د. عبدالواحد التهامي العلمي - نثر الجاحظ والقراءة الحجاجية ( الجزء الثاني ) ،

-2-

بتأملنا في القراءات التي قاربت نثر الجاحظ تاريخيا يمكننا ملاحظة تنوع الآفاق التي احتضنت هذا النثر والغنى الذي اكتسبه بفعل هذا التنوع. ولعل أهم منظور صدر عنه قراء الجاحظ في تفاعلهم مع نصوصه النثرية، هو المنظور البلاغي الحجاجي الذي استطاع أن يضع يده على بعد أساس من أبعاد مفهوم الأدب في موروثنا العربي، على نحو ما استطاع أن يخلص هذا النثر من سطوة القراءات الجمالية الحديثة التي غالت في الانتصار لأدبية حديثة لم تنسجم في واقع الأمر مع الأفق الأدبي الذي كان يصوغ الجاحظ في سياقه كتاباته.

***
البلاغة الحجاجية مجال لتحليل الوظيفة البلاغية والآثار الفعلية لأي نص:
وفي هذا السياق يقول محمد مشبال: "إن ما يطلق عليه اليوم البلاغة الحجاجية ليس مجالا يقترح علينا أدوات لتحليل النص الأدبي، ولكنه مجال لتحليل الوظيفة البلاغية والآثار الفعلية لأي نص. ويعد تحليل النص الأدبي من هذا المنظور كشفا لتجذر البنيات البلاغية في الأدب... أي إنه تحليل يروم وضع النصوص الأدبية في نسق الخطاب التواصلي العملي".
ويقدم الباحث بعض الفوائد التي يمكن جنيها من تطبيق التحليل البلاغي الحجاجي على النص الأدبي:
1-التعامل مع النص الأدبي بوصفه ملتقى لتعدد الأنماط، فلا شك أن النص الأدبي لا يتحدد بالأنماط المهيمنة فقط، كالسردية في أنواع القص، والشعرية في أنواع الشعر، بل يتحدد بالأنماط الثانوية كالحجاج الذي لا يخلو منه نص أدبي.
2-إظهار أن النص الأدبي نص تواصلي لا يجوز تنزيهه عن الوظيفة الإيديولوجية.
3-إظهار أن النص الأدبي لا يتحدد في بنيته الداخلية فقط ولكنه يتحدد بعلاقاته بالمتلقي وبالسياق. وعلى الرغم من هذه المزايا التي كشف عنها الباحث في التحليل البلاغي الحجاجي إلا أنه لم يخف تحفظه من إجراء هذا النوع من التحليل على النصوص الأدبية، فهو يرى أن البلاغة الحجاجية "تتوخى إثبات تشابه النص الأدبي بغيره من أنماط النصوص ومن أنساق التواصل، ولا تتوخى إثبات الخصوصية الجمالية؛ أي إن ما يهمها هو إثبات أهمية السياق في تفسير النصوص وتحديد بناء النص من زاوية تأثيره الفعَّال في المتلقي. ومن الواضح أن هذا النوع من التواصل الوظيفي التواصلي لا ينطوي على أي غاية جمالية لأنه ينظر إلى النص في سياق مقصدية عملية وفي ارتباطه بسياق محسوس". لكن الباحث على الرغم من تحفظه في دعوته إلى استخدام البلاغة الحجاجية في تحليل النص الأدبي إلا أنه في مواضع مختلفة من كتاباته كان يلح على ضرورة الاستفادة من مبادئ وتقنيات البلاغة الحجاجية في مقاربة النصوص الأدبية القديمة على نحو خاص بالنظر على ما يقوم عليه الأدب الكلاسي من مقومات خطابية؛ فهو أدب مقامي بامتياز.
ونجد أن عديدا من البلاغيين منذ أرسطو حتى العصر الحديث لا يخرجون عن خطوات تحليل الخطاب البلاغي الحجاجي الآتية :
1-الإيجاد؛ أي بحث الخطيب عن جميع الحجج ووسائل الإقناع الأخرى المتعلقة بموضوع خطابه، والتمهيد له بالمدخل أو الافتتاح، والسرد أو العرض.
2-الترتيب؛ أي ترتيب الحجج الذي ينتج عنه التنظيم الداخلي للخطاب ؛ أي ما يصطلح عليه ب: "التصميم".
3-الأسلوب؛ أي التحرير الكتابي لموضوع الخطاب.
4-الفعل، أي النطق الفعلي للخطاب مع ما يصاحبه من تغيير للنبرات الصوتية، ومن حركات، وأفعال.كما يمكن إضافة "الذَّاكرة" لهذه العناصر حسب أوليفيي روبول.
أما محمد الولي فيعرف الإيجاد بكونه: "إعداد كل الوسائل الحجاجية التي يمكن التوسل بها لأجل حصول الإقناع... وهذه الوسائل منها ما هو عقلي ومنها ما هو عاطفي، تصب كلها في اتجاه التمكن من إقناع القاضي أو من يحل محله".
ويرى الباحث أنه يمكن "تمييز أربع مراحل في الخطابة: الافتتاح، والسرد، والحجاج، والاختتام". والأمر نفسه نجده عند أوليفيي روبول الذي يؤكد إلزامية هذه المراحل في الخطاب الحجاجي؛ فالمحامي الذي يعد مرافعته، والطالب الذي يهيئ عرضا، ورجل الإشهار الذي يستعد لحملته الإشهارية، يلزمهم جميعا اتباع المراحل الأربع وهي:
1-فهم الموضوع وجمع كل الحجج التي يمكن الاستناد إليها.
2-ترتيب عناصر الموضوع ) الترتيب .(
3-ترتيب الخطاب في حدود الممكن مع مراعاة أن يكون مكتوبا وليس شفويا؛ أي الأسلوب.
4-الانتقال إلى ملفوظ الخطاب؛ أي الفعل الإجرائي.
ومن القراءات التي تناولت النص النثري عند الجاحظ باعتباره خطابا حجاجيا لا يخلو من الوظيفة الأدبية، قراءة محمد النويري (البلاغة وثقافة الفحولة، دراسة في كتاب العصا للجاحظ)، وقراءة محمد مشبال (البلاغة والسرد، جدل التصوير والحجاج في أخبار الجاحظ)، وقراءات أخرى.
لقد قرأ محمد النويري باب العصا في كتاب البيان والتبيين بوصفه نصا حجاجيا أدبيا، أو أدبيا حجاجيا. فعلى الرغم من أن الباحث في مقاربته لهذا النص كان يتوخى إبراز طاقته الحجاجية، إلا أنه واجه خطابا تخييليا دعاه إلى تأويل جملة من الاستعارات والكنايات والرموز التي انطوى عليها النص، وجعلت منه نصا أدبيا. لقد توخى الباحث في المقام الأول إبراز الخطاب الحجاجي في نص الجاحظ، وذلك من خلال كشفه عن أطروحته، أو رسالته المتمثلة في أن العرب نبغوا في البلاغة التي اقترنت عندهم بالشجاعة والفروسية بخلاف ما يدعيه الفرس، لأجل ذلك دافع الجاحظ عن استخدام العصا؛ إذ يمكن النظر إلى هذا النص بوصفه خطابيا دفاعيا: " ولقد كنا معنيين بالبحث في الكيفية التي سلكها الجاحظ في الدفاع عن العصا باعتبارها المنفذ الذي ولجته الشعوبية للغض من بلاغة العرب وحطتهم عن درجات الفضل التي انتسبوا إليها واحتكموا، ليبرز عمق الوشائج بين البلاغة والعصا في الثقافة العربية باعتبارها رمزا لمحل البلاغة من قيم السيادة التي كانت مقتبسة في مخيالهم من قيم الفحولة." غير أنه واجه –كما يقول محمد مشبال- في النص أشكالا تعبيرية "لا تنحصر وظيفتها في الاحتجاج لأهمية العصا وارتباطها بالبلاغة بل تتجاوزها إلى الوظيفة الجمالية والتأويلية.
على هذا النحو، لجأت مقاربة النويري إلى التأويل والكشف عن دلالات العصا؛ وهي دلالات تنم على أن نص العصا خطاب جمالي يلتحم بالخطاب الحجاجي الدفاعي؛ أي إن مقاربة النويري زاوجت بين النزوع إلى الكشف عن رسالة النص والآليات الحجاجية، التي توسل بها الجاحظ لدحض أطروحة الخصم وإقناع المتلقي بها، ودفعه إلى التصديق بفحواها، وبين النزوع إلى تأويل النص وتخطي رسالته الصريحة، بإظهار البعد الرمزي للنص وغاياته الجمالية. لم يكتف الباحث إذن باستخراج رسالة النص، أو مقصديته التداولية وبنياته الحجاجية ونقد هذا الخطاب الحجاجي، الذي انزلق إلى المغالطات، بل تصدى كما يقول محمد مشبال إلى وضعيته الخِطابية المتميزة بتداخل الحجاج والتخييل.
لأجل ذلك، اتجهت معظم القراءات الحديثة إلى إعادة النظر في الأدب العربي القديم، شعرا ونثرا، مبرزة ما ينطوي عليه من بعد حجاجي. ولم يشذَّ قراء الجاحظ عن هذا الاتجاه، فلا تكاد تخلو قراءة حديثة في نصوص الجاحظ من توجهها نحو الكشف عن الخطاب الحجاجي في نثر الجاحظ والوقوف على التقنيات الحجاجية والأبعاد الوظيفية أو المقاصد التداولية لنوادره وأخباره ورسائله.


منشورة في جريدة "الشمال " الزاهرة ، عدد يوم السبت 2 مارس 2024 .





تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...