أواخر ستينيات القرن الماضي، كنا نسكن في بيت عتيق من طابق أرضي وثلاثة طوابق علوية وسطح،بحي فاس الجديد، بمدينة فاس، خصصه صاحبه لسكن عمال مقاولته (ميكانيكي وبنائين وسائقين...) وكانت العلاقة بين هؤلاء العمال علاقة أخوة شملت أيضا الزوجات والأبناء... لذلك، كنا لا ننادي الجيران سوى بَّا فلان ومِّي فلانة! ومن يحضر منهم ينوب عن الآخرين في الأفراح والأتراح! وكنا كأطفال ندخل الشقة التي نريد لتناول الغذاء أو العشاء، خصوصا من تأخرت والدته، لطارئ ما، في تحضير وجبة ما في الوقت المطلوب.
مما أتذكره، عن تلك المرحلة، أن أبي اشترى لناجهاز راديو ودوَّار أسطوانات في الوقت نفسه، وكان أول جهاز من هذا النوع يدخل تلك الدار، فبوَّأته أمي مكانا يليق به على طاولة في صدر غرفة الضيوف، وغطَّته بمنديل أبيض مطرز، وضعت عليه باقة من الورد البلاستيكي، وحرص التقني الذي جاء بهأبي على تجريب العديد من المحطات الإذاعية، وتشغيل بعض الأسطوانات، وحثَّنا على العناية بها، وحمايتها من الغبار والحرارة والضوء والماء، وتجنب تعريضها للخدش أو الكسر.
وباعتباري الولد الأكبر في الأسرة،وبطلب من أبي، عَمِلَ التقني على تعليمي طريقة تشغيل الأسطوانات، وحذرني من مغبة إساءة ذلك...
وبمجرد ما خرج أبي والتقني، سارعت الجارات إلى طرق باب شقتنا لتهنئة أمِّي بحلول الضيف الجديد... أما أنا فكانت فرحتي لا توصف، لذلك، فقد ظللت، طيلة أيام، أخرج للقاء أصدقائي منفوخ الريش، أحكي لهم عن مزايا جهازنا، وكيف أنه ينقل لنا الأخبار والأغاني والبرامج المختلفة من شتى بقاع المعمور!
ومما أتذكره أيضا أن البائع أهدى أبي، مع الجهاز، مجموعة أسطوانات من حجم 45 دورة... وكانت لفنانين مشاهير عرب ومغاربة أمثال أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وبوشعيب البيضاوي والمعطي بنقاسم وبناصر وخويا وحادة وعكي...
ولأن نساء الدار دأبن على تناول وجبة الفطور مجتمعات، فإنهن، ومنذ أوَّل يوم وصل فيه "الجهاز" إلى الدار، أصبحن لا يتناولن فطورهن إلا وهن ينصتن للأغاني المنبعثة من ذاك الجهاز العجيب... ويترنمن بكلماتها، ومنهن من كانت تتمايل على نغماتها...غير أن ما لا يمكن أن أنساه هو ما حدث خلال إنصاتهن، أول مرة، لأغنية لا زلت أحفظ كلماتها إلى الآن، ويتعلق الأمر بأغنية "ميلودة بنت ادريس" وكانت من أداء بوشعيب البيضاوي، حيث خيَّم عليهن صمت رهيب، بل إن أغلبهن ذرفن دموعا، وظللن يطلبن من أمي إعادة تشغيلها أكثر من مرة! وكنت أنا من أستجيب بكل فخر واعتزاز.
للإشارة، فقد اشتهرت هذه الأغنية في تلك الفترة، وتغنت بها أجيال تلك الحقب. وهي تحكي قصة امرأة (ميلودة) كانت مطمعا للرجال وموضوعا لتحرشهم اليومي، رغم أنها متزوجة وأم لطفل (سعيد) والسبب هو ما كانت تتمتع به من حسن وجمال...
وتضيف كلمات الأغنية أنه، رغم مقاومة ميلودة لكل المُغريات، لان عودها ووقعت في المحظور! فأصبحت تستغل مغادرة زوجها للعمل ليلا، لتخرج للسهر مع عشيقها... ولتفادي افتضاح أمرها، كانت تصطحب معها طفلها!
غير أنه، وخلال إحدى سهراتها، شربت حد الثمالة، فوضعت طفلها بين شجرتين، وغطته بمنديل، وابتعدت قليلا لتختلي بخليلها... وحين ارتويا،عادت إلى المكان الذي تركت فيه صغيرها، فكانت صدمتها الكبرى أن وجدتالذئب افترس جسده الصغير،ولم يتبق منه سوىبعض العظام ومزق من ثيابه...
ورغم بشاعة الجريمة، أتذكر جيدا أن نساء الدار تأسفن لمأساة ميلودة وبكت بعضهن حزنا عليها وتعاطفا معها! وظلت النساء يطلبن من أمي تشغيل أسطوانة ميلودة كلما غادر رجال الدار إلى عملهم، أو جلسن حول صينية شاي، وظل الحزن يرتسم على وجوههن كما حزنوا أول مرة استمعوا فيها لهذه الأغنية!
ولن أنسى أبدا أنه، بعد بضعة أيام على الاستماع لهذه الأغنية أول مرة، جاءت "مِّي فاطنة" لتخبرباقي الجارات أنها سمعت من ابن أختها، وهو موظف في المحكمة، أن خيانة ميلودةليست سوى مكيدة دبَّرها أحد الضباط الفرنسيين كان مفتونا بجمالها، لكنها أبت أن تستجيب له وتخون زوجها، فانصرف، وبعد بضعة أيام، جاءتها سيارة إلى بيتها، وأخبرها السائق أن زوجها تعرض لحادثة سير خطيرة، وأنه بالمستشفى بين الحياة والموت، فحملت طفلها وركبت السيارة، لكنه، عوض أن يذهب إلى المستشفى، اتجه نحو الغابة حيث كان الضابط الفرنسي في انتظارها، وبمجرد ما توقفت السيارة، ونزلت ميلودة، ابتسم ساخرا منها، وفرض عليها أن تشاركه الشرب حتى غابت عن وعيها، حينها، قضى منها وطره، ونال ما أراده، وتركها وانصرف... وعندما استفاقت،بحثت عن وليدها فلم تجد إلا بعض أشلائه...
بدوري، تأثرتُ بفاجعة ميلودة، غير أن ما أرَّقني أكثر ليس هو فقدانها لأسرتها ودخولها السجن وإصابتها بالجنون، بل هو مصير الطفل البريء سعيد، حيث كرهتُ الليل والنوم، وصِرت، كلما خيم الظلام، واضطررت إلى الذهاب إلى سريري،أسمع عواء يشق الصمت، وأرى ذئبا متوحشا قادما يتبختر...
فجأة، يتوقف، يدير عينيه الماكرتين في محجريهما، يسترشد بحاسة الشم القوية لديه، يسير نحو الشجرتين، يتشمم ما بينهما، يبتسم، يقهقه فرحا بما وجده، معتبرا إياه مائدة من السماء، واحتياطا يدنو منه قليلا قليلا، وكلما دنا تمنَّى أن تكون هذه المائدة رحمة لا نقمة، بركة وسلامة...
تستقر المائدة بين يديه، يجدها مغطاة بمنديل... يكشف عنها، فإذا هي طفل بض ذو رائحة زكية... يسيل لعابه... يحرك الطفل رأسه يمينا ويسارا، يحتاط الذئب، يتوقف، وتجنبا لأي مفاجأة، يغرز أنيابه في رقبته، يصرخ الطفل بملء رئتيه، يضغط الذئب على الرقبة حتى يخفت صراخ الطفل وتُشَلَّ حركته، يستخرج أحشاءه، يلتهمها بتلذذ، ثم يزدرد باقي الجسم...
لمدة طويلة، ظلت الذئاب الوالغة في دماء الأطفال كوابيس تطاردني، في صحوي وفي منامي! وكلما أويتُ إلى سريري، تصطخب في أذني قهقها تتغطي على صرخات بريئة نازفة... فيطير النوم من جفوني...
مما أتذكره، عن تلك المرحلة، أن أبي اشترى لناجهاز راديو ودوَّار أسطوانات في الوقت نفسه، وكان أول جهاز من هذا النوع يدخل تلك الدار، فبوَّأته أمي مكانا يليق به على طاولة في صدر غرفة الضيوف، وغطَّته بمنديل أبيض مطرز، وضعت عليه باقة من الورد البلاستيكي، وحرص التقني الذي جاء بهأبي على تجريب العديد من المحطات الإذاعية، وتشغيل بعض الأسطوانات، وحثَّنا على العناية بها، وحمايتها من الغبار والحرارة والضوء والماء، وتجنب تعريضها للخدش أو الكسر.
وباعتباري الولد الأكبر في الأسرة،وبطلب من أبي، عَمِلَ التقني على تعليمي طريقة تشغيل الأسطوانات، وحذرني من مغبة إساءة ذلك...
وبمجرد ما خرج أبي والتقني، سارعت الجارات إلى طرق باب شقتنا لتهنئة أمِّي بحلول الضيف الجديد... أما أنا فكانت فرحتي لا توصف، لذلك، فقد ظللت، طيلة أيام، أخرج للقاء أصدقائي منفوخ الريش، أحكي لهم عن مزايا جهازنا، وكيف أنه ينقل لنا الأخبار والأغاني والبرامج المختلفة من شتى بقاع المعمور!
ومما أتذكره أيضا أن البائع أهدى أبي، مع الجهاز، مجموعة أسطوانات من حجم 45 دورة... وكانت لفنانين مشاهير عرب ومغاربة أمثال أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وبوشعيب البيضاوي والمعطي بنقاسم وبناصر وخويا وحادة وعكي...
ولأن نساء الدار دأبن على تناول وجبة الفطور مجتمعات، فإنهن، ومنذ أوَّل يوم وصل فيه "الجهاز" إلى الدار، أصبحن لا يتناولن فطورهن إلا وهن ينصتن للأغاني المنبعثة من ذاك الجهاز العجيب... ويترنمن بكلماتها، ومنهن من كانت تتمايل على نغماتها...غير أن ما لا يمكن أن أنساه هو ما حدث خلال إنصاتهن، أول مرة، لأغنية لا زلت أحفظ كلماتها إلى الآن، ويتعلق الأمر بأغنية "ميلودة بنت ادريس" وكانت من أداء بوشعيب البيضاوي، حيث خيَّم عليهن صمت رهيب، بل إن أغلبهن ذرفن دموعا، وظللن يطلبن من أمي إعادة تشغيلها أكثر من مرة! وكنت أنا من أستجيب بكل فخر واعتزاز.
للإشارة، فقد اشتهرت هذه الأغنية في تلك الفترة، وتغنت بها أجيال تلك الحقب. وهي تحكي قصة امرأة (ميلودة) كانت مطمعا للرجال وموضوعا لتحرشهم اليومي، رغم أنها متزوجة وأم لطفل (سعيد) والسبب هو ما كانت تتمتع به من حسن وجمال...
وتضيف كلمات الأغنية أنه، رغم مقاومة ميلودة لكل المُغريات، لان عودها ووقعت في المحظور! فأصبحت تستغل مغادرة زوجها للعمل ليلا، لتخرج للسهر مع عشيقها... ولتفادي افتضاح أمرها، كانت تصطحب معها طفلها!
غير أنه، وخلال إحدى سهراتها، شربت حد الثمالة، فوضعت طفلها بين شجرتين، وغطته بمنديل، وابتعدت قليلا لتختلي بخليلها... وحين ارتويا،عادت إلى المكان الذي تركت فيه صغيرها، فكانت صدمتها الكبرى أن وجدتالذئب افترس جسده الصغير،ولم يتبق منه سوىبعض العظام ومزق من ثيابه...
ورغم بشاعة الجريمة، أتذكر جيدا أن نساء الدار تأسفن لمأساة ميلودة وبكت بعضهن حزنا عليها وتعاطفا معها! وظلت النساء يطلبن من أمي تشغيل أسطوانة ميلودة كلما غادر رجال الدار إلى عملهم، أو جلسن حول صينية شاي، وظل الحزن يرتسم على وجوههن كما حزنوا أول مرة استمعوا فيها لهذه الأغنية!
ولن أنسى أبدا أنه، بعد بضعة أيام على الاستماع لهذه الأغنية أول مرة، جاءت "مِّي فاطنة" لتخبرباقي الجارات أنها سمعت من ابن أختها، وهو موظف في المحكمة، أن خيانة ميلودةليست سوى مكيدة دبَّرها أحد الضباط الفرنسيين كان مفتونا بجمالها، لكنها أبت أن تستجيب له وتخون زوجها، فانصرف، وبعد بضعة أيام، جاءتها سيارة إلى بيتها، وأخبرها السائق أن زوجها تعرض لحادثة سير خطيرة، وأنه بالمستشفى بين الحياة والموت، فحملت طفلها وركبت السيارة، لكنه، عوض أن يذهب إلى المستشفى، اتجه نحو الغابة حيث كان الضابط الفرنسي في انتظارها، وبمجرد ما توقفت السيارة، ونزلت ميلودة، ابتسم ساخرا منها، وفرض عليها أن تشاركه الشرب حتى غابت عن وعيها، حينها، قضى منها وطره، ونال ما أراده، وتركها وانصرف... وعندما استفاقت،بحثت عن وليدها فلم تجد إلا بعض أشلائه...
بدوري، تأثرتُ بفاجعة ميلودة، غير أن ما أرَّقني أكثر ليس هو فقدانها لأسرتها ودخولها السجن وإصابتها بالجنون، بل هو مصير الطفل البريء سعيد، حيث كرهتُ الليل والنوم، وصِرت، كلما خيم الظلام، واضطررت إلى الذهاب إلى سريري،أسمع عواء يشق الصمت، وأرى ذئبا متوحشا قادما يتبختر...
فجأة، يتوقف، يدير عينيه الماكرتين في محجريهما، يسترشد بحاسة الشم القوية لديه، يسير نحو الشجرتين، يتشمم ما بينهما، يبتسم، يقهقه فرحا بما وجده، معتبرا إياه مائدة من السماء، واحتياطا يدنو منه قليلا قليلا، وكلما دنا تمنَّى أن تكون هذه المائدة رحمة لا نقمة، بركة وسلامة...
تستقر المائدة بين يديه، يجدها مغطاة بمنديل... يكشف عنها، فإذا هي طفل بض ذو رائحة زكية... يسيل لعابه... يحرك الطفل رأسه يمينا ويسارا، يحتاط الذئب، يتوقف، وتجنبا لأي مفاجأة، يغرز أنيابه في رقبته، يصرخ الطفل بملء رئتيه، يضغط الذئب على الرقبة حتى يخفت صراخ الطفل وتُشَلَّ حركته، يستخرج أحشاءه، يلتهمها بتلذذ، ثم يزدرد باقي الجسم...
لمدة طويلة، ظلت الذئاب الوالغة في دماء الأطفال كوابيس تطاردني، في صحوي وفي منامي! وكلما أويتُ إلى سريري، تصطخب في أذني قهقها تتغطي على صرخات بريئة نازفة... فيطير النوم من جفوني...