من المعروف في الألوان الأدبية المتميزة درس النقد. وقد عرفناه درسا مهما بالنسبة للأدب والفن العربي حتى أصبح من الدروس المهمة في الدراسات الأكاديمية . ويعتبر النقد هو عملية تقويمية وبنائية تبنى على أسس صحيحة وتشخص النقاط الايجابية والسلبية معا وما يجمع بينهما لكي تكون حصيلة ارفع وأرقى .
وهذا يعتمد بالدرجة الأولى على تقنية الناقد وثقافته النقدية ورصيده الثقافي .
وعندما تتوسع مساحة العطاء سيكون هناك حراك ثقافي أوسع وبالتالي ستتوسع دائرة النقد. وبالتأكيد هذا سيكون بعيدا عن المجاملات والانتماءات . وفي مفاصل الإعلام توجد مرتكزات أساسية تعتمد على مساحة وقائية عالية ودقيقة وتحمل معها قيم إنسانية تتزامن مع مشاعر الجماهير وتتوزع هذه المفاهيم على مستوى المسرح والسينما والبرامج التلفزيونية والإذاعية والمقالات وكل الفنون الإبداعية . ورغم ان الحركة الثقافية تمر خلال هذه الفترة بمنعطفات خطيرة جدا الا ان هناك مصدات حقيقية لابد من الرجوع إليها وهو الجانب الحيادي والاستقلالي لدى الفنان او الأديب او حتى الناقد . ولو ان الأخير أهم من ذلك لان السلاح النقدي لايعرف سوى خطوط ومرتكزات أساسية لاغيرها . كل ذلك يحتاج الى فهم واضح ورؤية واضحة حتى في التفسير للمادة النقدية . وهنا لابد من التعامل مع المنتوج الفني او الأدبي بتوازنات دقيقة ومعلومة واضحة . وما يحدث اليوم للدراما العراقية هو هجوم لتدمير ماكينة الإنتاج الفني والأدبي حيث تكون المحصلة هو الشهرة في السلبي او الايجابي وهذا يشكل خطرا على رصيد الثقافة والأدب والفنون العراقية ويبدو ان المسابقات الإعلامية في مجال الإنتاج لايهمها سوى الكم الهائل دون الاعتماد على نتائج هذه الممارسات حتى أصبح التلكأ واضح للدراما والابتعاد عن النصوص الاجتماعية الواقعية وبالتالي تكون النتيجة هي الوقوع في منعطفات وعرة . ومن المستغرب ان هذا النوع من الفنون الادبية لم ياخذ مساحته الحقيقية حتى في المواد التدريسية باعتباره من الارث الأدبي المعتمد في تقييم وتشخيص مواطن القوة والضعف في المنتوج الثقافي والأدبي
وللتخلص من التخبط الحاصل يتطلب تحديد نوع المسار النقدي للمؤسسات الادبية لكي لايصبح خلط بين ثقافة الوهم وثقافة الانتماء الوطني والتخلص من النظرة الضيقة وان لاتبنى الثقافة على أساس غير موضوعي ويتحدد مسار التغيير باتجاه ثقافة نابعة من واقع معين.رغم ان الثقافة السطحية تشكل جانب مهم في تدمير الممارسات الحياتية العامة لأنها تحمل مخلفات وتراكمات الأنظمة السابقة وهنا لابد من تحديث مرتكزات وخطوط بيانية حديثة لغرض وضوح الرؤية في مسار الثقافة السائدة والابتعاد عن السطحية في ممارسة هذا الجانب . وقد يتغيب الجانب الأكاديمي في تعزيز وتغذية الدروس الأساسية في النقد وبالتالي يسودها العقم الثقافي في تطوير وتأهيل الفرد في المشاركة الميدانية في الحياة العامة . ولو اخذنا في نظر الاعتبار الإنتاج التلفزيوني الحالي والسينما العراقية في الوقت الحاضر ونعمل مقارنة بين انتاج الأمس وإنتاج اليوم وبغض النظر عن محتوى المنتوج الفني لوجدنا ان هناك فوارق كبيرة في تقنية المنتج رغم التطورات التي حصلت والدعم الموجود في الوقت الحاضر وبالتالي نجد ان هناك جانب جدي في اختيار القضية المراد تبيانها . كما يبدو ان هناك عد تنازلي في مستوى الدراما والإبداع . هذا جانب ومن جانب آخر فقد كانت هناك مبادرات فنية ذات إمكانية عالية تدعم عملية الإنتاج وبالتالي هناك مساحة واسعة للنقد لهذا المنتوج او ذاك . لذا نأمل أن يكون موقف واضح من السياسة النقدية أو آلية استخدام النقد على الطريقة السليمة .
العودة إلى أصول النقد الأدبي
أ. د .الياس خلف
من موقع ملتقى الثقافة العربية
لو نظرنا في الدراسات النقدية الأدبية لوجدنا أن النص الأدبي المبدع أخذ يعاني تحت نير آراء النقّاد والدارسين، التي تبعدنا عن روح النص وجوهره ، فالعديد منهم يقحمون آراءهم على النص فيجعلونه وعاءً يكتنف نظراتهم دون الاعتماد على أمثلة وشواهد مقنعة. ولكن بداية أود النظر في طبيعة النقد الأدبي وماهيته بوصفه علماً من العلوم الإنسانية تنحدر كلمة النقد criticism من الفعل اليوناني krinein ومعناه في الأصل الحكم أو التفكير «١» وعليه يمكننا تعريف جوهر النقد على النحو الآتي: يقوم جوهر النقد الأدبي أولاً على الكشف عن جوانب النضج الفني في النتاج الأدبي وتمييزها مما سواها عن طريق الشرح والتعليل ثم يأتي بعد ذلك الحكم العام عليها «٢». ويؤكد الدكتور محمد غنيمي هلال، وهو أستاذ النقد والأدب المقارن بجامعة القاهرة أن أنسب المعاني الذي أخذ عنها النقد الأدبي في العربية هو تمييز جيد العملة الفضية أو الذهبية من زائفها ، ممايستلزم الخبرة والفكر ثم الحكم «٣». إذن فعملية النقد هي عملية تذوق وتفهم للأثر الأدبي ، وأقدم صورة للنقد الأدبي نقد الكاتب أو الشاعر لما ينتجه- ساعة خلقه لعمله- يعتمد في ذلك دربة ومران وسعة اطلاع. وتقتصر أهمية هذا النوع من النقد في تقاليد التمهيد والمقدمة أو التوطئة التي تسبق الأثر الأدبي، فالتمهيد في مسرحية «الدكتور فاوستس» للشاعر والمسرحي البريطاني كريستوفر مارلو يوجه القراء أو المشاهدين نحو السبيل الأمثل لمتابعة أحداث التراجيديا المذكورة. يقول التمهيد: انظروا إلى فاوستس: لقد حاول قصارى جهوده لينال معرفة تفوق مقدرات البشر ، فلجأ إلى السحر، فعاقبه الله على ذنبه هذا «٤»لأن الله عز وجل وحده يحيي ويميت. تكتنف كلمات التمهيد رسالة المسرحية التعليمية والتوجيهية، وبهذا يضع مارلو بذور النقد الأدبي لهذه المأساة ، على ضوء هذه الرسالة التوجيهية يمكننا النظر في التقنيات الدرامية التي يوظفها مارلو من أجل ترسيخ هذه الرسالة. تشكل الرسالة المضمون وأما التقنياتالدرامية فهي الشكل أو الأسلوب ، ومهمة الناقد الرئيسية هي النظر في التكامل مابين الشكل والمضمون ، أو المبنى والمعنى كما يؤكد الدارسون. ولو تتبعنا رسالة الأدب التعليمية عبر العصور لوجدنا أنها تشكل محور اهتمام الأدباء والنقاد ، فالفيلسوف الإغريقي أفلاطون أكد مهمة الأدب الأساسية ، التي ترتكز على أثره الأخلاقي ، أي التربوي والتعليمي ، وتجدر الإشارة هنا إلى أن أفلاطون لم يكن معادياً للشعراء جميعهم، لقد طرد من جمهوريته الفاضلة الشعراء الذين انحرفوا عن رسالة الشعراء التي تنحصر في مديح الآلهة وتشجيع التمسك بالفضائل والحث على الابتعاد عن الأفعال المشينة «٥». ومن خلال هذا الموقف تجاه الشعراء ، نرى أفلاطون بصفته ناقداً يوجّه الشعراء والأدباء إلى جوهر الأدب ورسالته التثقيفية . وجاء الفيلسوف الإغريقي أرسطو فأرسى مبادئه النقدية في كتابه الشهير «فن الشعرpoetics» الذي يعد بمنزلة الفيصل فيميدان النقد الأدبي، وأكد أرسطو أثر الشعر المأساوي الذي يتجلى في تحذير القرّاء وتوجيههم نحو جادة السلوك والصواب، فالتراجيديا لديه وعاء فني يحمل رسالة نبيلة ، إنها رسالة التوجيه والابتعاد عن الذنوب والأخطاء التي ارتكبها بطل المأساة في حياته ، فمسرحية أوديب المأساوية ، على سبيل المثال، رحلة فنية في ذهن بطلها حيث نرى اضطراباته قبيل وبعد مافعل ، وتخلص المسرحية إلى تكريس موعظتها الأخلاقية التي تكمن في ضرورة إطاعة الآلهة والابتعاد عن التفكير في عصيان أوامرهم«٦». وأما الناقد الروماني اللاتيني هوراس، الذي عاش أيضاً في مرحلة ماقبل ميلاد سيدنا عيسى المسيح «عليه السلام»، فقد صاغ آراءه النقدية في كتابه المعروف، بـ «في فن الشعر» الذي كتبه على شكل رسالة شعرية تتضمن مقومات الشعر والأدب بصورة عامة، وعلى غرار أفلاطون وأرسطو ، يقوم هوراس ، الذي كان شاعراً ممارساً ، بإرساء قواعد الشعر الذي ينبغي أن يستمد من واقع الحياة الحقيقية وغاية الأدب، لدى هوراس ، تتمثل في منح الفائدة والمتعة، والمتعة مقرونة بمبادئ حياتية نافعة، وهذه المبادئ ما هي إلا دروس في الأخلاق والسلوك القويم «٧». والأدب ماتع لكنه ليس مجرد متعة فحسب ، إنه وعاء فني يحقق التناسب والانسجام بين الشكل والأسلوب والمضمون . وجاء الناقد الروماني اللاتيني لونجينوس في أعقاب هوراس، فأكد في كتابه الموسوم بـ «في السمو» على رسالة الأدب السامية والفاضلة ، ويرى أن الشاعر أو الأديب يساعدنا على السمو بأحاسيسنا عبر موضوعاته الإنسانية التي تتخطى حدود الزمان والمكان والحواجز الإثنية والدينية والإيديولوجية وتتبدى هذه الموضوعات الإنسانية التي تتخطى حدود الزمان والمكان والحواجز الإثنية والدينية والإيديولوجية وتتبدى هذه الموضوعات الإنسانية في قضية الحياة والموت والفضائل والسلوك الحسن «٨». وانتعش النقد الأدبي بحلول عصر النهضة الأوربية فبرزت أعمال كل من دانتي وبوكاشيو الإيطاليين اللذين كتبا أعمالاً تجسد بحث النفس عن الخلاص. فالملهاة الإلهية ما هي إلا رحلة نحو ملكوت الله، الأمر الذي يعزز أثرها التوجيهي والتربوي. وهذا ما صاغه الناقد الإنكليزي السير فيليب سيدني في كتابه الشهير «اعتذار من أجل الشعر» حيث أعاد صياغة آراء أفلاطون وأرسطو وهوراس في الشعر وأثره التثقيفي، ألف سيدني كتابه النقدي هذا رداً على عمل يهاجم الشعر والمسرح لـ ستيفن غوسون الذي انتقص من أهمية الشعر إذ رأى فيه عبثاً تافهاً ولهواًخطيراً «٩». ويؤكد سيدني أن خاتمة التعلم الدنيوي كله هي العمل الفاضل، وأن الشعر يعرض مشهداً فاتناً يغري كل فرد بالمضي فيه، وبهذا يبعد الشعر المرء عن المفاسد ويحول عقله من الرذيلة إلى الفضيلة، وتبرز ملحمته الشعرية «أركاديا» في النظر الفاحص بمنزلة العمل الأدبي الذي وضع نصب عينيه مسألة والوعظ الأخلاقي، فهي دعوة موجهة للقرّاء لكي يتمسّكوا بالفضائل فيبنون جميعاً أسس العالم الفاضل الذي حلم به أفلاطون وسائر الفلاسفة من بعده. ونظر سيدني إلى المأساة بوصفها عملاً فنياً يقوم على التوجيه التربوي فهي مليئة بالتحذيرات المخصصة للقرّاء والمشاهدين لكي يتعلموا من أخطاء البطل الذي ينال عقابه إثر ارتكابه الذنوب الكثيرة «١٠» وأما الشاعر الانكليزي جون ميلتون فقد دافع دفاعاً مريراً عن الشعر خلال فترة حكم كرمويل لإنكلترا ،حيث انصبت الهجمات البيوريتانية المتشددة على الأدب «وخصوصاًَ المسرح» ووقف ضد الاتهامات أن معظم الأدب كان إما عبثياً أو لا أخلاقياً أو منحازاً ضمناًللعرش الملكي ومتعاطفاً معه، وأيد ميلتون فكرة أن الشعر يكون أخلاقياً صارماً إذا اعتمد على الكتاب المقدس وعشق الحرية، وكتب بأسلوب جميل، وابتعد عن طغيان الملوك وفجور الرعاع، وكان وطنياً في احتفائه بتقدم أمة تقية تتمسك بشريعة الله تبارك وتعالى. وأكد الشاعر والكاتب المسرحي جون درايدن الجانب التعليمي للأدب ورأى فيه مرآة لطموح الإنسانية نحو عالم الخير والحق والجمال، ذلك العالم الطوباوي الذي حلمت به الإنسانية وما تزال تطمع لإرساء قواعده. ويدافع جون درايدن عن أعمال شكسبير فيرى فيها مقومات الأدب الصحيح: فهي تضم الموعظة الحسنة وتعزف أعذب الألحان وهنا يحقق الشكل والمضمون أسمى التناغم و التناسب ، وشكسبير يمسك قيثارته ليصوغ ألحاناً تهدي البشرية إلى جادة الصواب وترشد المخطئين وتعيدهم إلى سبيل الحق، ويرى درايدن في شكسبير النموذج الأمثل للأديب فهو بمنزلة هوميروس الإغريقي الكلاسيكي الذي خط ملحمتين الأولى «الإلياذة» والثانية «الأوديسة» وهاتان الملحمتان عملان نقديان بمعنى أنهما تظهران هوميروس بمنزلة المعلم والموجه الذي يبذل قصارى جهوده الشعريةوالنقدية بغية إرشاد القرّاء في التشبث بأولويات الحياة البشرية التي تتمثل في إطاعة الآلهة إطاعة تامة، فطاعتهم فوز وعصيانهم كفر «١١». وأما الشاعر الكلاسيكي المحدث ألكسندر بوب فقد صاغ آراءه النقدية ضمن قالب شعري رقيق فدعا إلى الوحدة العضوية في القصيدة، أي وحدة الشكل والمضمون أو المبنى والمعنى. فالقصيدة البطولية ينبغي أن تترعرع في ظلال صنعة فنية جميلة، وتتمثل هذه الصنعة في انتقاء قافية موسيقية جميلة، وكلمات موحية على نحو ماتع ، وبهذا تتجلى روعة تطابق القالب والمحتوى في أسمى وأبهى صورها «١٢». والنقد بالنسبة إلى الناقد الإنكليزي جوزيف أديسون «١٦٧٢-١٧١٩» هو ممارسة عملية أو تطبيقية ، وبهذا يبتعد عن آراء سيدني ودرايدن وبوب الذين يفترضون أن القرّاء ، من حيث الإمكانية على الأقل ، يدركون أن النقد هو عمل يرشد إلى سبيل الخير والفلاح، يؤكد أديسون أن على القارئ أن يحصل علىملكة النقد التي تجني من خلال الاطلاع الواسع على أمهات القصائد والمسرحيات الإنسانية وتذوقها على نحو سامٍ ورفيع ، فالأدب لايظهر من فراغ ، الأدب امتداد واستمرار لطموح الإنسانية إلى يوتوبيا السعادة البشرية حيث يعم الحب والجمال والخير والعدل «١٣». ويؤكد الناقد الدكتور صموئيل جونسن ١٧٠٩-١٧٨٤ أن على الأديب أن يعكس صورة أمينة للسلوك البشري والحياة الحقيقية ، ويرى أن عظمة أدب شكسبير تكمن في هذه المسألة ، وبهذا يصبح الأدب المسرحي الشكسبيري نموذجاً عاماً فيتخطى الحدود الجغرافية والزمانية والعرقية ويتبوأ منزلة عالية في الأدب العالمي لأنه لا يمثل أفراداً بل يرمز إلى البشرية قاطبة. ويرى جونسن أن على الأديب أن ينظر في الحياة نظرة مليئة بالعمق والشمولية ليقدم صورة صادقة ورؤية حقيقية تبتعدان عن السطحية والتحيّز أو القصور ، فالأديب رسول المحبة والخير وصوته صوت الحق لذا عليه أن يتأمل في القضايا التي تشغل اهتمامه تأملاً ينم عن انتباه دقيق للتفاصيل التي تشكل كلاً لايتجزأ «١٤».
النقد الأدبي الحديث وخطاب التنظير
الدكتور عبد الإله الصائغ
كان اليونانيون سبّاقين إلى تقبل فكرة النقد الأدبي بسبب من اهتمامهم بالفلسفة وبلوغهم شأواً بعيداً في الوعي الابستمولوجي، ولكن الثابت تاريخياً أن هناك مرحلة نقدية بسيطة سبقت عصر النقد اليوناني القار؛ وهذه المرحلة تجلو لنا النقد بهيئة تقنية يعرفها الشعراء الذين أخضعوا قصائدهم للحذف والتعديل ويمتحنون إيقاعاتها وفق المقامات الشفاهية المتوارثة لديهم، وإلا كيف نفسر نضج أعمال هوميروس الأدبية من نحو الإلياذة والأوديسة لو لم يكن هذان العملان مثلاً مسبوقين بتجارب نقدية مهمة تعتمد الخطأ والصواب وذائقة الجمهور،… وكان ظهور طبقة الرواة نقلة مهمة في اتضاح الأفكار النقدية البسيطة؛ فالراوي أساساً رجل موثوق به من جهة الشاعر أو الناثر الفني أو الجمهور، الراوي ذو ذائقة متميزة وذكاء حاد؛ فكان يعدّل النص ويعرضه على الشاعر فيرضى الشاعر ويثني عليه، ولسان حال الشاعر يقول ما قاله المتنبي في راويته وناقده ابن جني (أين صاحبي ابن جني فهو أعلم بشعري مني)!!.. ويجيء القرن السادس ق.م فيظهر الشعر التمثيلي، ضرباً يتطلب خبرة واسعة عميقة في صياغة النص ويستدعي التعامل مع مبادئ نقدية ترقى إلى تقاعيد وتقاليد يتبعها المبدع حين ينتج شعره التمثيلي ليرضى عنه الناقد وجمهوره، وصحب ذلك مسابقات بين الشعراء، وكل عمل مسرحي شعري أو قراءة شعرية كانت تقوّم مباشرة من قبل جمهور الحاضرين، فالجمهور حين يأنس للعمل الأدبي أو الفني يصفق طرباً ويرقص فرحاً وينثر الورد على الممثلين أو الشاعر، وحين يستاء يصفّر ويقذف الممثلين أو الشاعر بالبيض أو الطماطم، فضلاً عن وجود لجنة معترف بها تبدي رأيها بما شاهدت أو سمعت، فإذا قبلته الجماهير قدمت الهدايا للشاعر حالة الاستحسان أو حجبتها عن الشاعر حالة الاستياء!! فإذا رفض الشاعر آراء اللجنة وتعاطف الجمهور مع رفضه عرضت قرارات اللجنة للاقتراع .
وقد فعل هذا النقد فعله في صياغة النص وتعاطف الجمهور معه رغم بدائية هذا النقد وبدائية وسائله، ويكفي النقد أثراً أنه جعل الشعراء يلتفتون إلى الأرض والناس بعد أن تعلقت عيونهم بالسماء والآلهة، واهتموا بالطبقات الوسطى وهم الأكثرون بعد أن كانوا حريصين على الكتابة للصفوة والنخبة؛ ورصد منتجو الشعر التمثيلي حياة الناس فنقدوها ونقدوا الأساليب السياسية معها فكانت الملهاة عند أرسطو فانيس (448ق.م-380) الذي أثار مشكلة القدامة والحداثة في مسرحية (الضفادع) التي وصف فيها الشاعر اسخيلوس بأنه رمز للقديم!! وشاعر المأساة يوربيدس بأنه رمز للحديث؛ والمسرحية تصف ببراعة رحلة ديونسيوس إله المسرح إلى الدار الآخرة وخلال عبوره نهر العالم الآخر كانت جوقة الضفادع تناغم نقيقها مع ضربات المجاذيف في الماء بما شكل أغنية الطبيعة بعدها تبدأ مناظرة في العالم السفلي بين يوربيدس واسخيلوس تنتهي بهزيمة يوربيدس ليقتنع ديونيوس بأن اسخيلوس أجدر منه بالنقد الاجتماعي فيصادقه ويصطحبه معه إلى العالم الأرضي ليرشد بمسرحياته الاثينيين حتى يتطهروا من الضلال . لقد كان ظهور السوفسطائيين عاملاً مهماً في شيوع فن المناظرة والنقد والبحث عن المسوّغات إذ جرّح هؤلاء معظم القناعات القارة لأنهم يعتمدون المغالطة والمكر الكلامي وفق مخطط يعدونه مسبقاً يوازن بين قدرات السوفسطائي وقدرات غريمه، إنهم يختطفون النص ويغيرون مساره ويحولون القواعد الخاصة بظاهرة ما إلى ظاهرة أخرى!! وكان أهل السفسطة أول عهدهم معلمين جوالين نشروا المعرفة والفنون البلاغية بين الناس لكن سقراط وتلميذه أفلاطون هاجما اطروحاتهم التي كرست فكرة الجدل والمكر الكلامي قبل فكرة البحث عن الحقيقة!! بيد أن السوفسطائيين أسهموا في الوعي النقدي بين اليونانيين قبل سطوع نجمي سقراط وأفلاطون، بل إن محاولاتهم في النقد والأدب واللغة كانت (معيناً خصباً لبحوث أفلاطون وأرسطو في النقد) . وكانت آراء سقراط غير المدونة عوناً للنقاد اليونانيين فيما بعد وبخاصة لتلميذه الدؤوب أفلاطون، حتى قيل ان آراء الأستاذ والتلميذ قد اختلطت ولم يعد ممكناً الفصل بينهما!! وقد تميز أفلاطون (428ق.م-347ق.م) فأسس منهجاً علمياً للنقد ودعا إلى المثالية الموضوعية التي ترى أن الروح جوهر والمادة عرض! وهذه المثالية مختلفة عن المثالية الذاتية وبات كتابه (الجمهورية الفاضلة) مصدراً مهماً لآرائه في الشعر والنقد والمحاكاة ومحاكاة المحاكاة، فالحوار الذي اجترحه أفلاطون بين المنشد أيون وأستاذه سقراط يعطي انطباعاً واضحاً عن المشهد النقدي الذي ساد عهد ذاك وكان من بين ما أثاره الحوار: هل الشعر فن أم إلهام؟ وهل ثمة فرق بين مرجعيتي الشاعر والناقد وحرفتيهما وهدفيهما؟؟؟ فضلاً عن رؤية أفلاطون التي تؤسس دوراً محدوداً للمنشد، فهو (المنشد) حين ينشد شعر هوميروس مثلاً ويفسره إنما يعتمد على ذائقته وخبرته ولا يعتمد على القواعد النقدية أو المنطقية بسبب تماهيه مع النص إلى الحد الذي يغيب فيه عن شعوره لحظة الإنشاد أو الشرح، والشاعر أدرى بالحياة من الناقد، فالشاعر يأخذ خبرته من الحياة والناقد يضيع خبرته في النقد، ودليل ذلك هوميروس الذي تجلوه كتابة الإلياذة خبيراً بالطب والصيد وقيادة الجيش وعواطف العشاق ومشاعر القتلة بينا يكون المنشد والناقد مفتقداً لمثل هذه الخبرات المهمة. وكانت نظرة أفلاطون للمحاكاة عهداً نقدياً جديداً في حياة اليونان بعد أن مهد لهذا العهد سقراط الذي نظر إلى المحاكاة بشكل مختلف فأفلاطون يميز الحقيقة عن صورتها والجوهر عن العرض، إذ الوجود جوهر والمحاكاة عرض وانعكاس له، فهي (المحاكاة) لا تغني عنه ولا تحل محله، لأن عالم المثل عصي على عالم الحواس والمشاعر. والمحاكون إزاء المثل يشبهون أناساً يجلسون في سرداب وظهورهم باتجاه فتحة ضيقة منه وثمة نار مشبوبة، فهم يرون أشباحهم على الحائط وهي تتحرك بالانعكاس أي أنهم يرون أشباحهم المنعكسة عن المثال ولا يرون المثال!! وهكذا يكون الشاعر (أو الفنان) مسهماً في التضليل حين يبعد الجوهر عن العرض، فإذا وصف الشاعر امرأة جميلة واقفة أمامه فإن وصفه لها بمثابة مرحلة ثالثة من الوجود؛ ثمة أولاً فكرة شكل المرأة كما أرادها الله وثانياً المرأة المجسدة (كسر السين) لتلك الفكرة وثمة وصف الشاعر، فالوصف لا يحاكي الفكرة ولا تجسيدها وإنما يكون وصف الشاعر مثابة لمحاكاة المحاكاة! إذن الشاعر والفنان ليسا خالقين وإنما هما مقلدان!! وثمة مثال آخر موضح لفكرة أفلاطون عن المحاكاة.. الكرسي يمتلك صورة عند الله وصورة عند النجار والصورة الثالثة عند الشاعر! وهكذا يكون الشاعر عند أفلاطون أقل مرتبة من الصانع (النجار) وذلك ما يفسر استغناء جمهورية أفلاطون عن الشاعر والفنان .
بواكير النقد الأدبي العربي:-
مر بنا مطلع هذا المبحث عثور المنقبين في وادي الرافدين على نسخ مختلفة لملاحم (حينما في العلى) و (جلجامش) و(تموز) ولاحظ المنقبون الاختلاف الواضح لنسخ كل ملحمة من هذه الملاحم مما عزز الرأي القائل أن الشاعر أو الناسخ كان يجري التعديلات على النص الأصلي طمعاً في إرضاء ذائقة الجمهور وتسويق تلك النسخ، وهذه التعديلات لابد أن تكون قائمة على عدد من القواعد النقدية مهما قللنا من وعيها ونضجها والبابليون عرب هاجروا الجزيرة بعد الجفاف الذي داهم الجزيرة العربية وطابت لهم الإقامة في العراق حيث الماء والخضرة والاستقرار. وقد ضاعت النصوص الشعرية والنقدية التي تمتد من القرن 25ق.م حتى القرنين السابقين للهجرة النبوية الشريفة ومثل هذا الضياع العجيب خسارة فادحة للمشتغلين بالأدب العربي ونقده ومازال الأمل معقوداً على التنقيبات الهميمة في شمال شبه الجزيرة العربية وجنوبها. لكن العينات التي بين أيدينا وهي لن تتجاوز القرنين السابقين على الهجرة يمكن أن تكون لدى الباحث فكرة مناسبة عن طبائع النقد الجاهلي وأصوله!! فقد وجد مبدع النص الأدبي القبسلامي عدداً من خيارات كتابة النص مثل الطين المشوي ورقّ الغزال وخشب الرحل والعظام المصقولة والقماش وعسب النخل…الخ؛ وكانت السكين أداة المحو لديه في حالات التحكيك (تعديل النص)، ألم ينقل عن المزني زهير بن أبي سُلمى: خير الشعر الحولي المحكك؟! ألم يقسم الجاهليون أدبهم إلى شعر ونثر ثم ميزوا نمطين من الشعر: مطبوع ومصنوع كما ميزوا نمطين من النثر: فني وسوقي!! وكانت هذه التقسيمات إشارة نابهة إلى الوعي المستجد في تقويم الأدب وتقسيمه وترسيم حدوده وبما يعزز الاتجاه النقدي عهد ذاك.
وشهد النقد الأدبي مرحلة نقدية متطورة وهي المرحلة التي اتخذت من الصورة الفنية معياراً نقدياً، المعيار الذي اعتمده عدد من النقاد الجاهليين في يثرب ومكة وعكاظ وذي مجنة وعدن أبين والحيرة.. جاء في طليعتهم النابغة الذبياني وأم جندب . وسنتلبث عند هذا البواكير في الفصل الرابع (المبحث الثاني) الخاص بالنـزعات الأدبية العربية وبسؤال النظرية النقدية العربية.
* دلالات المصطلح:
يحاول هذا المبحث التلبث عند عددٍ من الصيغ التي تتصل بكتابنا هذا من نحو مصطلح
-أدب-أدبية-شعرية-نقد-حديث-منهج-تماه-انزياح-تراسل-صورة-...الخ. ومن ثم معرفة مكونات الأديب.
المصطلح: كلمة والكلمة حاصل جمع عدد من الحروف تؤدي معنى أولا تؤدي! وهي أيضاً طاقة لا تفنى ولا تستحدث ويتعين على المتصرف بها معرفة طبائعها وأصولها وفروعها. فقد تنسحب كلمة إلى العتمة وتنعم أخرى بالضوء وفق قانون الاستعمال والإهمال، لأن اللغة كائن حي ينمو ويتطور ويضمر بيد أنه لايموت وإنما يرقّن حين يدب الانحلال والتشرذم في جسده! إن للكلمة ثلاث دلالات يمكن استنباطها من جهة استقراء تاريخ مسيرتها أو مسيرة تاريخها، فالدلالة الأولى تعتمد مرجعية اللغة مظنة لها وتسمى الدلالة اللغوية، والدلالة الأخرى مظنتها مرجعية وضعية اتفق المشتغلون بها عليها!! وتظل الدلالة الثالثة الأخيرة مقترنة برؤية الباحث الخاصة وطبيعة شغله ومنهجه وهمومه وتسمى الدلالة التأسيسية، قارن الدلالات الثلاث:
1- دلالة لغوية (معجمية قاموسية). 2- دلالة اصطلاحية(تواضعية اجتماعية). 3- دلالة تأسيسية (ذاتية تتصل بقناعة الباحث ومنهجه). إن الجدل بالعلة والمعلول قائم بين هذه الدلالات، إذ لا يمكن لقنوات التواصل بين هذه الدلالات أن تنقطع؛ ثمة تأويل دائم وتوجيه دائب يحيلان على المعاني المشتركة بين الدلالات وإن بدا الأمر للوهلة الأولى مختلفاً.. هاكم أمثال معززة تتمحور حول (أسلم-كفر-عقل). 1- أسلم لغــة ذل وخضع.
اصطلاحاً ç صار مسلماً.
تأسيسـاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر.
2- كفر لغــة ستر وغطّى وحرث
اصطلاحاً لم يؤمن بالوحدانية أو النبوة أو الشريعة أو بثلاثتها.
تأسيساً ضل السبيل القويم.
3- عقل لغــة شد الشيء بالحبل.
اصطلاحاً أدرك المقصود..
تأسيساً تجنب الهدر في التفكير والطاقة والزمن.
الأدب والأدبية والشعرية: يمثل الأدب في حاضنة اللغة آفاقاً شاسعة ويتوفّر على دلالات كثيرة العدد والوجوه، أهمها الرياضة والطعام والاعتياد والمعرفة العامة والمروءة والتعليم والأعراف والمجازاة . وإذا كانت مفردة (أدب) متقلبة في حاضنة اللغة فهي كذلك في الاصطلاح!! ويبدو الاختلاف جلياً حتى الآن على دلالاتها ووظائفها، إذ تضمنت علوم الأدب عند أجدادنا اللغة والصرف والاشتقاق والنحو والمعاني والبيان والبديع والعروض والقافية والخط والإنشاء! ولم يختلف الأمر كثيراً عند الخلف، فما زال الاشتباك متصلاً حتى الآن بين علوم اللغة والدين والآداب، وهذه أقسام اللغة العربية في كليات الآداب والتربية واللغات في الوطن العربي معنية بمفردات هذه العلوم، بل أضيف إليها تعلّم لغة غربية أو شرقية فضلاً عن درس الفلسفة، وأي غضاضة في الأمر؟ فالأديب معني أكثر من سواه بالجانب المعرفي وهو يخدم توجهه الأدبي والابستمولوجي ويعمّق تجربته ويصقل موهبته، وتظل هذه العلوم علوماً مساعدة وليست أدباً بأي تسويغ!! والأدب الخالص هو المعاني الجميلة المؤثرة في عواطف المتلقي وذائقته مصاغة بأسلوب متميز بجاذبيته ورقته؛ وقولنا المعاني الجميلة لا ينصرف إلى الفهم السائد للجمال، فقد يجد المتلقي جمالاً في النص الأدبي، وهو يتحدث عن الدمار في هيروشيما وناكازاكي أو مذبحة قانا!! والجمال متأت من رفض القبح والقتل بتصويرهما فنياً وتسليط الأضواء الكاشفة عليهما؛ متأت من تغنّي النص بقيم الإنسان العصي على الاتّساخ والاستسلام!! المعاني الجميلة ليست وفقاً على تصوير الفتاة الجذابة والبحر الغامض والفرح العابر، بل هو (الجمال) كامن في سويداء الأشياء والنفوس الجميلة تعرف كيف تتعامل مع الجمالين: الظاهر والباطن قارن مقولة عمرو بن معديكرب:
فاختر وإن أرديت بُرداًومناقبٌ أورثن مجداً ليس الجمال بمئزرٍ إن الجمال معادنٌ
ومقولة إيليا أبو ماضي:
لا يرى في الحياة شيئاً جميلا والذي نفسه بغير جمال
إذن: الجمال الأدبي قد يخرج من بؤرة الشيء إلى طريقة النظر إليه وأسلوب تناوله والتعامل معه!! جمال الأسلوب ليس في موضوعه أو تنميقه حسب؛ وإنما هو متجلّ في الابتكار والجدة وصدق التجربة وعمق المكابدة بما يعزز حضور النص في الوجدان ويعمق حب الحياة ويعضد قيمها النبيلة المغيبة ويجذر الإيمان بالله، مبدع السماوات والأرض ويجنبنا العَمَه والتطرف والانغلاق.
*الأدبية: مصطلح جديد وفق حدوده التي وصلتنا، ويعني الصفة التي يكتسبها النص المتحول (كسر الواو المشددة) من حالة السكون واللا أدب إلى الأدب (لأن الأدبية إذا توافرت في نص ما اغتدى أدبياً) .
*الشعرية: هي بؤرة الجمال في النص أو المسمع أو الملمس فالشعرية هي (السحر الحلال) الذي يحيل الكلام الاعتيادي استثنائياً والهم المألوف جديداً، فهي توحد بيننا وبين النص حتى كأننا ونحن نقرأ النص منتجوه، ونحن نشهد المنظر صانعوه؛ وكل شعر محروم من الشعرية افتقد سيماء جنسه وحل في النثرية وإن قالت قشرته أو بنيته الخارجية غير ذلك، والمهم جداً في هذا الميدان هو أن الشعرية غير مقصورة على ظاهرة واحدة أو سمة واحدة؛ وإنما هي كل الظواهر ومزاج السمات. وعليه فالشعرية ليست قرينة الشعر حسب، فربما امتدت إلى اللوحة التشكيلية والقطعة الموسيقية وعروض الأزياء وهندسة العمارة ونبرة الصوت وملامح الوجه وحركة اليد وطيبة القلب!! إنها بؤرة الجمال في الموضوع.. رب شعر بلا شعرية مثل ألفية ابن مالك أو أي قصيدة حذقت النظم ولم تحذق الجمال!! قارن قول ابن جحدر:
شمرجلة خلقها سيظمبها من وحي الجن زيزيم!! حلفت بما أرقلت حوله وما شبرقت من تنوفية ورب شعرية بلا شعر.. مثل شمعة وسط ظلام دامس وموجة وسط بحر ساكن وقطرة طل على تويج زهرة…الخ .
النقد: تتوفر مادة (نقد) في المعجمات اللغوية على معانِ مؤتلفة مرة، مختلفة أخرى وللدارس أن يميز ميزانين لهذه المادة: الأول يعتمد نصب القاف في (نقد) والآخر يعتمد كسرها؛ ولكل ميزان إحالاته الدلالية..
أ- نَقَد (فتح القاف) نقد العينة اختبرها وميز جيدها من رديئها، ونقد الطائر الفخ توجس خيفة منه فاختبره حذراً؛ ونقد الصيرفي الدرهم نقداً وتنقاداً نقرها؛ ووضعها بين السبابة والإبهام ليمتحن الأصيل والزائف والجيد والرديء؛ ونقدت الأفعى زيداً لدغته؛ ونقد عمرو زيداً اختلس النظر نحوه حتى لا يفطن إليه؛ ونقد فلان الدراهم نقداً وتنقاداً أعطاها للبائع معجلاً؛ فالنقد في البيع خلاف النسيئة وانتقد بابها نصر.
ب- ب- نَقِد: (كسر القاف) ç نقد الطعام نقداً وقع فيه الفساد؛ ونقد الضرس أو الحافر تآكل وتكسر؛ ونقد الجذع أكلته الأرضة فهو جذع نقد (كسر القاف) ونقد (فتحها)! ونقد الحافر تقشر، والمعاني (أ.ب) تكوّن فكرة عن دلالات هذه المادة؛ فإذا تناقد القوم تناقشوا والحصيلة هي حالتان: حالة المنقود أن يعرض على الناقد؛ وحالة الناقد أن يتفحص المنقود! ولابد والحال هذه أن يكون المنقود على صورتين: الأولى صحيحة والأخرى عليلة. وللمتفحّص أن يلاحظ أيّ الصورتين ميّزت المنقود؟ ولم ترد نقد في القرآن الكريم بأي من دلالاتها لكنها وردت في الشعر الجاهلي كثيراً وفق مستوياتها اللغوية، قال أعشى بكر:
ت- فلا تحبسنا بتنقادها دراهمنا كلُّها جيدٌ
ث- وقال عبدمناف بن ربع الهذلي:
ج- لا ترقدان ولا بؤس لمن رقدامن بطن حلية لا رطباً ولا نقداضرباً أليماً بسبت يلعج الجلدا ماذا يغير ابنتّيْ ربْع عويلهُماكلتاهما أبطنت أحشاءها قصباًإذا تأوّبَ نوحٌ قامتا معه
ح- *والنقد في الاصطلاح ç يرمي إلى ملاحظة النص وامتحانه، بما يتهيأ للناقد من خبرة وذكاء لمعرفة قيمته؛ وما إذا كان مبتكراً أو متأثراً بنص آخر؛ وكان النقد الأدبي مطلع وهلته الأولى ميالاً إلى التعميم لأنه ثمرة حضارة الشعر وقتذاك، ولم يحصل النقد على مصطلحه (الواضح) إلا في وقت متأخر نسبياً وكان الناقد الجاهلي مثل زعيم القبيلة يوازن بين المعاني والألفاظ والصور بخبرته الخاصة وبوهمه أنه يمتلك المعرفة والحقيقة وحده! وربما احتكم إلى أصحاب الخبرة لينصحوه أو احتكم إلى ذوقه الخاص أو هواه أو ولائه!! فالناقد زعيم على نحو ما أو حاكم، وكان نابغة ذبيان ممسكاً بزمام الشعراء، يقول رأيه فيهم فيرضون وأطلق الجاهليون عليه (رأس حكومة الشعر) فكانت تضرب له خيمة من الجلد الأحمر على مسطبة رملية محددة بالحجارة المرصوصة بالقار تجعله في مشهد يراه فيه الجمهور الواسع دون عناء!!
خ- ونقدنا الحديث قائم على أحد المنهجين: المعياري أوالوصفي..
*النقد المعياري ç وهو النقد التقليدي الذي يخول الناقد محاكمة النص الأدبي وإصدار الحكم له أو عليه، والمبدع لا يمتلك إلا القبول بأبوّة الناقد، والقارئ لا يفكر ولا يجتهد لأن ثمة ناقداً يفكر نيابةً عنه ويجتهد بدلاً منه!! ولعلنا نتذكر المقولات النقدية القديمة من نحو أشعر بيت وأغزل بيت وأهجى بيت وأمدح بيت وأخنث بيت.. كما نتذكر: الشعر المصنوع والشعر المطبوع وشعر الفحول وشعر الطبقة!! وقد أثبتت الدراسات الأسلوبية الحديثة أن هذه الأحكام لم تكن قائمة على الاستقراء والموضوعية!!
*النقد الوصفيç يحاول هذا النقد التخفيف من سلطة الناقد الحاكم بأمره، حتى اقترح على عملية النقد اسم (قراءة النص) واعتد القارئ (غير الناقد) ناقداً لأنه يعيد إنتاج النص في متخيله. هذا النقد ظهر في الربع الأول من القرن العشرين وقد اهتم ومازال ببنية النص وجعلها اثنتين الأولى الشكل والأخرى المعنى وإن جعل المعنى تبعاً للشكل وكان هاجس هذا النقد ومازال هو نقل النقد من مرحلة الانطباع إلى مرحلة العلم.. ثمة آليات اعتمد عليها الناقد الوصفي مثل البنية والحقل والمستوى والانتظام والتآلف والتخالف..الخ فالناقد يشرّح النص ويصف تقنياته بطريقة حاذقة تترك للقارئ سانحة الاجتهاد في تلقي النص أو الحكم عليه.
د- *النقد المزدوج ç يحاول هذا الكيف من النقد استثمار مزايا المنهجين المعياري والوصفي وإقصاء فكرة البعد الواحد عن النقد. وقد أثبتت التجارب النقدية الرائدة أن هذا النقد المزدوج قمين بملامسة شغاف النص وابتكارات المنتج أو إخفاقاته وتلبية حاجات المتلقي وصولاً إلى الارتقاء بعملية التوصيل مراقي الجمال وتطويرها باتجاه فكرة الفريق المتألف من الأديب وجمهوره وناقده.. وثمة الكثير من المنطلقات النقدية الواقعة في نقطة التقاطع بين الخطين المتصالبين..
* عن نقد القصة القصيرة
وهذا يعتمد بالدرجة الأولى على تقنية الناقد وثقافته النقدية ورصيده الثقافي .
وعندما تتوسع مساحة العطاء سيكون هناك حراك ثقافي أوسع وبالتالي ستتوسع دائرة النقد. وبالتأكيد هذا سيكون بعيدا عن المجاملات والانتماءات . وفي مفاصل الإعلام توجد مرتكزات أساسية تعتمد على مساحة وقائية عالية ودقيقة وتحمل معها قيم إنسانية تتزامن مع مشاعر الجماهير وتتوزع هذه المفاهيم على مستوى المسرح والسينما والبرامج التلفزيونية والإذاعية والمقالات وكل الفنون الإبداعية . ورغم ان الحركة الثقافية تمر خلال هذه الفترة بمنعطفات خطيرة جدا الا ان هناك مصدات حقيقية لابد من الرجوع إليها وهو الجانب الحيادي والاستقلالي لدى الفنان او الأديب او حتى الناقد . ولو ان الأخير أهم من ذلك لان السلاح النقدي لايعرف سوى خطوط ومرتكزات أساسية لاغيرها . كل ذلك يحتاج الى فهم واضح ورؤية واضحة حتى في التفسير للمادة النقدية . وهنا لابد من التعامل مع المنتوج الفني او الأدبي بتوازنات دقيقة ومعلومة واضحة . وما يحدث اليوم للدراما العراقية هو هجوم لتدمير ماكينة الإنتاج الفني والأدبي حيث تكون المحصلة هو الشهرة في السلبي او الايجابي وهذا يشكل خطرا على رصيد الثقافة والأدب والفنون العراقية ويبدو ان المسابقات الإعلامية في مجال الإنتاج لايهمها سوى الكم الهائل دون الاعتماد على نتائج هذه الممارسات حتى أصبح التلكأ واضح للدراما والابتعاد عن النصوص الاجتماعية الواقعية وبالتالي تكون النتيجة هي الوقوع في منعطفات وعرة . ومن المستغرب ان هذا النوع من الفنون الادبية لم ياخذ مساحته الحقيقية حتى في المواد التدريسية باعتباره من الارث الأدبي المعتمد في تقييم وتشخيص مواطن القوة والضعف في المنتوج الثقافي والأدبي
وللتخلص من التخبط الحاصل يتطلب تحديد نوع المسار النقدي للمؤسسات الادبية لكي لايصبح خلط بين ثقافة الوهم وثقافة الانتماء الوطني والتخلص من النظرة الضيقة وان لاتبنى الثقافة على أساس غير موضوعي ويتحدد مسار التغيير باتجاه ثقافة نابعة من واقع معين.رغم ان الثقافة السطحية تشكل جانب مهم في تدمير الممارسات الحياتية العامة لأنها تحمل مخلفات وتراكمات الأنظمة السابقة وهنا لابد من تحديث مرتكزات وخطوط بيانية حديثة لغرض وضوح الرؤية في مسار الثقافة السائدة والابتعاد عن السطحية في ممارسة هذا الجانب . وقد يتغيب الجانب الأكاديمي في تعزيز وتغذية الدروس الأساسية في النقد وبالتالي يسودها العقم الثقافي في تطوير وتأهيل الفرد في المشاركة الميدانية في الحياة العامة . ولو اخذنا في نظر الاعتبار الإنتاج التلفزيوني الحالي والسينما العراقية في الوقت الحاضر ونعمل مقارنة بين انتاج الأمس وإنتاج اليوم وبغض النظر عن محتوى المنتوج الفني لوجدنا ان هناك فوارق كبيرة في تقنية المنتج رغم التطورات التي حصلت والدعم الموجود في الوقت الحاضر وبالتالي نجد ان هناك جانب جدي في اختيار القضية المراد تبيانها . كما يبدو ان هناك عد تنازلي في مستوى الدراما والإبداع . هذا جانب ومن جانب آخر فقد كانت هناك مبادرات فنية ذات إمكانية عالية تدعم عملية الإنتاج وبالتالي هناك مساحة واسعة للنقد لهذا المنتوج او ذاك . لذا نأمل أن يكون موقف واضح من السياسة النقدية أو آلية استخدام النقد على الطريقة السليمة .
العودة إلى أصول النقد الأدبي
أ. د .الياس خلف
من موقع ملتقى الثقافة العربية
لو نظرنا في الدراسات النقدية الأدبية لوجدنا أن النص الأدبي المبدع أخذ يعاني تحت نير آراء النقّاد والدارسين، التي تبعدنا عن روح النص وجوهره ، فالعديد منهم يقحمون آراءهم على النص فيجعلونه وعاءً يكتنف نظراتهم دون الاعتماد على أمثلة وشواهد مقنعة. ولكن بداية أود النظر في طبيعة النقد الأدبي وماهيته بوصفه علماً من العلوم الإنسانية تنحدر كلمة النقد criticism من الفعل اليوناني krinein ومعناه في الأصل الحكم أو التفكير «١» وعليه يمكننا تعريف جوهر النقد على النحو الآتي: يقوم جوهر النقد الأدبي أولاً على الكشف عن جوانب النضج الفني في النتاج الأدبي وتمييزها مما سواها عن طريق الشرح والتعليل ثم يأتي بعد ذلك الحكم العام عليها «٢». ويؤكد الدكتور محمد غنيمي هلال، وهو أستاذ النقد والأدب المقارن بجامعة القاهرة أن أنسب المعاني الذي أخذ عنها النقد الأدبي في العربية هو تمييز جيد العملة الفضية أو الذهبية من زائفها ، ممايستلزم الخبرة والفكر ثم الحكم «٣». إذن فعملية النقد هي عملية تذوق وتفهم للأثر الأدبي ، وأقدم صورة للنقد الأدبي نقد الكاتب أو الشاعر لما ينتجه- ساعة خلقه لعمله- يعتمد في ذلك دربة ومران وسعة اطلاع. وتقتصر أهمية هذا النوع من النقد في تقاليد التمهيد والمقدمة أو التوطئة التي تسبق الأثر الأدبي، فالتمهيد في مسرحية «الدكتور فاوستس» للشاعر والمسرحي البريطاني كريستوفر مارلو يوجه القراء أو المشاهدين نحو السبيل الأمثل لمتابعة أحداث التراجيديا المذكورة. يقول التمهيد: انظروا إلى فاوستس: لقد حاول قصارى جهوده لينال معرفة تفوق مقدرات البشر ، فلجأ إلى السحر، فعاقبه الله على ذنبه هذا «٤»لأن الله عز وجل وحده يحيي ويميت. تكتنف كلمات التمهيد رسالة المسرحية التعليمية والتوجيهية، وبهذا يضع مارلو بذور النقد الأدبي لهذه المأساة ، على ضوء هذه الرسالة التوجيهية يمكننا النظر في التقنيات الدرامية التي يوظفها مارلو من أجل ترسيخ هذه الرسالة. تشكل الرسالة المضمون وأما التقنياتالدرامية فهي الشكل أو الأسلوب ، ومهمة الناقد الرئيسية هي النظر في التكامل مابين الشكل والمضمون ، أو المبنى والمعنى كما يؤكد الدارسون. ولو تتبعنا رسالة الأدب التعليمية عبر العصور لوجدنا أنها تشكل محور اهتمام الأدباء والنقاد ، فالفيلسوف الإغريقي أفلاطون أكد مهمة الأدب الأساسية ، التي ترتكز على أثره الأخلاقي ، أي التربوي والتعليمي ، وتجدر الإشارة هنا إلى أن أفلاطون لم يكن معادياً للشعراء جميعهم، لقد طرد من جمهوريته الفاضلة الشعراء الذين انحرفوا عن رسالة الشعراء التي تنحصر في مديح الآلهة وتشجيع التمسك بالفضائل والحث على الابتعاد عن الأفعال المشينة «٥». ومن خلال هذا الموقف تجاه الشعراء ، نرى أفلاطون بصفته ناقداً يوجّه الشعراء والأدباء إلى جوهر الأدب ورسالته التثقيفية . وجاء الفيلسوف الإغريقي أرسطو فأرسى مبادئه النقدية في كتابه الشهير «فن الشعرpoetics» الذي يعد بمنزلة الفيصل فيميدان النقد الأدبي، وأكد أرسطو أثر الشعر المأساوي الذي يتجلى في تحذير القرّاء وتوجيههم نحو جادة السلوك والصواب، فالتراجيديا لديه وعاء فني يحمل رسالة نبيلة ، إنها رسالة التوجيه والابتعاد عن الذنوب والأخطاء التي ارتكبها بطل المأساة في حياته ، فمسرحية أوديب المأساوية ، على سبيل المثال، رحلة فنية في ذهن بطلها حيث نرى اضطراباته قبيل وبعد مافعل ، وتخلص المسرحية إلى تكريس موعظتها الأخلاقية التي تكمن في ضرورة إطاعة الآلهة والابتعاد عن التفكير في عصيان أوامرهم«٦». وأما الناقد الروماني اللاتيني هوراس، الذي عاش أيضاً في مرحلة ماقبل ميلاد سيدنا عيسى المسيح «عليه السلام»، فقد صاغ آراءه النقدية في كتابه المعروف، بـ «في فن الشعر» الذي كتبه على شكل رسالة شعرية تتضمن مقومات الشعر والأدب بصورة عامة، وعلى غرار أفلاطون وأرسطو ، يقوم هوراس ، الذي كان شاعراً ممارساً ، بإرساء قواعد الشعر الذي ينبغي أن يستمد من واقع الحياة الحقيقية وغاية الأدب، لدى هوراس ، تتمثل في منح الفائدة والمتعة، والمتعة مقرونة بمبادئ حياتية نافعة، وهذه المبادئ ما هي إلا دروس في الأخلاق والسلوك القويم «٧». والأدب ماتع لكنه ليس مجرد متعة فحسب ، إنه وعاء فني يحقق التناسب والانسجام بين الشكل والأسلوب والمضمون . وجاء الناقد الروماني اللاتيني لونجينوس في أعقاب هوراس، فأكد في كتابه الموسوم بـ «في السمو» على رسالة الأدب السامية والفاضلة ، ويرى أن الشاعر أو الأديب يساعدنا على السمو بأحاسيسنا عبر موضوعاته الإنسانية التي تتخطى حدود الزمان والمكان والحواجز الإثنية والدينية والإيديولوجية وتتبدى هذه الموضوعات الإنسانية التي تتخطى حدود الزمان والمكان والحواجز الإثنية والدينية والإيديولوجية وتتبدى هذه الموضوعات الإنسانية في قضية الحياة والموت والفضائل والسلوك الحسن «٨». وانتعش النقد الأدبي بحلول عصر النهضة الأوربية فبرزت أعمال كل من دانتي وبوكاشيو الإيطاليين اللذين كتبا أعمالاً تجسد بحث النفس عن الخلاص. فالملهاة الإلهية ما هي إلا رحلة نحو ملكوت الله، الأمر الذي يعزز أثرها التوجيهي والتربوي. وهذا ما صاغه الناقد الإنكليزي السير فيليب سيدني في كتابه الشهير «اعتذار من أجل الشعر» حيث أعاد صياغة آراء أفلاطون وأرسطو وهوراس في الشعر وأثره التثقيفي، ألف سيدني كتابه النقدي هذا رداً على عمل يهاجم الشعر والمسرح لـ ستيفن غوسون الذي انتقص من أهمية الشعر إذ رأى فيه عبثاً تافهاً ولهواًخطيراً «٩». ويؤكد سيدني أن خاتمة التعلم الدنيوي كله هي العمل الفاضل، وأن الشعر يعرض مشهداً فاتناً يغري كل فرد بالمضي فيه، وبهذا يبعد الشعر المرء عن المفاسد ويحول عقله من الرذيلة إلى الفضيلة، وتبرز ملحمته الشعرية «أركاديا» في النظر الفاحص بمنزلة العمل الأدبي الذي وضع نصب عينيه مسألة والوعظ الأخلاقي، فهي دعوة موجهة للقرّاء لكي يتمسّكوا بالفضائل فيبنون جميعاً أسس العالم الفاضل الذي حلم به أفلاطون وسائر الفلاسفة من بعده. ونظر سيدني إلى المأساة بوصفها عملاً فنياً يقوم على التوجيه التربوي فهي مليئة بالتحذيرات المخصصة للقرّاء والمشاهدين لكي يتعلموا من أخطاء البطل الذي ينال عقابه إثر ارتكابه الذنوب الكثيرة «١٠» وأما الشاعر الانكليزي جون ميلتون فقد دافع دفاعاً مريراً عن الشعر خلال فترة حكم كرمويل لإنكلترا ،حيث انصبت الهجمات البيوريتانية المتشددة على الأدب «وخصوصاًَ المسرح» ووقف ضد الاتهامات أن معظم الأدب كان إما عبثياً أو لا أخلاقياً أو منحازاً ضمناًللعرش الملكي ومتعاطفاً معه، وأيد ميلتون فكرة أن الشعر يكون أخلاقياً صارماً إذا اعتمد على الكتاب المقدس وعشق الحرية، وكتب بأسلوب جميل، وابتعد عن طغيان الملوك وفجور الرعاع، وكان وطنياً في احتفائه بتقدم أمة تقية تتمسك بشريعة الله تبارك وتعالى. وأكد الشاعر والكاتب المسرحي جون درايدن الجانب التعليمي للأدب ورأى فيه مرآة لطموح الإنسانية نحو عالم الخير والحق والجمال، ذلك العالم الطوباوي الذي حلمت به الإنسانية وما تزال تطمع لإرساء قواعده. ويدافع جون درايدن عن أعمال شكسبير فيرى فيها مقومات الأدب الصحيح: فهي تضم الموعظة الحسنة وتعزف أعذب الألحان وهنا يحقق الشكل والمضمون أسمى التناغم و التناسب ، وشكسبير يمسك قيثارته ليصوغ ألحاناً تهدي البشرية إلى جادة الصواب وترشد المخطئين وتعيدهم إلى سبيل الحق، ويرى درايدن في شكسبير النموذج الأمثل للأديب فهو بمنزلة هوميروس الإغريقي الكلاسيكي الذي خط ملحمتين الأولى «الإلياذة» والثانية «الأوديسة» وهاتان الملحمتان عملان نقديان بمعنى أنهما تظهران هوميروس بمنزلة المعلم والموجه الذي يبذل قصارى جهوده الشعريةوالنقدية بغية إرشاد القرّاء في التشبث بأولويات الحياة البشرية التي تتمثل في إطاعة الآلهة إطاعة تامة، فطاعتهم فوز وعصيانهم كفر «١١». وأما الشاعر الكلاسيكي المحدث ألكسندر بوب فقد صاغ آراءه النقدية ضمن قالب شعري رقيق فدعا إلى الوحدة العضوية في القصيدة، أي وحدة الشكل والمضمون أو المبنى والمعنى. فالقصيدة البطولية ينبغي أن تترعرع في ظلال صنعة فنية جميلة، وتتمثل هذه الصنعة في انتقاء قافية موسيقية جميلة، وكلمات موحية على نحو ماتع ، وبهذا تتجلى روعة تطابق القالب والمحتوى في أسمى وأبهى صورها «١٢». والنقد بالنسبة إلى الناقد الإنكليزي جوزيف أديسون «١٦٧٢-١٧١٩» هو ممارسة عملية أو تطبيقية ، وبهذا يبتعد عن آراء سيدني ودرايدن وبوب الذين يفترضون أن القرّاء ، من حيث الإمكانية على الأقل ، يدركون أن النقد هو عمل يرشد إلى سبيل الخير والفلاح، يؤكد أديسون أن على القارئ أن يحصل علىملكة النقد التي تجني من خلال الاطلاع الواسع على أمهات القصائد والمسرحيات الإنسانية وتذوقها على نحو سامٍ ورفيع ، فالأدب لايظهر من فراغ ، الأدب امتداد واستمرار لطموح الإنسانية إلى يوتوبيا السعادة البشرية حيث يعم الحب والجمال والخير والعدل «١٣». ويؤكد الناقد الدكتور صموئيل جونسن ١٧٠٩-١٧٨٤ أن على الأديب أن يعكس صورة أمينة للسلوك البشري والحياة الحقيقية ، ويرى أن عظمة أدب شكسبير تكمن في هذه المسألة ، وبهذا يصبح الأدب المسرحي الشكسبيري نموذجاً عاماً فيتخطى الحدود الجغرافية والزمانية والعرقية ويتبوأ منزلة عالية في الأدب العالمي لأنه لا يمثل أفراداً بل يرمز إلى البشرية قاطبة. ويرى جونسن أن على الأديب أن ينظر في الحياة نظرة مليئة بالعمق والشمولية ليقدم صورة صادقة ورؤية حقيقية تبتعدان عن السطحية والتحيّز أو القصور ، فالأديب رسول المحبة والخير وصوته صوت الحق لذا عليه أن يتأمل في القضايا التي تشغل اهتمامه تأملاً ينم عن انتباه دقيق للتفاصيل التي تشكل كلاً لايتجزأ «١٤».
النقد الأدبي الحديث وخطاب التنظير
الدكتور عبد الإله الصائغ
كان اليونانيون سبّاقين إلى تقبل فكرة النقد الأدبي بسبب من اهتمامهم بالفلسفة وبلوغهم شأواً بعيداً في الوعي الابستمولوجي، ولكن الثابت تاريخياً أن هناك مرحلة نقدية بسيطة سبقت عصر النقد اليوناني القار؛ وهذه المرحلة تجلو لنا النقد بهيئة تقنية يعرفها الشعراء الذين أخضعوا قصائدهم للحذف والتعديل ويمتحنون إيقاعاتها وفق المقامات الشفاهية المتوارثة لديهم، وإلا كيف نفسر نضج أعمال هوميروس الأدبية من نحو الإلياذة والأوديسة لو لم يكن هذان العملان مثلاً مسبوقين بتجارب نقدية مهمة تعتمد الخطأ والصواب وذائقة الجمهور،… وكان ظهور طبقة الرواة نقلة مهمة في اتضاح الأفكار النقدية البسيطة؛ فالراوي أساساً رجل موثوق به من جهة الشاعر أو الناثر الفني أو الجمهور، الراوي ذو ذائقة متميزة وذكاء حاد؛ فكان يعدّل النص ويعرضه على الشاعر فيرضى الشاعر ويثني عليه، ولسان حال الشاعر يقول ما قاله المتنبي في راويته وناقده ابن جني (أين صاحبي ابن جني فهو أعلم بشعري مني)!!.. ويجيء القرن السادس ق.م فيظهر الشعر التمثيلي، ضرباً يتطلب خبرة واسعة عميقة في صياغة النص ويستدعي التعامل مع مبادئ نقدية ترقى إلى تقاعيد وتقاليد يتبعها المبدع حين ينتج شعره التمثيلي ليرضى عنه الناقد وجمهوره، وصحب ذلك مسابقات بين الشعراء، وكل عمل مسرحي شعري أو قراءة شعرية كانت تقوّم مباشرة من قبل جمهور الحاضرين، فالجمهور حين يأنس للعمل الأدبي أو الفني يصفق طرباً ويرقص فرحاً وينثر الورد على الممثلين أو الشاعر، وحين يستاء يصفّر ويقذف الممثلين أو الشاعر بالبيض أو الطماطم، فضلاً عن وجود لجنة معترف بها تبدي رأيها بما شاهدت أو سمعت، فإذا قبلته الجماهير قدمت الهدايا للشاعر حالة الاستحسان أو حجبتها عن الشاعر حالة الاستياء!! فإذا رفض الشاعر آراء اللجنة وتعاطف الجمهور مع رفضه عرضت قرارات اللجنة للاقتراع .
وقد فعل هذا النقد فعله في صياغة النص وتعاطف الجمهور معه رغم بدائية هذا النقد وبدائية وسائله، ويكفي النقد أثراً أنه جعل الشعراء يلتفتون إلى الأرض والناس بعد أن تعلقت عيونهم بالسماء والآلهة، واهتموا بالطبقات الوسطى وهم الأكثرون بعد أن كانوا حريصين على الكتابة للصفوة والنخبة؛ ورصد منتجو الشعر التمثيلي حياة الناس فنقدوها ونقدوا الأساليب السياسية معها فكانت الملهاة عند أرسطو فانيس (448ق.م-380) الذي أثار مشكلة القدامة والحداثة في مسرحية (الضفادع) التي وصف فيها الشاعر اسخيلوس بأنه رمز للقديم!! وشاعر المأساة يوربيدس بأنه رمز للحديث؛ والمسرحية تصف ببراعة رحلة ديونسيوس إله المسرح إلى الدار الآخرة وخلال عبوره نهر العالم الآخر كانت جوقة الضفادع تناغم نقيقها مع ضربات المجاذيف في الماء بما شكل أغنية الطبيعة بعدها تبدأ مناظرة في العالم السفلي بين يوربيدس واسخيلوس تنتهي بهزيمة يوربيدس ليقتنع ديونيوس بأن اسخيلوس أجدر منه بالنقد الاجتماعي فيصادقه ويصطحبه معه إلى العالم الأرضي ليرشد بمسرحياته الاثينيين حتى يتطهروا من الضلال . لقد كان ظهور السوفسطائيين عاملاً مهماً في شيوع فن المناظرة والنقد والبحث عن المسوّغات إذ جرّح هؤلاء معظم القناعات القارة لأنهم يعتمدون المغالطة والمكر الكلامي وفق مخطط يعدونه مسبقاً يوازن بين قدرات السوفسطائي وقدرات غريمه، إنهم يختطفون النص ويغيرون مساره ويحولون القواعد الخاصة بظاهرة ما إلى ظاهرة أخرى!! وكان أهل السفسطة أول عهدهم معلمين جوالين نشروا المعرفة والفنون البلاغية بين الناس لكن سقراط وتلميذه أفلاطون هاجما اطروحاتهم التي كرست فكرة الجدل والمكر الكلامي قبل فكرة البحث عن الحقيقة!! بيد أن السوفسطائيين أسهموا في الوعي النقدي بين اليونانيين قبل سطوع نجمي سقراط وأفلاطون، بل إن محاولاتهم في النقد والأدب واللغة كانت (معيناً خصباً لبحوث أفلاطون وأرسطو في النقد) . وكانت آراء سقراط غير المدونة عوناً للنقاد اليونانيين فيما بعد وبخاصة لتلميذه الدؤوب أفلاطون، حتى قيل ان آراء الأستاذ والتلميذ قد اختلطت ولم يعد ممكناً الفصل بينهما!! وقد تميز أفلاطون (428ق.م-347ق.م) فأسس منهجاً علمياً للنقد ودعا إلى المثالية الموضوعية التي ترى أن الروح جوهر والمادة عرض! وهذه المثالية مختلفة عن المثالية الذاتية وبات كتابه (الجمهورية الفاضلة) مصدراً مهماً لآرائه في الشعر والنقد والمحاكاة ومحاكاة المحاكاة، فالحوار الذي اجترحه أفلاطون بين المنشد أيون وأستاذه سقراط يعطي انطباعاً واضحاً عن المشهد النقدي الذي ساد عهد ذاك وكان من بين ما أثاره الحوار: هل الشعر فن أم إلهام؟ وهل ثمة فرق بين مرجعيتي الشاعر والناقد وحرفتيهما وهدفيهما؟؟؟ فضلاً عن رؤية أفلاطون التي تؤسس دوراً محدوداً للمنشد، فهو (المنشد) حين ينشد شعر هوميروس مثلاً ويفسره إنما يعتمد على ذائقته وخبرته ولا يعتمد على القواعد النقدية أو المنطقية بسبب تماهيه مع النص إلى الحد الذي يغيب فيه عن شعوره لحظة الإنشاد أو الشرح، والشاعر أدرى بالحياة من الناقد، فالشاعر يأخذ خبرته من الحياة والناقد يضيع خبرته في النقد، ودليل ذلك هوميروس الذي تجلوه كتابة الإلياذة خبيراً بالطب والصيد وقيادة الجيش وعواطف العشاق ومشاعر القتلة بينا يكون المنشد والناقد مفتقداً لمثل هذه الخبرات المهمة. وكانت نظرة أفلاطون للمحاكاة عهداً نقدياً جديداً في حياة اليونان بعد أن مهد لهذا العهد سقراط الذي نظر إلى المحاكاة بشكل مختلف فأفلاطون يميز الحقيقة عن صورتها والجوهر عن العرض، إذ الوجود جوهر والمحاكاة عرض وانعكاس له، فهي (المحاكاة) لا تغني عنه ولا تحل محله، لأن عالم المثل عصي على عالم الحواس والمشاعر. والمحاكون إزاء المثل يشبهون أناساً يجلسون في سرداب وظهورهم باتجاه فتحة ضيقة منه وثمة نار مشبوبة، فهم يرون أشباحهم على الحائط وهي تتحرك بالانعكاس أي أنهم يرون أشباحهم المنعكسة عن المثال ولا يرون المثال!! وهكذا يكون الشاعر (أو الفنان) مسهماً في التضليل حين يبعد الجوهر عن العرض، فإذا وصف الشاعر امرأة جميلة واقفة أمامه فإن وصفه لها بمثابة مرحلة ثالثة من الوجود؛ ثمة أولاً فكرة شكل المرأة كما أرادها الله وثانياً المرأة المجسدة (كسر السين) لتلك الفكرة وثمة وصف الشاعر، فالوصف لا يحاكي الفكرة ولا تجسيدها وإنما يكون وصف الشاعر مثابة لمحاكاة المحاكاة! إذن الشاعر والفنان ليسا خالقين وإنما هما مقلدان!! وثمة مثال آخر موضح لفكرة أفلاطون عن المحاكاة.. الكرسي يمتلك صورة عند الله وصورة عند النجار والصورة الثالثة عند الشاعر! وهكذا يكون الشاعر عند أفلاطون أقل مرتبة من الصانع (النجار) وذلك ما يفسر استغناء جمهورية أفلاطون عن الشاعر والفنان .
بواكير النقد الأدبي العربي:-
مر بنا مطلع هذا المبحث عثور المنقبين في وادي الرافدين على نسخ مختلفة لملاحم (حينما في العلى) و (جلجامش) و(تموز) ولاحظ المنقبون الاختلاف الواضح لنسخ كل ملحمة من هذه الملاحم مما عزز الرأي القائل أن الشاعر أو الناسخ كان يجري التعديلات على النص الأصلي طمعاً في إرضاء ذائقة الجمهور وتسويق تلك النسخ، وهذه التعديلات لابد أن تكون قائمة على عدد من القواعد النقدية مهما قللنا من وعيها ونضجها والبابليون عرب هاجروا الجزيرة بعد الجفاف الذي داهم الجزيرة العربية وطابت لهم الإقامة في العراق حيث الماء والخضرة والاستقرار. وقد ضاعت النصوص الشعرية والنقدية التي تمتد من القرن 25ق.م حتى القرنين السابقين للهجرة النبوية الشريفة ومثل هذا الضياع العجيب خسارة فادحة للمشتغلين بالأدب العربي ونقده ومازال الأمل معقوداً على التنقيبات الهميمة في شمال شبه الجزيرة العربية وجنوبها. لكن العينات التي بين أيدينا وهي لن تتجاوز القرنين السابقين على الهجرة يمكن أن تكون لدى الباحث فكرة مناسبة عن طبائع النقد الجاهلي وأصوله!! فقد وجد مبدع النص الأدبي القبسلامي عدداً من خيارات كتابة النص مثل الطين المشوي ورقّ الغزال وخشب الرحل والعظام المصقولة والقماش وعسب النخل…الخ؛ وكانت السكين أداة المحو لديه في حالات التحكيك (تعديل النص)، ألم ينقل عن المزني زهير بن أبي سُلمى: خير الشعر الحولي المحكك؟! ألم يقسم الجاهليون أدبهم إلى شعر ونثر ثم ميزوا نمطين من الشعر: مطبوع ومصنوع كما ميزوا نمطين من النثر: فني وسوقي!! وكانت هذه التقسيمات إشارة نابهة إلى الوعي المستجد في تقويم الأدب وتقسيمه وترسيم حدوده وبما يعزز الاتجاه النقدي عهد ذاك.
وشهد النقد الأدبي مرحلة نقدية متطورة وهي المرحلة التي اتخذت من الصورة الفنية معياراً نقدياً، المعيار الذي اعتمده عدد من النقاد الجاهليين في يثرب ومكة وعكاظ وذي مجنة وعدن أبين والحيرة.. جاء في طليعتهم النابغة الذبياني وأم جندب . وسنتلبث عند هذا البواكير في الفصل الرابع (المبحث الثاني) الخاص بالنـزعات الأدبية العربية وبسؤال النظرية النقدية العربية.
* دلالات المصطلح:
يحاول هذا المبحث التلبث عند عددٍ من الصيغ التي تتصل بكتابنا هذا من نحو مصطلح
-أدب-أدبية-شعرية-نقد-حديث-منهج-تماه-انزياح-تراسل-صورة-...الخ. ومن ثم معرفة مكونات الأديب.
المصطلح: كلمة والكلمة حاصل جمع عدد من الحروف تؤدي معنى أولا تؤدي! وهي أيضاً طاقة لا تفنى ولا تستحدث ويتعين على المتصرف بها معرفة طبائعها وأصولها وفروعها. فقد تنسحب كلمة إلى العتمة وتنعم أخرى بالضوء وفق قانون الاستعمال والإهمال، لأن اللغة كائن حي ينمو ويتطور ويضمر بيد أنه لايموت وإنما يرقّن حين يدب الانحلال والتشرذم في جسده! إن للكلمة ثلاث دلالات يمكن استنباطها من جهة استقراء تاريخ مسيرتها أو مسيرة تاريخها، فالدلالة الأولى تعتمد مرجعية اللغة مظنة لها وتسمى الدلالة اللغوية، والدلالة الأخرى مظنتها مرجعية وضعية اتفق المشتغلون بها عليها!! وتظل الدلالة الثالثة الأخيرة مقترنة برؤية الباحث الخاصة وطبيعة شغله ومنهجه وهمومه وتسمى الدلالة التأسيسية، قارن الدلالات الثلاث:
1- دلالة لغوية (معجمية قاموسية). 2- دلالة اصطلاحية(تواضعية اجتماعية). 3- دلالة تأسيسية (ذاتية تتصل بقناعة الباحث ومنهجه). إن الجدل بالعلة والمعلول قائم بين هذه الدلالات، إذ لا يمكن لقنوات التواصل بين هذه الدلالات أن تنقطع؛ ثمة تأويل دائم وتوجيه دائب يحيلان على المعاني المشتركة بين الدلالات وإن بدا الأمر للوهلة الأولى مختلفاً.. هاكم أمثال معززة تتمحور حول (أسلم-كفر-عقل). 1- أسلم لغــة ذل وخضع.
اصطلاحاً ç صار مسلماً.
تأسيسـاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر.
2- كفر لغــة ستر وغطّى وحرث
اصطلاحاً لم يؤمن بالوحدانية أو النبوة أو الشريعة أو بثلاثتها.
تأسيساً ضل السبيل القويم.
3- عقل لغــة شد الشيء بالحبل.
اصطلاحاً أدرك المقصود..
تأسيساً تجنب الهدر في التفكير والطاقة والزمن.
الأدب والأدبية والشعرية: يمثل الأدب في حاضنة اللغة آفاقاً شاسعة ويتوفّر على دلالات كثيرة العدد والوجوه، أهمها الرياضة والطعام والاعتياد والمعرفة العامة والمروءة والتعليم والأعراف والمجازاة . وإذا كانت مفردة (أدب) متقلبة في حاضنة اللغة فهي كذلك في الاصطلاح!! ويبدو الاختلاف جلياً حتى الآن على دلالاتها ووظائفها، إذ تضمنت علوم الأدب عند أجدادنا اللغة والصرف والاشتقاق والنحو والمعاني والبيان والبديع والعروض والقافية والخط والإنشاء! ولم يختلف الأمر كثيراً عند الخلف، فما زال الاشتباك متصلاً حتى الآن بين علوم اللغة والدين والآداب، وهذه أقسام اللغة العربية في كليات الآداب والتربية واللغات في الوطن العربي معنية بمفردات هذه العلوم، بل أضيف إليها تعلّم لغة غربية أو شرقية فضلاً عن درس الفلسفة، وأي غضاضة في الأمر؟ فالأديب معني أكثر من سواه بالجانب المعرفي وهو يخدم توجهه الأدبي والابستمولوجي ويعمّق تجربته ويصقل موهبته، وتظل هذه العلوم علوماً مساعدة وليست أدباً بأي تسويغ!! والأدب الخالص هو المعاني الجميلة المؤثرة في عواطف المتلقي وذائقته مصاغة بأسلوب متميز بجاذبيته ورقته؛ وقولنا المعاني الجميلة لا ينصرف إلى الفهم السائد للجمال، فقد يجد المتلقي جمالاً في النص الأدبي، وهو يتحدث عن الدمار في هيروشيما وناكازاكي أو مذبحة قانا!! والجمال متأت من رفض القبح والقتل بتصويرهما فنياً وتسليط الأضواء الكاشفة عليهما؛ متأت من تغنّي النص بقيم الإنسان العصي على الاتّساخ والاستسلام!! المعاني الجميلة ليست وفقاً على تصوير الفتاة الجذابة والبحر الغامض والفرح العابر، بل هو (الجمال) كامن في سويداء الأشياء والنفوس الجميلة تعرف كيف تتعامل مع الجمالين: الظاهر والباطن قارن مقولة عمرو بن معديكرب:
فاختر وإن أرديت بُرداًومناقبٌ أورثن مجداً ليس الجمال بمئزرٍ إن الجمال معادنٌ
ومقولة إيليا أبو ماضي:
لا يرى في الحياة شيئاً جميلا والذي نفسه بغير جمال
إذن: الجمال الأدبي قد يخرج من بؤرة الشيء إلى طريقة النظر إليه وأسلوب تناوله والتعامل معه!! جمال الأسلوب ليس في موضوعه أو تنميقه حسب؛ وإنما هو متجلّ في الابتكار والجدة وصدق التجربة وعمق المكابدة بما يعزز حضور النص في الوجدان ويعمق حب الحياة ويعضد قيمها النبيلة المغيبة ويجذر الإيمان بالله، مبدع السماوات والأرض ويجنبنا العَمَه والتطرف والانغلاق.
*الأدبية: مصطلح جديد وفق حدوده التي وصلتنا، ويعني الصفة التي يكتسبها النص المتحول (كسر الواو المشددة) من حالة السكون واللا أدب إلى الأدب (لأن الأدبية إذا توافرت في نص ما اغتدى أدبياً) .
*الشعرية: هي بؤرة الجمال في النص أو المسمع أو الملمس فالشعرية هي (السحر الحلال) الذي يحيل الكلام الاعتيادي استثنائياً والهم المألوف جديداً، فهي توحد بيننا وبين النص حتى كأننا ونحن نقرأ النص منتجوه، ونحن نشهد المنظر صانعوه؛ وكل شعر محروم من الشعرية افتقد سيماء جنسه وحل في النثرية وإن قالت قشرته أو بنيته الخارجية غير ذلك، والمهم جداً في هذا الميدان هو أن الشعرية غير مقصورة على ظاهرة واحدة أو سمة واحدة؛ وإنما هي كل الظواهر ومزاج السمات. وعليه فالشعرية ليست قرينة الشعر حسب، فربما امتدت إلى اللوحة التشكيلية والقطعة الموسيقية وعروض الأزياء وهندسة العمارة ونبرة الصوت وملامح الوجه وحركة اليد وطيبة القلب!! إنها بؤرة الجمال في الموضوع.. رب شعر بلا شعرية مثل ألفية ابن مالك أو أي قصيدة حذقت النظم ولم تحذق الجمال!! قارن قول ابن جحدر:
شمرجلة خلقها سيظمبها من وحي الجن زيزيم!! حلفت بما أرقلت حوله وما شبرقت من تنوفية ورب شعرية بلا شعر.. مثل شمعة وسط ظلام دامس وموجة وسط بحر ساكن وقطرة طل على تويج زهرة…الخ .
النقد: تتوفر مادة (نقد) في المعجمات اللغوية على معانِ مؤتلفة مرة، مختلفة أخرى وللدارس أن يميز ميزانين لهذه المادة: الأول يعتمد نصب القاف في (نقد) والآخر يعتمد كسرها؛ ولكل ميزان إحالاته الدلالية..
أ- نَقَد (فتح القاف) نقد العينة اختبرها وميز جيدها من رديئها، ونقد الطائر الفخ توجس خيفة منه فاختبره حذراً؛ ونقد الصيرفي الدرهم نقداً وتنقاداً نقرها؛ ووضعها بين السبابة والإبهام ليمتحن الأصيل والزائف والجيد والرديء؛ ونقدت الأفعى زيداً لدغته؛ ونقد عمرو زيداً اختلس النظر نحوه حتى لا يفطن إليه؛ ونقد فلان الدراهم نقداً وتنقاداً أعطاها للبائع معجلاً؛ فالنقد في البيع خلاف النسيئة وانتقد بابها نصر.
ب- ب- نَقِد: (كسر القاف) ç نقد الطعام نقداً وقع فيه الفساد؛ ونقد الضرس أو الحافر تآكل وتكسر؛ ونقد الجذع أكلته الأرضة فهو جذع نقد (كسر القاف) ونقد (فتحها)! ونقد الحافر تقشر، والمعاني (أ.ب) تكوّن فكرة عن دلالات هذه المادة؛ فإذا تناقد القوم تناقشوا والحصيلة هي حالتان: حالة المنقود أن يعرض على الناقد؛ وحالة الناقد أن يتفحص المنقود! ولابد والحال هذه أن يكون المنقود على صورتين: الأولى صحيحة والأخرى عليلة. وللمتفحّص أن يلاحظ أيّ الصورتين ميّزت المنقود؟ ولم ترد نقد في القرآن الكريم بأي من دلالاتها لكنها وردت في الشعر الجاهلي كثيراً وفق مستوياتها اللغوية، قال أعشى بكر:
ت- فلا تحبسنا بتنقادها دراهمنا كلُّها جيدٌ
ث- وقال عبدمناف بن ربع الهذلي:
ج- لا ترقدان ولا بؤس لمن رقدامن بطن حلية لا رطباً ولا نقداضرباً أليماً بسبت يلعج الجلدا ماذا يغير ابنتّيْ ربْع عويلهُماكلتاهما أبطنت أحشاءها قصباًإذا تأوّبَ نوحٌ قامتا معه
ح- *والنقد في الاصطلاح ç يرمي إلى ملاحظة النص وامتحانه، بما يتهيأ للناقد من خبرة وذكاء لمعرفة قيمته؛ وما إذا كان مبتكراً أو متأثراً بنص آخر؛ وكان النقد الأدبي مطلع وهلته الأولى ميالاً إلى التعميم لأنه ثمرة حضارة الشعر وقتذاك، ولم يحصل النقد على مصطلحه (الواضح) إلا في وقت متأخر نسبياً وكان الناقد الجاهلي مثل زعيم القبيلة يوازن بين المعاني والألفاظ والصور بخبرته الخاصة وبوهمه أنه يمتلك المعرفة والحقيقة وحده! وربما احتكم إلى أصحاب الخبرة لينصحوه أو احتكم إلى ذوقه الخاص أو هواه أو ولائه!! فالناقد زعيم على نحو ما أو حاكم، وكان نابغة ذبيان ممسكاً بزمام الشعراء، يقول رأيه فيهم فيرضون وأطلق الجاهليون عليه (رأس حكومة الشعر) فكانت تضرب له خيمة من الجلد الأحمر على مسطبة رملية محددة بالحجارة المرصوصة بالقار تجعله في مشهد يراه فيه الجمهور الواسع دون عناء!!
خ- ونقدنا الحديث قائم على أحد المنهجين: المعياري أوالوصفي..
*النقد المعياري ç وهو النقد التقليدي الذي يخول الناقد محاكمة النص الأدبي وإصدار الحكم له أو عليه، والمبدع لا يمتلك إلا القبول بأبوّة الناقد، والقارئ لا يفكر ولا يجتهد لأن ثمة ناقداً يفكر نيابةً عنه ويجتهد بدلاً منه!! ولعلنا نتذكر المقولات النقدية القديمة من نحو أشعر بيت وأغزل بيت وأهجى بيت وأمدح بيت وأخنث بيت.. كما نتذكر: الشعر المصنوع والشعر المطبوع وشعر الفحول وشعر الطبقة!! وقد أثبتت الدراسات الأسلوبية الحديثة أن هذه الأحكام لم تكن قائمة على الاستقراء والموضوعية!!
*النقد الوصفيç يحاول هذا النقد التخفيف من سلطة الناقد الحاكم بأمره، حتى اقترح على عملية النقد اسم (قراءة النص) واعتد القارئ (غير الناقد) ناقداً لأنه يعيد إنتاج النص في متخيله. هذا النقد ظهر في الربع الأول من القرن العشرين وقد اهتم ومازال ببنية النص وجعلها اثنتين الأولى الشكل والأخرى المعنى وإن جعل المعنى تبعاً للشكل وكان هاجس هذا النقد ومازال هو نقل النقد من مرحلة الانطباع إلى مرحلة العلم.. ثمة آليات اعتمد عليها الناقد الوصفي مثل البنية والحقل والمستوى والانتظام والتآلف والتخالف..الخ فالناقد يشرّح النص ويصف تقنياته بطريقة حاذقة تترك للقارئ سانحة الاجتهاد في تلقي النص أو الحكم عليه.
د- *النقد المزدوج ç يحاول هذا الكيف من النقد استثمار مزايا المنهجين المعياري والوصفي وإقصاء فكرة البعد الواحد عن النقد. وقد أثبتت التجارب النقدية الرائدة أن هذا النقد المزدوج قمين بملامسة شغاف النص وابتكارات المنتج أو إخفاقاته وتلبية حاجات المتلقي وصولاً إلى الارتقاء بعملية التوصيل مراقي الجمال وتطويرها باتجاه فكرة الفريق المتألف من الأديب وجمهوره وناقده.. وثمة الكثير من المنطلقات النقدية الواقعة في نقطة التقاطع بين الخطين المتصالبين..
* عن نقد القصة القصيرة