غير خافٍ على من يتأمل واقع التجريب النقدي الحديث, ما جرّه هذا الواقع على حركة النقد العربي الحديث من مآسٍ وويلات, ليس بأقلها ضياع هوية النقد ذاته, وغياب المفهوم الجامع أو المحدد له.
فعلى الرغم من شيوع مصطلح «النقد», وكثرة تداوله في السوق الثقافية الاستهلاكية العربية, إلا أنه قد ماع أو كاد يتبدد تماماً في خضم هذه الكثرة الكاثرة من المناهج النقدية التي صارت من الاشتجار بحيث لم نعد قادرين على التمييز بين منهج وآخر؛ ففي خضم الكثرة تتبدد الوحدة، كما يقال، ما يجعل من إعادة طرح سؤال الماهية, في مثل هذا السياق, بمثابة الدعوة إلى "الجمع في التفرقة" حسب التعبير الصوفي, أعني بمثابة الدعوة لأن يكون لنا -على الأقل نحن المهتمين بقضايا النقد- مفهوم جامع، نجتمع حوله, ونلتقي عنده؛ كونه ينطوي على أهم المقومات التي لا يكون النقد نقداً إلا بها, أو كونه ينطوي على ما يمثل شرط التسمية؛ تسمية النقد نقداً؛ فنحن نعلم أنه إذا اختل شرط التسمية اختل شرط المسمّى؛ فنحن لا نطلق اسم الشيء على الشيء إلا لأن هذا الاسم قد حمل -على الأقل في وعينا اللغوي التقليدي- بعض خصائص مسماه. إلا أن نذهب مذهباً أبعد مما ذهب إليه دي سوسير, فنقول باعتباطية العلاقة، لا فقط بين الدال والمدلول عموما، كما كان قد قال دي سوسير، بل بين الدال/ المصطلح, وما اصطلح عليه, فنفتح باب التسمية الاصطلاحية على مصراعيه, على نحو يسمح لنا بتغيير أسمائنا كلما شعرنا بأن جديداً قد طرأ, وأن علاقتنا بالآخر قد باتت تفرض علينا ذلك, وهو ما لا يسمح به عقل, ولا يقبل به منطق.
على أن ما يؤكد ضياع النقد, وغياب الهوية أو الماهية المحددة له, فضلاً عن غياب المفهوم الجامع للنقد, أنك لو أعدت طرح سؤال الماهية: ماهية النقد، من جديد, على أي من نقادنا المعاصرين، على كثرتهم, وسألت أحدهم: ما النقد؟ لما حصلت من أي منهم على إجابة محددة على سؤالك, تتضمن تحديداً دقيقاً لما يكونه النقد. ليس هذا فحسب, بل إن أياً من النقاد لا يستطيع أن يقدم لك رؤية واضحة أو محددة لما يكونه النقد في وعيه هو على الأقل. ما يسمح لنا بالقول -وإن بشيء من الأسى والحسرة- إن النقد اليوم لم يعد فناً معلوماً من فنون القول, بل غدا فناً من فنون القول غير معلوم؛ غير معلوم الكُنْه أو الحقيقة أو الصفة.
لقد صرنا اليوم غير قادرين -في زمن العولمة الذي بدأ يضرب في عمقنا بقسوة– على التمييز بين شيء وشيء, أو على إعطاء الأشياء وصفها الذي تستحق؛ ما أدى إلى اختلاط الأوراق, وضياع الكثير من الحقائق.
وحتى نتمكن من الإسهام في إعادة بناء مفهوم جامع للنقد، علينا أن ننطلق من طرح سؤال الماهية المتعلق بالنقد من جديد. فما النقد إذن؟
النقد دليل لساني
وهنا نستطيع أن نقول: إن النقد دليل لساني, لا يزال مفهوماً؛ لأنه مما دوِّنه لساننا في معاجمه, فقرأنا, ولا نزال نقرأ في تلك المعاجم:
1- "النقد خلاف النسيئة"، وهذا يقتضي أن النقد عبارة عن الكلام التبادلي الفوري (الحواري)، أي الذي يتبادله المتكلّم القارئ (الناقد) مع كلام النص المقروء لحظة اتصاله به ومكالمته إياه, بصورة فورية مباشرة؛ لحظة نصغي لكلامه, ونلقي إليه بكلامنا.
2- "النقد تمييز الدراهم". وهذا يقتضي أن النقد كلام ينطوي -وإن ضمناً– على حكم قيمة إزاء النص الذي يستهدفه الناقد القارئ بفعله القرائي النقدي. فهو إذن كلام مختلف، بحكم أنه يتكلّم/ يظهر اختلاف النص المنقود, وتميزه عن كل نص سواه. بمعنى أنه يظهر فرادة النص المقروء وتفرده, خصوصيته التي بها كان ذاته الخاصة, ولم يكن غيره.
3- "النقد إعطاء النقد". وهذا يقتضي أنه الكلام الذي من شأنه أن يكشف حقيقة الوجود النصي للنص المقروء/ المنقود. على معنى أنه يعطيه قيمته الحقيقية التي يستحقها, وهي القيمة التي يكشف عنها خلال فعل القراءة النقدية.
4- "النقد النقر بالإصبع على الجوز". وهذا يقتضي أنه الكلام الباحث عن معنى, وليس هو الكلام الذي يمنح النص معناه. أو لنقل: إنه الكلام الباحث عن نصية النص, أو عما به تتحقق نصيته. إنه الكلام الذي به أو من خلاله نبحث عما به كان النص نصاً مختلفاً.
5- "النقد أن يضرب الطائر بمنقاره (منقاده) في الفخ" بحثاً عما عنه يبحث الطائر/ الناقد, وإليه يتطلع خلال فعله النقدي, أي بحثاً عن المعنى الهارب الخاص الذي ما ينفك يبحث عنه الناقد, ويتطلع إليه. وهذا يقتضي أنه الكلام الذي يخترق سطح النص أو ظاهره إلى باطنه؛ بحثاً عما ينطوي عليه في الداخل من معنى خاص, أو بحثاً عن حقيقة معناه, أو عن حقيقة المعنى النصي (الكلي/ العلائقي) الكامن في نسيجه. وهذا يقتضي أن الفعل النقدي ليس فعل بحث عن المعنى الظاهر أو السطحي, أي الذي يطفو على سطح النص, ولكنه فعل بحث عن المعنى الباطن الذي يسكن عمق النص (معنى المعنى).
على أن في هذه العبارة إشارة إلى طريقة أخرى من طرق اكتشاف القيمة في النص, هي طريقة اختراق الشكل المرئي للنص إلى اللامرئي, والبحث في ثناياه أو في طبقاته عن المعنى الباطن, أو عما يعطي للنص معناه, أو قيمته النصية الحقيقية.
6- "النقد الوازن من الدراهم". وهذا يقتضي أنه الكلام الذي يتبادله الناقد مع نص الكلام المنقود كي يعطيه قيمته الحقيقية بشكل فوري, بحكم أنه ينطوي, وإن بصورة ضمنية, على حكم قيمة على النصوص, لأنه يحاورها من داخلها, ويكتشف نصيتها من أعماقها؛ لذلك فهو لا يزيف وعينا بالنصوص, بقدر ما يضعنا وجهاً لوجه أمام الحقيقة النصية لكل نص على حدة.
7- "النقد لدغ الحية"(1). وهذا يقتضي أنه الكلام الفاعل أو المؤثر في كلام غيره, أو في كل كلام نتعرض له بالنقد أو بالقراءة والتحليل النقدي, بدءاً بكلام النص المنقود. لذلك فالنقد, وفق هذا, هو الكلام المتضمن فعلاً فاعلاً في الكلام وفي المتكلمين وفي اللغة, في آن معاً.
8- "النقد اختلاس النظر" نحو الشيء (النص المنقود), وليس تركيز النظر وحصره -فقط- في النص. وهذا يقتضي أنه الكلام الذي يجسد حضور المتكلّم الناقد لحظة الشهود الكلي لنصية النص, ويعبر, في الوقت نفسه, عن رؤية كلية للنص. أو لنقل: إنه ينطوي على الرؤية الخاصة أو الشخصية بالناقد. أعني أنه يجسد رؤيته الخاصة لما عليه النص المنقود, أو لما ينطوي عليه من مقومات نصية ممكنة.
وفي هذه العبارة إشارة ثانية إلى طريقة أخرى من طرق اكتشاف الناصّ الناقد نصية النص المنقود, هي الطريقة التي عبر عنها باختلاس النظر, أو عن طريق الرؤية الكلية أو المزدوجة للنص المنقود، التي تعني النظر إلى النص المنقود, من زاوية نص أو نصوص أخرى (من زاوية نص القراءة النقدية السابق في الوجود على وجود الناقد/ القارئ, من جهة, ومن زاوية نص القارئ الحلم, من جهة أخرى, على نحو ما سنوضح ذلك لاحقاً). وهذا يقتضي النظر لكل شيء في النص المقروء, أو للمعنى الجزئي من زاوية شيء آخر مماثل له أو مناقض أو مجاور... إلخ.
لذلك نجد من سمات الكلام النقدي عموماً, انطلاقاً من كل ما سبق:
- أنه فعل لغوي مركب, مشروط بالتبادل الفوري الإيجابي. إنه حوار بين طرفين متكافئين(2) حاضرين كل منهما في حضرة الآخر.
- النصية أو التناصية. أي أنه كلام يجسد تناص الناصّ الناقد مع النص المنقود, أو مع جملة نصوص، من بينها, على الأقل, النص المنقود/ المقروء, إضافة إلى نص القراءة النقدية السابق في الوجود على وجوده القارئ, وكذا نص القارئ الحلم. فهو إذن كلام نصي يظهر الاختلاف والتفرد بامتياز؛ اختلاف وتفرد المتكلّم الناقد, واختلاف وتفرد كلامه النقدي, إضافة إلى اختلاف وتفرد كلام النص المتكلّم فيه, ومن خلاله.
- التبادلية الفورية (الحوارية). وهذا إنما يرجع إلى أنه كلام يتكلمه أكثر من متكلّم/ طرف, فهو مزيج من كلام ثلاثة نصوص, على الأقل, كما سنلاحظ ذلك لاحقاً.
- الكلية أو التعددية: تعددية الكلام وتعددية المتكلّم.
- القِيَمِيّة: أنه يتضمن حكماً بالقيمة.
- التجاوزية (الاختراقية): تجاوز ظاهر النص إلى باطنه, وهذا يتطلب الحفر والتفكيك، بحثاً عن المتعدد من معاني النص. لذلك فهو (أي النقد) عبارة عن:
< كلام يتكلم حضور الكائن المتكلم الناقد في حضرة النص المتكلّم عنه, وفيه. وهذا يقتضي أنه يتكلم العلاقة, لا السلطة؛ علاقة الناقد القارئ بنصه المنقود/ المقروء, لا سلطته عليه, ومصادرته لحقه في الوجود/ التكلّم, وهي علاقة تجسد اتصاله المباشر به, ومعايشته إياه, ومن ثم التعرف من الداخل على ما ينطوي عليه النص من مقومات نصية.
< إنه الكلام الذي يعطي النصوص قيمتها, ما يجعله يبدو -بصورة دائمة- بمثابة المعادل الرمزي للنصوص.
هذا عن النقد دليلاً لسانياً (في الذاكرة اللغوية لمستعملي اللغة).
النقد مفهوماً
أما عن النقد مفهوماً, أو ماهية, أو دلالة, أو شكلاً من أشكال الوجود اللغوي؛ أي بوصفه فناً من فنون القول, وضرباً من ضروب الكلام على الكلام, كما كان أبو حيان التوحيدي قد قال؛ فلم يعد
-في نظري على الأقل- مفهوماً, وأخشى أن يصبح غير قابل للفهم. أقول هذا، لأن النقاد, في نظري, وهم من نعوّّل عليهم في عملية الإفهام والتفهيم, قد توزعوا بين فريقين:
1- فريق آثر التجريب على الفهم.
2- وفريق آثر الفهم على التجــــــــريب, ولكنه -فيما نعتقد- أخطأ الطريق إلى الفهم.
على أن قائلاً قد يقول, تعقيباً على مقالتنا هذه: لكن هل يمكن الفصل بين التجريب والفهم؟ أليس التجريب هو الطريق الصحيح إلى الفهم؟! أليس تجريب النقد هو الطريق الصحيح إلى فهم ماهية النقد، أو بالأحرى إلى بناء ماهيته؛ فلكي نفهم حقيقة شيء ما، شكل وجوده الذي هو عليه, علينا أن نُجرّبه؟ أتُرَاكَ نسيتَ أم تناسيت أن التجريب، حديثاً, قد بات هو الطريق الوحيد إلى الفهم, وأن الفهم الحقيقي, من ثم, لم يعد إلا هذا الفهم القائم على التجريب, وليس على أي شيء آخر غير التجريب؟! أم تُرَاكَ تريد بالفهم هنا, الفهمَ المجرد الذي يؤسس لمعرفة نظرية مجردة, لا الفهم المجسد الذي يؤسس لمعرفة تجريبية (يقينية) تطبيقية مجسدة؟ ماذا تعني بالفهم هنا؟ وكيف أخطأ -في رأيك- الفريق الثاني الطريقَ إلى الفهم؟ ما الطريقُ الصحيح إلى فهم ماهية النقد, من وجهة النظر هذه التي تطرحها؟!
وهنا نقول: إننا نعتقد أنه ما من طريق إلى الفهم الصحيح للنقد إلا طريق واحد وحيد, هو التجريب النقدي؛ لكن ليس بمفهومه العام أو الشائع: الآلي أو التقليدي الذي ينحصر خلاله جهد المجرِّب ونشاطه في اتجاه واحد, ووفق شروط محددة سلفاً؛ وإنما نعني: التجريب بمعناه الدقيق والعميق، الكلي والشمولي. أعني التجريب بمستوييه: السطحي والعميق، تجريب؛ "نقد" النصوص, من جهة, وتجريب "نقد نقد النصوص", من جهة ثانية, ووفق شروط التجريب المعتبرة في كليهما.
على أن التجريب، بمستوييه: السطحي والعميق، لا يكون -في اعتقادنا- إلا وفق منظور (دينامي) خاص بالكائن المجرّب, أي وفق جهاز أدواتي مفهوماتي, يجب أن يكون قد بناه الكائن المجرّب خلال مسيرة حياته النقدية التجريبية السابقة. أعني خلال خبرته التجريبية السابقة التي بناها لنفسه, فصارت تشكل, بالنسبة له, منظوراً خاصاً به، جهازاً أدواتياً معلوماتياً مفهوماتياً.
وهذا يقتضي أن فعل التجريب النقدي الحقيقي مشروط بحضور الكائن المجرِّب حضوراً عينياً مباشراً, في حضرة النص المجرَّب قراءته, وتجريب قراءته وفق شروط التجريب الخاصة والعامة, في آن معاً, أي وفق نظام دينامي للتجريب النقدي, هو عبارة عن مزيج من الخبرة النقدية الخاصة والعامة.
فالتجريب النقدي إذن عبارة عن خبرة اتصال مباشر بالنص المنقود. أو لنقل إنه خبرة قرائية مشروطة بحضور القارئ/ الناقد في حضرة ثلاثة نصوص على الأقل:
1- في حضرة النص المقروء: الآن/ هنا.
2- وفي حضرة نص القراءة النقدية السابق في الوجود على وجود القارئ الناقد، الإنّي, أي المتحقق الآن/ هنا, لحظة ممارسته فعل القراءة النقدية للنص بمفهومه الأول.
3- وفي حضرة نص القارئ الحلم.
وهذا يقتضي أن التجريب النقدي الحقيقي المنتجَ للمعرفة النقدية الحقيقية بالنصوص لا يقام في الفراغ, ولا ينطلق فيه من منظورات نقدية جاهزة (أكانت خاصة بالناقد أم بغيره) إلا أن يكون الهدف من العملية النقدية برمتها, التعليمَ أو مجردَ نقل المعرفة النقدية الجاهزة إلى الآخرين.
لذلك نقول: إن التجربة, في أبسط معانيها, عبارة عن خبرة خاصة بالأشياء التي نجربها, وهي خبرة نكتسبها خلال علاقتنا المباشرة الخاصة والعامة بتلك الأشياء, نبني نظامها الخاص, ونؤسس خلالها لمنظورنا الخاص. وهو ما يتطلب منا القيام بعملية مراجعة دائمة لأدواتنا وإمكاناتنا (لجهازنا الأدواتي المفهوماتي المعرفي) كلّما شعرنا أنه قد حصل تطور في دلالة تلك الأدوات والمفاهيم التي ينطوي عليها الحقل المعرفي لعملنا, أو أن أيّاً منها قد تعرض لهزات عنيفة أفقدته بعض خصائصه, أو أسقطت عنه بعض عناصره, أو أضافت إليه عناصر جديدة لم تكن له من قبل, أعني كلما شعرنا أنه قد حصل تطور في بنيته، استخداماً ودلالة.
وهذا يقتضي أن التجريب النقدي الحقيقي المنتج للمعرفة النقدية الحقيقية بالنص, لا يكون, في حده الأدنى والضروري إلا:
1- بحضور مجرِّب (بصيغة اسم الفاعل) هو من يمارس فعل التجريب النقدي الذي هو, في سياقنا هذا, القارئ الناقد المستغرق بفعل القراءة النقدية.
2- في حضرة مجرَّب (بصيغة اسم المفعول)؛ أعني في حضرة فعل التجريب القرائي النقدي نفسه بصورة فعلية, بوصفه فعل انفتاح كلي على كلية العوالم النصية المشار إليها آنفاً.
3- وفي حضرة مجرَّب فيه (مادة تجريب). ويتمثل هذا الطرف, بالنسبة للقارئ الناقد, في لغة النصوص المجرب قراءتها, أو في ملفوظاتها الواقعية والممكنة.
4- وفي حضرة نظام التجريب، تجريب القراءة النقدية التجريبية، المتجسد في نص القراءة السابق في الوجود على وجود المجرّب القارئ.
5- إضافة إلى الحضور في حضرة مقصدية القارئ المجرب, بوصفه ما يهدف إليه المجرّب من وراء عملية التجريب النقدي القرائي برمتها (وتتمثل هذه المقصدية في تجسيد نص القراءة النقدية الحلم, أو هكذا يفترض).
وهنا نقول: إن "تجريب القراءة النقدية للنص" يقتضي الاتصال المباشر بالنص, والنظر إليه من ثلاث زوايا رئيسة:
1- من زاوية ما يكونه هذا النص في ذاته أولاً. وهذا يقتضي احترام النص المنقود/ المقروء في ذاته, والاعتراف بحقه في الوجود, كما هو في ذاته, لا كما نحن, أو كما هو في (مرآة) نصوصنا القارئة التي منها ننطلق, وعلى ضوئها نقرأ. ما يحتم علينا محاورته والإصغاء لكلامه, أو لما يقول, وفق نظام القول الداخلي الخاص به, أو الذي ينطوي عليه هو نفسه, وتبادل الكلام معه, في الوقت نفسه, بصورة فورية ديمقراطية متوازنة.
2- ومن زاوية ما يكونه هذا النص (المقروء) في "نقد النصوص" بوصفه نص التبادل النقدي. أي كما هو في نصوص القراءة النقدية السابقة في الوجود على وجودنا القارئ الناقد الإنِّي (المتحقق الآن/ هنا لحظة انفتاحنا على النص وقراءته).
3- ومن زاوية ما يمكن أن يكونه هذا النص (المقروء) في نص الوجود القرائي الممكن. أي كما هو في نص القارئ الحلم الذي يطمح أن تكونه قراءته النقدية التي يؤسس لها, ويطمع أن يجسدها واقعاً معاشاً في حياته الثقافية المستقبلية.
غير أن السؤال الذي يجب علينا إعادة طرحه هنا تأكيداً لما سبق:
لكن ما الذي يجرب القارئ الناقد في الأصل؟ أو بالأحرى: ما الذي على القارئ الناقد أن يجرب؟ وكيف يجرب؟
وهنا يمكن القول: إن ما يجرب القارئ الناقد, هو: لا شيء، سوى فعل القراءة النقدية، بوصفه فعلاً (لغوياً) فاعلاً في نفسه؛ فعلَه فيما هو فعلٌ فيه (في النص المقروء/المنقود) وفيما هو فعلٌ به (في نص القراءة النقدية السابق في الوجود على وجوده الإنيّ) وفيما هو فعلٌ له أو لأجله (في نصنا القارئ الحلم).
على أنه يمكننا, بعد هذا, أن نرصد ثلاث طرق لتجريب فعل القراءة النقدية للنص:
1- طريقة الذهاب←إلى النص (المقروء) وتجريب قراءته كما هو في ذاته, في حضوره العيني المباشر (أي دون تدخل منا أو دون أن نخضعه لشروطنا الخاصة, أو لتحقيق أي مقصدية أخرى تتعلق بنا أو تخصنا, وإن كان هذا لا يمنع, أو يحول بالأحرى, دون خضوعنا وإياه لشروط مقروءاتنا السابقة التي يمليها أو يفرض منطقها وضعنا السسيوثقافي, أو ما نسميه بـ"نص القراءة/ البرمجة» السابق في الوجود على وجودنا القارئ).
على أنه يمكن القول: إن من شأن هذه الطريقة (السلبية) في تجريب قراءة النصوص, أنها لا تضيف شيئاً جديداً إلى النص المقروء, ولا يتولد عنها نص آخر جديد يمكن أن يعتد به في عملية قراءة النصوص. ما يعني أن عملية التجريب القرائي هذه لا تؤسس لنص جديد في قراءة النصوص, أو في تجريب قراءتها؛ بل من شأنها أن تكرس واقع الحال النصوصي كما هو, ولا تعمل على زعزعته سعياً إلى خلق واقع بديل ينهض من أنقاضه.
2- وطريقة الإياب → من النص (المقروء), وتجريب قراءته, كما نحن الآن/ هنا في حضورنا العيني المباشر, أي وفق شروطنا الخاصة في القراءة, أو وفق شروط نصنا القارئ, بوصفه نص القراءة الحلم الذي نتبادل السكنى وإياه, ويحاول كل منا فرض شروطه على الآخر.
3- وطريقة الذهاب ← إلى النص (المقروء) والإياب→ منه, في الوقت نفسه, لتجريب قراءته, كما هو في ذاته, وكما نحن في ذاتنا, في الآن نفسه.
والطريقة الأولى في تجريب فعل قراءة النص هي طريقة السقوط←في عالم النص المقروء, وتجريب قراءته كما هو في ذاته. والثانية هي طريقة التعالي → على النص المقروء, وقراءته كما نحن في ذاتنا. والثالثة هي طريقة العلوّفي النص المقروء, وقراءته كما هو, وكما نحن, في الآن نفسه.
على أن من شأن الطريقة الأولى أنها تقتضي حضورنا في حضرة النص المقروء, كما هو في حضوره العيني المباشر, والاستجابة السلبية لشروطه كاملة. وهذا يقتضي قراءته وفق قواعد القراءة الخاصة به التي يمليها منطق بنائه الداخلي والخارجي. لذلك فهذه القراءة (الحرفية) تصبح بمثابة إعادة إنتاج للنص, لا تضيف إلى النص جديداً, ولا تؤسس لنص جديد في قراءة النصوص؛ لذلك فهي قراءة (عاقر) غير منتجة.
أما الطريقة الثانية فتقتضي استحضار النص المقروء, وجعله حاضراً في حضرتنا كقراء, أو في حضرة نصوصنا القارئة, بحيث يصير (النص) جزءاً من إنيّتنا القرائية, أو من حضورنا الإنّيِّ القرائي, ما يفضي إلى استلابه بشروط قراءتنا الخاصة, أو بشروط نصنا القارئ.
أما الطريقة الثالثة فتقتضي أن نتبادل الحضور بيننا وبين النص الذي نجرب قراءته, بحيث يصير كلّ منا حاضراً في حضرة ذاته, وفي حضرة الآخر, في الوقت نفسه, وهو ما يفضي إلى نوع من القراءة الكلية المركبة (المنتجة) أو المؤسّسة لنص جديد في القراءة النقدية.
لذلك فالطريقة الأولى من شانها أن تسهم في بناء الكينونة الخاصة بالنص المقروء. في حين تسهم الطريقة الثانية في بناء كينونتنا الخاصة (المتعالية على واقع النصوص التي نقرؤها). أما الطريقة الثالثة فمن شأنها أن تسهم في بناء الكينونة الكليّة الخاصة بكلّ من الكائن الناصّ (القارئ) والنص (المقروء) على السواء.
ثلاثة آفاق لتجريب قراءة النصوص إذن: أفق السقوط في عالم التجربة القرائية النقدية, حيث غياب القارئ المجرّب وتبعيته لعناصر العالم النصي التي يجرب قراءتها, وأفق التعالي على عالم التجربة القرائية النقدية, وأفق العلوّ في عالم تلك التجربة وعليه.
وإذا عُلم هذا وتقرر, فإن السؤال الذي علينا طرحه على تجربة النقد العربي المعاصر بمستوييه النظري والتطبيقي، هو: هل انطوت تجربة النقد العربي، في عمومها, على مقومات التجريب النقدي في حدها الأدنى، التي أشرنا إليها آنفاً؟ هل توافر في العنصر الأول، في الفاعل الناقد في هذه التجربة, شرط الفاعلية (أعني شرط التجريب النقدي الحقيقي القائم على الاتصال الحي المباشر بما هو فاعل فيه, وبه, وله أو لأجله)؟ وهل توافر في فعله النقدي التجريبي شرط الفعلية (أعني شرط التأثر وإحداث الأثر في المادة النصية المجرب عليها, على الأقل)؟
وهنا يمكن القول: إن ما نأخذه على نقادنا بعامة, أنهم قد انقسموا في جملتهم -في مسألة التجريب النقدي, وكما سبقت الإشارة- إلى فريقين أو ربما إلى ثلاثة:
- فريق يقول إنه يجرب «نقد النصوص».
- وفريق يقول إنه يجرب «نقد نقد النصوص».
- وفريق ثالث يقول إنه يجرب الاثنين معاً.
على أنه يمكن القول: إن نقادنا العرب قد انقسموا -في الواقع وبحسب ما غلب عليهم– إلى فريقين فقط:
- فريق غلب عليه محاولة تجريب "نقد النصوص".
- وفريق آخر غلب عليه تجريب "نقد نقد النصوص".
ويأتي في طليعة هذا الفريق, على سبيل المثال، الناقد والمفكر السعودي الدكتور عبد الله الغذامي، الذي جرب "نقد النصوص" إضافة إلى "نقد نقد النصوص"، فكان موفقاً أيما توفيق في الأولى, وقد خانه التوفيق في الثانية؛ لا لشيء إلا لأنه قد انطلق في عملية تجريب نقد النقد -كما تجلى ذلك بوضوح في كتابه الفذ: «النقد الثقافي"- من الذاكرة الاصطلاحية (الثقافية) في "نقد الآخر". لقد أراد -كما لاحظنا ذلك في موضع آخر(3)- أن يؤسس لمنهج في "نقد نصوص" الثقافة العربية, ذاكرته, في الجملة, غير عربية؛ فأنت لا يمكن أن تؤسس لمنهج في نقد الثقافة، ثقافة أي أمة من الأمم, ما لم تستند إلى ثقافة تلك الأمة نفسها, أو على الأقل إلى ما أسماه الدكتور الغذامي نفسه بـ"الذاكرة الاصطلاحية" لتلك الأمة.
على أنه بالعودة إلى موقف نقادنا العرب من مسألة التجريب عموماً, نقول: إن ما يجمع بين الفرقاء جميعاً، سواء مَنْ جرّب منهم "نقد النصوص" أم مَنْ جرّب "نقد نقد النصوص"، أن الفريق الأول الذي جرب نقد النصوص، نصوصنا العربية, انطلاقاً مما يكونه النقد في ذاكرة الآخر الاصطلاحية, أي انطلاقاً مما يكونه النقد في"نقد نقد" الآخر لنصوصه المكتوبة بلغته, وليس انطلاقاً مما يكونه النقد في ذاكرتنا الاصطلاحية المجرب فيها ومن خلالها, أو في "نقد نقدنا" نحن؛ فهو يجرب نقد النصوص: نصوصنا (على الأقل كونها قد كتبت بلغتنا) وفق منظور جاهز للتجريب, أو لنقل: وفق منطق التجريب الجاهز عند الآخر (محاكاة تجربة الآخر في نقده/ قراءته لنصوصه).
وهذا يقتضي أن نقاد هذا الاتجاه لم يجربوا "نقد النصوص" في الحقيقة, بل حاكوا تجربة الآخر في "نقده لنصوصه". هذا عن الفريق الأول.
أما الفريق الثاني الذي جرب "نقد نقد النصوص" فحاله لا يختلف كثيراً, في هذه المسألة, عن الفريق الأول, من حيث أنه قد أخذ يجرب "نقد نقدنا" العربي, انطلاقاً من تجربة "نقد نقد الآخر"، أو قل: وفق منظور جاهز لـ"نقد النقد" أخذه عن الآخر. أعني أنه قد أخذ منهج الآخر في "نقد نقده"، جاعلاً منه منهجاً لتجربته في نقد نقدنا العربي, وكأنه بهذا قد أخذ يجرّب ما جرّبه الآخر بأدواته, ووفق منظوراته, وبطريقة التجريب نفسها.
وهذا يعني أن شرط التجريب النقدي الحقيقي منعدم عند الفريقين كليهما. وإذا انعدم شرط التجريب النقدي, انعدم شرط الفهم (العلمي) المجرّب للنقد عند كليهما.
وهذا يعني, في المحصلة النهائية, أن الفريقين لم يجربا النقد على وجه الحقيقة؛ فلا الأول جرب "نقد النصوص"، ولا الثاني جرب "نقد نقد النصوص"، بل كلاهما جرب محاكاة التجريب عند الآخر؛ الأول جرب محاكاة الآخر في "نقد نصوصه"، والثاني جرب محاكاة الآخر في "نقد نقده" لنصوص التجريب النقدي.
وهذا يقتضي أن كليهما لم يفعل -نقدياً- بل انفعل, ولم يشارك في الفعل النقدي بمستوييه: السطحي والعميق، اللغوي والتاريخي, بل استقل بفعله, منفصلاً عن عالم الفعل الحقيقي الفاعل في حياتنا الثقافية والتاريخية على السواء.
د. عبد الواسع الحميري
* عن مجموعة نقد القصة القصيرة
فعلى الرغم من شيوع مصطلح «النقد», وكثرة تداوله في السوق الثقافية الاستهلاكية العربية, إلا أنه قد ماع أو كاد يتبدد تماماً في خضم هذه الكثرة الكاثرة من المناهج النقدية التي صارت من الاشتجار بحيث لم نعد قادرين على التمييز بين منهج وآخر؛ ففي خضم الكثرة تتبدد الوحدة، كما يقال، ما يجعل من إعادة طرح سؤال الماهية, في مثل هذا السياق, بمثابة الدعوة إلى "الجمع في التفرقة" حسب التعبير الصوفي, أعني بمثابة الدعوة لأن يكون لنا -على الأقل نحن المهتمين بقضايا النقد- مفهوم جامع، نجتمع حوله, ونلتقي عنده؛ كونه ينطوي على أهم المقومات التي لا يكون النقد نقداً إلا بها, أو كونه ينطوي على ما يمثل شرط التسمية؛ تسمية النقد نقداً؛ فنحن نعلم أنه إذا اختل شرط التسمية اختل شرط المسمّى؛ فنحن لا نطلق اسم الشيء على الشيء إلا لأن هذا الاسم قد حمل -على الأقل في وعينا اللغوي التقليدي- بعض خصائص مسماه. إلا أن نذهب مذهباً أبعد مما ذهب إليه دي سوسير, فنقول باعتباطية العلاقة، لا فقط بين الدال والمدلول عموما، كما كان قد قال دي سوسير، بل بين الدال/ المصطلح, وما اصطلح عليه, فنفتح باب التسمية الاصطلاحية على مصراعيه, على نحو يسمح لنا بتغيير أسمائنا كلما شعرنا بأن جديداً قد طرأ, وأن علاقتنا بالآخر قد باتت تفرض علينا ذلك, وهو ما لا يسمح به عقل, ولا يقبل به منطق.
على أن ما يؤكد ضياع النقد, وغياب الهوية أو الماهية المحددة له, فضلاً عن غياب المفهوم الجامع للنقد, أنك لو أعدت طرح سؤال الماهية: ماهية النقد، من جديد, على أي من نقادنا المعاصرين، على كثرتهم, وسألت أحدهم: ما النقد؟ لما حصلت من أي منهم على إجابة محددة على سؤالك, تتضمن تحديداً دقيقاً لما يكونه النقد. ليس هذا فحسب, بل إن أياً من النقاد لا يستطيع أن يقدم لك رؤية واضحة أو محددة لما يكونه النقد في وعيه هو على الأقل. ما يسمح لنا بالقول -وإن بشيء من الأسى والحسرة- إن النقد اليوم لم يعد فناً معلوماً من فنون القول, بل غدا فناً من فنون القول غير معلوم؛ غير معلوم الكُنْه أو الحقيقة أو الصفة.
لقد صرنا اليوم غير قادرين -في زمن العولمة الذي بدأ يضرب في عمقنا بقسوة– على التمييز بين شيء وشيء, أو على إعطاء الأشياء وصفها الذي تستحق؛ ما أدى إلى اختلاط الأوراق, وضياع الكثير من الحقائق.
وحتى نتمكن من الإسهام في إعادة بناء مفهوم جامع للنقد، علينا أن ننطلق من طرح سؤال الماهية المتعلق بالنقد من جديد. فما النقد إذن؟
النقد دليل لساني
وهنا نستطيع أن نقول: إن النقد دليل لساني, لا يزال مفهوماً؛ لأنه مما دوِّنه لساننا في معاجمه, فقرأنا, ولا نزال نقرأ في تلك المعاجم:
1- "النقد خلاف النسيئة"، وهذا يقتضي أن النقد عبارة عن الكلام التبادلي الفوري (الحواري)، أي الذي يتبادله المتكلّم القارئ (الناقد) مع كلام النص المقروء لحظة اتصاله به ومكالمته إياه, بصورة فورية مباشرة؛ لحظة نصغي لكلامه, ونلقي إليه بكلامنا.
2- "النقد تمييز الدراهم". وهذا يقتضي أن النقد كلام ينطوي -وإن ضمناً– على حكم قيمة إزاء النص الذي يستهدفه الناقد القارئ بفعله القرائي النقدي. فهو إذن كلام مختلف، بحكم أنه يتكلّم/ يظهر اختلاف النص المنقود, وتميزه عن كل نص سواه. بمعنى أنه يظهر فرادة النص المقروء وتفرده, خصوصيته التي بها كان ذاته الخاصة, ولم يكن غيره.
3- "النقد إعطاء النقد". وهذا يقتضي أنه الكلام الذي من شأنه أن يكشف حقيقة الوجود النصي للنص المقروء/ المنقود. على معنى أنه يعطيه قيمته الحقيقية التي يستحقها, وهي القيمة التي يكشف عنها خلال فعل القراءة النقدية.
4- "النقد النقر بالإصبع على الجوز". وهذا يقتضي أنه الكلام الباحث عن معنى, وليس هو الكلام الذي يمنح النص معناه. أو لنقل: إنه الكلام الباحث عن نصية النص, أو عما به تتحقق نصيته. إنه الكلام الذي به أو من خلاله نبحث عما به كان النص نصاً مختلفاً.
5- "النقد أن يضرب الطائر بمنقاره (منقاده) في الفخ" بحثاً عما عنه يبحث الطائر/ الناقد, وإليه يتطلع خلال فعله النقدي, أي بحثاً عن المعنى الهارب الخاص الذي ما ينفك يبحث عنه الناقد, ويتطلع إليه. وهذا يقتضي أنه الكلام الذي يخترق سطح النص أو ظاهره إلى باطنه؛ بحثاً عما ينطوي عليه في الداخل من معنى خاص, أو بحثاً عن حقيقة معناه, أو عن حقيقة المعنى النصي (الكلي/ العلائقي) الكامن في نسيجه. وهذا يقتضي أن الفعل النقدي ليس فعل بحث عن المعنى الظاهر أو السطحي, أي الذي يطفو على سطح النص, ولكنه فعل بحث عن المعنى الباطن الذي يسكن عمق النص (معنى المعنى).
على أن في هذه العبارة إشارة إلى طريقة أخرى من طرق اكتشاف القيمة في النص, هي طريقة اختراق الشكل المرئي للنص إلى اللامرئي, والبحث في ثناياه أو في طبقاته عن المعنى الباطن, أو عما يعطي للنص معناه, أو قيمته النصية الحقيقية.
6- "النقد الوازن من الدراهم". وهذا يقتضي أنه الكلام الذي يتبادله الناقد مع نص الكلام المنقود كي يعطيه قيمته الحقيقية بشكل فوري, بحكم أنه ينطوي, وإن بصورة ضمنية, على حكم قيمة على النصوص, لأنه يحاورها من داخلها, ويكتشف نصيتها من أعماقها؛ لذلك فهو لا يزيف وعينا بالنصوص, بقدر ما يضعنا وجهاً لوجه أمام الحقيقة النصية لكل نص على حدة.
7- "النقد لدغ الحية"(1). وهذا يقتضي أنه الكلام الفاعل أو المؤثر في كلام غيره, أو في كل كلام نتعرض له بالنقد أو بالقراءة والتحليل النقدي, بدءاً بكلام النص المنقود. لذلك فالنقد, وفق هذا, هو الكلام المتضمن فعلاً فاعلاً في الكلام وفي المتكلمين وفي اللغة, في آن معاً.
8- "النقد اختلاس النظر" نحو الشيء (النص المنقود), وليس تركيز النظر وحصره -فقط- في النص. وهذا يقتضي أنه الكلام الذي يجسد حضور المتكلّم الناقد لحظة الشهود الكلي لنصية النص, ويعبر, في الوقت نفسه, عن رؤية كلية للنص. أو لنقل: إنه ينطوي على الرؤية الخاصة أو الشخصية بالناقد. أعني أنه يجسد رؤيته الخاصة لما عليه النص المنقود, أو لما ينطوي عليه من مقومات نصية ممكنة.
وفي هذه العبارة إشارة ثانية إلى طريقة أخرى من طرق اكتشاف الناصّ الناقد نصية النص المنقود, هي الطريقة التي عبر عنها باختلاس النظر, أو عن طريق الرؤية الكلية أو المزدوجة للنص المنقود، التي تعني النظر إلى النص المنقود, من زاوية نص أو نصوص أخرى (من زاوية نص القراءة النقدية السابق في الوجود على وجود الناقد/ القارئ, من جهة, ومن زاوية نص القارئ الحلم, من جهة أخرى, على نحو ما سنوضح ذلك لاحقاً). وهذا يقتضي النظر لكل شيء في النص المقروء, أو للمعنى الجزئي من زاوية شيء آخر مماثل له أو مناقض أو مجاور... إلخ.
لذلك نجد من سمات الكلام النقدي عموماً, انطلاقاً من كل ما سبق:
- أنه فعل لغوي مركب, مشروط بالتبادل الفوري الإيجابي. إنه حوار بين طرفين متكافئين(2) حاضرين كل منهما في حضرة الآخر.
- النصية أو التناصية. أي أنه كلام يجسد تناص الناصّ الناقد مع النص المنقود, أو مع جملة نصوص، من بينها, على الأقل, النص المنقود/ المقروء, إضافة إلى نص القراءة النقدية السابق في الوجود على وجوده القارئ, وكذا نص القارئ الحلم. فهو إذن كلام نصي يظهر الاختلاف والتفرد بامتياز؛ اختلاف وتفرد المتكلّم الناقد, واختلاف وتفرد كلامه النقدي, إضافة إلى اختلاف وتفرد كلام النص المتكلّم فيه, ومن خلاله.
- التبادلية الفورية (الحوارية). وهذا إنما يرجع إلى أنه كلام يتكلمه أكثر من متكلّم/ طرف, فهو مزيج من كلام ثلاثة نصوص, على الأقل, كما سنلاحظ ذلك لاحقاً.
- الكلية أو التعددية: تعددية الكلام وتعددية المتكلّم.
- القِيَمِيّة: أنه يتضمن حكماً بالقيمة.
- التجاوزية (الاختراقية): تجاوز ظاهر النص إلى باطنه, وهذا يتطلب الحفر والتفكيك، بحثاً عن المتعدد من معاني النص. لذلك فهو (أي النقد) عبارة عن:
< كلام يتكلم حضور الكائن المتكلم الناقد في حضرة النص المتكلّم عنه, وفيه. وهذا يقتضي أنه يتكلم العلاقة, لا السلطة؛ علاقة الناقد القارئ بنصه المنقود/ المقروء, لا سلطته عليه, ومصادرته لحقه في الوجود/ التكلّم, وهي علاقة تجسد اتصاله المباشر به, ومعايشته إياه, ومن ثم التعرف من الداخل على ما ينطوي عليه النص من مقومات نصية.
< إنه الكلام الذي يعطي النصوص قيمتها, ما يجعله يبدو -بصورة دائمة- بمثابة المعادل الرمزي للنصوص.
هذا عن النقد دليلاً لسانياً (في الذاكرة اللغوية لمستعملي اللغة).
النقد مفهوماً
أما عن النقد مفهوماً, أو ماهية, أو دلالة, أو شكلاً من أشكال الوجود اللغوي؛ أي بوصفه فناً من فنون القول, وضرباً من ضروب الكلام على الكلام, كما كان أبو حيان التوحيدي قد قال؛ فلم يعد
-في نظري على الأقل- مفهوماً, وأخشى أن يصبح غير قابل للفهم. أقول هذا، لأن النقاد, في نظري, وهم من نعوّّل عليهم في عملية الإفهام والتفهيم, قد توزعوا بين فريقين:
1- فريق آثر التجريب على الفهم.
2- وفريق آثر الفهم على التجــــــــريب, ولكنه -فيما نعتقد- أخطأ الطريق إلى الفهم.
على أن قائلاً قد يقول, تعقيباً على مقالتنا هذه: لكن هل يمكن الفصل بين التجريب والفهم؟ أليس التجريب هو الطريق الصحيح إلى الفهم؟! أليس تجريب النقد هو الطريق الصحيح إلى فهم ماهية النقد، أو بالأحرى إلى بناء ماهيته؛ فلكي نفهم حقيقة شيء ما، شكل وجوده الذي هو عليه, علينا أن نُجرّبه؟ أتُرَاكَ نسيتَ أم تناسيت أن التجريب، حديثاً, قد بات هو الطريق الوحيد إلى الفهم, وأن الفهم الحقيقي, من ثم, لم يعد إلا هذا الفهم القائم على التجريب, وليس على أي شيء آخر غير التجريب؟! أم تُرَاكَ تريد بالفهم هنا, الفهمَ المجرد الذي يؤسس لمعرفة نظرية مجردة, لا الفهم المجسد الذي يؤسس لمعرفة تجريبية (يقينية) تطبيقية مجسدة؟ ماذا تعني بالفهم هنا؟ وكيف أخطأ -في رأيك- الفريق الثاني الطريقَ إلى الفهم؟ ما الطريقُ الصحيح إلى فهم ماهية النقد, من وجهة النظر هذه التي تطرحها؟!
وهنا نقول: إننا نعتقد أنه ما من طريق إلى الفهم الصحيح للنقد إلا طريق واحد وحيد, هو التجريب النقدي؛ لكن ليس بمفهومه العام أو الشائع: الآلي أو التقليدي الذي ينحصر خلاله جهد المجرِّب ونشاطه في اتجاه واحد, ووفق شروط محددة سلفاً؛ وإنما نعني: التجريب بمعناه الدقيق والعميق، الكلي والشمولي. أعني التجريب بمستوييه: السطحي والعميق، تجريب؛ "نقد" النصوص, من جهة, وتجريب "نقد نقد النصوص", من جهة ثانية, ووفق شروط التجريب المعتبرة في كليهما.
على أن التجريب، بمستوييه: السطحي والعميق، لا يكون -في اعتقادنا- إلا وفق منظور (دينامي) خاص بالكائن المجرّب, أي وفق جهاز أدواتي مفهوماتي, يجب أن يكون قد بناه الكائن المجرّب خلال مسيرة حياته النقدية التجريبية السابقة. أعني خلال خبرته التجريبية السابقة التي بناها لنفسه, فصارت تشكل, بالنسبة له, منظوراً خاصاً به، جهازاً أدواتياً معلوماتياً مفهوماتياً.
وهذا يقتضي أن فعل التجريب النقدي الحقيقي مشروط بحضور الكائن المجرِّب حضوراً عينياً مباشراً, في حضرة النص المجرَّب قراءته, وتجريب قراءته وفق شروط التجريب الخاصة والعامة, في آن معاً, أي وفق نظام دينامي للتجريب النقدي, هو عبارة عن مزيج من الخبرة النقدية الخاصة والعامة.
فالتجريب النقدي إذن عبارة عن خبرة اتصال مباشر بالنص المنقود. أو لنقل إنه خبرة قرائية مشروطة بحضور القارئ/ الناقد في حضرة ثلاثة نصوص على الأقل:
1- في حضرة النص المقروء: الآن/ هنا.
2- وفي حضرة نص القراءة النقدية السابق في الوجود على وجود القارئ الناقد، الإنّي, أي المتحقق الآن/ هنا, لحظة ممارسته فعل القراءة النقدية للنص بمفهومه الأول.
3- وفي حضرة نص القارئ الحلم.
وهذا يقتضي أن التجريب النقدي الحقيقي المنتجَ للمعرفة النقدية الحقيقية بالنصوص لا يقام في الفراغ, ولا ينطلق فيه من منظورات نقدية جاهزة (أكانت خاصة بالناقد أم بغيره) إلا أن يكون الهدف من العملية النقدية برمتها, التعليمَ أو مجردَ نقل المعرفة النقدية الجاهزة إلى الآخرين.
لذلك نقول: إن التجربة, في أبسط معانيها, عبارة عن خبرة خاصة بالأشياء التي نجربها, وهي خبرة نكتسبها خلال علاقتنا المباشرة الخاصة والعامة بتلك الأشياء, نبني نظامها الخاص, ونؤسس خلالها لمنظورنا الخاص. وهو ما يتطلب منا القيام بعملية مراجعة دائمة لأدواتنا وإمكاناتنا (لجهازنا الأدواتي المفهوماتي المعرفي) كلّما شعرنا أنه قد حصل تطور في دلالة تلك الأدوات والمفاهيم التي ينطوي عليها الحقل المعرفي لعملنا, أو أن أيّاً منها قد تعرض لهزات عنيفة أفقدته بعض خصائصه, أو أسقطت عنه بعض عناصره, أو أضافت إليه عناصر جديدة لم تكن له من قبل, أعني كلما شعرنا أنه قد حصل تطور في بنيته، استخداماً ودلالة.
وهذا يقتضي أن التجريب النقدي الحقيقي المنتج للمعرفة النقدية الحقيقية بالنص, لا يكون, في حده الأدنى والضروري إلا:
1- بحضور مجرِّب (بصيغة اسم الفاعل) هو من يمارس فعل التجريب النقدي الذي هو, في سياقنا هذا, القارئ الناقد المستغرق بفعل القراءة النقدية.
2- في حضرة مجرَّب (بصيغة اسم المفعول)؛ أعني في حضرة فعل التجريب القرائي النقدي نفسه بصورة فعلية, بوصفه فعل انفتاح كلي على كلية العوالم النصية المشار إليها آنفاً.
3- وفي حضرة مجرَّب فيه (مادة تجريب). ويتمثل هذا الطرف, بالنسبة للقارئ الناقد, في لغة النصوص المجرب قراءتها, أو في ملفوظاتها الواقعية والممكنة.
4- وفي حضرة نظام التجريب، تجريب القراءة النقدية التجريبية، المتجسد في نص القراءة السابق في الوجود على وجود المجرّب القارئ.
5- إضافة إلى الحضور في حضرة مقصدية القارئ المجرب, بوصفه ما يهدف إليه المجرّب من وراء عملية التجريب النقدي القرائي برمتها (وتتمثل هذه المقصدية في تجسيد نص القراءة النقدية الحلم, أو هكذا يفترض).
وهنا نقول: إن "تجريب القراءة النقدية للنص" يقتضي الاتصال المباشر بالنص, والنظر إليه من ثلاث زوايا رئيسة:
1- من زاوية ما يكونه هذا النص في ذاته أولاً. وهذا يقتضي احترام النص المنقود/ المقروء في ذاته, والاعتراف بحقه في الوجود, كما هو في ذاته, لا كما نحن, أو كما هو في (مرآة) نصوصنا القارئة التي منها ننطلق, وعلى ضوئها نقرأ. ما يحتم علينا محاورته والإصغاء لكلامه, أو لما يقول, وفق نظام القول الداخلي الخاص به, أو الذي ينطوي عليه هو نفسه, وتبادل الكلام معه, في الوقت نفسه, بصورة فورية ديمقراطية متوازنة.
2- ومن زاوية ما يكونه هذا النص (المقروء) في "نقد النصوص" بوصفه نص التبادل النقدي. أي كما هو في نصوص القراءة النقدية السابقة في الوجود على وجودنا القارئ الناقد الإنِّي (المتحقق الآن/ هنا لحظة انفتاحنا على النص وقراءته).
3- ومن زاوية ما يمكن أن يكونه هذا النص (المقروء) في نص الوجود القرائي الممكن. أي كما هو في نص القارئ الحلم الذي يطمح أن تكونه قراءته النقدية التي يؤسس لها, ويطمع أن يجسدها واقعاً معاشاً في حياته الثقافية المستقبلية.
غير أن السؤال الذي يجب علينا إعادة طرحه هنا تأكيداً لما سبق:
لكن ما الذي يجرب القارئ الناقد في الأصل؟ أو بالأحرى: ما الذي على القارئ الناقد أن يجرب؟ وكيف يجرب؟
وهنا يمكن القول: إن ما يجرب القارئ الناقد, هو: لا شيء، سوى فعل القراءة النقدية، بوصفه فعلاً (لغوياً) فاعلاً في نفسه؛ فعلَه فيما هو فعلٌ فيه (في النص المقروء/المنقود) وفيما هو فعلٌ به (في نص القراءة النقدية السابق في الوجود على وجوده الإنيّ) وفيما هو فعلٌ له أو لأجله (في نصنا القارئ الحلم).
على أنه يمكننا, بعد هذا, أن نرصد ثلاث طرق لتجريب فعل القراءة النقدية للنص:
1- طريقة الذهاب←إلى النص (المقروء) وتجريب قراءته كما هو في ذاته, في حضوره العيني المباشر (أي دون تدخل منا أو دون أن نخضعه لشروطنا الخاصة, أو لتحقيق أي مقصدية أخرى تتعلق بنا أو تخصنا, وإن كان هذا لا يمنع, أو يحول بالأحرى, دون خضوعنا وإياه لشروط مقروءاتنا السابقة التي يمليها أو يفرض منطقها وضعنا السسيوثقافي, أو ما نسميه بـ"نص القراءة/ البرمجة» السابق في الوجود على وجودنا القارئ).
على أنه يمكن القول: إن من شأن هذه الطريقة (السلبية) في تجريب قراءة النصوص, أنها لا تضيف شيئاً جديداً إلى النص المقروء, ولا يتولد عنها نص آخر جديد يمكن أن يعتد به في عملية قراءة النصوص. ما يعني أن عملية التجريب القرائي هذه لا تؤسس لنص جديد في قراءة النصوص, أو في تجريب قراءتها؛ بل من شأنها أن تكرس واقع الحال النصوصي كما هو, ولا تعمل على زعزعته سعياً إلى خلق واقع بديل ينهض من أنقاضه.
2- وطريقة الإياب → من النص (المقروء), وتجريب قراءته, كما نحن الآن/ هنا في حضورنا العيني المباشر, أي وفق شروطنا الخاصة في القراءة, أو وفق شروط نصنا القارئ, بوصفه نص القراءة الحلم الذي نتبادل السكنى وإياه, ويحاول كل منا فرض شروطه على الآخر.
3- وطريقة الذهاب ← إلى النص (المقروء) والإياب→ منه, في الوقت نفسه, لتجريب قراءته, كما هو في ذاته, وكما نحن في ذاتنا, في الآن نفسه.
والطريقة الأولى في تجريب فعل قراءة النص هي طريقة السقوط←في عالم النص المقروء, وتجريب قراءته كما هو في ذاته. والثانية هي طريقة التعالي → على النص المقروء, وقراءته كما نحن في ذاتنا. والثالثة هي طريقة العلوّفي النص المقروء, وقراءته كما هو, وكما نحن, في الآن نفسه.
على أن من شأن الطريقة الأولى أنها تقتضي حضورنا في حضرة النص المقروء, كما هو في حضوره العيني المباشر, والاستجابة السلبية لشروطه كاملة. وهذا يقتضي قراءته وفق قواعد القراءة الخاصة به التي يمليها منطق بنائه الداخلي والخارجي. لذلك فهذه القراءة (الحرفية) تصبح بمثابة إعادة إنتاج للنص, لا تضيف إلى النص جديداً, ولا تؤسس لنص جديد في قراءة النصوص؛ لذلك فهي قراءة (عاقر) غير منتجة.
أما الطريقة الثانية فتقتضي استحضار النص المقروء, وجعله حاضراً في حضرتنا كقراء, أو في حضرة نصوصنا القارئة, بحيث يصير (النص) جزءاً من إنيّتنا القرائية, أو من حضورنا الإنّيِّ القرائي, ما يفضي إلى استلابه بشروط قراءتنا الخاصة, أو بشروط نصنا القارئ.
أما الطريقة الثالثة فتقتضي أن نتبادل الحضور بيننا وبين النص الذي نجرب قراءته, بحيث يصير كلّ منا حاضراً في حضرة ذاته, وفي حضرة الآخر, في الوقت نفسه, وهو ما يفضي إلى نوع من القراءة الكلية المركبة (المنتجة) أو المؤسّسة لنص جديد في القراءة النقدية.
لذلك فالطريقة الأولى من شانها أن تسهم في بناء الكينونة الخاصة بالنص المقروء. في حين تسهم الطريقة الثانية في بناء كينونتنا الخاصة (المتعالية على واقع النصوص التي نقرؤها). أما الطريقة الثالثة فمن شأنها أن تسهم في بناء الكينونة الكليّة الخاصة بكلّ من الكائن الناصّ (القارئ) والنص (المقروء) على السواء.
ثلاثة آفاق لتجريب قراءة النصوص إذن: أفق السقوط في عالم التجربة القرائية النقدية, حيث غياب القارئ المجرّب وتبعيته لعناصر العالم النصي التي يجرب قراءتها, وأفق التعالي على عالم التجربة القرائية النقدية, وأفق العلوّ في عالم تلك التجربة وعليه.
وإذا عُلم هذا وتقرر, فإن السؤال الذي علينا طرحه على تجربة النقد العربي المعاصر بمستوييه النظري والتطبيقي، هو: هل انطوت تجربة النقد العربي، في عمومها, على مقومات التجريب النقدي في حدها الأدنى، التي أشرنا إليها آنفاً؟ هل توافر في العنصر الأول، في الفاعل الناقد في هذه التجربة, شرط الفاعلية (أعني شرط التجريب النقدي الحقيقي القائم على الاتصال الحي المباشر بما هو فاعل فيه, وبه, وله أو لأجله)؟ وهل توافر في فعله النقدي التجريبي شرط الفعلية (أعني شرط التأثر وإحداث الأثر في المادة النصية المجرب عليها, على الأقل)؟
وهنا يمكن القول: إن ما نأخذه على نقادنا بعامة, أنهم قد انقسموا في جملتهم -في مسألة التجريب النقدي, وكما سبقت الإشارة- إلى فريقين أو ربما إلى ثلاثة:
- فريق يقول إنه يجرب «نقد النصوص».
- وفريق يقول إنه يجرب «نقد نقد النصوص».
- وفريق ثالث يقول إنه يجرب الاثنين معاً.
على أنه يمكن القول: إن نقادنا العرب قد انقسموا -في الواقع وبحسب ما غلب عليهم– إلى فريقين فقط:
- فريق غلب عليه محاولة تجريب "نقد النصوص".
- وفريق آخر غلب عليه تجريب "نقد نقد النصوص".
ويأتي في طليعة هذا الفريق, على سبيل المثال، الناقد والمفكر السعودي الدكتور عبد الله الغذامي، الذي جرب "نقد النصوص" إضافة إلى "نقد نقد النصوص"، فكان موفقاً أيما توفيق في الأولى, وقد خانه التوفيق في الثانية؛ لا لشيء إلا لأنه قد انطلق في عملية تجريب نقد النقد -كما تجلى ذلك بوضوح في كتابه الفذ: «النقد الثقافي"- من الذاكرة الاصطلاحية (الثقافية) في "نقد الآخر". لقد أراد -كما لاحظنا ذلك في موضع آخر(3)- أن يؤسس لمنهج في "نقد نصوص" الثقافة العربية, ذاكرته, في الجملة, غير عربية؛ فأنت لا يمكن أن تؤسس لمنهج في نقد الثقافة، ثقافة أي أمة من الأمم, ما لم تستند إلى ثقافة تلك الأمة نفسها, أو على الأقل إلى ما أسماه الدكتور الغذامي نفسه بـ"الذاكرة الاصطلاحية" لتلك الأمة.
على أنه بالعودة إلى موقف نقادنا العرب من مسألة التجريب عموماً, نقول: إن ما يجمع بين الفرقاء جميعاً، سواء مَنْ جرّب منهم "نقد النصوص" أم مَنْ جرّب "نقد نقد النصوص"، أن الفريق الأول الذي جرب نقد النصوص، نصوصنا العربية, انطلاقاً مما يكونه النقد في ذاكرة الآخر الاصطلاحية, أي انطلاقاً مما يكونه النقد في"نقد نقد" الآخر لنصوصه المكتوبة بلغته, وليس انطلاقاً مما يكونه النقد في ذاكرتنا الاصطلاحية المجرب فيها ومن خلالها, أو في "نقد نقدنا" نحن؛ فهو يجرب نقد النصوص: نصوصنا (على الأقل كونها قد كتبت بلغتنا) وفق منظور جاهز للتجريب, أو لنقل: وفق منطق التجريب الجاهز عند الآخر (محاكاة تجربة الآخر في نقده/ قراءته لنصوصه).
وهذا يقتضي أن نقاد هذا الاتجاه لم يجربوا "نقد النصوص" في الحقيقة, بل حاكوا تجربة الآخر في "نقده لنصوصه". هذا عن الفريق الأول.
أما الفريق الثاني الذي جرب "نقد نقد النصوص" فحاله لا يختلف كثيراً, في هذه المسألة, عن الفريق الأول, من حيث أنه قد أخذ يجرب "نقد نقدنا" العربي, انطلاقاً من تجربة "نقد نقد الآخر"، أو قل: وفق منظور جاهز لـ"نقد النقد" أخذه عن الآخر. أعني أنه قد أخذ منهج الآخر في "نقد نقده"، جاعلاً منه منهجاً لتجربته في نقد نقدنا العربي, وكأنه بهذا قد أخذ يجرّب ما جرّبه الآخر بأدواته, ووفق منظوراته, وبطريقة التجريب نفسها.
وهذا يعني أن شرط التجريب النقدي الحقيقي منعدم عند الفريقين كليهما. وإذا انعدم شرط التجريب النقدي, انعدم شرط الفهم (العلمي) المجرّب للنقد عند كليهما.
وهذا يعني, في المحصلة النهائية, أن الفريقين لم يجربا النقد على وجه الحقيقة؛ فلا الأول جرب "نقد النصوص"، ولا الثاني جرب "نقد نقد النصوص"، بل كلاهما جرب محاكاة التجريب عند الآخر؛ الأول جرب محاكاة الآخر في "نقد نصوصه"، والثاني جرب محاكاة الآخر في "نقد نقده" لنصوص التجريب النقدي.
وهذا يقتضي أن كليهما لم يفعل -نقدياً- بل انفعل, ولم يشارك في الفعل النقدي بمستوييه: السطحي والعميق، اللغوي والتاريخي, بل استقل بفعله, منفصلاً عن عالم الفعل الحقيقي الفاعل في حياتنا الثقافية والتاريخية على السواء.
د. عبد الواسع الحميري
* عن مجموعة نقد القصة القصيرة