في فترة الثمانينيات كنت رئيسا لقسم البرامج الثقافية في تلفزيون العراق وصادف ضمن جلساتنا الصباحية ان التقيت باحد الشعراء الشباب الذين يتعاملون مع برامج القسم ، وطلب مني ايضاحا وديا عن سبب ظهور اسمه مع قصائده مجردا،ويقصد بدون كتابة ” الشاعر الكبير ” ، واردف قائلا : ماهي مقاييسكم للشاعر الكبير والشاعر الصغير !، فقلت له إن الفرق واضح ولا يحتاج الى ايضاح ! فهناك اسباب اهمها الشاعرية والقدرة على قول ماهو مختلف ، فقال لي ليس هذا مهما ! ولم يقتنع بإجابتي ولم اقتنع بتعقيبه ! ومضى كل منا في حال سبيله متكدرا بعض الشيء ولم يفسد هذا الخلاف للود قضية مابيننا ، وبقيت اتابعه الى اليوم ولم اجد كلمة ” الكبير ” مع اسمه عند عرض قصائده في التلفزيون ! في الحقيقة يصعب تعريف الشعر وانواعه المختلفة بالرغم من وجود تعريفات جاهزة ، وقال البعض إن الشعر هو مايحمل علو الخاطر من كلام لم يقصد به الشعر بالاساس فلا يقال له شعر وان كان موزونا ، وقد عرَفه ابن خلدون بانه ” الكلام بليغ المعنى على الاستعارة والتوصيف ” اذن هو شكل من اشكال الفن الادبي في اللغة التي تستخدم الجمالية بالصفات ، اما من الناحية الموضوعية فإن الشعر هو العلم ، ومن هذه النماذج قول احمد شوقي :وما نيل المطالب بالتمني / ولكن تؤخذ الدنيا غلابا .. وقول المتنبي : انا الذي نظر الاعمى الى ادبي / واسمعت كلماتي من به صمم .. وقول الامام الشافعي : ولا خير في ود امريء متلون / اذا الريح مالت مال حيث تميل ..وقول الجواهري :حييت سفحك عن بعد فحييني / يادجلة الخير ياام البساتين / حييت سفحك ظمآنا الوذ به / لوذ الحمائم بين الماء والطين ! هؤلاء هم الشعراء الكبار !وهنا اتوقف عند شاعر كبير لم يأخذ حظه في الشيوع والانتشار هو محمود البريكان الذي انتقل مقتولا ،الى رحاب الله عن 61 عاما ، وكان ولد في مدينة الزبير بمحافظة البصرة وهو من الشعراء الرواد والمجددين في الشعر العربي الحديث مثل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي وامل دنقل وغيرهم . وكان السياب من المقربين من البريكان وفي مرة وعندما كان السياب في زيارة لبيت البريكان بدآ يتناوبان قراءة قصائدهما ، قرأ عليه البريكان احدى قصائده ، تجلى السياب مع القصيدة ، وضرب بقبضته على الطاولة وصاح بصوت مرتفع : ” هذا هو الشعر ، هكذا يكون الشعر ” ! وفي عام 1951 كتب البريكان ملحمته الشعرية ” اعماق المدينة ” قرأها على السياب فاعجبته ، وبعد ذلك بثلاث سنوات قال له السياب إنه استلهم منها قصيدته الطويلة ” حفار القبور ” ، هكذا كان البريكان يمتاز بعظمة الإبداع الشعري وكان الَمَلمح الابرز في حياته هو : العزلة والتواضع !للبريكان دواوين عدة ، منها ” حارس الفنار ” و ” البدوي الذي لم ير وجهه احد ” وديوان “متاهة الفراشة ” اخترت منه السطور التالية : اعددت مائدتي وهيأت الكؤوس / متى يجيء الزائر المجهول / اوقدت القناديل الصغيرة / ببقية الزيت المضيء /فهل يطول الانتظار / انا بانتظار سفينة الاشباح تحدوها الرياح /في اعمق الساعات صمتا /كالنصل فوق الماء حين يخاف طير ان يطير / انا في انتظار الزائر الآتي/ يجيء بلا خطى !وله دواوين غير منشورة منها ” الرقص في المدافن ” و ” عوالم متداخلة ” وله ايضا مجموعة خاصة بالاطفال ومما يمكن ان يروى ، عن البريكان والسياب ، هو الجلسة الاستذكارية التي اقيمت في مبرة البهجة بالعشار ، وبحضور نخبة من الأدباء والمهتمين بالشعر والادب والسياب خاصة ، وعندما اعتلى البريكان المنصة اخرج ورقة من جيبه وبدأ يقرأ فيها عن الشاعر المحتفى به ، عن شعره وتميزه وتفرده ومحاولته التجديدية في الشعر العربي الحديث ، وعندما انتهى من قراءته طوى الورقة واعادها الى جيبه وهو يقول : هل تراني تحدثت عن السياب ، واوفيته حقه ؟ اعتقد ذلك ! لقد كانت كلمته خالية من اسم الشاعر السياب ، كيف تم ذلك ، كان يكتفي احيانا بكلمة الشاعر ” مجردة ” كيف تم ذلك ؟ تم لفرط الحميمية التي تجمعهما ، وتفهمهما المشترك للشعر وقيمته الانسانية .