيب المولد لحالة سيدتها المستعصية ..تتهادي في خيالها الحالم وتغني وتتفرج
على الطيور حتى تلد السيدة وحدها ... أسلم الصحن بعد أن برد لأبي علي رضوان يبتسم لي
..وأنتظره ليرجع الصحن ممتلئا - بالطرشي-ألمخللات المتنوعة المشهية ...مشدودة وهو
يحضرها للقبر المجاور لغرفته وسط الحاكورة المرشومة بالورود الملونة..أسائل روحي كيف
ينام وسريره قرب الباب قريب من الضريح ولا يخاف؟ ( علمت أنه للشيخ حسين عبد الهادي
والي صيدا ومركزها عكا عام 1838). أعود مهرولة لأن جدي قد رفع صوت اذان المغرب
..وصوته الرخيم, بين جدران الجامع بأحجارها الكبيرة القديمة, التي ألمسها بكفي كلما مررت,
يجلجل حتى ليكاد يهزها هزا..وأدخل (العقد) بعد أن أخلع نعلي من قدمي ..فالارض طاهرة
مفروشة للصلاة..وهي متربعة منتظرة أمام طبلية الافطارالخشبية المستديرة الملأى بأطايب
الطعام ..ترمقني بنظرة عتاب على تأخري مبتسمة ..أجلس لأفطر معها..
تسرد علي قصة في السهرة...كما كنا نستمع اليها في سهراتنا الرمضانية ببيتنا ..رجالا
ونساء شيبا وشبابا واطفالا...وتطلب مني أن أقوم الى المطبخ لأجلب لها كوبا من الماء ..
أحرج وأقول لها " خلي أختي تجيبلك " فيضحك السهيرة في بيتنا بقهقهات يسمعها الجيران ..
لأنني مرعوبة من الجن والجان في الحكاية التي سردتها...وكانت البلد تتندر بنهفاتها دائما..وماذا
أجابت الدكتور أنور الشقيري في زيارته لبيتها :" أديش عمرك ؟" ليصف لها الدواء .." يعني يا
دكتور أحسن متقول عني بزغر حالي ...سبعتعش" فيقهقه الدكتور أنور ...وحتى أنا تطلب مني
ونحن جالستان على الطراحة أرضا وهي تقحمش الخبز لنغمسه بالزيت والزعتر مع كوب الشاي
أن اضع يدي على المشبك المعدني الساخن فوق بابور الفتلي ( الساكت) أفتح عيني على وسعهما
فاغرة فاي " بس المشبك حامي يا ستي" تجيبني بجدية : " أنا مخصنيش ,هياني قلتلك, مش تروحي
تقولي لأمك أني مقلتلكيش تحطي ايدك هون" ؟!! وألمح بسمتها المخفية على ضفاف فمها...أضحك.
وكان لها الفضل في رؤيتي لجبل الكرمل بأنواره المزدحمة والملونة كتلة ماس متلألئة , عندما أخذتني
معها لزيارة حفيدتها اليتيمة المتزوجة في حيفا..لا أنسى كيف صرخت سائلة بدهشة: ايش هدا اللي
ضاوي وبلمع يا ستي ؟! أجابتني والجميع يضحك :" هدا جبل الكرمل يا ستي" !
لكن في نهاراتي معها كانت وجها اّخر ..تحدث مولولة ساكبة دموعها المدرارة :" ألأولة اّه..."
وتقص قصة ابنها الذي مات من مرض السل وكيف أخذته للعلاج في بيروت..."والثانية اّه...."
وتقص عن ابنها الثاني الذي راح في انفجار "الحسبة" من غارات الألمان على حيفا والريفايناري
- مصانع تكرير البترول-...ولم تودعه ..لم يجدوا أشلاء جثمانه...وتشهق بعويل مر يكسر ظهر
طفلة لا تكاد تعي معنى الموت ...ربما كان هذا سببا في حزن دفين في نني عيني...أليوم...!
وحكايا أخرى تأخذني بعد تلاوة القرأن على مصطبة المسجد تجويدا وهم يتربعون على
طراريح مصفوفة فوق (حصر القش) متكئين على مساند المصطبة الممتدة خارج المسجد...
والأضواء مشعة تكشف جمال الأعمدة الرخامية الضخمة ألمتنوعة الأشكال ..ألمبرومة
والمجدولة بألوان خلابة ..كل شيء جميل بعيني طفلة كأنني أطل على صندوق عجب ساحر ...
وعندما أضع راسي الصغيرة على مخدتي غير راضية بترك الفرجة...نسمع صوتا منبعثا من
غرفة الدخول أسفل ... حركة ما ..تقول لي ستي حانية :" ما تخافي يا ستي ..هدا شيخ البير ,
بطلع من البئر( الموجود في الزاوية اليسارية لغرفة المدخل) لابس عباي بيضا ... بحمل
ابريق الفخارال على حفة البير وبمشي لحوض الغسل .. بتوضا...وبروح جنب البير ..بصلي...
وبرجع ينزل عالبير" أو يختفي ربما..لا أذكر بدقة ما سردته لكنني أذكر جيدا أنني سألتها خائفة
مرتجفة القلب : " أنت شفتيه يا ستي؟! " تأتي اجابتها مؤكدة واثقة أن رأته بأم عينها ...فكيف
يأتيني نوم بعد الرعب الذي هاجمني تلك الليلة ؟! كيف وشيخ البير بالأبيض هناك ؟ ..أسفل
الدرج الخشبي, ألدرج الذي أحببته وكأنه يصعد بي الى بيت الدمية . وكيف أمر صباحا قربه
وأنا خارجة من غرفة (العقد) القديم الواسعة عائدة لبيتنا ...بل لحضن أمي فارعة دارعة حيث
لا شيخ عندنا ولا بير ...
لم أعد بعدها للنوم في بيت ستي أم العبد...أبدا...
ساميه قزموز بكري 16.6.2017
قراءة قصة " شيخ البير "
بقلم : عبدالجبار العلمي
الأديبة الفنانة الفلسطينية سامية قزموز بكري فنانة مسرحية، من أشهر أعمالها مسرحية"الزاروب "، وقد قدمتها في مسرح محمد الخامس بالرباط منذ سنوات. بالإضافة إلى إبداعها المسرحي، تكتب في فنون أدبية أخرى ومنها القصة القصيرة:
قصة "شيخ البير "الذي قرأناه أعلاه، نصٌّ سردي يقطر رقة وبراءةَ طُفولة، ويكشفُ عن دهشة اكتشاف العالم الصغير الذي نشأت فيه الكاتبة في مدينة عكا المنيعة وبداية التعرف على واقع النكبة. سرد ساحر من خلال عين طفلة تنفتح على أجواء عجائبية وروحية، استطاعَ أنْ ينقلَ لنا بصدق وبلغة جميلة شفافة أحاسيس عشناها في طفولتنا في أيام شهر رمضان، وكأنها تنقل ما كان يحياه الأطفال في كل البلاد العربية ومدنها الأصيلة من أقاصي المغرب إلى أقاصي المشرق . إنه الأدب الرفيع الذي يعبر بصدق عن جزئيات الحياة اليومية وأدق المشاعر الإنسانية، فيتغلغل إلى شغاف القلوب. ما جعل السرد يقطر عذوبة وقربا إلى القلوب هو استخدام الكاتبة للغة الحياة اليومية ( اللهجة الشامية أو الفلسطينية ) في حوارات الشخصيات البسيطة مثل الأم والجد المؤذن وأم العبد وأبي علي رضوان وغيرها. لا يمكن أن ينسى القارئ الفضاءات التي تدور فيها أحداث القصة - السيرية التي تصفُها عينُ الطفلة ببراءة ودهشة والكثير من الدقة: الزاروب - درابزين ـ شرفة المئذنة المطلة على مدينة عكا وبحرها- السلَّم اللولبي المؤدي إلى أعلى الصومعة - بئر الشيخ الغامضة .. ومن الأشياء التي تستوقف القارئ أيضا إحساس الطفلة بالكلمات التي كانت تُنصِتُ إليها أثناء تلاوة القرآن من لدن الشيخ الضرير في صلاة المغرب. كلمة الرحمن مثلا : نجد أن الكاتبة تصفُ ما خلفته من أثر عميق في نفسها، فتصف الكلمة وصفاً شاعرياً متأثرة بموسيقاها وسحرها ( تشدني بسحرها كلمة الرحمن، لا أدري لماذا؟ أهو حرف النون المقعر نصف دائرة كالقمر والنقطة تجعله سابحة في بطنه ؟ .. أم موسيقاها ترن في أذني مُسَبِّحة باسمِ الله ؟.. ) . يقطر النص عذوبة وشاعرية من خلال الوصف ، نقرأ : " فراشة طائرة بين أشجار الموز الوثيقة العريضة الأوراق ... "، ونقرأ في فقرة سردية أخرى معبرة عن عودتها إلى زمن الطفولة لدى قراءتها لفظ الرحمن في قصيدة لمحمود درويش في زمن الكتابة": تسمَّرت عندها..منسحِبة إلى نفسي، إلى هنالك وكأني أسقي حبق الطفولة ليفوح بالشذا ..أخطو على مهل لأصل إلى عَريشةِ الضوء .." قصة القاصة الفنانة سامية قزموز بكري هي قطعة جميلة من سيرتها الذاتية التي نتمنى أن نراها مطبوعة في كتاب قريبا. إنها تقدم لنا متعة الفن الرفيع بلغة شاعرية شفافة ،فضلا عن تعريفنا بفضاءات فلسطين العتيقة وبأسماء رجالاتها الأفذاذ الذين نجهل العديد منهم.
في بيت ستي أم العبد
– عمتها- لأنها وحيدة بعد رحيل زوجها ...فبيتها (عقد) قديم تطل نوافذه الواسعة في
الطابق العلوي على باحة جامع الزيتونة العامر بالمصلين السهيرة في الليالي الفضيلة..
أسهر معهم مستأنسة بلحظات وضوئهم تحت ألعريشة(المظلة) الجميلة الخضراء
المضلعة ,المسقوفة بالقرميد والتي طالما بهرتني بألوانها في طفولتي...بانت بعيني
فراشة طائرة بين أشجار الموز الباسقة العريضة الأوراق ... أتابع خرير الماء وأقدامهم
الواقفة على عتبات رخامية, وأدعية يلهجون بها ..ثم يصدح أذان العشاء الذي يهز فضاء
المدينة وأعشقه ...صوت جدي لأمي المؤذن ألحاج حسين بعمامته البيضاء ولحيته الطويلة
ومعطفه الأبيض فوق الشروال الأبيض...وأكون قد لحقت به عندما أتى ليرفع أذان الظهر
مع بقية الصحبة الجالسة على عتبتي بوابة الجامع الرخاميتين ,وما أن يدخل الباب المؤدي
الى درج المئذنة اللولبي حتى نلحق به بصمت متسترين, ننتظر اختفاء طرف معطفه الأبيض
الخفيف وعكازه لنصعد, واذا به ينهرنا بصوته الجهوري لننزل...أبقى وحدي وأصر وأصعد
متسرقة الخطوات الصغيرة حتى أصل غير مصدقة الدرجة الأخيرة أمام فتحة الباب ..
ألمح جدي يدور حول المئذنة بخشوع المتصوف منتظرا سقوط الشمس في البحر...ويلمحني
في دورته الثانية بنظرتي المتوسلة حنيته..ويا للمفاجأة ..يبتسم لي, يأخذني من يدي حتى تطأ
قدماي أرض شرفة المئذنة "الحلم" ودقات قلبي رفيف عصفور بين ضلوعي..يقول لي :
" امسكي الدرابزين منيح يا جدي" أطيعه بامتنان فرح...لأول مرة أشاهد عكا من فوق والبحر
ككف اليد فأصاب بذهول طفلة تحولت كل كلها الى عينين ويكون صوت جدي قد انطلق
كمدفع الافطار مسبحا الخالق..لا أنسى سحر ما رأيت وماذا فعل بي وكأنه اليوم...
وأكون أيضا قد قمت بمشواري الرمضاني اليومي قبل الافطار ..حاملة صحن الطبيخ
الساخن الذي ترسلني به ستي أم العبد للشيخ أبي علي رضوان القاطن في جامع الزيتونة
" بحنحن عليه يا ستي , وحداني ملوش حدا...اخطية... " فقد رحل أهله مع الهجيج المحزن
يوم النكبة... وتمزح أحيانا " يالله يا ستي تعالي ودي الصحن لخطيبي" ضاحكة كاشفة عن
أسنانها المنتظمة- لم أع أنذاك أنها ليست طبيعية- أحمل الصحن الممتلئ بحذر وأعبر
الزاروب الى بوابة الجامع أدخل الزقاق الداخلي المقنطر, أمر بشبابيك الحرم عن يميني,
مسيجة بحديد على شكل مربعات, أنظر كما عادتي الى الداخل أرى المصلين كيف يسجدون
وصوت الامام الذي أعهده الشيخ أحمد الضرير...وتشدني بسحرها كلمة ( ألرحمن )لا أدري
لماذا؟! أهو حرف النون المقعر نصف دائرة كالقمر والنقطة تجمله سابحة في بطنه ؟
أم أن موسيقاها ترن في أذني مسبحة ياسم الله ...وظلت تلفتني حتى كبرت وفوجئت باعجاب
شاعرنا العظيم درويش بها..واستوقفني الأمر ..ذكر الكلمة – ألرحمن- ووصف النون يا ألله
وأنهى القصيدة:" فبأي اّلاء ربكما تكذبان"؟! تسمرت عندها, لدى قراءتي , منسحبة الى نفسي,
الي هناك, وكأني أسقي حبق الطفولة ليفح الشذا...أخطو على مهل ..لأصل الى عريشة
الوضوء ..تستوقفني وصحن الطبيخ يئن فوق كفي..أنظر هذه المرة اليها من أسفل متفحصة
داخلها وتقعر الخيمة الجميلة التي سحرتني مطلة عليها من النافذة...بتؤدة أتحرك بمحاذاة
السياج واذا بصوت ستي تمازحني من فوق " يالله يا ستي قبل أذان المغرب "..
اقترب موعد الافطار وأنا كالطفلة الزنجية الجميلة في فيلم – ذهب مع الريح- في طريقها
لاستدعاء الطبيب المولد لحالة سيدتها المستعصية ..تتهادي في خيالها الحالم وتغني وتتفرج
على الطيور حتى تلد السيدة وحدها ... أسلم الصحن بعد أن برد لأبي علي رضوان يبتسم لي
..وأنتظره ليرجع الصحن ممتلئا - بالطرشي-ألمخللات المتنوعة المشهية ...مشدودة وهو
يحضرها للقبر المجاور لغرفته وسط الحاكورة المرشومة بالورود الملونة..أسائل روحي كيف
ينام وسريره قرب الباب قريب من الضريح ولا يخاف؟ ( علمت أنه للشيخ حسين عبد الهادي
والي صيدا ومركزها عكا عام 1838). أعود مهرولة لأن جدي قد رفع صوت اذان المغرب
..وصوته الرخيم, بين جدران الجامع بأحجارها الكبيرة القديمة, التي ألمسها بكفي كلما مررت,
يجلجل حتى ليكاد يهزها هزا..وأدخل (العقد) بعد أن أخلع نعلي من قدمي ..فالارض طاهرة
مفروشة للصلاة..وهي متربعة منتظرة أمام طبلية الافطارالخشبية المستديرة الملأى بأطايب
الطعام ..ترمقني بنظرة عتاب على تأخري مبتسمة ..أجلس لأفطر معها..
تسرد علي قصة في السهرة...كما كنا نستمع اليها في سهراتنا الرمضانية ببيتنا ..رجالا
ونساء شيبا وشبابا واطفالا...وتطلب مني أن أقوم الى المطبخ لأجلب لها كوبا من الماء ..
أحرج وأقول لها " خلي أختي تجيبلك " فيضحك السهيرة في بيتنا بقهقهات يسمعها الجيران ..
لأنني مرعوبة من الجن والجان في الحكاية التي سردتها...وكانت البلد تتندر بنهفاتها دائما..وماذا
أجابت الدكتور أنور الشقيري في زيارته لبيتها :" أديش عمرك ؟" ليصف لها الدواء .." يعني يا
دكتور أحسن متقول عني بزغر حالي ...سبعتعش" فيقهقه الدكتور أنور ...وحتى أنا تطلب مني
ونحن جالستان على الطراحة أرضا وهي تقحمش الخبز لنغمسه بالزيت والزعتر مع كوب الشاي
أن اضع يدي على المشبك المعدني الساخن فوق بابور الفتلي ( الساكت) أفتح عيني على وسعهما
فاغرة فاي " بس المشبك حامي يا ستي" تجيبني بجدية : " أنا مخصنيش ,هياني قلتلك, مش تروحي
تقولي لأمك أني مقلتلكيش تحطي ايدك هون" ؟!! وألمح بسمتها المخفية على ضفاف فمها...أضحك.
وكان لها الفضل في رؤيتي لجبل الكرمل بأنواره المزدحمة والملونة كتلة ماس متلألئة , عندما أخذتني
معها لزيارة حفيدتها اليتيمة المتزوجة في حيفا..لا أنسى كيف صرخت سائلة بدهشة: ايش هدا اللي
ضاوي وبلمع يا ستي ؟! أجابتني والجميع يضحك :" هدا جبل الكرمل يا ستي" !
لكن في نهاراتي معها كانت وجها اّخر ..تحدث مولولة ساكبة دموعها المدرارة :" ألأولة اّه..."
وتقص قصة ابنها الذي مات من مرض السل وكيف أخذته للعلاج في بيروت..."والثانية اّه...."
وتقص عن ابنها الثاني الذي راح في انفجار "الحسبة" من غارات الألمان على حيفا والريفايناري
- مصانع تكرير البترول-...ولم تودعه ..لم يجدوا أشلاء جثمانه...وتشهق بعويل مر يكسر ظهر
طفلة لا تكاد تعي معنى الموت ...ربما كان هذا سببا في حزن دفين في نني عيني...أليوم...!
وحكايا أخرى تأخذني بعد تلاوة القرأن على مصطبة المسجد تجويدا وهم يتربعون على
طراريح مصفوفة فوق (حصر القش) متكئين على مساند المصطبة الممتدة خارج المسجد...
والأضواء مشعة تكشف جمال الأعمدة الرخامية الضخمة ألمتنوعة الأشكال ..ألمبرومة
والمجدولة بألوان خلابة ..كل شيء جميل بعيني طفلة كأنني أطل على صندوق عجب ساحر ...
وعندما أضع راسي الصغيرة على مخدتي غير راضية بترك الفرجة...نسمع صوتا منبعثا من
غرفة الدخول أسفل ... حركة ما ..تقول لي ستي حانية :" ما تخافي يا ستي ..هدا شيخ البير ,
بطلع من البئر( الموجود في الزاوية اليسارية لغرفة المدخل) لابس عباي بيضا ... بحمل
ابريق الفخارال على حفة البير وبمشي لحوض الغسل .. بتوضا...وبروح جنب البير ..بصلي...
وبرجع ينزل عالبير" أو يختفي ربما..لا أذكر بدقة ما سردته لكنني أذكر جيدا أنني سألتها خائفة
مرتجفة القلب : " أنت شفتيه يا ستي؟! " تأتي اجابتها مؤكدة واثقة أن رأته بأم عينها ...فكيف
يأتيني نوم بعد الرعب الذي هاجمني تلك الليلة ؟! كيف وشيخ البير بالأبيض هناك ؟ ..أسفل
الدرج الخشبي, ألدرج الذي أحببته وكأنه يصعد بي الى بيت الدمية . وكيف أمر صباحا قربه
وأنا خارجة من غرفة (العقد) القديم الواسعة عائدة لبيتنا ...بل لحضن أمي فارعة دارعة حيث
لا شيخ عندنا ولا بير ...
لم أعد بعدها للنوم في بيت ستي أم العبد...أبدا...
ساميه قزموز بكري 16.6.2017
قراءة قصة " شيخ البير "
بقلم : عبدالجبار العلمي
الأديبة الفنانة الفلسطينية سامية قزموز بكري فنانة مسرحية، من أشهر أعمالها مسرحية"الزاروب "، وقد قدمتها في مسرح محمد الخامس بالرباط منذ سنوات. بالإضافة إلى إبداعها المسرحي، تكتب في فنون أدبية أخرى ومنها القصة القصيرة:
قصة "شيخ البير "الذي قرأناه أعلاه، نصٌّ سردي يقطر رقة وبراءةَ طُفولة، ويكشفُ عن دهشة اكتشاف العالم الصغير الذي نشأت فيه الكاتبة في مدينة عكا المنيعة وبداية التعرف على واقع النكبة. سرد ساحر من خلال عين طفلة تنفتح على أجواء عجائبية وروحية، استطاعَ أنْ ينقلَ لنا بصدق وبلغة جميلة شفافة أحاسيس عشناها في طفولتنا في أيام شهر رمضان، وكأنها تنقل ما كان يحياه الأطفال في كل البلاد العربية ومدنها الأصيلة من أقاصي المغرب إلى أقاصي المشرق . إنه الأدب الرفيع الذي يعبر بصدق عن جزئيات الحياة اليومية وأدق المشاعر الإنسانية، فيتغلغل إلى شغاف القلوب. ما جعل السرد يقطر عذوبة وقربا إلى القلوب هو استخدام الكاتبة للغة الحياة اليومية ( اللهجة الشامية أو الفلسطينية ) في حوارات الشخصيات البسيطة مثل الأم والجد المؤذن وأم العبد وأبي علي رضوان وغيرها. لا يمكن أن ينسى القارئ الفضاءات التي تدور فيها أحداث القصة - السيرية التي تصفُها عينُ الطفلة ببراءة ودهشة والكثير من الدقة: الزاروب - درابزين ـ شرفة المئذنة المطلة على مدينة عكا وبحرها- السلَّم اللولبي المؤدي إلى أعلى الصومعة - بئر الشيخ الغامضة .. ومن الأشياء التي تستوقف القارئ أيضا إحساس الطفلة بالكلمات التي كانت تُنصِتُ إليها أثناء تلاوة القرآن من لدن الشيخ الضرير في صلاة المغرب. كلمة الرحمن مثلا : نجد أن الكاتبة تصفُ ما خلفته من أثر عميق في نفسها، فتصف الكلمة وصفاً شاعرياً متأثرة بموسيقاها وسحرها ( تشدني بسحرها كلمة الرحمن، لا أدري لماذا؟ أهو حرف النون المقعر نصف دائرة كالقمر والنقطة تجعله سابحة في بطنه ؟ .. أم موسيقاها ترن في أذني مُسَبِّحة باسمِ الله ؟.. ) . يقطر النص عذوبة وشاعرية من خلال الوصف ، نقرأ : " فراشة طائرة بين أشجار الموز الوثيقة العريضة الأوراق ... "، ونقرأ في فقرة سردية أخرى معبرة عن عودتها إلى زمن الطفولة لدى قراءتها لفظ الرحمن في قصيدة لمحمود درويش في زمن الكتابة": تسمَّرت عندها..منسحِبة إلى نفسي، إلى هنالك وكأني أسقي حبق الطفولة ليفوح بالشذا ..أخطو على مهل لأصل إلى عَريشةِ الضوء .." قصة القاصة الفنانة سامية قزموز بكري هي قطعة جميلة من سيرتها الذاتية التي نتمنى أن نراها مطبوعة في كتاب قريبا. إنها تقدم لنا متعة الفن الرفيع بلغة شاعرية شفافة ،فضلا عن تعريفنا بفضاءات فلسطين العتيقة وبأسماء رجالاتها الأفذاذ الذين نجهل العديد منهم.