على رغم وجود عدد من الدراسات النقدية التي تناولته، ما زال مفهوم (التجريب) عرضة للغموض الشائك، إلاّ أن دراسة علمية بدت لافتة في مجالها تلك التي ضمّها كتاب الباحث العراقي مناف جلال الموسوي (واسط 1981) الذي جاءت إلى عنوان (غواية التجريب: دراسة في التجريب الشعري عند جيل السبعينيات في العراق)، والصادر مؤخراً عن دار الشؤون الثقافية العامة في بغداد عام 2012، استطاعت أن تضع الكثير من الإشكاليات المحيطة بهذا المفهوم موضع الدرس والتحليل النّظري والتطبيقي.
يتضمن الكتاب تمهيداً بمبحثين وثلاثة فصول تفرّعت، بدورها، إلى ستة مباحث يحدد المؤلف فيها بعض الفروق بين تجربة الشاعر في حياته الشعرية والتجريب بوصفه منحنى في تجربة الشاعر؛ فعندما نشر عبد الوهاب البياتي كتابه (تجربتي الشعرية) تحدّث عن مسيرة كتابته الشعر في حياته، ولكن، وعندما نتحدّث عن التجريب، فإننا نكون بصدد أسلوب في كتابة الشعر شاع في مرحلة معينة من الزمان.
وفي هذا الصدد، يرى المؤلّف أن التجريب ليس سوى "رغبة في التحديث أو لأسباب جمالية أو نتيجة لظروف اجتماعية وسياسية فرضتها متطلّبات المرحلة وهي التي حتمت على الأديب أن يجرّب محاولة منه للتغيير والتطوير بهدف نقل الواقع المعيشي إلى واقع يستوعب أحلامه الخيالية اعتقاداً منه بأن ما وراء العالم الملموس يوجد عالم أفضل، لذا يبقى كل مُجرّب في شوق دائم نحو الأحدث".
أما عن علاقة التجريب بالحداثة، فيرى الموسوي أن "التجريب سمة من سمات الحداثة، لأننا نتعرّف على التجريب (Experimentation) عن طريق المخالفة، وهذا ما تدعو إليه الحداثة التي تتطوّر بتطوّر التجريب"، وهذا بدوره يتطلّب قدراً من الحرية التي يجب أن يتمتع بها الشاعر في تجريب الحالة الإبداعية لديه من أجل خلق عوالمه الإبداعية القائمة على التجريب.
وإذا كان مفهوم التجريب يعاني من إشكاليات التفسير، فإن مفهوم الجيل (Generation) هو الآخر عرضة لمشكلات الفهم والتحليل والتفسير. وهذا ما دعا الموسوي إلى التوقف عنده من خلال مفهوم (شعراء جيل السبعينيات) في العراق الذي ظهر ابتداء من شهر أيار عام 1973 في مجلة (الكلمة) تحت عنوان (ما بعد شعراء الستينيات)، ومن ثم وقَّع عدد من الشعراء بياناً (Manifest) دعوا فيه إلى كتابة القصيدة اليومية، وهم كل من غزاي درع الطائي، وخزعل الماجدي، وعبد الحسين صنكور، ليس بعيداً عن سلام كاظم وزاهر الجيزاني.
وفي ظل هذا الزحف التجديدي واجه شعراء هذا الجيل مزيداً من التحديات التي شارك فيها الجيل الذي سبقهم من الشعراء والنقاد، وأطراف أخرى معاصرة لهم من كلا الفئتين، وهو حال طبيعي يواجه أية نزعة إبداعية تجديدية تظهر في مرحلة ما.
لقد لجأ بعض شعراء تلك المرحلة إلى اللغة البسيطة تعبيراً عن حراك الحياة اليومية، بل والدعوة إلى "الواقع والوقائع، وكذلك إلى الانشغال باليومي والاعتيادي والمشهدي وربط كل ذلك بالحلم الجماعي". إن اللجوء إلى اليومي والمعاش وبلغة تواكب اليومي في هديره الوجودي هو ما أراده شعراء تلك المرحلة عبر تجريب كتابي إبداعي لإثبات "المغايرة لتجربتهم" من خلال "كتابة القصيدة اليومية والتجريب الذي حاولوه في كتابتها كونها تمثل شكلاً من أشكال التغيير في بنية القصيدة اليومية الحديثة". ولهذا عمد الموسوي إلى تحليل مجموعة من النّصوص الخاصَّة بشعراء هذا الجيل، ومنهم: خزعل الماجدي، وسلام إبراهيم، وشاكر لعيبي، وهاشم شفيق، ورعد عبد القادر.
وعلى رغم أن "الفنتازيا Fantastic تبدو عملاً تجريبياً ابتدأ عند الغرب في المجال السردي"، يقول المؤلّف، ويضيف: أنها "بدأت مع جيل الستينيات كجزء من تجربتهم". ويؤكّد أن الشعراء السبعينيين أوغلوا في استخدام الفنتازيا حتى يمكن القول إنه جيل الفنتازيا تعبيراً منهم عن رؤيتهم الشعرية التي تمثّلت في قصائدهم؛ (أنكيدو) و(تعويذة المنزل) لسلام كاظم، و(غامضة دماء الشعراء) لكمال سبتي، و(أغنية الإله مردوخ) لزاهر الجيزاني، و(الحروب السعيدة) لرعد عبد القادر، وحية ودرج لخزعل الماجدي. ولعل الناظر في نصوص عدد من شعراء هذا الجيل يلاحظ الإيغال الجمالي اللافت لديهم في توظيف قيم هذا المنحى الشعري الذي بدا في حينه متحاً شعرياً مغايراً.
في الفصل الثاني، ينتقل المؤلّف إلى دراسة التجريب في البنية الشعرية من خلال نماذج شعرية لهذا الجيل سواء في قصائهم الطويلة أم القصيرة، وذلك عبر مفهوم التناص (Intertextuality) الذي غلبت تجريبيته على شعراء جيل السبعينيات في العراق، والتي من خلالها حاول أولئك الشعراء "استحضار التجارب السابقة، والتواصل مع التراث الإنساني والأدبي، وإعادة خلقه من جديد كآلية فنية للتعبير"، وهو ما تبدّى في قصائد أربعة منهم؛ خزعل الماجدي، وسلام كاظم، ورعد عبد القادر، وكمال سبتي.
وفي هذا المجال يرى الموسوي أن قصائد أولئك الشعراء تبدو عملاً تجريبياً "تتواشج فيه عناصر التناص مع التأريخي والمقدّس، وتتجلى فيه روح التجريب الشكلي والأيقوني عبر مستويات النّص؛ ففيه المتن، وفيه والهامش، وفيه والحاشية، ويتحرك النّص في مستويات بنائية وأسلوبية عدّة حيث يطالعنا منه النّص التقليدي وشعر التفعيلة والنثر، وتتسلّل إليه مقاطع من كتب التاريخ والسيرة والحوار والسرد بمختلف أشكاله، وكذلك تعدّد الأصوات، وتحتدم اللعبة الشعرية بدءً من العنوان الموهم حتى ختام النّص".
ليس التناص وحده هو ما يميز تجربة شعراء الجيل السبعيني، بل تراهم صبّوا تجاربهم الشعرية في قصائد مطوّلة إلى جانب قصائدهم القصيرة أو الشذرية، وحقيقة الأمر أن "المطوّلات الشعرية تعد شكلاً بنائياً مهيمناً على معمارية القصيدة الحديثة"، إلاّ أن ذلك لا يعني أن جيل الستينيات لم يجرّب كتابة القصيدة المطولة، إذ كان الشاعر حسب الشيخ جعفر يكتب قصيدته (عبر الحائط في المرآة)، وكذلك الشاعر فاضل العزاوي الذي كتب قصيدته (الشجرة الشرقية)، وكذلك خالد علي مصطفى في قصيدته (سفر بين الينابيع)، وهي قصائد اهتمت بالملحمي والأسطوري والدرامي، بينما اهتمت قصيدة جيل السبعينيات بالكشف عن "أبنية فنية جديدة تمثلت في الخروج على النّظام السطري أو تجاوز التكثيف في العبارة إلى التفصيل، وهو ما طرحه عدد من شعراء ذاك الجيل ضمن محاولاتهم التجريبية في فلك القصيدة التي يكتبونها، وتمثّل في قصيدة النثر، وفي النّص المفتوح بوصفه بنية ذات أثر، ومحدّدات نهائية. وكذلك يتسم هذا النّمط من الكتابة باللاشكل إذ إنه يجمع في تكوينه بُنى شعرية وسردية، وينفتح على المعرفي، ويلتحم فيه الملحمي داخل المسرحي، والأسطوري بالواقعي، والفنتازي بالطبيعي في جدل كتابي يسعى إلى توليد نص جديد". كما هو الحال في قصيدة زاهر الجيزاني (كآبة الملك)، وقصيدة سلام كاظم (الملوك العزل)، وقصيدة خزعل الماجدي (خزائيل).
أما في تجاربهم في المقصرات الشعرية، على أن القصر "ليس معناه قلة عدد الأسطر؛ فقد تكون القصيدة طويلة من حيث عدد الأسطر فيها، لكنها قصيرة ما دامت تصوّر موقفاً عاطفياً باتجاه واحد". ويؤرى المؤلّف أن القصيدة القصيرة "ظهرت، على تعدّد أنماطها، في الشعر السبعيني ضمن محاولاتهم في التجريبية الشعرية لأنّها تتيح للشاعر متابعة مواقفه باتجاه واحد، بل وهيمنت القصيدة القصيرة على منجزهم الشعري، وتمكّنت من تقديم تجاربهم ضمن مفاصل القصيدة لتتكامل باتجاه واحد ضمن مناخ نفسي موحد". لقد تجلى ذلك في (قصيدة الومضة)، وفي قصيدة (القصيدة القصيرة وحيدة الموضوع)، وكذلك في (القصيدة المقطع) أو (القصيدة الحلزونية)، بحسب المصطلح الشائع، وهو ما جرّبه شعراء الجيل السبعيني في العراق من خلال ما كتبوا في هذا المجال.
لقد لعب الشعر العربي الحديث دوراً في تكريس بنية موسيقية مغايرة، وهذا ما يبحثه المؤلّف في الفصل الثالث والأخير من كتابه؛ إذ يدرس في المبحث الأول ظواهر التنويع (تنوع الأوزان تبعاً للمقاطع الشعرية التي تؤلّف بمجموعها القصيدة الكاملة)، والتدوير (الدورة الإيقاعية الواحدة)، والتداخل (تداخل بحر شعري في آخر)، والتناوب (تكوين القصيدة موسيقياً من الشكلين التقليدي والحر والعمودي والتفعيلة)، والتناوب (اختلاط الشعر بالنثر في بنية القصيدة الواحدة)، وهي مفاهيم إجرائية اختبر دلالتها شعراء السبعينيات في العراق من أجل خلق موسيقى جديدة تحف بها قصائدهم الشعرية الحديثة.
أما كسر النّمط الكتابي فقد شكَّل ظاهرةً لدى شعراء الجيل السبعيني سواء "ما كان مكتوباً وفق النّظام العربي العمودي أو التفعيلة أو عن طريق امتزاج الشكل البصري بالخطاب اللغوي مقترحين الاشتغال الفضائي في النّص الشعري، ومستعينين للتعبير عنه بالصورة البصرية". أي ذلك الميل النافر إلى كتابة القصيدة البصرية التي تعود جذورها الغربية إلى بدايات مطلع القرن العشرين مع الدادائيين والسرياليين وما تلاهم من الشعراء.
تبدو تجربة شعراء العراق في ذلك العقد ذات ثراء رحب، ولذلك يدرس الموسوي الشكل البصري بالملفوظ أو الرّسم بالألفاظ في نص شعري بصري، كما هو حال قصيدة رعد عبد القادر (جوائز السنة الكبيسة)، الذي استثمر البياض والسواد في حيز الصفحة المكاني مع تجزئة الملفوظات الشعرية ما خلق نصاً بصرياً. وكذلك، وفي القصيدة نفسها، لجأ عبد القادر إلى رسم الطلاسم بالملافظ الشعرية باليد وليس بالحروف الطباعية الحديثة بغية خلق بنية دلالية بصرية مزدوجة الأداء. بينما لجأ خزعل الماجدي في قصيدته (دعاء عنتر) إلى تعدُّد الخطوط الكتابية بغية كسر خطية النّمط الطباعي وتوليد دلالة بصرية مغايرة في كتابة القصيدة الحديثة.
إن تجربة من هذا النوع لم تقف فقط عند التلاعب بالبنية الخطية والحروفية، إنما تستقطب الأشكال الكتابية البصرية كالطلاسم والأشكال المجدولة أو المربعة أو المستطيلة أو الدائرية أو المثلثة أو أسماء آيات الله الحسنى كما هو الحال في بعض قصائد رعد عبد القادر وشاكر لعيبي، وهي تجارب شعرية أخذت تسود حتى في القصيدة العربية خارج العراق.
يبدو لي أن كتاب الباحث العراقي مناف جلال الموسوي (غواية التجريب: دراسة في التجريب الشعري عند جيل السبعينيات في العراق)، يمثل دراسة متقدّمة في مجالها سواء على الصعيد الأكاديمي أو الثقافي العام كونها تعرض بالدرس والتحليل والتطبيق إلى شعريات القصيدة الحديثة في العراق خلال مرحلة استأنف فيها القول الشعري مسيرته الإبداعية بما يمثّل قطيعة إبداعية - معرفية.
يتضمن الكتاب تمهيداً بمبحثين وثلاثة فصول تفرّعت، بدورها، إلى ستة مباحث يحدد المؤلف فيها بعض الفروق بين تجربة الشاعر في حياته الشعرية والتجريب بوصفه منحنى في تجربة الشاعر؛ فعندما نشر عبد الوهاب البياتي كتابه (تجربتي الشعرية) تحدّث عن مسيرة كتابته الشعر في حياته، ولكن، وعندما نتحدّث عن التجريب، فإننا نكون بصدد أسلوب في كتابة الشعر شاع في مرحلة معينة من الزمان.
وفي هذا الصدد، يرى المؤلّف أن التجريب ليس سوى "رغبة في التحديث أو لأسباب جمالية أو نتيجة لظروف اجتماعية وسياسية فرضتها متطلّبات المرحلة وهي التي حتمت على الأديب أن يجرّب محاولة منه للتغيير والتطوير بهدف نقل الواقع المعيشي إلى واقع يستوعب أحلامه الخيالية اعتقاداً منه بأن ما وراء العالم الملموس يوجد عالم أفضل، لذا يبقى كل مُجرّب في شوق دائم نحو الأحدث".
أما عن علاقة التجريب بالحداثة، فيرى الموسوي أن "التجريب سمة من سمات الحداثة، لأننا نتعرّف على التجريب (Experimentation) عن طريق المخالفة، وهذا ما تدعو إليه الحداثة التي تتطوّر بتطوّر التجريب"، وهذا بدوره يتطلّب قدراً من الحرية التي يجب أن يتمتع بها الشاعر في تجريب الحالة الإبداعية لديه من أجل خلق عوالمه الإبداعية القائمة على التجريب.
وإذا كان مفهوم التجريب يعاني من إشكاليات التفسير، فإن مفهوم الجيل (Generation) هو الآخر عرضة لمشكلات الفهم والتحليل والتفسير. وهذا ما دعا الموسوي إلى التوقف عنده من خلال مفهوم (شعراء جيل السبعينيات) في العراق الذي ظهر ابتداء من شهر أيار عام 1973 في مجلة (الكلمة) تحت عنوان (ما بعد شعراء الستينيات)، ومن ثم وقَّع عدد من الشعراء بياناً (Manifest) دعوا فيه إلى كتابة القصيدة اليومية، وهم كل من غزاي درع الطائي، وخزعل الماجدي، وعبد الحسين صنكور، ليس بعيداً عن سلام كاظم وزاهر الجيزاني.
وفي ظل هذا الزحف التجديدي واجه شعراء هذا الجيل مزيداً من التحديات التي شارك فيها الجيل الذي سبقهم من الشعراء والنقاد، وأطراف أخرى معاصرة لهم من كلا الفئتين، وهو حال طبيعي يواجه أية نزعة إبداعية تجديدية تظهر في مرحلة ما.
لقد لجأ بعض شعراء تلك المرحلة إلى اللغة البسيطة تعبيراً عن حراك الحياة اليومية، بل والدعوة إلى "الواقع والوقائع، وكذلك إلى الانشغال باليومي والاعتيادي والمشهدي وربط كل ذلك بالحلم الجماعي". إن اللجوء إلى اليومي والمعاش وبلغة تواكب اليومي في هديره الوجودي هو ما أراده شعراء تلك المرحلة عبر تجريب كتابي إبداعي لإثبات "المغايرة لتجربتهم" من خلال "كتابة القصيدة اليومية والتجريب الذي حاولوه في كتابتها كونها تمثل شكلاً من أشكال التغيير في بنية القصيدة اليومية الحديثة". ولهذا عمد الموسوي إلى تحليل مجموعة من النّصوص الخاصَّة بشعراء هذا الجيل، ومنهم: خزعل الماجدي، وسلام إبراهيم، وشاكر لعيبي، وهاشم شفيق، ورعد عبد القادر.
وعلى رغم أن "الفنتازيا Fantastic تبدو عملاً تجريبياً ابتدأ عند الغرب في المجال السردي"، يقول المؤلّف، ويضيف: أنها "بدأت مع جيل الستينيات كجزء من تجربتهم". ويؤكّد أن الشعراء السبعينيين أوغلوا في استخدام الفنتازيا حتى يمكن القول إنه جيل الفنتازيا تعبيراً منهم عن رؤيتهم الشعرية التي تمثّلت في قصائدهم؛ (أنكيدو) و(تعويذة المنزل) لسلام كاظم، و(غامضة دماء الشعراء) لكمال سبتي، و(أغنية الإله مردوخ) لزاهر الجيزاني، و(الحروب السعيدة) لرعد عبد القادر، وحية ودرج لخزعل الماجدي. ولعل الناظر في نصوص عدد من شعراء هذا الجيل يلاحظ الإيغال الجمالي اللافت لديهم في توظيف قيم هذا المنحى الشعري الذي بدا في حينه متحاً شعرياً مغايراً.
في الفصل الثاني، ينتقل المؤلّف إلى دراسة التجريب في البنية الشعرية من خلال نماذج شعرية لهذا الجيل سواء في قصائهم الطويلة أم القصيرة، وذلك عبر مفهوم التناص (Intertextuality) الذي غلبت تجريبيته على شعراء جيل السبعينيات في العراق، والتي من خلالها حاول أولئك الشعراء "استحضار التجارب السابقة، والتواصل مع التراث الإنساني والأدبي، وإعادة خلقه من جديد كآلية فنية للتعبير"، وهو ما تبدّى في قصائد أربعة منهم؛ خزعل الماجدي، وسلام كاظم، ورعد عبد القادر، وكمال سبتي.
وفي هذا المجال يرى الموسوي أن قصائد أولئك الشعراء تبدو عملاً تجريبياً "تتواشج فيه عناصر التناص مع التأريخي والمقدّس، وتتجلى فيه روح التجريب الشكلي والأيقوني عبر مستويات النّص؛ ففيه المتن، وفيه والهامش، وفيه والحاشية، ويتحرك النّص في مستويات بنائية وأسلوبية عدّة حيث يطالعنا منه النّص التقليدي وشعر التفعيلة والنثر، وتتسلّل إليه مقاطع من كتب التاريخ والسيرة والحوار والسرد بمختلف أشكاله، وكذلك تعدّد الأصوات، وتحتدم اللعبة الشعرية بدءً من العنوان الموهم حتى ختام النّص".
ليس التناص وحده هو ما يميز تجربة شعراء الجيل السبعيني، بل تراهم صبّوا تجاربهم الشعرية في قصائد مطوّلة إلى جانب قصائدهم القصيرة أو الشذرية، وحقيقة الأمر أن "المطوّلات الشعرية تعد شكلاً بنائياً مهيمناً على معمارية القصيدة الحديثة"، إلاّ أن ذلك لا يعني أن جيل الستينيات لم يجرّب كتابة القصيدة المطولة، إذ كان الشاعر حسب الشيخ جعفر يكتب قصيدته (عبر الحائط في المرآة)، وكذلك الشاعر فاضل العزاوي الذي كتب قصيدته (الشجرة الشرقية)، وكذلك خالد علي مصطفى في قصيدته (سفر بين الينابيع)، وهي قصائد اهتمت بالملحمي والأسطوري والدرامي، بينما اهتمت قصيدة جيل السبعينيات بالكشف عن "أبنية فنية جديدة تمثلت في الخروج على النّظام السطري أو تجاوز التكثيف في العبارة إلى التفصيل، وهو ما طرحه عدد من شعراء ذاك الجيل ضمن محاولاتهم التجريبية في فلك القصيدة التي يكتبونها، وتمثّل في قصيدة النثر، وفي النّص المفتوح بوصفه بنية ذات أثر، ومحدّدات نهائية. وكذلك يتسم هذا النّمط من الكتابة باللاشكل إذ إنه يجمع في تكوينه بُنى شعرية وسردية، وينفتح على المعرفي، ويلتحم فيه الملحمي داخل المسرحي، والأسطوري بالواقعي، والفنتازي بالطبيعي في جدل كتابي يسعى إلى توليد نص جديد". كما هو الحال في قصيدة زاهر الجيزاني (كآبة الملك)، وقصيدة سلام كاظم (الملوك العزل)، وقصيدة خزعل الماجدي (خزائيل).
أما في تجاربهم في المقصرات الشعرية، على أن القصر "ليس معناه قلة عدد الأسطر؛ فقد تكون القصيدة طويلة من حيث عدد الأسطر فيها، لكنها قصيرة ما دامت تصوّر موقفاً عاطفياً باتجاه واحد". ويؤرى المؤلّف أن القصيدة القصيرة "ظهرت، على تعدّد أنماطها، في الشعر السبعيني ضمن محاولاتهم في التجريبية الشعرية لأنّها تتيح للشاعر متابعة مواقفه باتجاه واحد، بل وهيمنت القصيدة القصيرة على منجزهم الشعري، وتمكّنت من تقديم تجاربهم ضمن مفاصل القصيدة لتتكامل باتجاه واحد ضمن مناخ نفسي موحد". لقد تجلى ذلك في (قصيدة الومضة)، وفي قصيدة (القصيدة القصيرة وحيدة الموضوع)، وكذلك في (القصيدة المقطع) أو (القصيدة الحلزونية)، بحسب المصطلح الشائع، وهو ما جرّبه شعراء الجيل السبعيني في العراق من خلال ما كتبوا في هذا المجال.
لقد لعب الشعر العربي الحديث دوراً في تكريس بنية موسيقية مغايرة، وهذا ما يبحثه المؤلّف في الفصل الثالث والأخير من كتابه؛ إذ يدرس في المبحث الأول ظواهر التنويع (تنوع الأوزان تبعاً للمقاطع الشعرية التي تؤلّف بمجموعها القصيدة الكاملة)، والتدوير (الدورة الإيقاعية الواحدة)، والتداخل (تداخل بحر شعري في آخر)، والتناوب (تكوين القصيدة موسيقياً من الشكلين التقليدي والحر والعمودي والتفعيلة)، والتناوب (اختلاط الشعر بالنثر في بنية القصيدة الواحدة)، وهي مفاهيم إجرائية اختبر دلالتها شعراء السبعينيات في العراق من أجل خلق موسيقى جديدة تحف بها قصائدهم الشعرية الحديثة.
أما كسر النّمط الكتابي فقد شكَّل ظاهرةً لدى شعراء الجيل السبعيني سواء "ما كان مكتوباً وفق النّظام العربي العمودي أو التفعيلة أو عن طريق امتزاج الشكل البصري بالخطاب اللغوي مقترحين الاشتغال الفضائي في النّص الشعري، ومستعينين للتعبير عنه بالصورة البصرية". أي ذلك الميل النافر إلى كتابة القصيدة البصرية التي تعود جذورها الغربية إلى بدايات مطلع القرن العشرين مع الدادائيين والسرياليين وما تلاهم من الشعراء.
تبدو تجربة شعراء العراق في ذلك العقد ذات ثراء رحب، ولذلك يدرس الموسوي الشكل البصري بالملفوظ أو الرّسم بالألفاظ في نص شعري بصري، كما هو حال قصيدة رعد عبد القادر (جوائز السنة الكبيسة)، الذي استثمر البياض والسواد في حيز الصفحة المكاني مع تجزئة الملفوظات الشعرية ما خلق نصاً بصرياً. وكذلك، وفي القصيدة نفسها، لجأ عبد القادر إلى رسم الطلاسم بالملافظ الشعرية باليد وليس بالحروف الطباعية الحديثة بغية خلق بنية دلالية بصرية مزدوجة الأداء. بينما لجأ خزعل الماجدي في قصيدته (دعاء عنتر) إلى تعدُّد الخطوط الكتابية بغية كسر خطية النّمط الطباعي وتوليد دلالة بصرية مغايرة في كتابة القصيدة الحديثة.
إن تجربة من هذا النوع لم تقف فقط عند التلاعب بالبنية الخطية والحروفية، إنما تستقطب الأشكال الكتابية البصرية كالطلاسم والأشكال المجدولة أو المربعة أو المستطيلة أو الدائرية أو المثلثة أو أسماء آيات الله الحسنى كما هو الحال في بعض قصائد رعد عبد القادر وشاكر لعيبي، وهي تجارب شعرية أخذت تسود حتى في القصيدة العربية خارج العراق.
يبدو لي أن كتاب الباحث العراقي مناف جلال الموسوي (غواية التجريب: دراسة في التجريب الشعري عند جيل السبعينيات في العراق)، يمثل دراسة متقدّمة في مجالها سواء على الصعيد الأكاديمي أو الثقافي العام كونها تعرض بالدرس والتحليل والتطبيق إلى شعريات القصيدة الحديثة في العراق خلال مرحلة استأنف فيها القول الشعري مسيرته الإبداعية بما يمثّل قطيعة إبداعية - معرفية.