مصطفى فودة - قراءة فى رواية وصف الماضى للكاتب غسان زقطان

غسان زقطان كاتب فلسطينى كتب عشرة مجموعات شعرية وثلاث روايات ومسرحية ، ولد الكاتب عام 1954 فى بيت جالا بالقرب من بيت لحم ثم انتقل طفلا مع أسرته حيث يعمل والده فى الأونروا إلى مخيم الكرامة للاجئين بشرق الأردن والذى دمره الجيس الإسرائيلى عام 1968 ، ومن هذا المخيم استلهم الكاتب هذه الرواية (وصف الماضى) مستعيدا الفترة التى قضاها طفلا فى هذا المخيم عن طريق الذكريات من خلال سرد غير تقليدى ومراوغ ويتسم بالحلم والضبابية وزمن غير خطى" أنا مضطر لأن أتحدث الآن ، أنت تعرف ضرورة ذلك هنا ،الأشياء تتبدد وتموت عندما لا تجد من يتذكرها " ص12، صدرت الرواية عن أزمنة للنشر والتوزيع فى ثلاث وسبعين صفحة فهى رواية قصيرة (نوفيلا) تتكون من سبعة عشرة فصلا وعنوان جانبى لكل فصل يتراوح مابين صفحة واحدة وخمس صفحات وبدون ترقيم .
تُروى القصة بأصوات ثلاث بالضمائر أنا وهو وهى كل منهم يروى قصته بضمير المتكلم والأصوات لشخصيات بلا أسماء وتعرف بألقابها فهى رواية أصوات بإمتياز، الصوت الأول السارد الرئيسى يُلقب بالنصرانى كانت أمه مسيحية وأبوه مسلم أهدته صليبا عندما كان يعمل فى كروم قريتها قبل زواجه منها فكان يعلقه فى رقبته فلُقب بالنصرانى، ولُقب الصوت الثانى بابن العراقى على لقب عمه بسبب إدعاء عمه مساعدة الجيش العراقى فى حرب 48 ، والصوت الثالث لشابة جميلة سمراء قصيرة ممتلئة وحيدة قاسية ومتزوجة من رجل مسن يلقب بالحاج ، كانت الفتاة مركز الحكى ومحل إعجاب الشابين الصوت الاول والثانى والتلصص عليها وعندما مات زوجها الحاج تزوجت من ابن العراقى(الصوت الثانى) وأنجبت له ولدا ثم مات زوجها غرقا، ثم يعود السارد إليها فى الفصل الأخير مكملا دائرة السرد بنهاية مفتوحة عن علاقتهما " ستبقى جميلة مئة عام ..وكنا وحدنا فى بيت الحاج، بيتها، بيته..كان كل شئ فى طريقه للإكتمال"ص69.
تبدأ الرواية بفصل تأسيسى للرواية بعنوان ظهيرة الشاى يبدأ الفصل بالفعل (قلت) يحكى فيه السارد وكان صبيا صغيرا أرسلته أمه لإقتراض حفنة شاى من بيت الحاج وهناك رأى بدون قصد زوجته الشابة عارية في غرفتها فذهل برؤية جسدها فهرب مرعوبًا ومذهولا بهذا الجسد الجميل المخيف حاكيا لصديقه ابن العراقى عما شاهد " "كانت هناك وحيدة وعارية ...أنا رأيتها كاملة كما أخبرتك، رأيتها كاملة وقاسية ووحيدة بهذا الشكل المخيف "ص13 ثم ينتقل الحكى للفصل الثانى بصوت ابن العراقى بادئا الفصل بالفعل (قال) يحكى فيه عن تولهه بحب ومراقبة تلك الزوجة الشابة ، وتمضى الرواية فى فصولها مفصلة عما أجملته فى فصلها الاول عن العلاقات بينهم وسبب ألقابهم متحركة بمشاهد عبر زمن غير خطى بين الماضى والحاضرثم العودة للماضى وهكذا فى حركة أشبه ببندول الساعة .
تخلل السرد حكى يشبه الحلم لماضيهم ومأساة قتلاهم وتدمير قراهم فى مواضع متفرقة من الرواية فوالد الشابة قتله "الهاغناه" عام 1948 ، ويتذكر الحاج امرأة مرت على قريتهم ذبحوا ولديها أمامها ثم أطلقوها لتروى فى القرية ...كان هناك قتلى كثيرون سنة 1948 فى كل مكان نساء ورجال وأولاد ..قرى كاملة لها أسماء وصفات وذاكرة انتهت وماتت "ص45 ، وفى موضع آخر يذكرالسارد تسلل أبيه إلى قريته تحت أسلاك شائكة وهناك وجدها مدمرة بالكامل والصبار فى كل مكان ولم يتبق منها إلا شجرة رمان وملأ عبه بالرمان ثم عاد ولم يتبق معه إلا ثمرة واحدة احتفظ بها فى منزله تذكره بقريته المدمرة، وكان استدعاء الماضى بعدة طرق عن طريق الحكى كما سبق ، وعن طريق الصورة الفوتوغرافية بالأبيض والأسود لأم الشابة وهى ترتدى فستانا أسود بأكمام قصيرة وفتحة صدر مستطيلة وشعر المرأة مكويا بتموجات الثلاثينيات هكذا تحكى الشابة عن أمها ، كما كان استدعاؤه عن طريق الحواس الخمس البصر واللمس والشم والسمع والتذوق مثل : نحدق فى جسدها الغامض ، اتجه نحوها تقودنى رائحتها ، خاتم معدنى تنغرس حوافه فى الجلد ، كانت أصابعها خشنة وقوية ، كان صوتها آسرا ومفاجئا ، ملأ عبه بالرمان ، كان الوابور يهدر فى المطبخ "الأشياء تتبدد عندما لا تجد من يتذكرها" .
كان الوصف مكثفا وقصيرا ومعبرا فالمرأة الشابة " كانت أكبر منا ، كانت متحصنة ومختفية داخل بشرتها السمراء الغامقة .. كانت وحيدة ومظلومة وقاسية..كانت أصابعها القصيرة الخشنة ، كانت ترتدى ملابس موتاها الثلاثة قميصه ومنديل أمها وحذاء الحاج " ، وفى وصف الحاج " كان هرما وكان كذلك منذ زمن بعيد، منذ وقت لم أعد أتذكره .. ضئيلا وراضيا وميتا وثمة خيط من الحياء يتلامع فى وجهه "ص20
تتسم لغة الرواية بالشعرية من حيث الإيجاز والتكثيف والصورة والمرواغة وعلى سبيل المثال هذه الفقرة من صفحة 40 " وكان جسدها يتحرك بتتابع مثل أفعى قصيرة وممتلئة وكان ذلك يضيف لمعانا إلى تفاصيل جسدها تحت الثوب المبلول الملتصق بها فى اكثر من مكان ، كانت قوية وكنت أحب قوتها ، وكانت قادرة على بذل الجهد والإستغراق فى الشئ ، وكان مرونتها تمنحها متعة تشع فى بدنها وعينيها كانت جميلة دائما وآسرة عندما تعمل أو تتوتر وكان ذلك يمنحها تلك الفكرة التى يطلقها جسدها نحو الآخر..هى فى الثلاثين مائلة للقصر بجسد قوى وعينين هائجتين لا تبصرانى"ص40 . وقد صرح الكاتب فى أحد الحوارات معه أنه فى النهاية شاعر يكتب أشياء أخرى ، ينطلق دائما من الشعر ويعود إليه ، وأنه يذهب إلى هناك( السرد) بحمولة الشاعر وهواجسه وأن الشعر معلم قاس تعلم منه تكثيف النص والجرأة فى الحذف والإختصار عند كتابة نص سردى .
كان الحوار قصيرا ومعبرا وبلغة عربية بسيطة ويعبر عن الموقف و شخصية المتحدث مثل هذا الحوار بين المرأة الشابة والسارد الملقب بالنصرانى
: ما الذى جئتم تسرقونه من بيت الحاج يا نصرانى؟
، هل أخبرتك أن لقبى هو النصرانى ؟
قلت : لا شئ
ماذا جئت تفعل إذن ؟
قلت : لا شئ ..لا شئ ؟
جئنا نتفرج عليك
وهل أنا فرجة يا نصرانى
: والله جئنا نتفرج عليك وأنت نائمة .
( كانت ممسكة برسغه) "وكان الخاتم يشق اللحم وكنت أتألم ، أطلقت يدى فاندفعت عبر البوابة المواربة" .ص11
نجح الكاتب فى كتابة رواية إنسانية جميلة وحديثة ذات مستوى تقنى رفيع ، عبرت عنه وعن الفلسطينيين فى حياتهم العادية كبشر عاديين وعن ماضيهم وأحلامهم وعن آلامهم وقضيتهم دون صخب أو مباشرة أو أفكار جاهزة ، من خلال حكى إنسانى ولغة أقرب إلى الشعر فكانت أكثر صدقا وجمالا وتأثيرا.
حول الرواية : لابد من قراءة هذه الرواية ببطء وتأن حتى نستطيع فهمها والإستمتاع بها ، فقد قرأتها أكثر من مرة ووجدت صعوبة فى فهمها والإلمام بأحداثها وشخصياتها ، وكانت صعوبة الرواية - فى تقديرى- يرجع إلى تقنية التشظى فى الأحداث والزمن والشخصيات فهى متشظية ومتفرقة فى أنحاء الرواية ، كما أن شخصياتها بلا أسماء ويعبر عنها بالضمائر أنا وهو وهى ، فكان لابد من تفكيك الرواية وإعادة تركيبها مرة أخرى حتى أستطيع فهمها ، ولولا لغتها الجميلة وجرأتها وحداثتها وتقنياتها البديعة لكنت انصرفت عنها، ولكنها أمسكت بمعصمى بقوة ولم تفلتنى كما أمسكت الشابة الجميلة بمعصم السارد حين ذهب إلى بيتها ليطلب حفنة شاى ثم تلصص عليها فأمسكت برسغه بأصابعها الخشنة القوية .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...