《1》
كان رنين الهاتف في منزل المفكر أحمد أمين - أوائل الأربعينيات من القرن الماضي - لا يتوقف، حتى أن الأسرة كانت تعتبر رنينه مظهرَا من مظاهر حياتها اليومية.
" يدق جرس التليفون فنهرع - كما يقول الابن حسين أحمد أمين - نحن الأطفال للرد بأصواتنا الرفيعة المتحمسة، والسماعة الكبيرة لا نكاد نستطيع أن نثبتها عند آذننا" ..
ألو! من حضرتك؟
" فيجيب المتكلم:
أنا توفيق الحكيم أو محمود تيمور أو طه حسين"وغيرهم الكثير.
وذات يوم اتصل عباس محمود العقاد.
《2》
الهاتف الآن يرن. الأم في المطبخ. والأطفال ينتشرون في المنزل يضحكون ويلعبون باستثناء الابن حسين الذي يجري نحو السماعة التي تواصل رنينها المدوي بين جدران البيت.
" ألوه - ألوه منْ حضرتك؟
- منْ أنت يا فتي؟
- أنا مش فتى!
-- يضحك بصوته العالي ويقول:
-- إذن مَنْ أنت؟
-- أنا حسين ثم يكمل قائلاً:
" مَنْ حضرتك"؟!
-- أنا العقاد!
- عارفك.. عارفك.. وقرأت لك كتاب (عبقرية عمر) وأعجبني!
-- كَمْ سنك يا جحش؟
-- عشرة!
-- تقرأ عبقرية عمر في العاشرة؟ لا أعتقد أنك فهمته كل الفهم؟!
-- بل فهمته.. فاسألني فيه إن أحببت.
-- ليس لدى وقت لسؤالك فيه.. ثم قال متعجلاَ:
"ناد لي أباك"!
《3》
يضع الابن السماعة ويُسرع إلى حجرة أبيه فتقابله أمه في المسافة ما بين الصالة والمطبخ وتسأل:
-- لماذا تجري هكذا؟
-- الأستاذ العقاد على التليفون!
تهز الأم رأسها في امتعاض معتاد ومعروف عنها - كمعظم زوجات الأدباء والكتاب والمفكرين في العصور السابقة واللاحقة - قبل أن تعود للمطبخ. فهي كثيرًا ما أصابها الضجر، والملل، والغضب من هذه التليفونات المتكررة حتى أنها - وهذه حكاية معروفة بين أفراد الأسرة - كانت تتعامل معها بسخرية شديدة ومتكررة!
تقول حكاية من تلك الحكايات المَروَية إنه كلما عاد أحمد أمين من الخارج سألها (السؤال المعتاد) عمن اتصل به تليفونيًا؟ فتجيبه ساخرة، وهازئة، وغاضبة!
-- " آه.. آه.. اتصل بك ابن خلدون مرتين"!
- ابن خلدون شخصياَ؟!
- آه.!
فيرد مبتسماَ (وهكذا يفعل أغلب الأدباء مع زوجاتهم):
-- هل ترك رسالة؟
-- فترد بغيظ - غيظ معتاد أيضًا - نعم يقول: إنه بدأ يتململ في قبره من كثرة تناولك لسيرته بالحديث"!
تقول ذلك بغيظ غير مكتوم، فيضحك هو بصوت مسموع يسمعه كل مَنْ بالبيت ثم تعود من حيث جاءت (الآن إلى المطبخ تعود)!
《 4》
إلى الصالة جاء أحمد أمين وجلس بجوار التليفون والطفل حسين مازال بجواره.
-- أبي.
-- نعم
-- الأستاذ العقاد قال عنيّ (جَحْش)! قال ذلك ثم سكت!
يضحك أحمد أمين قبل أن يرد على العقاد الذي قال له: اليوم قرأت في صحف الصباح استقالتك من عمادة كلية الآداب يا مولانا؟!
نعم يا أستاذ.. "قدمتها احتجاجًا على نقل أستاذ من أساتذة الكلية دون علمي.. والإذن منىّ"!
يسكت العقاد قليلاً قبل أن يكمل أحمد أمين:
"وعندما سُئلت من الصحافة عن ترك العمادة قلت للصحفي السائل:
" أنا أكبر من عميد وأصغر من أستاذ "!
-- رد العقاد: نعم.. نعم يا مولانا.. وأنت كذلك!
بعد دقائق تطرق الحديث إلى ردود الفعل المدوية بسبب هذه الاستقالة والتي أكدت على أن السلطة لم تستهوه - أي أحمد أمين - ولم تنسه لحظة واحدة معنى الأستاذية ومعنى العمادة!
الآن أغلق العقاد الهاتف على وعد بلقاء بينهما في صباح اليوم التالي. وقبل أن يغادر أحمد أمين مكانه ليعود إلى حجرة مكتبه لمح الطفل حسين مازال جالسًا بجواره.
-- بابا (قالها بغضب)
-- نعم
-- الأستاذ العقاد قال لى (يا جَحْش)! يضحك أحمد أمين وهو يحتضنه ويقول:" بيهزر معاك"!
-- يرد الطفل حسين:
"حتى أنني قلت له قرأت كتابك"عبقرية عمر" فلم يصدقني"!
-- رد الأب في سعادة:
"غداَ سأقول له إنك قرأته بالفعل.. فلا تحزن"!
-- أنا حزين بالفعل لأنه لم يسألني ليعرف هل قرأته أم لا؟!
-- المرة القادمة سأجعله يسمعك ويسألك!
بعد دقائق عاد الأب إلى دراساته، وكتاباته، وقراءاته، وعاد حسين ليلعب مع إخواته وهو مازال يفكر ويسأل نفسه: "لماذا لم يسمعني؟ ولماذا لم يناقشني في الكتاب؟!
إذن نحن أمام طفل عمره 10سنوات قرأ كتاب (عبقرية عمر) وليس هذا فقط؛ بل أنه - بثقة واقتدار - يريد أن يختبره فيه عباس محمود العقاد ذات نفسه!
《 5》
هذا المشهد، وهذا الطفل في هذا البيت، وفى ذاك العصر يجعلنا - والأمر كذلك - نسأل؟!
أي طفولة هذه؟ وأي عصر هذا؟! وأين نحن اليوم من كل ذلك؟!
وإن كان طفلاً في ذاك الزمان قد قرأ كتاب (عبقرية عمر)؟!
ورغم ذلك - وبعد ذلك - يصفه العقاد:"بالجَحْش"!
فبأي وصف؟ وبأي صفة؟ وبأي قول؟ سيعلق لنا به العقاد - ونحن نحتفل هذه الأيام بذكراه - رحل فى 12 مارس - 1964 - إذا ما رأي.. وإذا ما سمع( طفل) هذه الأيام؟!
خيري حسن
----------------
• الأحداث حقيقية - السيناريو من خيال الكاتب.
• المصدر:
كتاب:
(في بيت أحمد أمين)
حسين أحمد أمين - كتاب الهلال - الطبعة الأولى - يوليه - 1985
كان رنين الهاتف في منزل المفكر أحمد أمين - أوائل الأربعينيات من القرن الماضي - لا يتوقف، حتى أن الأسرة كانت تعتبر رنينه مظهرَا من مظاهر حياتها اليومية.
" يدق جرس التليفون فنهرع - كما يقول الابن حسين أحمد أمين - نحن الأطفال للرد بأصواتنا الرفيعة المتحمسة، والسماعة الكبيرة لا نكاد نستطيع أن نثبتها عند آذننا" ..
ألو! من حضرتك؟
" فيجيب المتكلم:
أنا توفيق الحكيم أو محمود تيمور أو طه حسين"وغيرهم الكثير.
وذات يوم اتصل عباس محمود العقاد.
《2》
الهاتف الآن يرن. الأم في المطبخ. والأطفال ينتشرون في المنزل يضحكون ويلعبون باستثناء الابن حسين الذي يجري نحو السماعة التي تواصل رنينها المدوي بين جدران البيت.
" ألوه - ألوه منْ حضرتك؟
- منْ أنت يا فتي؟
- أنا مش فتى!
-- يضحك بصوته العالي ويقول:
-- إذن مَنْ أنت؟
-- أنا حسين ثم يكمل قائلاً:
" مَنْ حضرتك"؟!
-- أنا العقاد!
- عارفك.. عارفك.. وقرأت لك كتاب (عبقرية عمر) وأعجبني!
-- كَمْ سنك يا جحش؟
-- عشرة!
-- تقرأ عبقرية عمر في العاشرة؟ لا أعتقد أنك فهمته كل الفهم؟!
-- بل فهمته.. فاسألني فيه إن أحببت.
-- ليس لدى وقت لسؤالك فيه.. ثم قال متعجلاَ:
"ناد لي أباك"!
《3》
يضع الابن السماعة ويُسرع إلى حجرة أبيه فتقابله أمه في المسافة ما بين الصالة والمطبخ وتسأل:
-- لماذا تجري هكذا؟
-- الأستاذ العقاد على التليفون!
تهز الأم رأسها في امتعاض معتاد ومعروف عنها - كمعظم زوجات الأدباء والكتاب والمفكرين في العصور السابقة واللاحقة - قبل أن تعود للمطبخ. فهي كثيرًا ما أصابها الضجر، والملل، والغضب من هذه التليفونات المتكررة حتى أنها - وهذه حكاية معروفة بين أفراد الأسرة - كانت تتعامل معها بسخرية شديدة ومتكررة!
تقول حكاية من تلك الحكايات المَروَية إنه كلما عاد أحمد أمين من الخارج سألها (السؤال المعتاد) عمن اتصل به تليفونيًا؟ فتجيبه ساخرة، وهازئة، وغاضبة!
-- " آه.. آه.. اتصل بك ابن خلدون مرتين"!
- ابن خلدون شخصياَ؟!
- آه.!
فيرد مبتسماَ (وهكذا يفعل أغلب الأدباء مع زوجاتهم):
-- هل ترك رسالة؟
-- فترد بغيظ - غيظ معتاد أيضًا - نعم يقول: إنه بدأ يتململ في قبره من كثرة تناولك لسيرته بالحديث"!
تقول ذلك بغيظ غير مكتوم، فيضحك هو بصوت مسموع يسمعه كل مَنْ بالبيت ثم تعود من حيث جاءت (الآن إلى المطبخ تعود)!
《 4》
إلى الصالة جاء أحمد أمين وجلس بجوار التليفون والطفل حسين مازال بجواره.
-- أبي.
-- نعم
-- الأستاذ العقاد قال عنيّ (جَحْش)! قال ذلك ثم سكت!
يضحك أحمد أمين قبل أن يرد على العقاد الذي قال له: اليوم قرأت في صحف الصباح استقالتك من عمادة كلية الآداب يا مولانا؟!
نعم يا أستاذ.. "قدمتها احتجاجًا على نقل أستاذ من أساتذة الكلية دون علمي.. والإذن منىّ"!
يسكت العقاد قليلاً قبل أن يكمل أحمد أمين:
"وعندما سُئلت من الصحافة عن ترك العمادة قلت للصحفي السائل:
" أنا أكبر من عميد وأصغر من أستاذ "!
-- رد العقاد: نعم.. نعم يا مولانا.. وأنت كذلك!
بعد دقائق تطرق الحديث إلى ردود الفعل المدوية بسبب هذه الاستقالة والتي أكدت على أن السلطة لم تستهوه - أي أحمد أمين - ولم تنسه لحظة واحدة معنى الأستاذية ومعنى العمادة!
الآن أغلق العقاد الهاتف على وعد بلقاء بينهما في صباح اليوم التالي. وقبل أن يغادر أحمد أمين مكانه ليعود إلى حجرة مكتبه لمح الطفل حسين مازال جالسًا بجواره.
-- بابا (قالها بغضب)
-- نعم
-- الأستاذ العقاد قال لى (يا جَحْش)! يضحك أحمد أمين وهو يحتضنه ويقول:" بيهزر معاك"!
-- يرد الطفل حسين:
"حتى أنني قلت له قرأت كتابك"عبقرية عمر" فلم يصدقني"!
-- رد الأب في سعادة:
"غداَ سأقول له إنك قرأته بالفعل.. فلا تحزن"!
-- أنا حزين بالفعل لأنه لم يسألني ليعرف هل قرأته أم لا؟!
-- المرة القادمة سأجعله يسمعك ويسألك!
بعد دقائق عاد الأب إلى دراساته، وكتاباته، وقراءاته، وعاد حسين ليلعب مع إخواته وهو مازال يفكر ويسأل نفسه: "لماذا لم يسمعني؟ ولماذا لم يناقشني في الكتاب؟!
إذن نحن أمام طفل عمره 10سنوات قرأ كتاب (عبقرية عمر) وليس هذا فقط؛ بل أنه - بثقة واقتدار - يريد أن يختبره فيه عباس محمود العقاد ذات نفسه!
《 5》
هذا المشهد، وهذا الطفل في هذا البيت، وفى ذاك العصر يجعلنا - والأمر كذلك - نسأل؟!
أي طفولة هذه؟ وأي عصر هذا؟! وأين نحن اليوم من كل ذلك؟!
وإن كان طفلاً في ذاك الزمان قد قرأ كتاب (عبقرية عمر)؟!
ورغم ذلك - وبعد ذلك - يصفه العقاد:"بالجَحْش"!
فبأي وصف؟ وبأي صفة؟ وبأي قول؟ سيعلق لنا به العقاد - ونحن نحتفل هذه الأيام بذكراه - رحل فى 12 مارس - 1964 - إذا ما رأي.. وإذا ما سمع( طفل) هذه الأيام؟!
خيري حسن
----------------
• الأحداث حقيقية - السيناريو من خيال الكاتب.
• المصدر:
كتاب:
(في بيت أحمد أمين)
حسين أحمد أمين - كتاب الهلال - الطبعة الأولى - يوليه - 1985