تقديم المترجم:
1- عن النص
النص الذي نقدمه بين يدي القارئ الكريم ترجمة لِـ "مقدمة" كتاب "S/Z" الذي نشره رولان بارث R. Barthes عند (لوسوي) بباريس سنة 1970، في حوالي 280 صفحة من القطع المتوسط، ضمن سلسلة "مجيدة" نذرت نفسها لنشر الجديد و"المُحتج" و"النقدي" والطليعي من الكتابات الفكرية-العلمية- الإبداعية واليسارية. الكتاب، كما أشار إلى ذلك مؤلفه في صفحة الإهداء، "أثر" (هذه الكلمة العزيزة على الفيلسوف جاك دريدا الذي كان ينشر في المجلة وسلسلتها قبل أن يغادرها في أواخر الستينيات من القرن الفارط) لعمل أنجزه خلال حلقات دراسية على مدى سنتي 1968 و 1969، "بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا" بباريس. الكتاب المؤَلَّف، ما عدا المقدمة والفواتح والملحقات، وهي لا تشغل حيزا كبيرا، تحليل لقصة تقع في الحدود القصوى لـجنس القصة القصيرة (31 صفحة من القطع المتوسط)، كتبها الـروائي الكبير هُنـُوري دو بالـزاك سنة 1830. وعنونها بـ" صرَّازين Sarrazine "(*) (نتمنى سنوح فرصة لنشر ترجمتنا إياها إلى العربية قريبا). شخصيتها الرئيسة مسماة بِـ"زَمْبِنَلَّه"؛ وبذلك يصبح عنوان الكتاب وكأنه "صرازين" في مقابل أو في تعارض مع "زَمْبِنَلَّه"؛ لا يمكن الوقوف عند هذا الحد فقط؛ لأن هناك، أيضا، تعارضا صوتيا بين [ص] و [ز]؛ بل وأكثر من ذلك، نجد تعارضا في الشكل يتميّز به التمثيل الخطي للوحدتين الصوتيتين المذكورتين أي بين الشكل الخطي للحرفين كالتالي z \ s؛ فضلا عن تعارض مقطعي في صلب لفظ صرازين نفسه.
إن فرادة النص-الموضوع وتميّزَه، أو خصوصيته على مستوى الكتابة، جذبت إليه اهتـمام كتاب كبار، مثل جـورج بطايG. Bataille ، ونقاد كـبار كـجان رُبُول J. Reboule، ولن يكون رولان بارث آخرهم. بل يمكن المجازفة والقول إن "استثنائية" النص المذكور هي التي دفعت برولان بارث إلى رهان لا يخلو من مخاطرة ولا نلقاه كل يوم: تخصيص كتاب لتحليل قصة قصيرة: تحليل رغم أناقته، وجماليته، ورهافته وعمقه الفني ينبني على أساس علمي غير متهافت وثرٍّ مُوعِد جدا.
2- عن بعض خلفيات الكتاب:
تندرج هذه الممارسة التحليلية، ذات الطابع الاستثنائي، ضمن تيار هائل من الفكر والممارسة (اتجاهات علمية وفكرية وفلسفية وأدبية وفنية تتصارع وتتفاعل) طَبَع الغرب المصنّع وكانت فرنسا طليعته:
أ- إنه تيار يمكن وسْمه بتيار "إعادة القراءة" للنصوص المؤسِّسة.
1- لوي ألتوسير وجماعته يعيدون قراءة كتابات كارل ماركس في العديد من المؤلفات الذائعة الصيت فيما بين 1965-1973؛
2- جاك لكان J. Lacan يمارس قراءة مغايرة لأسس التحليل النفسي وعلى رأسها نصوص س.فرويد، خارج المؤسسات المكرّسة رسميا، وينشر (كتاباته) الأولى سنة 1966 والثانية سنة 1971؛
3- م.فوكو M. Foucault يعيد قراءة تاريخ المعرفة من خلال رصد ربائد مؤسسات العلاج البدني والعقلي والاعتقال والوقاية وممارسة الجنس؛
4- قراءة كلود ليفي- سطروس لخرافات وسلوكات أو عادات القبائل الأصلية (البدائية)؛ فضلا عن الأزمة التي كان يعاني منها علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي والتاريخ في مواجهة الربائد (الأرشيفات) وكيفية قراءة وتحليل الممارسات الخطابية المتنوعة: استكناهها واستنطاقها.
ب- كل ذلك في وقت كانت اللسنيات قد أثبتت، منذ مدة، أنها العلم الإنساني الرائد. وكان من المفروض فيها، بالتالي، توفير منهج فعال في تحليل النصوص والخطابات. فاللسنيات لم تفكر جديا في محاولة مقاربة ظاهرة "الخطاب" التي بقيت حتى إذ شبه محرمة ومقصاة، إلا مع ظهور المقال الرائد لزليج هاريس: "تحليل الخطاب": (1952). لكن، كان يجب أن ننتظر حوالي العقدين من الزمن أي حتى حوالي 1969- وبداية العقد الثامن لكي يبدأ العمل الجدي في وضع أسس نظرية متينة وطرق منهجية لتحليل الخطاب، وتجريب كل ذلك وتطبيقه بكيفيات متعددة. لتتوالى بعدئذ، أو بالتزامن معه، على أقصى تقدير، تيارات لسنية أخرى لتحليل النص في بلدان أخرى...بدهي أن المقاربات التقليدية والأخرى المدعية متأزمة ومفلسة ولا يقبل بها العقل العلمي اللسني...ولا الفلسفي الذي طالما وصفها بالفظاظة والوحشية.
3- التيار الدلائلي(السيميائي):
أما السيميائيات علم الأدلة و العلامات (السيميولوجيا والسيميوطيقا) فلم يعد لاستئناف مساره، بعد دوصوسير ثم لوي يالمسليف من جهة، وبيرس ثم موريس من جهة ثانية، إلا في مطلع الستينات مع مؤتمر "طارتو" سنة 1962 بالاتحاد السوفياتي، والذي سهر عليه يوري لوتمان وجماعته وكان موضوعه أنظمة: الأدلة (العلامات) غير اللفظية؛ ثم إصدار بارت لمقاله "مبادئ علم الأدلة" (مجلة "تواصلات" الفرنسية. ع. 4. سنة 1964). بذلك، كما قال الدلائلي الأمريكي طوماس سيبوك، فَتَحَ رولان بارث "علبة باندور". الواقع أن مقال رولان بارث كان زبدة مراجعة نقدية وعميقة للأسس النظرية والمنهجية التي بلورها درس اللسان البشري وأنظمة التواصل الأخرى كالرموز والإشارات والخطوط إلخ. بل جميع الأنسقة الدالة. إذا كان هذا الكتيب قد شكل أداة أصبحت بسرعة ضرورية لدراسة الوقائع الدالة لفظية (نصوصا وخطابات) أو غير لفظية: مثل وقائع التدلال الصوري والموسيقي والإيقاعي والمعماري إلخ...فبواسطته أيضا صفى رولان بارث الحساب مع النظرية والمنهج. إذ على أساسه، وبه، كتب أهم كتاب في السيميولوجيا، خلال العقد السابع من القرن العشرين، ألا وهو كتاب: "نظام الأزياء" "Système de la mode" لوسوي، باريس 1967.
بهذين الكتابين، وبناء على أطروحات لوي يالمسليف، اللسني الدانماركي، وبناء على تفاعل ناجح مع فتوحات اللسنيات والمنطق والإناسة البنيوية ونظرية الإخبار والتواصل والتحليل النفسي والتحليل الدلالي إلخ.. أنجزت الدلائلية، من خلال مغامرة رولان بارث، طفرة مهمة على المستوى النظري والمنهجي والتطبيقي تجاوزت بها تردد مرحلة التأسيس. تجلى ذلك في اختيارات أساسية أهمها:
1- أن الأنظمة الدالة لابد لها وأن تمر عبر اللغة بشكل أو آخر، ومن ثم يجب أن تجعل موضوعها كل الخطابات المتحدَّثة في عالمنا، ومهما كان نوعها: أي أن يصبح هذا العلم الجديد مندمجا ضمن لسنيات من نوع جديد: لسنيات تجاوزية. لقد قلب ر.بارت الأطروحة الأساس لفردينان دو صوسير عن "السيميولوجيا".
2- تجاوز الإطار الضيق لمفهوم التواصل، الذي حصرت داخله النظرية الوظيفية الأرثدوكسية مجموع تصوراتها الدلائلية بوصفه المعيار والمبدأ الأول لكل تحليل دلائلي، وذلك بواسطة مبدأ الدلالة أي أن موضوع الدلائلية هو كل الأنظمة أو الأشياء التي تدل وتعني لبني البشر شيئا ما. سواء أكانت تلك الأنظمة و الأشياء لغات كالإشارات والعلامات والأمارات والرموز أم كانت غير لغوية أصلا. بذلك تطورت دلائلية الدلالة وأعطت للدلائلية نفسا جديدا وشحنة قوية لازالت محركها الأساس، بعد التعثرات التي لم تفلح في التغلب عليها من ذي قبل.
3- لكن رولان بارث قام داخل دلائلية الدلالة (: لوي يا لمسليف. أ.ج. كريماص- ومن حذوهما) باختيار حاسم حين جعل من دلائلية الإيحاء- وهي دلائلية غير علمية أصلا عند يالمسليف ومدرسة باريس- موضوعا للبحث، وفي الوقت ذاته، أداة للتحليل النصي.
4- المساهمة في ، بل المبادرة إلى، تهذيب وتشذيب وتطوير الجهاز النظري والأدوات المنهجية والعمل على القيام بتطبيقات عينية مثل بحوثه في "نظام الأزياء" و"الصورة" إلخ...إضافة إلى جراءة بارث على اجتراح الجديد في المفاهيم وفتح إمكانات خارقة للبحث النظري والعملي رغم النقد الجارح الذي تعرض إليه ، أحيانا ، من هنا وهناك.
دوّن هذه المغامرة وتطوراتها اللاحقة على يديه أو على أيدي تلامذته والمحيطين به في مجلة "تواصلات" "تيل كيل" و "لغات" و "شعريات" إلخ.. لم يكن ممكنا، ( خلال وبعيد تلك الثورة في سنة 1968، كآخر ثورة في العالم المصنَّع ضد الرأسمالية والامبريالية والتي كانت باريس مسرحا لها) أن يكتب كتابا كاملا لتحليل قصة لبالزاك. ما مغزى ذلك؟ إن لم يكن الأمر يتعلق برهان علمي واختيار أو موقف معرفي: تأسيس علم يمكن من الإمساك بذلك الخطاب المخبوء تحت الخطاب الظاهر، والوصول إليه دون السقوط في هذر المضاربات الفكرية والمهاترات أي: هتك حجاب "البراءة" و"الحياد" و"البدَهي" و"الطبيعي" و"تحصيل الحاصل" و"الرأي العام" و"القيم" إلخ...وزحزحة نيرهم الجاثم بكلكله في لا وعي الناس وعلى رؤوسهم: هؤلاء الناس الذين يتقبلونه على أنه" بدهي" ،" طبيعي"، " تحصيل الحاصل" و "ليس محط نقاش". في حين أنه محرك ووقود هيمنة واستمرار وحياة كل ما هو غير إنساني: إنه حكم الموتى للأحياء...
5- التحليل النصي: (التحليل النصي / التحليل البنيوي: كَريماص – بروب): في كتاب (ص/ز) عاد رولان بارث إلى النص الأدبي لتأسيس دلائلية نصية فعلية وترسيخها، كما فعل بالنسبة إلى الأنظمة الدلائلية الأخرى أي غير اللفظية كالأزياء في كتابه "نظام الأزياء". أمام النص الأدبي يُطرح دائما مشكلٌ: "كيف نقوِّمه؟". كان رد بارث جليا وحاسما وموقفيا، ليس بالاستهلاك وإنما بالإنتاج، إعادة كتابته؛ لكن، ليست كل النصوص الأدبية بمهيأة أو قادرة على أن تتيح لنا ها الإمكان. من ثم يجب البحث عن النص المنكتب، القابل للكتابة لأنه نادر وعزيز: إنه النص المتعدد الأصوات، النص الذي يشكل ظاهرة إيحائية. فيه فقط تصبح القراءة نشاطا لاستكشاف طرق انطلاق الدلالات وتشتتها. كيف يتتبع تلك الدلالات؟ كيف ينسقها؟ ويبين طرق تبَنْيُنها (لأنه لا يبحث عن بنية للنص). كيف يجزئ النص؟ كيف يسير معه خطوه خطوة؟ كيف ينَجِّمه ليستخرج شفراته المتنوعة؟ أو بعبارة أخرى كيف يستكشف عالمه المتحرك، ويعيد كتابته بمتعة ولذة؟ ذلك هو موضوع هاته المقدمة، علما أن التسرع في محاولة إنماء هذا العمل إلى أحد أجناس النشاط الثقافي أو المعرفي إضرار به؛ لأنه، كما قال مؤلفه، ليس نقدا أدبيا، بل ولا حتى أدبا؛ إنه نشاط نظري وممارسة، واختيار وانغماس في معركة البشر ضد الأدلة (العلامات).
في هذا العمل تتجلى كل أبعاد التحليل النصي الذي ستطوره جوليا كريستيفا مسمية إياه باسم قريب يجمع بين الجذر الإغريقي (والسامي: اسم ، وسم) – سيما- والكلمة الفرنسية -تحليل (la sémanalyse) وجاك دريدا في عمليات قراءته الفلسفية منذ "الكتابة والاختلاف" وجيرار جنيت في تحليلاته السردية، وت. طدروف في شعرياته. إن التحليل النصي يشكل رافدا غنيا ومتنوعا أثر تأثيرا عميقا في الدلائلية المعاصرة التي ستبقى ناقصة جدا بدونه. ثم إنه هو وتِربُه التحليل السردي الخطابي على طريقة مدرسة باريس (كًريماص ومن معه) يشكلان الرافدين الرئيسيين للدلائلية المعاصرة في العالم قاطبة.
ملاحظة عن الترجمة: تعود هذه الترجمة، في نسخة أولى، إلى بداية ثمانينيات القرن الفارط، بمناسبة بداية تدريس السيميائيات في الجامعة المغربية التي تزامنت مع بداية تدريسي لهذه المادة. استعملت هذه المقدمة دعما ومرجعا لنصين آخرين هما "من أين نبدأ؟" رولان بارث (ترجمة محمد البكري "عيون المقالات" العدد 12. 1988)، و("تحليل نصي لحكاية القول الفصل في حالة السيد فالمار لادكار ألان يو" لرولان بارث، ترجمة محمد البكري فضاءات مستقبلية. العدد 2-3. 1996). ولقد تعثر نشر هذه الترجمة، منذ ذلك الحين، لأسباب متنوعة. بالنسبة إلى ثبت المصطلحات المستعملة ومقابلتها الأجنبية اكتفى بالإحالة إلى العملين المذكورين.
[1] *- أجد صعوبة في ترقيق هذه "الصادّ وكتابتها "سينا". الكلمة تحويل للفظ قديم من اللاتينية المتأخرة هو "Saraceni": ويعني "شرقي"؛ أطلق على "العرب" و"المسلمين" و"المغاربة" أثناء، وبعد، غزوهم لفرنسا في القرن الثامن الميلادي.
__________________________________________________
أ – التقويم:
يقال إن بعض البوذيين يتوصلون-بفعل شدة النسك- إلى رؤية منظر طبيعي بكامله في فولة. وهذا ما توخّاه أوائل محللي الحكاية: أن يروا كلَّ حكايات العالم ( وهي كثيرة جدا، وكان منها الكثير جدا) في بنية واحدة: سنَسْتنبط –حسبما زعموا- من كل حكاية نموذَجها(1) ثم نصنع من هذه النماذج بنية سردية كبرى، نسقطها من جديد ( للفحص والتحقق) على أي حكاية : مَهمَّة مُنهِكة ( " العلمُ بالصبر، والعذاب أكيد") وهي في النهاية غير مرغوب فيها؛ لأن النص يفقد فيها خلافيَّته. بدَهي أن هذه الخلافيَّة ليست صفة كاملة غيرَ قابلة للاختزال ( وَفْق نظرة خرافية للإبداع الأدبي)، فليس هي ما يعيِّن فرادة كل نص، ما يسميه، ويُمضي عليه، ويوقِّعه، وينهيه؛ إنما هي، على العكس من ذلك، خلافيَّة لا تتوقف، تَتَمفْصَل مع لا نهائية النصوص واللغات، والأنساق: خلافيَّةُ كلُّ نص عوْدٌ لها. لا بد من الاختيار إذن: إما وضعُ كل النصوص في حركة ذهابٍ وإياب استدلاليةٍ، والمساواةُ بينها تحت عين العلم اللاّ مبالية (غير الخلافيةindifférente )(2)، وإجبارُها على أن تلتحق،استقرائيا، بالنسخة التي سيشتقون منها- فيما بعد- تلك النصوص؛ وإما أن يوضَع كلُّ نص في لعبته، وليس في فرادته، ويُدفَعَ به إلى حيث يلتقطه الجدولُ(3) اللانهائيُّ للخلافيَّة حتى قبل أن يتحدث عنه، وأن يُخضَع رأسا- وللوهلة الأولى- إلى صنافة مؤسِّسة، وإلى تقويم. كيف يمكن، إذن، تحديدُ قيمة نص ما؟ وكيف تتأسَّس صِنافة أولى للنصوص؟ لا يمكن للتقويم المؤسِّس لكل النصوص أن يرِد من العلم، لأن العلم لا يقوِّم، ولا من الأدلوجة (4)، لأن القيمة الأدلوجية لنص ما ( أخلاقية، أو جمالية، أو سياسية، أو قانونية) قيمةُ تمثيل، وليس قيمة إنتاج ( الأدلوجة "تعكس" ولا تشتغل). لا يمكن لتقويمنا أن يرتبط إلا بممارسة، هذه الممارسة هي الكتابة. من جهة، ثمت ما يمكن كتابتُه ومن جهة ثانية ما لم يعد ممكنا كتابتُه: ما يقع ضمن ممارسة الكاتب وما خرج عن دائرتها: أيَُّ النصوص أقبَلُ بكتابتها( إعادة ـ كتابتها)، أن أتعلَّق بها، أن أرغب فيها وأقدِّمَها كقوة في هذا العالم الذي هو عالمي؟ ما يعثر عليه التقويمُ هو هذه القيمة: ما يمكن اليوم كتابتُه ( تُعاد ـ كتابتُه) هو القابل للانكتاب(5). لماذا يُشكِّل القابل للانكتاب قيمتَنا؟ لأن رهان العمل الأدبي ( الأدب كعمل) أن يجعل من القارئ مُنتجا للنص وليس مجرَّد مستهلك فقط. إن أدبنا متسِِمٌ بالطلاق البائن، الذي تُبقي عليه المؤسسة الأدبية بين صانع النص ومستعمله، بين مالكه وزبونه، بين كاتبه وقارئه, هذا القارئ غارقٌ، إذن، في نوع من العطالة والسِّلبية؛ بكامل الصراحة، إنه غارق في نوع من الجدية. عِوَض أن يلعب هو الآخرُ. أن ينغمس كليا في فتنة الدّالّ وشهوة الكتابة، لا يبقى له مطلقا أيّ شيء مشترَكٌ سوى حريته البئيسة بين أن يقبل النصّ أو أن يطَّرحه: فلا تصبح القراءة غير استفتاء. تنتَصِب إذن، أمام النص القابل للكتابة، قيمتُه المناقضةُ له، قيمته السلبية ، والارتدادية: ما يمكن أن يُقْرَأ، لكن دون أن يُكْتَب القابل للانقراء . سنسمي كلَّ نص قابل للانقراء نصّا اتباعيا( كلاسيا).
ب. التأويل:
لاشيء، ربما، يمكن قوله عن النصوص القابلة للانكتاب. أولا، أين يمكن العثور عليها؟ أكيد أننا لن نعثرعليها ناحية القراءة ( أو على الأقل نادرا جدا، صُدفةً، خلسةًً، وبموارَبَة في بعض الأعمال التخومية): النص القابل للانكتاب ليس شيئا. من الصعب العثور عليه في خزائن الكتب. أضِف إلى ذلك أن مثاله مُنْتِج ( وليس تمثيليا قط ) لذلك يُلغي كلَّ نقد: إذ لا يكاد النقدُ ينتُج حتى يمتزجَ به. لن تقوم إعادةُ كتابته إلا على تشتيته وبعثرته في حقل الاختلافات الَّلانهائي. النص القابل للكتابة حاضرٌ دائم. لا يُمكن أن يوضَع عليه أيُّ كلِمٍ منسجم منطقيا ( يحوّلُه بقدرة قادر إلى ماض): النصّ القابل للانكتاب، هو نحن أثناء الكتابة، قبل أن يعبُر لعبةَ العالم اللانهائية ( العالم كلعبة) ، ويقْطعَها ويوقفَها ويُلدّنها نسقٌ من الأنسقة الخاصة(الأُدْلوجة، الجنس والنقد)(6) الذي يعود ليقبل في النهاية، بعد خيبة آماله وتبدُّد أوهامه، بانفتاح الشبكات ولانهائية اللغات وتعدُّد المداخل. المنُْكتب [ القابل للكتابة] هو الروائي بدون الرواية، الشعر بلا قصيد، المقالة بدون الإنشاء، والكتابة ما عدا الأسلوب، الإنتاج بدون المنتوج والبَنَََْيَنة بلا بنية. لكن ما النصوص المنقرئة ( القابلة للقراءة)؟ إنها منتوجات (وليست إنتاجات)، تُشكّل الغالبية العظمى من أدبنا. كيف نميِّز، مرة أخرى، هذه الكتلة الهائلة؟ لا بد من عملية ثانية، مترتبة عن التقويم الذي فصل بين هذه النصوص، في لحظة أولى، أدقَّ منه ومبْنِيَة على تثمين مقدار مّا، على الــ " إلى حد مّا" التي يمكن لكل نص أن يوظفها, هذه العملية الجديدة هي التأويل. (بالمعنى الذي كان يعطيه نيتشه لهذا اللفظ). ليس القصد من تأويل نص مّا إعطاؤه معنى ( قارّا إلى حد مّا وحرّا إلى حد ما)، إنما معناه ، على العكس من ذلك، تثمينُ أيِّ تعدّد جبَله؟ لنبسط، أولا، صورة تعددية ظافرة لا يتسلط أيّ قيد من قيود التمثيل ( التقليد) ليُفْقِرها. في هذا النص المثالي تتعدد الشبكات وتلعب فيما بينها, دون أن تستطيع أيّ واحدة منها أن ترئِس الأخريات؛ هذا النص مجردُ دوالّ وليس بنيةًََ من المدلولات؛ فهو لا بداية له ، إنه عكوس؛ قابل للانقلاب. يمكن الولوجُ إليه من شتى المداخل، دون الادعاء، على وجه اليقين، أن هذا المدخلَ أو ذاك هو الرئيس. تتوالى الشِّفرات التي يُجنّدها على مدى البصر دون أن تتسم بالحسم( لا يخضَع المعنى فيها، قطعا، لأي مبدأ تقريري، إلا ما كان برمية نرد)؛ يمكن لأنظمة المعنى أن تَستحوذَ على هذا النص المطلَق في تعدّديته؛ إلا أن تعدّديته لا حصر لعددها أبدا؛ لأن معيارَها هو لا نهائيةُ اللغة. ليس للتأويل الذي يتطلبه نصٌّ مُستَهدَفٌ مباشرةً في تعدديته أيُّ صبغة لِبِرالية: لا يتعلق الأمر، هنا، بتسليم معنى من المعاني. كما لا يتعلّق بالاعتراف، بشهامة، لكل واحد بنصيبه من الحقيقة؛ إنما تكْمُن الغايةُ، ضدا على كل لا اختلاف [ لا مبالاة]، في التوكيد على كائن التعدّد الذي ليس هو كائن الحقيقة أو المحْتمَل، بل ولا حتى الممكن. مع ذلك ، هذا التوكيد الضروري صعبٌ؛ إذ لا يوجَد بتاتا، في الوقت الذي لا يكون فيه شيء خارج النص، أيُّ كلٍّ للنص الذي يصير، بفعل القلب، مصدرَ نظام داخلي وتصالحا بين أجزاء متكاملة، تحت العين الرحيمة للأنموذج التمثيلي)؟: يجب، في الوقت ذاته، تخليصُ النص من خارجه ومن كليّته. معنى كل هذا استحالةُ وجودِ بنية سردية أو نحوٍ مطلقٍ للحكاية في النص المتعدد. إذن، إذا حصل أن اسْتسْلَمت هذه القضايا، أحيانا، للمقاربة في نطاق ( مع إيلاء هذه العبارة كامل قيمتها الكَمّية) كونِنا أمام نصوص تعدّديتُها ناقصة: نصوص تعدديتها شحيحة إلى حد ما.
ج ـ ضدا على الإيحاء:
لهذه النصوص المعتدلة في تعدديتها( أي المتعددة الدلالة فقط) مُثَمِّنٌ متوسط لا يستطيع أن يقبض إلا على جزءٍ ما، يقع في قلب المتعدد. وهو في الوقت ذاته، أداة رفيعة جدا حتى يمكن تطبيقها على النصوص المتعددة القيَم، والارتدادية والصريحة التذبذب ( أي على النصوص الكاملة التعدد). هذه الأداة المتواضعة هي الإيحاء(7). وهو- عند يالمسليلف الذي صاغ له تحديدا- معنى ثانٍ دالُّه يتألف، هو نفسه، من دليل أو نظام دلالي أول هو التقرير: إذا كان (ع) هو العبارة وكان (ض) هو المضمون و (ق) العلاقة بين الإثنين والمؤسِّسة للدليل، فإن صيغة الإيحاء هي ( ع ق ض) ق ض (8). لا ريب في أنهم لما لم يَحْصِروا الإيحاء- ولم يخضعوه لصنافة النصوص- صار لا يتمتع بسمعة حسنة. فالبعض ( ولنقل: إنهم فقهاء اللغة) يرمون- وقد قَضَوا بأن كل نص إنما هو أحاديُّ المعنى، ممتلِكٌ لمعنى حقيقي، ومعياري مُقنَّن- بالمعاني المتصاحبة، والثانية إلى عدميَّة الهذيانات النقدية. في مقابلهم الآخرون ( لنقل: الدلائليين)(9) ينكرون تراتبية المقرَّر والموحَى؛ ويقولون إن اللسان، وهو مادة التقرير، بقاموسه وتركيبه ونحوه، نظامٌ كأي نظام، ولا داعي لتفضيل هذا النظام عن غيره من الأنظمة؛ وجعْله مجالا ومعيارا لمعنى أوّل، هو مصدرُ ومعيارُ كل المعاني المتشاركة معه؛ إننا إذا جعلنا التقرير حقيقة وموضوعيَّة وقانونا فلأننا لا نزال مفتونين بمجد اللسانيات الذي قلَّص، حتى اليوم، اللغةَ إلى الجملة ومكوِّناتها المعجمية والتركيبية. غير أن رهان هذه التراتبية جاد؛ هو العودة إلى انغلاق الخطاب الغربي ( العلمي أو النقدي أو الفلسفي) إلى تنظيمه المُتَمَرْكز، المتجسِّد عبر تنضيد كل معاني نص ما في دائرة حول بؤرة التقرير ( البؤرة: مركزٌ وحارس وملجأ ونورُ الحق).
د – مع الإيحاء رغم كل شيء:
ليس هذا النقد الموجَّه ضد الإيحاء بصائب إلا نصفه؛ لأنه لا يأخذ بعين الاعتبار صِنافة النصوص ( هذه الصِّنافة مؤسِّسة: لا نص يوجد قبل تصنيفه حسب قيمته (10). لأنه إذا وُجِدَت نصوصٌ قابلة للقراءة، مندرجة في نسق انغلاق الغرب، ومصنوعة وفق غايات هذا النظام، وخانعة لقانون المدلول فلا بد أن يكون لمعناها نظامٌ خاص. أساس هذا النظام هو الإيحاء. هكذا، فنفيُ الإيحاء نفيا كونيا معناه إلغاء القيمة الخلافية للنصوص، ورفضٌ لتعريف الجهاز النوعي ( الشعري والنقدي في الوقت ذاته) للنصوص القابلة للقراءة، وهو مساواة للنص المحصور بالنص-الأقصى، وحرمانٌ للنفس من أداة للصِّنافة. الإيحاء هو سبيل الولوج إلى تعدد الدلالات في النص الاتباعي [ الكلاسي]، إلى هذا التعدد الدلالي المحصور الذي يؤسس النص الاتباعي ( ليس أكيدا أن يحتوي النص الحديث على إيحاءات). يجب، إذن، إنقاذ الإيحاء من محاكمته المزْدَوِجة والحفاظ عليه كأثر لتعدد دلالي ما في النص، قابلٍ للتسمية، وللحسبان:حسبان التوقيت-( هذا التعدد المحدود في النص الاتباعي. فما هو الإيحاء إذن؟ إنه، من الناحية التعريفية الصرف، تحتيمٌ، علاقةٌ، عائد، سمةٌ لها القدرة على العودة إلى بيانات سابقة، أو لاحقة أو خارجة، إلى مواضع أخرى في النص ( أو في نص آخر): لا يجب، وبأي حال، قَصرُ هذه العلاقة التي يمكن تسميتها، على سبيل التنويع، ( وظيفة أو قرينة مثلا)، ما عدا في حالة واحدة فقط؛ هي خلط الإيحاء بتداعي الأفكار: هذا يحيل إلى نظام ذاتٍ ما. أما ذلك فتعالقٌ محايثٌ للنص، للنصوص؛ أو إذا أردنا، أيضا، إنه تداعٍ ينجزه النص-الذاتُ داخل نظامه الخاص. مقوليا، الإيحاءاتُ معان لا يُعْثَر عليها لا في القاموس ولا في نحو اللسان الذي كتب به النص ( هذا طبعا تعريف عابر، إذ يمكن للمعجم أن يتوسع كما يمكن للنحو أن يتغير). يتحدد الإيحاء، تحليليا، عبر فضاءين: فضاءِ متواليات وهو عبارة عن تسلسل نظام، فضاءٍ خاضع لتتالي الجمل التي يتناسل المعنى طوالها بفعل التَّرْقِيد؛ وفضاءٍ تكتُّلي: بعضُ مواضع النص تتعالق مع معان أخرى من خارج النص المادي، مشكِّلة معها أنواعا من السدائم والركائم المدلولية. هندسيا [مكانيا] (11) يضْمَن الإيحاء تشتيتا ( محصورا) للمعاني، مذرورا كنُثارات الذهب على السطح الظاهر للنص ( المعنى ذهب). دلائليا، كل إيحاء انطلاقٌ [ذهاب] لشفرة ( لن يعاد بناؤها)، تَمَفْْصُلُ صوتٍ منسوجٌ في النص. أما من الوجهة الدينامية، فهو سيطرةٌ يخضع لها النص، وإمكانُ هذه السيطرة ( المعنى قوة). تاريخيا، يؤسِّس الإيحاء- وهو يستنبط المعاني التي يبدو ممكنا ضبطُها ( حتى لو لم تكن معجمية)، أدبا ( مؤرخا له) للمدلول. وظيفيا، يُفسِد الإيحاءُ- وهو يولِّد، مبدئيا، ازدواجيةَ المعنى- صفاءَ التواصل: إنه "ضجيج" إرداي، مهيَّأ بعناية، مُدمَجٌ في الحوار الوهمي بين المؤلف والقارئ. مُجمَل القول إنه تواصل مضاد ( الأدب كتابةٌ فاسدة قصدا). بنيويا، يسمح وجودُ نظامين، اشتهرا بتباينهما هما التقرير والإيحاء، للنص بأن يشتغل ويعمل كلعبة: كل نظام يحيل إلى الآخر حسب حاجيات وهْم ما. أخيرا، تضمن هاته اللعبة، من الناحية الأدلوجية، بكيفية إيجابية للنص الاتباعي براءة ما:إذ ينقلب أحد نظامي التقرير والإيحاء ويتميز: إنه نظام التقرير الذي ليس بالمعنى الأول، ولكنه يتظاهر بذلك، وهو، في ظل هذا الوهم، ليس في نهاية المطاف سوى آخر الإيحاءات ( أي ذلك الإيحاء الذي يبدو أنه، في الوقت ذاته، يؤسِّس القراءة وينهيها)، الخرافة السامية التي بفصلها يتظاهر النص بالرجوع إلى طبيعة اللغة، إلى اللغة بوصفها طبيعة: ألا تتَّسم الجملة، أية جملة- مهما كان نوع المعنى الذي تطلقه، على إثر التحدث بها، حسبما يظهر- بسيماء من يبدو، وكأنه يريد أن يقول لنا شيئا ما بسيطا، حرفيا، بدائيا: حقيقيا، كل ما تبقى - بالنسبة إليه (الذي يأتي فيما بعد، وفوق ذلك)-أدب؟ لذلك يتحتم علينا، إذا ما أردنا التوافق مع النص الاتباعي، الحفاظُ على التقرير، وهو ربٌّ قديم، يقِظٌ ماكر، مسرحي، مهيَّأ لأن يمثل البراءة الجماعية للغة.
ه-القراءة، النسيان:
أقرأ النص. هذا الحديث المـــــطابق
ل "عبقرية" الفرنسية ( فاعل، فعل، مفعول) ليس صحيحا دائما. فكلما كان النص متعددا كان أقل انْكِتابا قبل قراءتي له؛ لا أسلط عليه عمليةً حملية ملائمة منطقيا لكائنه، تسمى قراءةً. وأنا ليس فاعلا بريئا، سابقا على النص يستعمله، فيما بعد، كما لو كان شيئا قابلا للتفكيك أو موضعا يقتضي الاحتلال. هذا " الأنا" الذي يقترب من النص هو نفسه تعدّدُ نصوصٍ أخرى، تعددُ شِفرات لا نهائية، أو على الأصح: ضائع (أصله يضيع). الأكيد أن الموضوعية والذاتية قوتان قد تستوليان على النص، لكنهما قوتان لا تربطهما به صلة. الذاتية صورة مليئة. يُفترَضُ أنني أرهق بها النصَّ، لكن امتلاءَها، المغشوشَ، ليس سوى أثر لكل الشفرات التي تصنعني إلى حد أن تصير لذاتيتي في النهاية عموميةُ المسكوكات. الموضوعيةُ مَلْءٌ من النوع نفسه: إنها نظام خيالي مثل باقي الأنظمة الأخرى ( إلا أن الفعل الإخصائي منغرسٌ فيها بضراوة أشْرس)، صورة تصلح لكي تسمِّيَني على النحو الأفضل، وتشْهِرني. وتتجاهلَني. لا تحتوي القراءة على أخطارها الموضوعية أو الذاتية (كلتاهما متخيَّل) إلا بقدر ما نعرِّف النصَّ على أنه شيء تعبيري (موهوب لتعبيرنا الخاص)، مُصَعَّدٌ في صورة أخلاق هي أخلاقُ الحقيقة، تسامحيةٌ هنا وزهديةٌ هناك. ليست القراءة، مع ذلك، فعلا طفيليا، ولا بالمكمِّل الارتجاعي لكتابة نزيِّنها بكل أمجاد الإبداعية والأسبقية. إنها عمل ( لذلك من الأحسن الحديث-أساسا- عن فعل يتعلق بعلم العجامات (12) وفنِّ وضع العجامات (13) لأنني أكتب قراءتي). ومنهج هذا العمل منهجٌ طوبولوجي: لست مختفيا في النص، إنما فقط يستحيل ضبط مَكْمَني أنا فيه. مَهَمتي التحركُ، وتنقيلُ الأنظمة التي لا يتوقف منظورها لا لدى النص ولا لد"يَّ": من الناحية العملية، لست" أنا" ولا آخرون، الذي أكتشف المعاني التي أعثر عليها. لكنما تكشف عنها علامتها النظامية: فلا حجة أخرى عن قراءة مّا غيرُ نوعية ومكابدةِ نظاميّتها، أو بعبارة أخرى، غير حجِّيَّة اشتغالها. الواقع أن القراءة عملُ لغة. القراءة عثورٌ على المعاني. العثور على المعاني تسمية لها؛ لكن هذه المعاني المسماة محمولةٌ نحو أسماء أخرى؛ الأسماءُ تتداعى، وتتجمَّع, وتجمُّعها يريد، من جديد، أن يتخذ له اسما: أسمِّي، وأمنحُ أسماءَ، وأعيد؛ هكذا يمر النص؛ إنه تسميةٌ في حالة صيرورة، واقترابٌ ( تخمين) لا يكِلُّ، عملُ مجازٍ مرسَل. لا يمكن، في رأي النص المتعدد، لنسيان معنى ما أن يُستقبَل إذن كخطإ. بالنسبة لأي شيء يتم النسيان حين ننسى؟ ما جُماع النص؟ يمكن، حقا، نسيانُ المعاني؛ لكن، فقط، حين نختار إلقاء نظرة خاصة على النص. مع ذلك، فإن القراءة لا تكْمُن في حصر سلسلة الأنظمة، وتأسيس حقيقة النص، ومشروعيته، وبالتالي إثارة " أخطاء" قارئه؛ إنها تكْمُْن في وصْل وتشغيل هذه الأنساق وَفق تعدُّدِيتها ( التي ليست بحساب محاسبي وإنما هي كائن) وليس وفق كمِّيَتها المحصورة: أمُرّ، أعْبُر، ألْحَم وأُمَفْصل، وأؤجِّج، لا أحسُب. ليس نسيان المعاني موضوعَ أعذار، نقيصةً شقية في الكفاءة؛ إنه قيمة توكيدية، طريقةٌ لإثبات لا مسؤولية النص، تعدديةِ الأنظمة (إذا حصرْتُ لائحتَها فإنني سأعيد-حتما- تكوينَ معنى مفرد، لا هوتي): وبالضبط لأنني أنسى فأنا أقرأ.
و-خطوة، خطوة:
إذا ما أردنا أن نبقى منتبهين لتعددية نص ما( مهما كانت محدودةً) فلا بد من التخلي، عملياً، عن بَنْيَنَة هذا النص وفق كُتَل كبرى، كما كانت تقوم بذلك البلاغة الاتباعية والشرح المدرسي: لا بناءَ للنص: الكلُّ يدل باستمرار، ومرات عديدةً؛ لكن دون توكيل لمجموع نهائي كبير، لبنية أخيرة. من ثم جاءت فكرة- وإذا أمكن القول ضرورة- تحليل تدريجي ينصب على نص واحد. يبدو أن لهذا الأمر بعضُ الاستِتْباعات وبعض المزايا. ليس التعليق على نص واحد نشاطا عرَضيا، يتم تحت راية الذريعة المطَمْئِنة، ذريعةِ " الملموس": النصُّ الفرْد يسدُّ مَسَد نصوص الأدب جميعها. ليس من حيث كونُه يمثِّلها ( يجرِّدُها ويسوِّي بينها)؛ وإنما من حيث ان الأدب ذاته ليس، أبدا، سوى نص واحد: ما النص الفرد بمنْفَذ (استقرائي) لنموذج ولكنه مَدخَل شبكةٍ لها ألف مدخل؛ انتهاجُ هذا المدخل استهدافٌ لمرمى بعيد هو عبارة عن منظور( نُتَف، أصوات آتية من نصوص أخرى، من شفرات أخرى) وليس استهدافا لبنية شرعية من المعايير والانزياحات، لقانون سردي أو شعري: وهو منظور نقطةُ تسرُّبِه-أو مهربه - تُؤَجَّل، مع ذلك، باستمرار، ومفتوحةٌ بكيفية خارقة مُعْجِبة: كل نص (مفرد) يجسد، فعلا، نظريةَ ( وليس مجرَّد مثال) هذا التسرُّبِ ذاته، ونظريةَ هذا الاختلاف الذي يعود دائما دون أن يتطابق أو يخضع. أضف إلى ذلك، أن الاشتغال على هذا النص المفرَد حتى أقصى حدود التفصيل معناه استئناف التحليل البنيوي للحكاية من حيث كان قد توقف إلى حد الآن: أي من البنيات الكبرى؛ معناه الاقتدار (التوفرُ على ما يكفي من الوقت، ومن الراحة) على تقصِّي وتتبُّعِ أعراق المعنى وشُعَيْراته وألا نترك أي موضع للدال دون استشعار الشفرة أو الشفرات التي قد يكون هذا الموضعُ هو منطلقُها (أو نقطة وصولها)؛ أي ( وهذا أقلُّ ما يمكن أن نأمَلَه ونعمل عليه) استبدالُ النموذج التمثيلي البسيط نموذجاً آخر يضمن تقدُّمُه نفسه ما يمكن أن يكون إنتاجيا في النص الاتباعي: لأن السير خطوةً خطوةً يتلافى ببطئه وتشتُّتِه ذاته الولوجَ إلى النص الوصِيِّ وتقليبه، وإعطاء صورة داخلية عنه. إنه ليس قط سوى تفكيك ( بالمعنى الدلائلي) لعمل القراءة: سوى عرْض بطيءٍ، إذا أردنا التعبير على هذا النحو، لا هو بالصورة كلِّ الصورة ولا هو بالتحليل الصرف؛ إنه، في نهاية الكلام، اللعبُ منهجيا- خلال كتابة التعليق ذاتها- بالاستطراد ( والاستطراد شكل يسيءُ خطابُ العلم إدماجَه)، على هذا المنوال، يمكن ملاحظة انقلاب البنيات التي يُنْسَج منها النص؛ أكيد أن النص الاتباعي ( الكلاسي) ناقص الانقلاب والانعكاس (تعديته متواضعة)؛ تتم قراءة هذا النص وفق ترتيب ضروري، يقوم التحليل المتدرج، بالضبط، بإنجاز نسق كتابته؛ لكن التعليق خطوةً خطوة هو بالقوة تجديدٌ لمداخل النص؛ معنى ذلك تلافي بنْيَنَته أكثر من اللازم، وإعطائه هذا الزائد من البنية الذي يرِد عليه من الإنشاء ويوصده: معنى هذا تنجيمُ النص عوض لَمِّه.
ز. النص المنجم:
سنُنَجّم النص إذن، مزيحين، على نحو ما يفعل زُلَيْزيل واهنٌ كتلَ الدلالة التي لا تقبض القراءةُ إلا على سطحها الأملس الذي يلحُِمه، بكيفية لا تدرك، انسيابُ الجمل والخطابُ السردي المسبوك، والطبيعةُ المتجذرة للغة العادية. سيُقَطَّع الدالُّ الوصي إلى سلسلة من الشذرات القصيرة المتجاوزة. سنسميها، هنا، بالعُجامات (14)؛ لأنها وحدات للقراءة. سيكون التقطيع- يجب الصدع بهذا فما عاد بالإمكان الصبر أكثر مما سبق- اعتباطيا؛ لن يستَتْبِع أيةَ مسؤولية منهاجية، لأنه سينْصَبُّ على الدالِّ، في حين أن التحليل المقترح سينصب على المدلول فقط. ستحتوي العجامة تارة على كلمات قليلة، وتارة على بعض الجمل؛ سيتوقف الأمر في ذلك على الملاءمة: يكفي أن تكون أفضل فضاء ممكن لمراقبة المعاني، أما بُعدُها، المحدَّد تجريبيا، فسيتوقف، حسبما يمكن تقديره، على كثافة الإيحاءات التي تتغير وفق لحظات النص: وكل مرادنا ألا تحتوي العجامة الواحدة على أكثر من ثلاثة أو أربعة معاني للتعدد. النص في كتلته شبيه بسماء مستوية وعميقة في الوقت ذاته، ملساء، بدون حوافّ ولا معالم: إن المُعَلِّق مثلُه مثل الكاهن الذي يرسم فيها بطرف عصاه مستطيلا وهميا ليُسائل فيه- بناء على بعض المبادئ- سوانحَ الطيور وبوارحها، فهو يرسُم على طول النص مناطق للقراءة، ليرقُب فيها هجرة المعاني، انبثاقَ الشفرات، عبورَ الاستشهادات. ليست العجامة سوى تغليف لكتلة دلالية، وخطِّ قِمَم النص المتعدد، المنضَّد مثل مسْطَبَةٍ للمعاني الممكنة ( لكن المنتظمة، والمشهود لها من لدن قراءة منهجية) تحت دفق الخطاب:هكذا تشكل العجامة ووحداتها ما يشبه المكعَّب ذي الواجهات المغطَّى بالكلمة، بمجموع الكلمات،بالجملة، أو الفقرة، وبعبارة أخرى،فاللغة هي إناؤها " الطبيعي".
و-النص المهشم:
ما سيُسجَّل، عبر هذه التمَفْصُلات المصطَنعة، هو نقل المدلولات وترجمتها وتَكرارها. ليس القصد من الضبط المنهجي لقائمة المدلولات التي تحملها كلُّ عجامة إثباتُ حقيقة النص (بنيتِه العميقة، الاستراتيجية) وإنما تعدديتُه ( حتى ولو كانت شحيحة). إن وحدات المعاني ( الإيحاءات)- بعد درسها، كلا على حدة، على مستوى كل عجامة- لن تُجْمَع وتُمْهَر بمعنى اصطلاحي ( ما وراء معنى) سيكون هو البناء النهائي الذي يُمنَح لها ( كل ما سنقوم به، في الملحق، هو أن نركز بعض المتواليات التي من الممكن أن يكون الخيط الواصل للنص الوصي قد أضاع تواليها). لن نعرض هنا نقدا لنص أو نقدا لهذا النص؛ سنقترح المادةَ الدلالية ( مجزَّأةً لكن غير موزَّعة) لكثير من أنواع النقد ( النفسي، والتحليلي-النفسي، والموضوعاتي، والتاريخي، والبنيوي)؛ وعلى كل ناقد، فيما بعد أن يلعب، وأن يسمع صوته، إذا رغب في ذلك، وما صوته سوى إصغاء لأحد أصوات النص. ما نسعى إليه هو تخطيط الفضاء الستيريوكرافي لكتابة (وهي، هنا، كتابة اتباعية، كلاسية، قابلة للقراءة). لا يمكن للتعليق- وهو المشيدُ على تأكيد التعدد- أن يشتغل في ظل "احترام" النص. سيهشَّم النصُّ الوصي باستمرار، وسيوقَف ويُقاطَع دون أي اعتبار للتقسيمات الطبيعية ( التركيبية ، والبلاغية، والنوادرية). يمكن للجرد والتفسير والاستطراد أن يستقروا في قلب المفاجأة والتشويق؛ بل يمكن فصل حتى الفعل عن مفعوله، والاسم عن صفته. ما أن يتخلي المعلِّق عن كل أدلوجة شمولية حتى يكْمُنَ عملُه بالضبط في الإساءة إلى النص ومقاطعة كلامه. ومع ذلك، فالمنفِيُّ هو المظهر" الطبيعي" للنص وليس جودته ( التي ليست قابلة،هنا، للمقارنة).
ز-كمْ قراءاتٍ:
يجب أيضا، قبول حرية أخيرة: هي حرية قراءة النص كما لو كان قد قُرئ من ذي قبل. الأكيد أنَّ أولاء المغرَمين بقراءة الحكايات الرائعة يمكنهم أن يبدؤوا قراءتَهم من الأخير؛ أن يقرؤوا، أوّلا، النصَّ الوصي المثْبَت في الملحق بكل صفائه، واستمراريته، وبالحُلَّة التي طُبِِع بها. مُجمَل القول أن يُقرأَ كما يُقرأ عادةً. لكن، بالنسبة إلينا، نحن الذين ننشد إثباتَ التعدد، لا نستطيع إيقافَ هذا التعدد على أبواب القراءة: على القراءة، بدورها، أن تكون متعددة، أي بدون نسق في الدخول: ويلزَم أن تكون الصيغةُ " الأولى" لقراءة ما هي صيغتها الأخيرة، كما لو كان النص قد أعيد بناؤه لينتهي أخيرا في حيلة استمراره، ويحمِل الدالُّ، آنئذ، صورةً محسَّنة إضافية: هي الانزلاق. إن إعادة القراءة- وهي عملية مضادة للعادات التجارية والأدلوجية لمجتمعنا الذي يستلزم " رمي" الحكاية بمجرد استهلاكها (" افتراسها") ليمكن الانتقال، بعد ذلك، إلى حكاية أخرى: شراءُ كتاب آخر- لا يُسمَح بها إلا لبعض الفئات المهمَّشة من القراء ( الأطفال والشيوخ والأساتذة)؛ وإعادةُ القراءة مقترَحةٌ هنا، بدءا، لأنها وحدها التي تنجي النصَّ من التَّكرار ( أولئك الذين يهملون إعادة القراءة يُفرَض عليهم أن يقرؤوا الحكاية ذاتها في كل مكان)، وتُضاعِفُه سواء أفي تنوُّعه أم في تعدُّده: إنها تسْحَبُه خارج تسلسله الزمني الجَوّاني (" هذا يقع قبل ذاك أو بعده")، وتعْثُر مجدَّدا على زمن خرافي ( بدون "لا قبل" و"لا بعد")؛ وتنْكُر الادعاءَ الذي يريد أن يحْمِلنا على الاعتقاد أن القراءة الأولى قراءة أولية، ساذَجة، ظاهرية، يلزَمنا، فيما بعد ذلك فقط، "تفسيرُها" وعقْلنتُها ( كما لو كان للقراءة بداية؛ كما لو أن الكل لم يُقرَأْ من ذي قبل: لا قراءةَ أولى هناك، حتى ولو سعى النص لإيهامنا ذلك بواسطة بعض عوامل التوتر والقلق، وهي حِيَل فُرْجَوية " احتفالية" أكثر منها إقناعية)؛ فهي لم تبق استهلاكا وإنما صارت لعبة ( هذه اللعبة التي هي عودةُ المُخْتَلِف)؛ إذا ما أعدنا- التناقضُ في الألفاظ أمر مقصود إذن- قراءةَ النص حالاً فلِلْحُصول- كما لو كنا متأثرين بمخدر (هو مخدرُ البدء المتكرر، والاختلاف)- على النص المتعدد، الذي هو النص نفسه، والنصُّ الجديدُ، وليس على النص "الحقيقي".
ي-صرازين:
أما بخصوص النص الذي وقع عليه الاختيار .ما هي الأسباب؟ لا أعرف سوى أنني رغبت، منذ زمن، ليس بالقريب كل القرب ولا بالبعيد كل البعد، أن أحلل نصا قصصيا قصيرا تحليلا يشمله كلَّه، وأن أقصوصة بلزاك أثارت انتباهي بسبب دراسة جان ربولJ.Reboul ؛ قال كاتب المقال إنه استمد اختياره الخاص من استشهاد لجورج بطاي، هكذا أجدني ساقطا في هذا الترحيل الذي سأسعى ، من خلال النص ذاته تبيُّن كل مغزاه ومداها. هذا النص هو صرازين لبلزاك (**).
التحليل:
-صرَّازين*: يثير العنوان السؤال الآتي: ماذا يعنى بصرازين؟ أ اسم عام؟ أم علم؟ أم اسم رجل أم امرأة؟ لن يحظى السؤال بجواب إلا بعد فترة طويلة، من خلال عرض سيرة حياة النحات المدعو بصرازين. ولنقررْ إطلاق اسم الشفرة التأويلية ( سنرمز إليها في كل جرودنا ب" تأول") على مجموع الوحدات التي تلحم وتمفصل، بمختلف الكيفيات، سؤالا بجوابه، وبالعوارض المتنوعة التي تسعى عمليا إما إلى تهيي السؤال أو تعطيل الجواب؛ أو إلى صياغة لغز والعمل على حله. يقترح العنوان صرازين ، إذن، الحد الأول من متوالية لن تنغلق إلا بالعجامة 153 (تأول. لغز1-في الأقصوصة ألغاز أخرى)- سؤال).** للفظة صرازين إيحاء آخر: هو الإيحاء بالتأنيث الذي يدركه أي فرنسي يتقبل راضيا الحرف المثبت في الأخير(e) بوصفه وحدة صرفية دالة على التأنيث، لاسيما حينما يتعلق الأمر بعلم مذكره صرارزان Sarrazin* يجمع علم الأعلام والأشخاص الفرنسيون على الإقرار له بذلك. والتأنيث ( الموحَى به) مدلول مرصود للاسقرار في مواضع شتى من النص؛ إنه عنصر مهاجر، يستطيع أن يدخل في تركيبة مع عناصر أخرى من النوع نفسه لتأليف طبائع وأجواء وصور (15)، ورموز. رغم أن الوحدات كلَّها، الموسومة هنا، مدلولاتٌ فإن هذه الأخيرة تنتمي إلى صنف أنموذجي: إنها تشكل المدلول الأمثل، كما يعيِّنه الإيحاء، تقريبا بالمعنى شبه الرائج للفظ. ولنسمِّ هذا العنصر مدلولا ( دون أن نوغِل في التخصيص)، أو لنسمِّه سَيْمة أيضا ( السّّيْمة في علم الدلالة وحدة مدلولية) وسنَسِمُ قائمة هذه الوحدات بالأحرف سيم، مكتفين بتعيين مدلولا الإيحاء الذي تحيل عليه العجامة، بكلمة (تقريبية) ( سيم. تأنيث).
2- كنت منغمسا في حلم من أحلام اليقظة العميقة* لن يكون لحلم اليقظة، المعلن عنه هنا، أي طابع من طوابع التشرّد؛ سيتمفصل بشدة، ووفق أكثر المحسنات البلاغية شيوعا أي بواسطة العناصر المتتالية للطباق، هو طباق الحديقة وقاعة الاستقبال، والحياة والموت، والبارد والحار، والخارج والداخل. إن ما تدشنه العجامة، على أنه إعلان، هو،إذن، شكل رمزي كبير، لأنه سيشمل فضاءً هائلا من الاستبدالات والمتغيرات التي ستؤدي بنا من الحديقة إلى الإخصاء، من غرفة الاستقبالات إلى المرأة الشابة معشوقة الحاكي، مرورا بالعجوز اللغز، والسمينة السيدة لانتي Lanty أو الحالم أدونيس الفييني de Vien. هكذا يبرز مجال شاسع هو مجال الطباق الذي نجد أن وحداته المدْخلية هي التي تقرن، هنا، على سبيل الافتتاح، بين حديه المتناقضين (ا/ب) تحت اسم حلم اليقظة ( سنَسِم كل وحدة من وحدات هذا الحقل الرمزي بالحروف ( رم). هنا: رم.طباق: اب)**. إن حالة الاستغراق المعلنة (" كنت منغمسا..") تستدعي مسبقا ( على الأقل في الخطاب المقروء) حدثا ما يضع له حدا ("… لما أيقظتني محادثة " العجامة 14).
تستتبع متواليات كهاته علةً للسلوكات البشرية. بالعودة إلى المصطلح الأرسطي الذي يربط الممارسة بالبروايريزيس، أو ملكة التفكير والتأمل. ففي نهاية سلوك ما، سنسميه بالبروايريتيك شفرة الأعمال والسلوكات ( لكن الذي يتفكر في أمر الأفعال في الحكاية هو الخطاب وليس الشخصية). وسنسم شفرة الأعمال هاته بـأعم؛ إضافة إلى أن هذه الأفعال تنتظم في شكل متتاليات أو سلاسل فإننا سنطلق، إضافة إلى كل ذلك، على رأس كل سلسلة اسم جنس أي ما يشبه العنوان لكل متوالية: ثم نرقِّم بالمتسلسل من واحد إلى إلخ.. كلَّ حد من الحدود المؤلفة لها، الواحد تلو الآخر، حسب ظهوره ( أعم " انغماس":1 :استغراق).
3-التي تستحوذ على جميع الناس حتى الرجل النزق، في أكثر الحفلات صخبا وضجيجا.* إن الخبر " هناك حفلة" ( الوارد هنا عرضا)، وقد انضمت إليه، على التو، أخبار أخرى ( قصر خاص في فوبور القديس هنوري) مكوَّن في مدلول فاصل: ثراء عائلة لانتي (سيم؛ ثراء).** ليست الجملة إذن سوى تحويل لما يمكن أن يكون، ببساطة، مجرد مثل: " في الحفلات الصاخبة تراودك أحلام يقظة عميقة". هذا الحديث تحدث به صوت جمعي مجهول، يعود أصله إلى الفكر البشري. إذن فالوحدة تنحدر من شفرة حِكمية ( كنومية). هذه شفرة (16) من تلك الشفرات التي لا عد ولا حصر لها أي: شفرات المعرفة والعلم والحكمة التي لا يكف النص عن الإحالة إليها؛ سنمسميها بكيفية عامة جدا الشفرات الثقافية ( رغم أن كل شفرة هي شفرة ثقافية)، أو أن نسميها شفرات مرجعية ( مرج. شفرة الحكمة والأمثال). لأنها تسمح للنص بأن يعتمد على سلطة علمية أو أخلاقية.
أ. هوامش المؤلف:
*J.Reboul, « Sarrazine ou la castration personnifiée », Cahiers pour
l’analyse, Mars-Avril, 1967
**Scénes de la vie parisienne. Le texte est celui de : Balzac, la comédie humaine ed, Seuil, coll, l’intégrale 1966, t.IV,pp 72-263, présentation et notes de p.Citron.
ب. هوامش الترجمة:
• المصطلح المستعمل ،هنا،قد لا يكون شائعا بما فيه الكفاية في الأدبيات التي راجت مؤخرا هنا او هناك؛ لكننا درجنا على استعماله منذ حوالي ثلاثة عقود، وترسخ، على الأقل، لدى فئة من المشتغلين باللسنيات والدلائليات. يمكن العودة إلى مضان كثيرة نقتصر هنا على بعض منها:1-مبادىء في علم الأدلة لرولان بارث، ترجمة وتقديم وتحشية محمد البكري، منشورات عيون المقالات، الدار البيضاء، 1986. 2-الماركسية وفلسفة اللغة لميخائيل باختين، ترجمة بالاشتراك مع الناقدة يمنى العيد، محمد البكري، نشر توبقال، سلسلة معالم، الدار البيضاء،1986. 3-4-الكتابةفي درجة الصفر لرولان بارث، والبنية الدليل، اللعبة، في حديث العلوم الإنسانية، لجاك دريدا،مجلة الثقافة الجديدة، العدد 10-11 ،1978؛ المحمدية، المغرب.5-تحليل نصي لحكاية" القول الفصل في حالة السيد فالدمار" لإدكار ألن بو، لرولان بارث،مجلة فضاءات مستقبلية، الدار البيضاء، المغرب، 1996. 6-العلبة النيرة لرولان بارث ترجمة إدريس القري، مراجعة محمد البكري، منشورات فضاءات مستقبلية، الدار البيضاء، 1998. التحليل اللساني للخطاب السياسي : خطاب الحركة الوطنية المغربية 1930-1932 مثالا. كلية الآداب والعلوم الإنسانية- أكدال – الرباط. 1993 - وأعمالا أخرى نشرتها المجلات الغراء الآتية: " العرب والفكر العالمي"، و"الفكر المعاصر"، و"كتابات معاصرة"، ومجلة "مقدمات" باريس..الخ.
1-المقصود بالنموذج ليس المثال ولا المثل، وإنما البناء النظري-المنطقي أو الرياضي خاصة-لتوضيح أو إعطاء صورة جلية عن سيرورة أو مجموعة سيرورات تربطه بينها علاقات معينة.
2-الكلمة،1- دون تفكيكها هذا،" نعت للأشياء والأشخاص بانعدام الفائدة والأهمية والتفاهة، واللامبالاة وعدم الاكتراث" الخ...2- بتفكيكها يبرز المكونان اللاصقة النافية السالبة الإغريقية in )) و باقي اللفظة différent ، على حدة، "( نعت) ما أو من يتصف بسمة أو وصف يميزه عن شيء أو شخص غيره" فهو على العموم،"مختلف، متميز، مضاد، معارض، مباين، مغاير، مفارق" إلخ.. ومعناها.3- يصبح المعنى ، بعد إدخال الرابطة الطباعية - : "غير المختلف"، "غير المباين" الخ.
3-الجدول Paradigme القائمة ( أو اللوحة) بالمعنى الصوسيري-حصرا وليس الأمريكي- اربتاط عناصر متجانسة من صنف دلائلي معين بعلاقة ما.
4- أدلوجة على وزن أفعولة عوض ايديولوجية المستثقلة رغم شيوعها, والصيغة من اقتراح الأستاذ عبدالله العروي.
5-المنكتب / المنقرئ : le scriptible/ le lisible
6- الجنس : Le genre
7- الإيحاء La connotation؛ التقرير : La dénotation .
8- عبارة: (ع) مضمون (ض)، وقد نسميه محتوى أيضا، العلاقة الرابطة بينهما (ق) وهي على التوالي ، بمصطلح لوي يالمسليف، ومن اليمين: expression, contenu , relation العلاقة الدلائلية الرابطة بين الصعيدين هي علاقة تقرير ما دام الأمر يتعلق بدلائلية بسيطة . أما العلاقة في الحالة الواردة في النص- (ع ق ض) ق ض - فهي علاقة ضمن دلائلية مركبة من صعيد هو عبارة عن دلائلية تقرير تحولت إلى عبارة تربطها بمضمون آخر علاقة جديدة تسمَّى الإيحاء. الإمكان الآخر أن تشكل دلائلية تقرير مضمونا تربطه علاقة دلائلية تسمى الاصطناعية ( الاصطلاحية) بصعيد عبارة معين. كما رسم صورة ذلك لوي يالمسليف في بحوثه اللسنية. ( انظر مبادئ علم الأدلة).
9- الدلائلية : السيميوطيقا والسيميولوجيا , السيمياء.
10- صنافة: Typologie نمذجة.
11- topologie : دراسة الخصائص القارة في التشوه والتغير الهندسي للأشيء وفي التحولات الدائمة المطبقة على الأشيء الرياضية. الطوبولوجيا هندسة الأشيء فب وضع معين.
topique: 1-ما يتعلق بالمكان ؛ 2- بالأماكن العامة بالمعنى الإغريقي الأرسطي ...3- علم المقولات في المنطق الأداة (الأورغانون).
12- نرجح أن استعمال لفظة Lexéologique من نحت رولان بارث (لكننا لا نجزم بذلك كل الجزم في غياب إمكان تحققنا من وجود نحت كهذا قبل صدور النص أولا) وجلي أن لفظة lexique ليست منسوبة إلى lexie وإنما إلى lexème .
13-كل ما قدم بخصوص المصطلح السابق يمكن أن يصح على اللفظ-المصطلح التالي lexéographique. وفي النهاية لا يغيب على ذهن القارئ الكريم أن هذا النحت مباين لمصطلح قار في مصطلح العلم الغربي الحديث وهوLa lexicographie والمقصود به علم صناعة المعاجم ووضعها أي جمع مفردات لغة-بمعنى إثباتها، و إحصائها ومعالجتها من حيث خصائصها الدالية-الشكلية- والمدلولية المميزة لها. وهذا العلم ليس سوى جزء تطبيقي من العلم الأوسع علم المعجم أو ما يمكن أن يطلق عليه اسم علم اللفاظة أو اللفاظيات .La lexicologie إذا تأملنا نص رولان بارث هذا فإن أول ما يتبادر للعين أنه موضوع على شاكلة القاموس. فـ "المقدمة" ليست ذات عنوان خاص. وإنما لها عناوين فرعية كأنها المواد أو المفردات المراد تفسيرها كما هو الحال في القاموس تماما: مدخل تليه فقرة أو فقرات تعالجه وتصفه وتحلله.
14- العُجامة: Lexèmeو نختار هذه الصيغة الإمكان، في غياب ما هو أفضل، لأداء ما قصده رولان بارث بليكسيم.
15- الشفرة التأويلية : المقصود بها، هنا، الوحدات المكونة لوضع اللغز وبنائه والوحدات المؤدية إلى فكه. " إنها صوت الحكمة" ( لوي جان كالفي).
16- شفرة الحكمة والمثل ( الكنومية): نعبر بواسطة المثل أو الحكمة أو البدهي عن عنصر ما من عناصر الحس العام. إنها صوت العلم. الشفرة ح:
1- عن النص
النص الذي نقدمه بين يدي القارئ الكريم ترجمة لِـ "مقدمة" كتاب "S/Z" الذي نشره رولان بارث R. Barthes عند (لوسوي) بباريس سنة 1970، في حوالي 280 صفحة من القطع المتوسط، ضمن سلسلة "مجيدة" نذرت نفسها لنشر الجديد و"المُحتج" و"النقدي" والطليعي من الكتابات الفكرية-العلمية- الإبداعية واليسارية. الكتاب، كما أشار إلى ذلك مؤلفه في صفحة الإهداء، "أثر" (هذه الكلمة العزيزة على الفيلسوف جاك دريدا الذي كان ينشر في المجلة وسلسلتها قبل أن يغادرها في أواخر الستينيات من القرن الفارط) لعمل أنجزه خلال حلقات دراسية على مدى سنتي 1968 و 1969، "بالمدرسة التطبيقية للدراسات العليا" بباريس. الكتاب المؤَلَّف، ما عدا المقدمة والفواتح والملحقات، وهي لا تشغل حيزا كبيرا، تحليل لقصة تقع في الحدود القصوى لـجنس القصة القصيرة (31 صفحة من القطع المتوسط)، كتبها الـروائي الكبير هُنـُوري دو بالـزاك سنة 1830. وعنونها بـ" صرَّازين Sarrazine "(*) (نتمنى سنوح فرصة لنشر ترجمتنا إياها إلى العربية قريبا). شخصيتها الرئيسة مسماة بِـ"زَمْبِنَلَّه"؛ وبذلك يصبح عنوان الكتاب وكأنه "صرازين" في مقابل أو في تعارض مع "زَمْبِنَلَّه"؛ لا يمكن الوقوف عند هذا الحد فقط؛ لأن هناك، أيضا، تعارضا صوتيا بين [ص] و [ز]؛ بل وأكثر من ذلك، نجد تعارضا في الشكل يتميّز به التمثيل الخطي للوحدتين الصوتيتين المذكورتين أي بين الشكل الخطي للحرفين كالتالي z \ s؛ فضلا عن تعارض مقطعي في صلب لفظ صرازين نفسه.
إن فرادة النص-الموضوع وتميّزَه، أو خصوصيته على مستوى الكتابة، جذبت إليه اهتـمام كتاب كبار، مثل جـورج بطايG. Bataille ، ونقاد كـبار كـجان رُبُول J. Reboule، ولن يكون رولان بارث آخرهم. بل يمكن المجازفة والقول إن "استثنائية" النص المذكور هي التي دفعت برولان بارث إلى رهان لا يخلو من مخاطرة ولا نلقاه كل يوم: تخصيص كتاب لتحليل قصة قصيرة: تحليل رغم أناقته، وجماليته، ورهافته وعمقه الفني ينبني على أساس علمي غير متهافت وثرٍّ مُوعِد جدا.
2- عن بعض خلفيات الكتاب:
تندرج هذه الممارسة التحليلية، ذات الطابع الاستثنائي، ضمن تيار هائل من الفكر والممارسة (اتجاهات علمية وفكرية وفلسفية وأدبية وفنية تتصارع وتتفاعل) طَبَع الغرب المصنّع وكانت فرنسا طليعته:
أ- إنه تيار يمكن وسْمه بتيار "إعادة القراءة" للنصوص المؤسِّسة.
1- لوي ألتوسير وجماعته يعيدون قراءة كتابات كارل ماركس في العديد من المؤلفات الذائعة الصيت فيما بين 1965-1973؛
2- جاك لكان J. Lacan يمارس قراءة مغايرة لأسس التحليل النفسي وعلى رأسها نصوص س.فرويد، خارج المؤسسات المكرّسة رسميا، وينشر (كتاباته) الأولى سنة 1966 والثانية سنة 1971؛
3- م.فوكو M. Foucault يعيد قراءة تاريخ المعرفة من خلال رصد ربائد مؤسسات العلاج البدني والعقلي والاعتقال والوقاية وممارسة الجنس؛
4- قراءة كلود ليفي- سطروس لخرافات وسلوكات أو عادات القبائل الأصلية (البدائية)؛ فضلا عن الأزمة التي كان يعاني منها علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي والتاريخ في مواجهة الربائد (الأرشيفات) وكيفية قراءة وتحليل الممارسات الخطابية المتنوعة: استكناهها واستنطاقها.
ب- كل ذلك في وقت كانت اللسنيات قد أثبتت، منذ مدة، أنها العلم الإنساني الرائد. وكان من المفروض فيها، بالتالي، توفير منهج فعال في تحليل النصوص والخطابات. فاللسنيات لم تفكر جديا في محاولة مقاربة ظاهرة "الخطاب" التي بقيت حتى إذ شبه محرمة ومقصاة، إلا مع ظهور المقال الرائد لزليج هاريس: "تحليل الخطاب": (1952). لكن، كان يجب أن ننتظر حوالي العقدين من الزمن أي حتى حوالي 1969- وبداية العقد الثامن لكي يبدأ العمل الجدي في وضع أسس نظرية متينة وطرق منهجية لتحليل الخطاب، وتجريب كل ذلك وتطبيقه بكيفيات متعددة. لتتوالى بعدئذ، أو بالتزامن معه، على أقصى تقدير، تيارات لسنية أخرى لتحليل النص في بلدان أخرى...بدهي أن المقاربات التقليدية والأخرى المدعية متأزمة ومفلسة ولا يقبل بها العقل العلمي اللسني...ولا الفلسفي الذي طالما وصفها بالفظاظة والوحشية.
3- التيار الدلائلي(السيميائي):
أما السيميائيات علم الأدلة و العلامات (السيميولوجيا والسيميوطيقا) فلم يعد لاستئناف مساره، بعد دوصوسير ثم لوي يالمسليف من جهة، وبيرس ثم موريس من جهة ثانية، إلا في مطلع الستينات مع مؤتمر "طارتو" سنة 1962 بالاتحاد السوفياتي، والذي سهر عليه يوري لوتمان وجماعته وكان موضوعه أنظمة: الأدلة (العلامات) غير اللفظية؛ ثم إصدار بارت لمقاله "مبادئ علم الأدلة" (مجلة "تواصلات" الفرنسية. ع. 4. سنة 1964). بذلك، كما قال الدلائلي الأمريكي طوماس سيبوك، فَتَحَ رولان بارث "علبة باندور". الواقع أن مقال رولان بارث كان زبدة مراجعة نقدية وعميقة للأسس النظرية والمنهجية التي بلورها درس اللسان البشري وأنظمة التواصل الأخرى كالرموز والإشارات والخطوط إلخ. بل جميع الأنسقة الدالة. إذا كان هذا الكتيب قد شكل أداة أصبحت بسرعة ضرورية لدراسة الوقائع الدالة لفظية (نصوصا وخطابات) أو غير لفظية: مثل وقائع التدلال الصوري والموسيقي والإيقاعي والمعماري إلخ...فبواسطته أيضا صفى رولان بارث الحساب مع النظرية والمنهج. إذ على أساسه، وبه، كتب أهم كتاب في السيميولوجيا، خلال العقد السابع من القرن العشرين، ألا وهو كتاب: "نظام الأزياء" "Système de la mode" لوسوي، باريس 1967.
بهذين الكتابين، وبناء على أطروحات لوي يالمسليف، اللسني الدانماركي، وبناء على تفاعل ناجح مع فتوحات اللسنيات والمنطق والإناسة البنيوية ونظرية الإخبار والتواصل والتحليل النفسي والتحليل الدلالي إلخ.. أنجزت الدلائلية، من خلال مغامرة رولان بارث، طفرة مهمة على المستوى النظري والمنهجي والتطبيقي تجاوزت بها تردد مرحلة التأسيس. تجلى ذلك في اختيارات أساسية أهمها:
1- أن الأنظمة الدالة لابد لها وأن تمر عبر اللغة بشكل أو آخر، ومن ثم يجب أن تجعل موضوعها كل الخطابات المتحدَّثة في عالمنا، ومهما كان نوعها: أي أن يصبح هذا العلم الجديد مندمجا ضمن لسنيات من نوع جديد: لسنيات تجاوزية. لقد قلب ر.بارت الأطروحة الأساس لفردينان دو صوسير عن "السيميولوجيا".
2- تجاوز الإطار الضيق لمفهوم التواصل، الذي حصرت داخله النظرية الوظيفية الأرثدوكسية مجموع تصوراتها الدلائلية بوصفه المعيار والمبدأ الأول لكل تحليل دلائلي، وذلك بواسطة مبدأ الدلالة أي أن موضوع الدلائلية هو كل الأنظمة أو الأشياء التي تدل وتعني لبني البشر شيئا ما. سواء أكانت تلك الأنظمة و الأشياء لغات كالإشارات والعلامات والأمارات والرموز أم كانت غير لغوية أصلا. بذلك تطورت دلائلية الدلالة وأعطت للدلائلية نفسا جديدا وشحنة قوية لازالت محركها الأساس، بعد التعثرات التي لم تفلح في التغلب عليها من ذي قبل.
3- لكن رولان بارث قام داخل دلائلية الدلالة (: لوي يا لمسليف. أ.ج. كريماص- ومن حذوهما) باختيار حاسم حين جعل من دلائلية الإيحاء- وهي دلائلية غير علمية أصلا عند يالمسليف ومدرسة باريس- موضوعا للبحث، وفي الوقت ذاته، أداة للتحليل النصي.
4- المساهمة في ، بل المبادرة إلى، تهذيب وتشذيب وتطوير الجهاز النظري والأدوات المنهجية والعمل على القيام بتطبيقات عينية مثل بحوثه في "نظام الأزياء" و"الصورة" إلخ...إضافة إلى جراءة بارث على اجتراح الجديد في المفاهيم وفتح إمكانات خارقة للبحث النظري والعملي رغم النقد الجارح الذي تعرض إليه ، أحيانا ، من هنا وهناك.
دوّن هذه المغامرة وتطوراتها اللاحقة على يديه أو على أيدي تلامذته والمحيطين به في مجلة "تواصلات" "تيل كيل" و "لغات" و "شعريات" إلخ.. لم يكن ممكنا، ( خلال وبعيد تلك الثورة في سنة 1968، كآخر ثورة في العالم المصنَّع ضد الرأسمالية والامبريالية والتي كانت باريس مسرحا لها) أن يكتب كتابا كاملا لتحليل قصة لبالزاك. ما مغزى ذلك؟ إن لم يكن الأمر يتعلق برهان علمي واختيار أو موقف معرفي: تأسيس علم يمكن من الإمساك بذلك الخطاب المخبوء تحت الخطاب الظاهر، والوصول إليه دون السقوط في هذر المضاربات الفكرية والمهاترات أي: هتك حجاب "البراءة" و"الحياد" و"البدَهي" و"الطبيعي" و"تحصيل الحاصل" و"الرأي العام" و"القيم" إلخ...وزحزحة نيرهم الجاثم بكلكله في لا وعي الناس وعلى رؤوسهم: هؤلاء الناس الذين يتقبلونه على أنه" بدهي" ،" طبيعي"، " تحصيل الحاصل" و "ليس محط نقاش". في حين أنه محرك ووقود هيمنة واستمرار وحياة كل ما هو غير إنساني: إنه حكم الموتى للأحياء...
5- التحليل النصي: (التحليل النصي / التحليل البنيوي: كَريماص – بروب): في كتاب (ص/ز) عاد رولان بارث إلى النص الأدبي لتأسيس دلائلية نصية فعلية وترسيخها، كما فعل بالنسبة إلى الأنظمة الدلائلية الأخرى أي غير اللفظية كالأزياء في كتابه "نظام الأزياء". أمام النص الأدبي يُطرح دائما مشكلٌ: "كيف نقوِّمه؟". كان رد بارث جليا وحاسما وموقفيا، ليس بالاستهلاك وإنما بالإنتاج، إعادة كتابته؛ لكن، ليست كل النصوص الأدبية بمهيأة أو قادرة على أن تتيح لنا ها الإمكان. من ثم يجب البحث عن النص المنكتب، القابل للكتابة لأنه نادر وعزيز: إنه النص المتعدد الأصوات، النص الذي يشكل ظاهرة إيحائية. فيه فقط تصبح القراءة نشاطا لاستكشاف طرق انطلاق الدلالات وتشتتها. كيف يتتبع تلك الدلالات؟ كيف ينسقها؟ ويبين طرق تبَنْيُنها (لأنه لا يبحث عن بنية للنص). كيف يجزئ النص؟ كيف يسير معه خطوه خطوة؟ كيف ينَجِّمه ليستخرج شفراته المتنوعة؟ أو بعبارة أخرى كيف يستكشف عالمه المتحرك، ويعيد كتابته بمتعة ولذة؟ ذلك هو موضوع هاته المقدمة، علما أن التسرع في محاولة إنماء هذا العمل إلى أحد أجناس النشاط الثقافي أو المعرفي إضرار به؛ لأنه، كما قال مؤلفه، ليس نقدا أدبيا، بل ولا حتى أدبا؛ إنه نشاط نظري وممارسة، واختيار وانغماس في معركة البشر ضد الأدلة (العلامات).
في هذا العمل تتجلى كل أبعاد التحليل النصي الذي ستطوره جوليا كريستيفا مسمية إياه باسم قريب يجمع بين الجذر الإغريقي (والسامي: اسم ، وسم) – سيما- والكلمة الفرنسية -تحليل (la sémanalyse) وجاك دريدا في عمليات قراءته الفلسفية منذ "الكتابة والاختلاف" وجيرار جنيت في تحليلاته السردية، وت. طدروف في شعرياته. إن التحليل النصي يشكل رافدا غنيا ومتنوعا أثر تأثيرا عميقا في الدلائلية المعاصرة التي ستبقى ناقصة جدا بدونه. ثم إنه هو وتِربُه التحليل السردي الخطابي على طريقة مدرسة باريس (كًريماص ومن معه) يشكلان الرافدين الرئيسيين للدلائلية المعاصرة في العالم قاطبة.
ملاحظة عن الترجمة: تعود هذه الترجمة، في نسخة أولى، إلى بداية ثمانينيات القرن الفارط، بمناسبة بداية تدريس السيميائيات في الجامعة المغربية التي تزامنت مع بداية تدريسي لهذه المادة. استعملت هذه المقدمة دعما ومرجعا لنصين آخرين هما "من أين نبدأ؟" رولان بارث (ترجمة محمد البكري "عيون المقالات" العدد 12. 1988)، و("تحليل نصي لحكاية القول الفصل في حالة السيد فالمار لادكار ألان يو" لرولان بارث، ترجمة محمد البكري فضاءات مستقبلية. العدد 2-3. 1996). ولقد تعثر نشر هذه الترجمة، منذ ذلك الحين، لأسباب متنوعة. بالنسبة إلى ثبت المصطلحات المستعملة ومقابلتها الأجنبية اكتفى بالإحالة إلى العملين المذكورين.
[1] *- أجد صعوبة في ترقيق هذه "الصادّ وكتابتها "سينا". الكلمة تحويل للفظ قديم من اللاتينية المتأخرة هو "Saraceni": ويعني "شرقي"؛ أطلق على "العرب" و"المسلمين" و"المغاربة" أثناء، وبعد، غزوهم لفرنسا في القرن الثامن الميلادي.
__________________________________________________
أ – التقويم:
يقال إن بعض البوذيين يتوصلون-بفعل شدة النسك- إلى رؤية منظر طبيعي بكامله في فولة. وهذا ما توخّاه أوائل محللي الحكاية: أن يروا كلَّ حكايات العالم ( وهي كثيرة جدا، وكان منها الكثير جدا) في بنية واحدة: سنَسْتنبط –حسبما زعموا- من كل حكاية نموذَجها(1) ثم نصنع من هذه النماذج بنية سردية كبرى، نسقطها من جديد ( للفحص والتحقق) على أي حكاية : مَهمَّة مُنهِكة ( " العلمُ بالصبر، والعذاب أكيد") وهي في النهاية غير مرغوب فيها؛ لأن النص يفقد فيها خلافيَّته. بدَهي أن هذه الخلافيَّة ليست صفة كاملة غيرَ قابلة للاختزال ( وَفْق نظرة خرافية للإبداع الأدبي)، فليس هي ما يعيِّن فرادة كل نص، ما يسميه، ويُمضي عليه، ويوقِّعه، وينهيه؛ إنما هي، على العكس من ذلك، خلافيَّة لا تتوقف، تَتَمفْصَل مع لا نهائية النصوص واللغات، والأنساق: خلافيَّةُ كلُّ نص عوْدٌ لها. لا بد من الاختيار إذن: إما وضعُ كل النصوص في حركة ذهابٍ وإياب استدلاليةٍ، والمساواةُ بينها تحت عين العلم اللاّ مبالية (غير الخلافيةindifférente )(2)، وإجبارُها على أن تلتحق،استقرائيا، بالنسخة التي سيشتقون منها- فيما بعد- تلك النصوص؛ وإما أن يوضَع كلُّ نص في لعبته، وليس في فرادته، ويُدفَعَ به إلى حيث يلتقطه الجدولُ(3) اللانهائيُّ للخلافيَّة حتى قبل أن يتحدث عنه، وأن يُخضَع رأسا- وللوهلة الأولى- إلى صنافة مؤسِّسة، وإلى تقويم. كيف يمكن، إذن، تحديدُ قيمة نص ما؟ وكيف تتأسَّس صِنافة أولى للنصوص؟ لا يمكن للتقويم المؤسِّس لكل النصوص أن يرِد من العلم، لأن العلم لا يقوِّم، ولا من الأدلوجة (4)، لأن القيمة الأدلوجية لنص ما ( أخلاقية، أو جمالية، أو سياسية، أو قانونية) قيمةُ تمثيل، وليس قيمة إنتاج ( الأدلوجة "تعكس" ولا تشتغل). لا يمكن لتقويمنا أن يرتبط إلا بممارسة، هذه الممارسة هي الكتابة. من جهة، ثمت ما يمكن كتابتُه ومن جهة ثانية ما لم يعد ممكنا كتابتُه: ما يقع ضمن ممارسة الكاتب وما خرج عن دائرتها: أيَُّ النصوص أقبَلُ بكتابتها( إعادة ـ كتابتها)، أن أتعلَّق بها، أن أرغب فيها وأقدِّمَها كقوة في هذا العالم الذي هو عالمي؟ ما يعثر عليه التقويمُ هو هذه القيمة: ما يمكن اليوم كتابتُه ( تُعاد ـ كتابتُه) هو القابل للانكتاب(5). لماذا يُشكِّل القابل للانكتاب قيمتَنا؟ لأن رهان العمل الأدبي ( الأدب كعمل) أن يجعل من القارئ مُنتجا للنص وليس مجرَّد مستهلك فقط. إن أدبنا متسِِمٌ بالطلاق البائن، الذي تُبقي عليه المؤسسة الأدبية بين صانع النص ومستعمله، بين مالكه وزبونه، بين كاتبه وقارئه, هذا القارئ غارقٌ، إذن، في نوع من العطالة والسِّلبية؛ بكامل الصراحة، إنه غارق في نوع من الجدية. عِوَض أن يلعب هو الآخرُ. أن ينغمس كليا في فتنة الدّالّ وشهوة الكتابة، لا يبقى له مطلقا أيّ شيء مشترَكٌ سوى حريته البئيسة بين أن يقبل النصّ أو أن يطَّرحه: فلا تصبح القراءة غير استفتاء. تنتَصِب إذن، أمام النص القابل للكتابة، قيمتُه المناقضةُ له، قيمته السلبية ، والارتدادية: ما يمكن أن يُقْرَأ، لكن دون أن يُكْتَب القابل للانقراء . سنسمي كلَّ نص قابل للانقراء نصّا اتباعيا( كلاسيا).
ب. التأويل:
لاشيء، ربما، يمكن قوله عن النصوص القابلة للانكتاب. أولا، أين يمكن العثور عليها؟ أكيد أننا لن نعثرعليها ناحية القراءة ( أو على الأقل نادرا جدا، صُدفةً، خلسةًً، وبموارَبَة في بعض الأعمال التخومية): النص القابل للانكتاب ليس شيئا. من الصعب العثور عليه في خزائن الكتب. أضِف إلى ذلك أن مثاله مُنْتِج ( وليس تمثيليا قط ) لذلك يُلغي كلَّ نقد: إذ لا يكاد النقدُ ينتُج حتى يمتزجَ به. لن تقوم إعادةُ كتابته إلا على تشتيته وبعثرته في حقل الاختلافات الَّلانهائي. النص القابل للكتابة حاضرٌ دائم. لا يُمكن أن يوضَع عليه أيُّ كلِمٍ منسجم منطقيا ( يحوّلُه بقدرة قادر إلى ماض): النصّ القابل للانكتاب، هو نحن أثناء الكتابة، قبل أن يعبُر لعبةَ العالم اللانهائية ( العالم كلعبة) ، ويقْطعَها ويوقفَها ويُلدّنها نسقٌ من الأنسقة الخاصة(الأُدْلوجة، الجنس والنقد)(6) الذي يعود ليقبل في النهاية، بعد خيبة آماله وتبدُّد أوهامه، بانفتاح الشبكات ولانهائية اللغات وتعدُّد المداخل. المنُْكتب [ القابل للكتابة] هو الروائي بدون الرواية، الشعر بلا قصيد، المقالة بدون الإنشاء، والكتابة ما عدا الأسلوب، الإنتاج بدون المنتوج والبَنَََْيَنة بلا بنية. لكن ما النصوص المنقرئة ( القابلة للقراءة)؟ إنها منتوجات (وليست إنتاجات)، تُشكّل الغالبية العظمى من أدبنا. كيف نميِّز، مرة أخرى، هذه الكتلة الهائلة؟ لا بد من عملية ثانية، مترتبة عن التقويم الذي فصل بين هذه النصوص، في لحظة أولى، أدقَّ منه ومبْنِيَة على تثمين مقدار مّا، على الــ " إلى حد مّا" التي يمكن لكل نص أن يوظفها, هذه العملية الجديدة هي التأويل. (بالمعنى الذي كان يعطيه نيتشه لهذا اللفظ). ليس القصد من تأويل نص مّا إعطاؤه معنى ( قارّا إلى حد مّا وحرّا إلى حد ما)، إنما معناه ، على العكس من ذلك، تثمينُ أيِّ تعدّد جبَله؟ لنبسط، أولا، صورة تعددية ظافرة لا يتسلط أيّ قيد من قيود التمثيل ( التقليد) ليُفْقِرها. في هذا النص المثالي تتعدد الشبكات وتلعب فيما بينها, دون أن تستطيع أيّ واحدة منها أن ترئِس الأخريات؛ هذا النص مجردُ دوالّ وليس بنيةًََ من المدلولات؛ فهو لا بداية له ، إنه عكوس؛ قابل للانقلاب. يمكن الولوجُ إليه من شتى المداخل، دون الادعاء، على وجه اليقين، أن هذا المدخلَ أو ذاك هو الرئيس. تتوالى الشِّفرات التي يُجنّدها على مدى البصر دون أن تتسم بالحسم( لا يخضَع المعنى فيها، قطعا، لأي مبدأ تقريري، إلا ما كان برمية نرد)؛ يمكن لأنظمة المعنى أن تَستحوذَ على هذا النص المطلَق في تعدّديته؛ إلا أن تعدّديته لا حصر لعددها أبدا؛ لأن معيارَها هو لا نهائيةُ اللغة. ليس للتأويل الذي يتطلبه نصٌّ مُستَهدَفٌ مباشرةً في تعدديته أيُّ صبغة لِبِرالية: لا يتعلق الأمر، هنا، بتسليم معنى من المعاني. كما لا يتعلّق بالاعتراف، بشهامة، لكل واحد بنصيبه من الحقيقة؛ إنما تكْمُن الغايةُ، ضدا على كل لا اختلاف [ لا مبالاة]، في التوكيد على كائن التعدّد الذي ليس هو كائن الحقيقة أو المحْتمَل، بل ولا حتى الممكن. مع ذلك ، هذا التوكيد الضروري صعبٌ؛ إذ لا يوجَد بتاتا، في الوقت الذي لا يكون فيه شيء خارج النص، أيُّ كلٍّ للنص الذي يصير، بفعل القلب، مصدرَ نظام داخلي وتصالحا بين أجزاء متكاملة، تحت العين الرحيمة للأنموذج التمثيلي)؟: يجب، في الوقت ذاته، تخليصُ النص من خارجه ومن كليّته. معنى كل هذا استحالةُ وجودِ بنية سردية أو نحوٍ مطلقٍ للحكاية في النص المتعدد. إذن، إذا حصل أن اسْتسْلَمت هذه القضايا، أحيانا، للمقاربة في نطاق ( مع إيلاء هذه العبارة كامل قيمتها الكَمّية) كونِنا أمام نصوص تعدّديتُها ناقصة: نصوص تعدديتها شحيحة إلى حد ما.
ج ـ ضدا على الإيحاء:
لهذه النصوص المعتدلة في تعدديتها( أي المتعددة الدلالة فقط) مُثَمِّنٌ متوسط لا يستطيع أن يقبض إلا على جزءٍ ما، يقع في قلب المتعدد. وهو في الوقت ذاته، أداة رفيعة جدا حتى يمكن تطبيقها على النصوص المتعددة القيَم، والارتدادية والصريحة التذبذب ( أي على النصوص الكاملة التعدد). هذه الأداة المتواضعة هي الإيحاء(7). وهو- عند يالمسليلف الذي صاغ له تحديدا- معنى ثانٍ دالُّه يتألف، هو نفسه، من دليل أو نظام دلالي أول هو التقرير: إذا كان (ع) هو العبارة وكان (ض) هو المضمون و (ق) العلاقة بين الإثنين والمؤسِّسة للدليل، فإن صيغة الإيحاء هي ( ع ق ض) ق ض (8). لا ريب في أنهم لما لم يَحْصِروا الإيحاء- ولم يخضعوه لصنافة النصوص- صار لا يتمتع بسمعة حسنة. فالبعض ( ولنقل: إنهم فقهاء اللغة) يرمون- وقد قَضَوا بأن كل نص إنما هو أحاديُّ المعنى، ممتلِكٌ لمعنى حقيقي، ومعياري مُقنَّن- بالمعاني المتصاحبة، والثانية إلى عدميَّة الهذيانات النقدية. في مقابلهم الآخرون ( لنقل: الدلائليين)(9) ينكرون تراتبية المقرَّر والموحَى؛ ويقولون إن اللسان، وهو مادة التقرير، بقاموسه وتركيبه ونحوه، نظامٌ كأي نظام، ولا داعي لتفضيل هذا النظام عن غيره من الأنظمة؛ وجعْله مجالا ومعيارا لمعنى أوّل، هو مصدرُ ومعيارُ كل المعاني المتشاركة معه؛ إننا إذا جعلنا التقرير حقيقة وموضوعيَّة وقانونا فلأننا لا نزال مفتونين بمجد اللسانيات الذي قلَّص، حتى اليوم، اللغةَ إلى الجملة ومكوِّناتها المعجمية والتركيبية. غير أن رهان هذه التراتبية جاد؛ هو العودة إلى انغلاق الخطاب الغربي ( العلمي أو النقدي أو الفلسفي) إلى تنظيمه المُتَمَرْكز، المتجسِّد عبر تنضيد كل معاني نص ما في دائرة حول بؤرة التقرير ( البؤرة: مركزٌ وحارس وملجأ ونورُ الحق).
د – مع الإيحاء رغم كل شيء:
ليس هذا النقد الموجَّه ضد الإيحاء بصائب إلا نصفه؛ لأنه لا يأخذ بعين الاعتبار صِنافة النصوص ( هذه الصِّنافة مؤسِّسة: لا نص يوجد قبل تصنيفه حسب قيمته (10). لأنه إذا وُجِدَت نصوصٌ قابلة للقراءة، مندرجة في نسق انغلاق الغرب، ومصنوعة وفق غايات هذا النظام، وخانعة لقانون المدلول فلا بد أن يكون لمعناها نظامٌ خاص. أساس هذا النظام هو الإيحاء. هكذا، فنفيُ الإيحاء نفيا كونيا معناه إلغاء القيمة الخلافية للنصوص، ورفضٌ لتعريف الجهاز النوعي ( الشعري والنقدي في الوقت ذاته) للنصوص القابلة للقراءة، وهو مساواة للنص المحصور بالنص-الأقصى، وحرمانٌ للنفس من أداة للصِّنافة. الإيحاء هو سبيل الولوج إلى تعدد الدلالات في النص الاتباعي [ الكلاسي]، إلى هذا التعدد الدلالي المحصور الذي يؤسس النص الاتباعي ( ليس أكيدا أن يحتوي النص الحديث على إيحاءات). يجب، إذن، إنقاذ الإيحاء من محاكمته المزْدَوِجة والحفاظ عليه كأثر لتعدد دلالي ما في النص، قابلٍ للتسمية، وللحسبان:حسبان التوقيت-( هذا التعدد المحدود في النص الاتباعي. فما هو الإيحاء إذن؟ إنه، من الناحية التعريفية الصرف، تحتيمٌ، علاقةٌ، عائد، سمةٌ لها القدرة على العودة إلى بيانات سابقة، أو لاحقة أو خارجة، إلى مواضع أخرى في النص ( أو في نص آخر): لا يجب، وبأي حال، قَصرُ هذه العلاقة التي يمكن تسميتها، على سبيل التنويع، ( وظيفة أو قرينة مثلا)، ما عدا في حالة واحدة فقط؛ هي خلط الإيحاء بتداعي الأفكار: هذا يحيل إلى نظام ذاتٍ ما. أما ذلك فتعالقٌ محايثٌ للنص، للنصوص؛ أو إذا أردنا، أيضا، إنه تداعٍ ينجزه النص-الذاتُ داخل نظامه الخاص. مقوليا، الإيحاءاتُ معان لا يُعْثَر عليها لا في القاموس ولا في نحو اللسان الذي كتب به النص ( هذا طبعا تعريف عابر، إذ يمكن للمعجم أن يتوسع كما يمكن للنحو أن يتغير). يتحدد الإيحاء، تحليليا، عبر فضاءين: فضاءِ متواليات وهو عبارة عن تسلسل نظام، فضاءٍ خاضع لتتالي الجمل التي يتناسل المعنى طوالها بفعل التَّرْقِيد؛ وفضاءٍ تكتُّلي: بعضُ مواضع النص تتعالق مع معان أخرى من خارج النص المادي، مشكِّلة معها أنواعا من السدائم والركائم المدلولية. هندسيا [مكانيا] (11) يضْمَن الإيحاء تشتيتا ( محصورا) للمعاني، مذرورا كنُثارات الذهب على السطح الظاهر للنص ( المعنى ذهب). دلائليا، كل إيحاء انطلاقٌ [ذهاب] لشفرة ( لن يعاد بناؤها)، تَمَفْْصُلُ صوتٍ منسوجٌ في النص. أما من الوجهة الدينامية، فهو سيطرةٌ يخضع لها النص، وإمكانُ هذه السيطرة ( المعنى قوة). تاريخيا، يؤسِّس الإيحاء- وهو يستنبط المعاني التي يبدو ممكنا ضبطُها ( حتى لو لم تكن معجمية)، أدبا ( مؤرخا له) للمدلول. وظيفيا، يُفسِد الإيحاءُ- وهو يولِّد، مبدئيا، ازدواجيةَ المعنى- صفاءَ التواصل: إنه "ضجيج" إرداي، مهيَّأ بعناية، مُدمَجٌ في الحوار الوهمي بين المؤلف والقارئ. مُجمَل القول إنه تواصل مضاد ( الأدب كتابةٌ فاسدة قصدا). بنيويا، يسمح وجودُ نظامين، اشتهرا بتباينهما هما التقرير والإيحاء، للنص بأن يشتغل ويعمل كلعبة: كل نظام يحيل إلى الآخر حسب حاجيات وهْم ما. أخيرا، تضمن هاته اللعبة، من الناحية الأدلوجية، بكيفية إيجابية للنص الاتباعي براءة ما:إذ ينقلب أحد نظامي التقرير والإيحاء ويتميز: إنه نظام التقرير الذي ليس بالمعنى الأول، ولكنه يتظاهر بذلك، وهو، في ظل هذا الوهم، ليس في نهاية المطاف سوى آخر الإيحاءات ( أي ذلك الإيحاء الذي يبدو أنه، في الوقت ذاته، يؤسِّس القراءة وينهيها)، الخرافة السامية التي بفصلها يتظاهر النص بالرجوع إلى طبيعة اللغة، إلى اللغة بوصفها طبيعة: ألا تتَّسم الجملة، أية جملة- مهما كان نوع المعنى الذي تطلقه، على إثر التحدث بها، حسبما يظهر- بسيماء من يبدو، وكأنه يريد أن يقول لنا شيئا ما بسيطا، حرفيا، بدائيا: حقيقيا، كل ما تبقى - بالنسبة إليه (الذي يأتي فيما بعد، وفوق ذلك)-أدب؟ لذلك يتحتم علينا، إذا ما أردنا التوافق مع النص الاتباعي، الحفاظُ على التقرير، وهو ربٌّ قديم، يقِظٌ ماكر، مسرحي، مهيَّأ لأن يمثل البراءة الجماعية للغة.
ه-القراءة، النسيان:
أقرأ النص. هذا الحديث المـــــطابق
ل "عبقرية" الفرنسية ( فاعل، فعل، مفعول) ليس صحيحا دائما. فكلما كان النص متعددا كان أقل انْكِتابا قبل قراءتي له؛ لا أسلط عليه عمليةً حملية ملائمة منطقيا لكائنه، تسمى قراءةً. وأنا ليس فاعلا بريئا، سابقا على النص يستعمله، فيما بعد، كما لو كان شيئا قابلا للتفكيك أو موضعا يقتضي الاحتلال. هذا " الأنا" الذي يقترب من النص هو نفسه تعدّدُ نصوصٍ أخرى، تعددُ شِفرات لا نهائية، أو على الأصح: ضائع (أصله يضيع). الأكيد أن الموضوعية والذاتية قوتان قد تستوليان على النص، لكنهما قوتان لا تربطهما به صلة. الذاتية صورة مليئة. يُفترَضُ أنني أرهق بها النصَّ، لكن امتلاءَها، المغشوشَ، ليس سوى أثر لكل الشفرات التي تصنعني إلى حد أن تصير لذاتيتي في النهاية عموميةُ المسكوكات. الموضوعيةُ مَلْءٌ من النوع نفسه: إنها نظام خيالي مثل باقي الأنظمة الأخرى ( إلا أن الفعل الإخصائي منغرسٌ فيها بضراوة أشْرس)، صورة تصلح لكي تسمِّيَني على النحو الأفضل، وتشْهِرني. وتتجاهلَني. لا تحتوي القراءة على أخطارها الموضوعية أو الذاتية (كلتاهما متخيَّل) إلا بقدر ما نعرِّف النصَّ على أنه شيء تعبيري (موهوب لتعبيرنا الخاص)، مُصَعَّدٌ في صورة أخلاق هي أخلاقُ الحقيقة، تسامحيةٌ هنا وزهديةٌ هناك. ليست القراءة، مع ذلك، فعلا طفيليا، ولا بالمكمِّل الارتجاعي لكتابة نزيِّنها بكل أمجاد الإبداعية والأسبقية. إنها عمل ( لذلك من الأحسن الحديث-أساسا- عن فعل يتعلق بعلم العجامات (12) وفنِّ وضع العجامات (13) لأنني أكتب قراءتي). ومنهج هذا العمل منهجٌ طوبولوجي: لست مختفيا في النص، إنما فقط يستحيل ضبط مَكْمَني أنا فيه. مَهَمتي التحركُ، وتنقيلُ الأنظمة التي لا يتوقف منظورها لا لدى النص ولا لد"يَّ": من الناحية العملية، لست" أنا" ولا آخرون، الذي أكتشف المعاني التي أعثر عليها. لكنما تكشف عنها علامتها النظامية: فلا حجة أخرى عن قراءة مّا غيرُ نوعية ومكابدةِ نظاميّتها، أو بعبارة أخرى، غير حجِّيَّة اشتغالها. الواقع أن القراءة عملُ لغة. القراءة عثورٌ على المعاني. العثور على المعاني تسمية لها؛ لكن هذه المعاني المسماة محمولةٌ نحو أسماء أخرى؛ الأسماءُ تتداعى، وتتجمَّع, وتجمُّعها يريد، من جديد، أن يتخذ له اسما: أسمِّي، وأمنحُ أسماءَ، وأعيد؛ هكذا يمر النص؛ إنه تسميةٌ في حالة صيرورة، واقترابٌ ( تخمين) لا يكِلُّ، عملُ مجازٍ مرسَل. لا يمكن، في رأي النص المتعدد، لنسيان معنى ما أن يُستقبَل إذن كخطإ. بالنسبة لأي شيء يتم النسيان حين ننسى؟ ما جُماع النص؟ يمكن، حقا، نسيانُ المعاني؛ لكن، فقط، حين نختار إلقاء نظرة خاصة على النص. مع ذلك، فإن القراءة لا تكْمُن في حصر سلسلة الأنظمة، وتأسيس حقيقة النص، ومشروعيته، وبالتالي إثارة " أخطاء" قارئه؛ إنها تكْمُْن في وصْل وتشغيل هذه الأنساق وَفق تعدُّدِيتها ( التي ليست بحساب محاسبي وإنما هي كائن) وليس وفق كمِّيَتها المحصورة: أمُرّ، أعْبُر، ألْحَم وأُمَفْصل، وأؤجِّج، لا أحسُب. ليس نسيان المعاني موضوعَ أعذار، نقيصةً شقية في الكفاءة؛ إنه قيمة توكيدية، طريقةٌ لإثبات لا مسؤولية النص، تعدديةِ الأنظمة (إذا حصرْتُ لائحتَها فإنني سأعيد-حتما- تكوينَ معنى مفرد، لا هوتي): وبالضبط لأنني أنسى فأنا أقرأ.
و-خطوة، خطوة:
إذا ما أردنا أن نبقى منتبهين لتعددية نص ما( مهما كانت محدودةً) فلا بد من التخلي، عملياً، عن بَنْيَنَة هذا النص وفق كُتَل كبرى، كما كانت تقوم بذلك البلاغة الاتباعية والشرح المدرسي: لا بناءَ للنص: الكلُّ يدل باستمرار، ومرات عديدةً؛ لكن دون توكيل لمجموع نهائي كبير، لبنية أخيرة. من ثم جاءت فكرة- وإذا أمكن القول ضرورة- تحليل تدريجي ينصب على نص واحد. يبدو أن لهذا الأمر بعضُ الاستِتْباعات وبعض المزايا. ليس التعليق على نص واحد نشاطا عرَضيا، يتم تحت راية الذريعة المطَمْئِنة، ذريعةِ " الملموس": النصُّ الفرْد يسدُّ مَسَد نصوص الأدب جميعها. ليس من حيث كونُه يمثِّلها ( يجرِّدُها ويسوِّي بينها)؛ وإنما من حيث ان الأدب ذاته ليس، أبدا، سوى نص واحد: ما النص الفرد بمنْفَذ (استقرائي) لنموذج ولكنه مَدخَل شبكةٍ لها ألف مدخل؛ انتهاجُ هذا المدخل استهدافٌ لمرمى بعيد هو عبارة عن منظور( نُتَف، أصوات آتية من نصوص أخرى، من شفرات أخرى) وليس استهدافا لبنية شرعية من المعايير والانزياحات، لقانون سردي أو شعري: وهو منظور نقطةُ تسرُّبِه-أو مهربه - تُؤَجَّل، مع ذلك، باستمرار، ومفتوحةٌ بكيفية خارقة مُعْجِبة: كل نص (مفرد) يجسد، فعلا، نظريةَ ( وليس مجرَّد مثال) هذا التسرُّبِ ذاته، ونظريةَ هذا الاختلاف الذي يعود دائما دون أن يتطابق أو يخضع. أضف إلى ذلك، أن الاشتغال على هذا النص المفرَد حتى أقصى حدود التفصيل معناه استئناف التحليل البنيوي للحكاية من حيث كان قد توقف إلى حد الآن: أي من البنيات الكبرى؛ معناه الاقتدار (التوفرُ على ما يكفي من الوقت، ومن الراحة) على تقصِّي وتتبُّعِ أعراق المعنى وشُعَيْراته وألا نترك أي موضع للدال دون استشعار الشفرة أو الشفرات التي قد يكون هذا الموضعُ هو منطلقُها (أو نقطة وصولها)؛ أي ( وهذا أقلُّ ما يمكن أن نأمَلَه ونعمل عليه) استبدالُ النموذج التمثيلي البسيط نموذجاً آخر يضمن تقدُّمُه نفسه ما يمكن أن يكون إنتاجيا في النص الاتباعي: لأن السير خطوةً خطوةً يتلافى ببطئه وتشتُّتِه ذاته الولوجَ إلى النص الوصِيِّ وتقليبه، وإعطاء صورة داخلية عنه. إنه ليس قط سوى تفكيك ( بالمعنى الدلائلي) لعمل القراءة: سوى عرْض بطيءٍ، إذا أردنا التعبير على هذا النحو، لا هو بالصورة كلِّ الصورة ولا هو بالتحليل الصرف؛ إنه، في نهاية الكلام، اللعبُ منهجيا- خلال كتابة التعليق ذاتها- بالاستطراد ( والاستطراد شكل يسيءُ خطابُ العلم إدماجَه)، على هذا المنوال، يمكن ملاحظة انقلاب البنيات التي يُنْسَج منها النص؛ أكيد أن النص الاتباعي ( الكلاسي) ناقص الانقلاب والانعكاس (تعديته متواضعة)؛ تتم قراءة هذا النص وفق ترتيب ضروري، يقوم التحليل المتدرج، بالضبط، بإنجاز نسق كتابته؛ لكن التعليق خطوةً خطوة هو بالقوة تجديدٌ لمداخل النص؛ معنى ذلك تلافي بنْيَنَته أكثر من اللازم، وإعطائه هذا الزائد من البنية الذي يرِد عليه من الإنشاء ويوصده: معنى هذا تنجيمُ النص عوض لَمِّه.
ز. النص المنجم:
سنُنَجّم النص إذن، مزيحين، على نحو ما يفعل زُلَيْزيل واهنٌ كتلَ الدلالة التي لا تقبض القراءةُ إلا على سطحها الأملس الذي يلحُِمه، بكيفية لا تدرك، انسيابُ الجمل والخطابُ السردي المسبوك، والطبيعةُ المتجذرة للغة العادية. سيُقَطَّع الدالُّ الوصي إلى سلسلة من الشذرات القصيرة المتجاوزة. سنسميها، هنا، بالعُجامات (14)؛ لأنها وحدات للقراءة. سيكون التقطيع- يجب الصدع بهذا فما عاد بالإمكان الصبر أكثر مما سبق- اعتباطيا؛ لن يستَتْبِع أيةَ مسؤولية منهاجية، لأنه سينْصَبُّ على الدالِّ، في حين أن التحليل المقترح سينصب على المدلول فقط. ستحتوي العجامة تارة على كلمات قليلة، وتارة على بعض الجمل؛ سيتوقف الأمر في ذلك على الملاءمة: يكفي أن تكون أفضل فضاء ممكن لمراقبة المعاني، أما بُعدُها، المحدَّد تجريبيا، فسيتوقف، حسبما يمكن تقديره، على كثافة الإيحاءات التي تتغير وفق لحظات النص: وكل مرادنا ألا تحتوي العجامة الواحدة على أكثر من ثلاثة أو أربعة معاني للتعدد. النص في كتلته شبيه بسماء مستوية وعميقة في الوقت ذاته، ملساء، بدون حوافّ ولا معالم: إن المُعَلِّق مثلُه مثل الكاهن الذي يرسم فيها بطرف عصاه مستطيلا وهميا ليُسائل فيه- بناء على بعض المبادئ- سوانحَ الطيور وبوارحها، فهو يرسُم على طول النص مناطق للقراءة، ليرقُب فيها هجرة المعاني، انبثاقَ الشفرات، عبورَ الاستشهادات. ليست العجامة سوى تغليف لكتلة دلالية، وخطِّ قِمَم النص المتعدد، المنضَّد مثل مسْطَبَةٍ للمعاني الممكنة ( لكن المنتظمة، والمشهود لها من لدن قراءة منهجية) تحت دفق الخطاب:هكذا تشكل العجامة ووحداتها ما يشبه المكعَّب ذي الواجهات المغطَّى بالكلمة، بمجموع الكلمات،بالجملة، أو الفقرة، وبعبارة أخرى،فاللغة هي إناؤها " الطبيعي".
و-النص المهشم:
ما سيُسجَّل، عبر هذه التمَفْصُلات المصطَنعة، هو نقل المدلولات وترجمتها وتَكرارها. ليس القصد من الضبط المنهجي لقائمة المدلولات التي تحملها كلُّ عجامة إثباتُ حقيقة النص (بنيتِه العميقة، الاستراتيجية) وإنما تعدديتُه ( حتى ولو كانت شحيحة). إن وحدات المعاني ( الإيحاءات)- بعد درسها، كلا على حدة، على مستوى كل عجامة- لن تُجْمَع وتُمْهَر بمعنى اصطلاحي ( ما وراء معنى) سيكون هو البناء النهائي الذي يُمنَح لها ( كل ما سنقوم به، في الملحق، هو أن نركز بعض المتواليات التي من الممكن أن يكون الخيط الواصل للنص الوصي قد أضاع تواليها). لن نعرض هنا نقدا لنص أو نقدا لهذا النص؛ سنقترح المادةَ الدلالية ( مجزَّأةً لكن غير موزَّعة) لكثير من أنواع النقد ( النفسي، والتحليلي-النفسي، والموضوعاتي، والتاريخي، والبنيوي)؛ وعلى كل ناقد، فيما بعد أن يلعب، وأن يسمع صوته، إذا رغب في ذلك، وما صوته سوى إصغاء لأحد أصوات النص. ما نسعى إليه هو تخطيط الفضاء الستيريوكرافي لكتابة (وهي، هنا، كتابة اتباعية، كلاسية، قابلة للقراءة). لا يمكن للتعليق- وهو المشيدُ على تأكيد التعدد- أن يشتغل في ظل "احترام" النص. سيهشَّم النصُّ الوصي باستمرار، وسيوقَف ويُقاطَع دون أي اعتبار للتقسيمات الطبيعية ( التركيبية ، والبلاغية، والنوادرية). يمكن للجرد والتفسير والاستطراد أن يستقروا في قلب المفاجأة والتشويق؛ بل يمكن فصل حتى الفعل عن مفعوله، والاسم عن صفته. ما أن يتخلي المعلِّق عن كل أدلوجة شمولية حتى يكْمُنَ عملُه بالضبط في الإساءة إلى النص ومقاطعة كلامه. ومع ذلك، فالمنفِيُّ هو المظهر" الطبيعي" للنص وليس جودته ( التي ليست قابلة،هنا، للمقارنة).
ز-كمْ قراءاتٍ:
يجب أيضا، قبول حرية أخيرة: هي حرية قراءة النص كما لو كان قد قُرئ من ذي قبل. الأكيد أنَّ أولاء المغرَمين بقراءة الحكايات الرائعة يمكنهم أن يبدؤوا قراءتَهم من الأخير؛ أن يقرؤوا، أوّلا، النصَّ الوصي المثْبَت في الملحق بكل صفائه، واستمراريته، وبالحُلَّة التي طُبِِع بها. مُجمَل القول أن يُقرأَ كما يُقرأ عادةً. لكن، بالنسبة إلينا، نحن الذين ننشد إثباتَ التعدد، لا نستطيع إيقافَ هذا التعدد على أبواب القراءة: على القراءة، بدورها، أن تكون متعددة، أي بدون نسق في الدخول: ويلزَم أن تكون الصيغةُ " الأولى" لقراءة ما هي صيغتها الأخيرة، كما لو كان النص قد أعيد بناؤه لينتهي أخيرا في حيلة استمراره، ويحمِل الدالُّ، آنئذ، صورةً محسَّنة إضافية: هي الانزلاق. إن إعادة القراءة- وهي عملية مضادة للعادات التجارية والأدلوجية لمجتمعنا الذي يستلزم " رمي" الحكاية بمجرد استهلاكها (" افتراسها") ليمكن الانتقال، بعد ذلك، إلى حكاية أخرى: شراءُ كتاب آخر- لا يُسمَح بها إلا لبعض الفئات المهمَّشة من القراء ( الأطفال والشيوخ والأساتذة)؛ وإعادةُ القراءة مقترَحةٌ هنا، بدءا، لأنها وحدها التي تنجي النصَّ من التَّكرار ( أولئك الذين يهملون إعادة القراءة يُفرَض عليهم أن يقرؤوا الحكاية ذاتها في كل مكان)، وتُضاعِفُه سواء أفي تنوُّعه أم في تعدُّده: إنها تسْحَبُه خارج تسلسله الزمني الجَوّاني (" هذا يقع قبل ذاك أو بعده")، وتعْثُر مجدَّدا على زمن خرافي ( بدون "لا قبل" و"لا بعد")؛ وتنْكُر الادعاءَ الذي يريد أن يحْمِلنا على الاعتقاد أن القراءة الأولى قراءة أولية، ساذَجة، ظاهرية، يلزَمنا، فيما بعد ذلك فقط، "تفسيرُها" وعقْلنتُها ( كما لو كان للقراءة بداية؛ كما لو أن الكل لم يُقرَأْ من ذي قبل: لا قراءةَ أولى هناك، حتى ولو سعى النص لإيهامنا ذلك بواسطة بعض عوامل التوتر والقلق، وهي حِيَل فُرْجَوية " احتفالية" أكثر منها إقناعية)؛ فهي لم تبق استهلاكا وإنما صارت لعبة ( هذه اللعبة التي هي عودةُ المُخْتَلِف)؛ إذا ما أعدنا- التناقضُ في الألفاظ أمر مقصود إذن- قراءةَ النص حالاً فلِلْحُصول- كما لو كنا متأثرين بمخدر (هو مخدرُ البدء المتكرر، والاختلاف)- على النص المتعدد، الذي هو النص نفسه، والنصُّ الجديدُ، وليس على النص "الحقيقي".
ي-صرازين:
أما بخصوص النص الذي وقع عليه الاختيار .ما هي الأسباب؟ لا أعرف سوى أنني رغبت، منذ زمن، ليس بالقريب كل القرب ولا بالبعيد كل البعد، أن أحلل نصا قصصيا قصيرا تحليلا يشمله كلَّه، وأن أقصوصة بلزاك أثارت انتباهي بسبب دراسة جان ربولJ.Reboul ؛ قال كاتب المقال إنه استمد اختياره الخاص من استشهاد لجورج بطاي، هكذا أجدني ساقطا في هذا الترحيل الذي سأسعى ، من خلال النص ذاته تبيُّن كل مغزاه ومداها. هذا النص هو صرازين لبلزاك (**).
التحليل:
-صرَّازين*: يثير العنوان السؤال الآتي: ماذا يعنى بصرازين؟ أ اسم عام؟ أم علم؟ أم اسم رجل أم امرأة؟ لن يحظى السؤال بجواب إلا بعد فترة طويلة، من خلال عرض سيرة حياة النحات المدعو بصرازين. ولنقررْ إطلاق اسم الشفرة التأويلية ( سنرمز إليها في كل جرودنا ب" تأول") على مجموع الوحدات التي تلحم وتمفصل، بمختلف الكيفيات، سؤالا بجوابه، وبالعوارض المتنوعة التي تسعى عمليا إما إلى تهيي السؤال أو تعطيل الجواب؛ أو إلى صياغة لغز والعمل على حله. يقترح العنوان صرازين ، إذن، الحد الأول من متوالية لن تنغلق إلا بالعجامة 153 (تأول. لغز1-في الأقصوصة ألغاز أخرى)- سؤال).** للفظة صرازين إيحاء آخر: هو الإيحاء بالتأنيث الذي يدركه أي فرنسي يتقبل راضيا الحرف المثبت في الأخير(e) بوصفه وحدة صرفية دالة على التأنيث، لاسيما حينما يتعلق الأمر بعلم مذكره صرارزان Sarrazin* يجمع علم الأعلام والأشخاص الفرنسيون على الإقرار له بذلك. والتأنيث ( الموحَى به) مدلول مرصود للاسقرار في مواضع شتى من النص؛ إنه عنصر مهاجر، يستطيع أن يدخل في تركيبة مع عناصر أخرى من النوع نفسه لتأليف طبائع وأجواء وصور (15)، ورموز. رغم أن الوحدات كلَّها، الموسومة هنا، مدلولاتٌ فإن هذه الأخيرة تنتمي إلى صنف أنموذجي: إنها تشكل المدلول الأمثل، كما يعيِّنه الإيحاء، تقريبا بالمعنى شبه الرائج للفظ. ولنسمِّ هذا العنصر مدلولا ( دون أن نوغِل في التخصيص)، أو لنسمِّه سَيْمة أيضا ( السّّيْمة في علم الدلالة وحدة مدلولية) وسنَسِمُ قائمة هذه الوحدات بالأحرف سيم، مكتفين بتعيين مدلولا الإيحاء الذي تحيل عليه العجامة، بكلمة (تقريبية) ( سيم. تأنيث).
2- كنت منغمسا في حلم من أحلام اليقظة العميقة* لن يكون لحلم اليقظة، المعلن عنه هنا، أي طابع من طوابع التشرّد؛ سيتمفصل بشدة، ووفق أكثر المحسنات البلاغية شيوعا أي بواسطة العناصر المتتالية للطباق، هو طباق الحديقة وقاعة الاستقبال، والحياة والموت، والبارد والحار، والخارج والداخل. إن ما تدشنه العجامة، على أنه إعلان، هو،إذن، شكل رمزي كبير، لأنه سيشمل فضاءً هائلا من الاستبدالات والمتغيرات التي ستؤدي بنا من الحديقة إلى الإخصاء، من غرفة الاستقبالات إلى المرأة الشابة معشوقة الحاكي، مرورا بالعجوز اللغز، والسمينة السيدة لانتي Lanty أو الحالم أدونيس الفييني de Vien. هكذا يبرز مجال شاسع هو مجال الطباق الذي نجد أن وحداته المدْخلية هي التي تقرن، هنا، على سبيل الافتتاح، بين حديه المتناقضين (ا/ب) تحت اسم حلم اليقظة ( سنَسِم كل وحدة من وحدات هذا الحقل الرمزي بالحروف ( رم). هنا: رم.طباق: اب)**. إن حالة الاستغراق المعلنة (" كنت منغمسا..") تستدعي مسبقا ( على الأقل في الخطاب المقروء) حدثا ما يضع له حدا ("… لما أيقظتني محادثة " العجامة 14).
تستتبع متواليات كهاته علةً للسلوكات البشرية. بالعودة إلى المصطلح الأرسطي الذي يربط الممارسة بالبروايريزيس، أو ملكة التفكير والتأمل. ففي نهاية سلوك ما، سنسميه بالبروايريتيك شفرة الأعمال والسلوكات ( لكن الذي يتفكر في أمر الأفعال في الحكاية هو الخطاب وليس الشخصية). وسنسم شفرة الأعمال هاته بـأعم؛ إضافة إلى أن هذه الأفعال تنتظم في شكل متتاليات أو سلاسل فإننا سنطلق، إضافة إلى كل ذلك، على رأس كل سلسلة اسم جنس أي ما يشبه العنوان لكل متوالية: ثم نرقِّم بالمتسلسل من واحد إلى إلخ.. كلَّ حد من الحدود المؤلفة لها، الواحد تلو الآخر، حسب ظهوره ( أعم " انغماس":1 :استغراق).
3-التي تستحوذ على جميع الناس حتى الرجل النزق، في أكثر الحفلات صخبا وضجيجا.* إن الخبر " هناك حفلة" ( الوارد هنا عرضا)، وقد انضمت إليه، على التو، أخبار أخرى ( قصر خاص في فوبور القديس هنوري) مكوَّن في مدلول فاصل: ثراء عائلة لانتي (سيم؛ ثراء).** ليست الجملة إذن سوى تحويل لما يمكن أن يكون، ببساطة، مجرد مثل: " في الحفلات الصاخبة تراودك أحلام يقظة عميقة". هذا الحديث تحدث به صوت جمعي مجهول، يعود أصله إلى الفكر البشري. إذن فالوحدة تنحدر من شفرة حِكمية ( كنومية). هذه شفرة (16) من تلك الشفرات التي لا عد ولا حصر لها أي: شفرات المعرفة والعلم والحكمة التي لا يكف النص عن الإحالة إليها؛ سنمسميها بكيفية عامة جدا الشفرات الثقافية ( رغم أن كل شفرة هي شفرة ثقافية)، أو أن نسميها شفرات مرجعية ( مرج. شفرة الحكمة والأمثال). لأنها تسمح للنص بأن يعتمد على سلطة علمية أو أخلاقية.
أ. هوامش المؤلف:
*J.Reboul, « Sarrazine ou la castration personnifiée », Cahiers pour
l’analyse, Mars-Avril, 1967
**Scénes de la vie parisienne. Le texte est celui de : Balzac, la comédie humaine ed, Seuil, coll, l’intégrale 1966, t.IV,pp 72-263, présentation et notes de p.Citron.
ب. هوامش الترجمة:
• المصطلح المستعمل ،هنا،قد لا يكون شائعا بما فيه الكفاية في الأدبيات التي راجت مؤخرا هنا او هناك؛ لكننا درجنا على استعماله منذ حوالي ثلاثة عقود، وترسخ، على الأقل، لدى فئة من المشتغلين باللسنيات والدلائليات. يمكن العودة إلى مضان كثيرة نقتصر هنا على بعض منها:1-مبادىء في علم الأدلة لرولان بارث، ترجمة وتقديم وتحشية محمد البكري، منشورات عيون المقالات، الدار البيضاء، 1986. 2-الماركسية وفلسفة اللغة لميخائيل باختين، ترجمة بالاشتراك مع الناقدة يمنى العيد، محمد البكري، نشر توبقال، سلسلة معالم، الدار البيضاء،1986. 3-4-الكتابةفي درجة الصفر لرولان بارث، والبنية الدليل، اللعبة، في حديث العلوم الإنسانية، لجاك دريدا،مجلة الثقافة الجديدة، العدد 10-11 ،1978؛ المحمدية، المغرب.5-تحليل نصي لحكاية" القول الفصل في حالة السيد فالدمار" لإدكار ألن بو، لرولان بارث،مجلة فضاءات مستقبلية، الدار البيضاء، المغرب، 1996. 6-العلبة النيرة لرولان بارث ترجمة إدريس القري، مراجعة محمد البكري، منشورات فضاءات مستقبلية، الدار البيضاء، 1998. التحليل اللساني للخطاب السياسي : خطاب الحركة الوطنية المغربية 1930-1932 مثالا. كلية الآداب والعلوم الإنسانية- أكدال – الرباط. 1993 - وأعمالا أخرى نشرتها المجلات الغراء الآتية: " العرب والفكر العالمي"، و"الفكر المعاصر"، و"كتابات معاصرة"، ومجلة "مقدمات" باريس..الخ.
1-المقصود بالنموذج ليس المثال ولا المثل، وإنما البناء النظري-المنطقي أو الرياضي خاصة-لتوضيح أو إعطاء صورة جلية عن سيرورة أو مجموعة سيرورات تربطه بينها علاقات معينة.
2-الكلمة،1- دون تفكيكها هذا،" نعت للأشياء والأشخاص بانعدام الفائدة والأهمية والتفاهة، واللامبالاة وعدم الاكتراث" الخ...2- بتفكيكها يبرز المكونان اللاصقة النافية السالبة الإغريقية in )) و باقي اللفظة différent ، على حدة، "( نعت) ما أو من يتصف بسمة أو وصف يميزه عن شيء أو شخص غيره" فهو على العموم،"مختلف، متميز، مضاد، معارض، مباين، مغاير، مفارق" إلخ.. ومعناها.3- يصبح المعنى ، بعد إدخال الرابطة الطباعية - : "غير المختلف"، "غير المباين" الخ.
3-الجدول Paradigme القائمة ( أو اللوحة) بالمعنى الصوسيري-حصرا وليس الأمريكي- اربتاط عناصر متجانسة من صنف دلائلي معين بعلاقة ما.
4- أدلوجة على وزن أفعولة عوض ايديولوجية المستثقلة رغم شيوعها, والصيغة من اقتراح الأستاذ عبدالله العروي.
5-المنكتب / المنقرئ : le scriptible/ le lisible
6- الجنس : Le genre
7- الإيحاء La connotation؛ التقرير : La dénotation .
8- عبارة: (ع) مضمون (ض)، وقد نسميه محتوى أيضا، العلاقة الرابطة بينهما (ق) وهي على التوالي ، بمصطلح لوي يالمسليف، ومن اليمين: expression, contenu , relation العلاقة الدلائلية الرابطة بين الصعيدين هي علاقة تقرير ما دام الأمر يتعلق بدلائلية بسيطة . أما العلاقة في الحالة الواردة في النص- (ع ق ض) ق ض - فهي علاقة ضمن دلائلية مركبة من صعيد هو عبارة عن دلائلية تقرير تحولت إلى عبارة تربطها بمضمون آخر علاقة جديدة تسمَّى الإيحاء. الإمكان الآخر أن تشكل دلائلية تقرير مضمونا تربطه علاقة دلائلية تسمى الاصطناعية ( الاصطلاحية) بصعيد عبارة معين. كما رسم صورة ذلك لوي يالمسليف في بحوثه اللسنية. ( انظر مبادئ علم الأدلة).
9- الدلائلية : السيميوطيقا والسيميولوجيا , السيمياء.
10- صنافة: Typologie نمذجة.
11- topologie : دراسة الخصائص القارة في التشوه والتغير الهندسي للأشيء وفي التحولات الدائمة المطبقة على الأشيء الرياضية. الطوبولوجيا هندسة الأشيء فب وضع معين.
topique: 1-ما يتعلق بالمكان ؛ 2- بالأماكن العامة بالمعنى الإغريقي الأرسطي ...3- علم المقولات في المنطق الأداة (الأورغانون).
12- نرجح أن استعمال لفظة Lexéologique من نحت رولان بارث (لكننا لا نجزم بذلك كل الجزم في غياب إمكان تحققنا من وجود نحت كهذا قبل صدور النص أولا) وجلي أن لفظة lexique ليست منسوبة إلى lexie وإنما إلى lexème .
13-كل ما قدم بخصوص المصطلح السابق يمكن أن يصح على اللفظ-المصطلح التالي lexéographique. وفي النهاية لا يغيب على ذهن القارئ الكريم أن هذا النحت مباين لمصطلح قار في مصطلح العلم الغربي الحديث وهوLa lexicographie والمقصود به علم صناعة المعاجم ووضعها أي جمع مفردات لغة-بمعنى إثباتها، و إحصائها ومعالجتها من حيث خصائصها الدالية-الشكلية- والمدلولية المميزة لها. وهذا العلم ليس سوى جزء تطبيقي من العلم الأوسع علم المعجم أو ما يمكن أن يطلق عليه اسم علم اللفاظة أو اللفاظيات .La lexicologie إذا تأملنا نص رولان بارث هذا فإن أول ما يتبادر للعين أنه موضوع على شاكلة القاموس. فـ "المقدمة" ليست ذات عنوان خاص. وإنما لها عناوين فرعية كأنها المواد أو المفردات المراد تفسيرها كما هو الحال في القاموس تماما: مدخل تليه فقرة أو فقرات تعالجه وتصفه وتحلله.
14- العُجامة: Lexèmeو نختار هذه الصيغة الإمكان، في غياب ما هو أفضل، لأداء ما قصده رولان بارث بليكسيم.
15- الشفرة التأويلية : المقصود بها، هنا، الوحدات المكونة لوضع اللغز وبنائه والوحدات المؤدية إلى فكه. " إنها صوت الحكمة" ( لوي جان كالفي).
16- شفرة الحكمة والمثل ( الكنومية): نعبر بواسطة المثل أو الحكمة أو البدهي عن عنصر ما من عناصر الحس العام. إنها صوت العلم. الشفرة ح: