اللافت في الكتاب تناوله لحالة المثقف العربي، واقعه ومكانته، حالة النفسية، الحد من قدرته على الفعل والتأثير، وكيف ينظر إليه ويعامل من الآخرين، فدوره يختزله بهذا الفعل: "نحن نصارع على جبهة الفكر ونقاتل قتال العقل المرير" ص13، وعن واقع المثقف يقول: "ما الفائدة من الثقافة والعلم إذا كان الفرد يحتقر في وطنه ولا يستطيع الرد حتى ولو بكلمة" ص23، هذا الواقع لم يتغير منذ العهد التركي مرورا بالاستعمار الغربي ووصولا إلى النظام الرسمي الآن، وهذا ما يجعل العجز/الاكتئاب سمة عامة عند غالبية المثقفين.
"هشام شرابي" والمكان
قبل الحديث عن دور "شربي" كمثقف، نتوقف عند رؤيته كفلسطيني للمكان، فقد اكد في كتابه أنه أديب فلسطيني كبقية الأدباء الفلسطينيين الذين يتوحدون ويتماهون مع المكان: "كنت في كل صيف، منذ أن الحقني أبي في السابعة من عمري طالبا داخليا بمدرسة الفرندز برام الله حتى تخرجي من الجامعة الأمريكية وسفري إلى الولايات المتحدة في سنة 1947 أمضي عطلتي الصيفية، أو الجزء الأكبر منها، في عكا عند بيت جدي.
عكا بالنسبة إلي كانت (وما زال) أجمل مدينة في العالم، فيهما أمضيت القسم الأكبر من طفولتي وأجمل أيام صباي" ص91، وإذا ما علمنا أن الكاتب طاف العديد من الدول، وشاهد العديد من العواصم العالمية: "لقد زرت أنحاء مختلفة من العالم، وشاهدت شواطئ رملية عديدة، إلا أني لم أر شاطئا يضاهي شاطئ عكا بجماله ورونقه، الرمل فيه أبيض ناصع ومياه خليجه نقية زرقاء" ص92، نتأكد أن الفلسطيني لا يجد أجمل من وطنه، حتى لو كان جنة الخلد نفسها، لهذا نجده متعلق بمكانه ويعتبره جزء من تكوينة وكيانه ووجوده.
فعندما يفقد الفلسطيني المكان يمسي بحالة مزرية، يحدثنا عن جده وجدته بعد عام 48: "كان نزوج جدي وجدتي عن بيتهما في سنة 1948 أقسى تجربة مرت بهما في حياتهما، وكانت السنوات الأخيرة من حياتهما ملأى بالحزن والضياع، فقدت جدتي مرحها وحيويتها وفقد جدي رشده، ولم يعد يتعرف إلى الذين حوله، ... يقول:
ـ أنا بس راجع لبيتي.. أنا بيتي في عكا.. ليش ما بتخلوني أرجع لبيتي؟
ـ ما بتصدقوني... هذا مفتاح بيتي..
وعندما يعودون به إلى البيت يجلس صامتا والدموع تسيل من عينه وتبلل لحيته التي لم تعد جدتي تقصها له كما كانت تفعل في عكا...توفت جدتي بعده بثماني سنوات" ص97، وهذا ما يجعلنا نقول إن علاقة الفلسطيني بالمكان علاقة لا يمكن (عقلنتها) أو تحليلها من منظور مادي، فهي علاقة روحية حلولية لا يمكن تفسيرها.
"هشام شرابي" كمثقف
جاء في تذيل "الجمر والرماد" "ذكريات مثقف عربي" من هنا سنجد شخصية الكاتب حاضرة في الكتاب، يحدثنا عن الخلاصة التي توصل إليها بقوله: "جميع الأفكار والقيم والأهداف التي لا تدور حول حياة الشعب ومصير الجماهير لم تعد تمسني أو تعني لي شيئا" ص72، وهذا ما يؤكد انتماء "شرابي" المثقف لشعبته، لأمته، لواقعه، لأرضه، وما اختياره للحزب السوري القومي الاجتماعي إلا من باب الانتماء والحرص على مصير ومصالح الشعب/الأمة التي ينتمي إليها.
انتمى "شرابي" للحزب السوري القومي الاجتماعي" قبل النكبة وما حل بفلسطين من خراب وأهلها من تشرد، فقد انعكست الحرب سلبا عليه، خاصة بعد أن وجد عائلته التي كانت تملك أجمل بيوت عكا تقضي إلى بيت متواضع في لبنان، لهذا وجد في الحزب المخلص له ولأسرته ولشعبه ولأمته من ذل وعار الهزيمة: "لم ينقذني من حالة اليأس هذه سوى إيماني بالحزب، كنت أعتقد خلصا بأن الحزب سيحرر فلسطين ويزيل العار الذي لحق بنا، وبقيت على هذا الإيمان إلى أن اغتيل سعادة سنة 1949 وسحق الحزب في لبنان ووقعت الدول العربية معاهدة الهدنة مع إسرائيل" ص163، هذا المقطع يؤكد حجم الكارثة التي حلت بالشعب الفلسطيني عامة، وعلى "شرابي" وأسرته خاصة، فهو كمثقف وكأديب يمتلك مشاعر حساسة تجعله يتأثر بأي قول أو حدث، فما بالنا عندما يكون فقدان الوطن واحتلاله من قبل عصبات خارجية همجية!!
بما أن مؤسس الحزب هو "أنطون سعادة" فقد وجده "شرابي" بهذا الصفات: "كنت غير قادر نفسيا على معارضة سعادة أو مجابهته سلبيا بأي موضوع.
آمنت بسعادة، بأفكاري كلها ومشاعري كلها، وكان بالنسبة لي القائد (الأب المثالي) أحببته واحترمته كما لم احترم أو أحب أي إنسان آخر، وسيبقى سعادة بالنسبة لي هكذا لا يتبدل حتى لو أصبحت في السبعين" ص83، أجزم أن هذا القول لا يمكن أن ينطبق على أي مسؤول عربي حاليا، فكلهم فاقدي الشخصية، شكليا وسلوكيا وفكريا، بينما نجد حضور "سعادة" بهذه القوة رغم المدة الزمنية التي تقترب من الثلاثين عاما على رحيل "سعادة" وكتابة "الجمر والرماد"
يحدثنا "شرابي" عما تركه "سعادة" من اثر بعد استشهاده: "أراه الآن، في أول آذار، ينظر إلى الحاضرين ويده على كتفي، ويخيل إلي أنه يودعهم لشعوره بقرب النهاية، لعلني أتخيل كل هذا بعد مضي هذه السنين الطوال، لكنها صورة لا تفارقني وأنا أكتب هذه السطور" ص199، تذكر "سعادة" والكتابة عنه بعد سنوات عديد، والتحدث عنه بهذه الروح، يشير إلى أن بقايا رسالته وقوة حضوره وهيبته ما زالت فاعلة في "شرابي" ورفاقه، لهذا نجد "سعادة" والحزب الذي رواه بدمه ما زال حاضرا وفاعلا ومؤثرا، رغم تعدد وتنوع الأعداء الذين يعملون للقضاء عليه.
"شرابي" والقراءة
القراءة من الأفعال التي تلازم المثقف، دونها يصاب يالظمأ، ويمكن أن يُقضى عليه وعلى دوره، يشير "شرابي" إلى دور القراءة في حياته بقوله: "أمضيت الفصل الأول كله في الدرس والمطالعة، تسع أو عشر ساعات في اليوم، كنت أجلس للقراءة وأستمر فيها دون مقاطعة أحد، وهكذا تعلمت القراءة الجدية" ص135، فالقراءة تمثل الشيء/الحاجة الوحيدة التي لا يمكن أن يشبع منها الإنسان، لأنه كلما قرأ علم أنه بحاجة إلى مزيد من المعرفة، فيرى نفسه (جاهل) ولا يعرف إلا القليل.
علاقة "شرابي" بالقراءة والكتاب علاقة روحية، علاقة أم بابنها: "كنت دائما أعود إلى كتبي.
رويدا تحول الكتاب بالنسبة إلي إلى شيء حي، إلى صديق حميم إلى ضرورة حيوية" ص136و137، فالكتاب الذي يُقرأ، ويُوضع عليه الملاحظات، يمسي جزء من كيان القارئ، لهذا لا يمكن استبدله بنسخة أخرى إذا ما فقد، لأنه يمثل ذكريا حميمة بالنسبة له، حيث امضى وقتا جميلا مع صديقه الكتاب.
"شرابي" والكتابة
الكتابة فعل يحتاج إلى العديد من المقومات، منها الصبر والجلد، والدقة فيما يقدمه الكاتب لجمهوره، يتحدث "شرابي" عن الكتاب بقوله: "كتابة مقال أو إعداد محاضرة يستغرق أياما وأسابيعا من العمل المستعر، أما تأليف كتاب فيتطلب أشهرا من الانقطاع التمام على مدى سنوات، فقد استغرق إنجاز كتابي "المثقفون العرب والغرب" ست سنوات، وهو لا يتعدى المائة والخمسين صفحة" ص131، وهذا ما جعل كتب "شرابي" حية وحاضرة ومؤثرة حتى اليوم، رغم مروت عقود على إنجازها، فالكتاب عندما يعد بشكل جيدا يبقى حيا وحاضرا بين القراء والمتلقين.
"هشام شرابي" والمكان
قبل الحديث عن دور "شربي" كمثقف، نتوقف عند رؤيته كفلسطيني للمكان، فقد اكد في كتابه أنه أديب فلسطيني كبقية الأدباء الفلسطينيين الذين يتوحدون ويتماهون مع المكان: "كنت في كل صيف، منذ أن الحقني أبي في السابعة من عمري طالبا داخليا بمدرسة الفرندز برام الله حتى تخرجي من الجامعة الأمريكية وسفري إلى الولايات المتحدة في سنة 1947 أمضي عطلتي الصيفية، أو الجزء الأكبر منها، في عكا عند بيت جدي.
عكا بالنسبة إلي كانت (وما زال) أجمل مدينة في العالم، فيهما أمضيت القسم الأكبر من طفولتي وأجمل أيام صباي" ص91، وإذا ما علمنا أن الكاتب طاف العديد من الدول، وشاهد العديد من العواصم العالمية: "لقد زرت أنحاء مختلفة من العالم، وشاهدت شواطئ رملية عديدة، إلا أني لم أر شاطئا يضاهي شاطئ عكا بجماله ورونقه، الرمل فيه أبيض ناصع ومياه خليجه نقية زرقاء" ص92، نتأكد أن الفلسطيني لا يجد أجمل من وطنه، حتى لو كان جنة الخلد نفسها، لهذا نجده متعلق بمكانه ويعتبره جزء من تكوينة وكيانه ووجوده.
فعندما يفقد الفلسطيني المكان يمسي بحالة مزرية، يحدثنا عن جده وجدته بعد عام 48: "كان نزوج جدي وجدتي عن بيتهما في سنة 1948 أقسى تجربة مرت بهما في حياتهما، وكانت السنوات الأخيرة من حياتهما ملأى بالحزن والضياع، فقدت جدتي مرحها وحيويتها وفقد جدي رشده، ولم يعد يتعرف إلى الذين حوله، ... يقول:
ـ أنا بس راجع لبيتي.. أنا بيتي في عكا.. ليش ما بتخلوني أرجع لبيتي؟
ـ ما بتصدقوني... هذا مفتاح بيتي..
وعندما يعودون به إلى البيت يجلس صامتا والدموع تسيل من عينه وتبلل لحيته التي لم تعد جدتي تقصها له كما كانت تفعل في عكا...توفت جدتي بعده بثماني سنوات" ص97، وهذا ما يجعلنا نقول إن علاقة الفلسطيني بالمكان علاقة لا يمكن (عقلنتها) أو تحليلها من منظور مادي، فهي علاقة روحية حلولية لا يمكن تفسيرها.
"هشام شرابي" كمثقف
جاء في تذيل "الجمر والرماد" "ذكريات مثقف عربي" من هنا سنجد شخصية الكاتب حاضرة في الكتاب، يحدثنا عن الخلاصة التي توصل إليها بقوله: "جميع الأفكار والقيم والأهداف التي لا تدور حول حياة الشعب ومصير الجماهير لم تعد تمسني أو تعني لي شيئا" ص72، وهذا ما يؤكد انتماء "شرابي" المثقف لشعبته، لأمته، لواقعه، لأرضه، وما اختياره للحزب السوري القومي الاجتماعي إلا من باب الانتماء والحرص على مصير ومصالح الشعب/الأمة التي ينتمي إليها.
انتمى "شرابي" للحزب السوري القومي الاجتماعي" قبل النكبة وما حل بفلسطين من خراب وأهلها من تشرد، فقد انعكست الحرب سلبا عليه، خاصة بعد أن وجد عائلته التي كانت تملك أجمل بيوت عكا تقضي إلى بيت متواضع في لبنان، لهذا وجد في الحزب المخلص له ولأسرته ولشعبه ولأمته من ذل وعار الهزيمة: "لم ينقذني من حالة اليأس هذه سوى إيماني بالحزب، كنت أعتقد خلصا بأن الحزب سيحرر فلسطين ويزيل العار الذي لحق بنا، وبقيت على هذا الإيمان إلى أن اغتيل سعادة سنة 1949 وسحق الحزب في لبنان ووقعت الدول العربية معاهدة الهدنة مع إسرائيل" ص163، هذا المقطع يؤكد حجم الكارثة التي حلت بالشعب الفلسطيني عامة، وعلى "شرابي" وأسرته خاصة، فهو كمثقف وكأديب يمتلك مشاعر حساسة تجعله يتأثر بأي قول أو حدث، فما بالنا عندما يكون فقدان الوطن واحتلاله من قبل عصبات خارجية همجية!!
بما أن مؤسس الحزب هو "أنطون سعادة" فقد وجده "شرابي" بهذا الصفات: "كنت غير قادر نفسيا على معارضة سعادة أو مجابهته سلبيا بأي موضوع.
آمنت بسعادة، بأفكاري كلها ومشاعري كلها، وكان بالنسبة لي القائد (الأب المثالي) أحببته واحترمته كما لم احترم أو أحب أي إنسان آخر، وسيبقى سعادة بالنسبة لي هكذا لا يتبدل حتى لو أصبحت في السبعين" ص83، أجزم أن هذا القول لا يمكن أن ينطبق على أي مسؤول عربي حاليا، فكلهم فاقدي الشخصية، شكليا وسلوكيا وفكريا، بينما نجد حضور "سعادة" بهذه القوة رغم المدة الزمنية التي تقترب من الثلاثين عاما على رحيل "سعادة" وكتابة "الجمر والرماد"
يحدثنا "شرابي" عما تركه "سعادة" من اثر بعد استشهاده: "أراه الآن، في أول آذار، ينظر إلى الحاضرين ويده على كتفي، ويخيل إلي أنه يودعهم لشعوره بقرب النهاية، لعلني أتخيل كل هذا بعد مضي هذه السنين الطوال، لكنها صورة لا تفارقني وأنا أكتب هذه السطور" ص199، تذكر "سعادة" والكتابة عنه بعد سنوات عديد، والتحدث عنه بهذه الروح، يشير إلى أن بقايا رسالته وقوة حضوره وهيبته ما زالت فاعلة في "شرابي" ورفاقه، لهذا نجد "سعادة" والحزب الذي رواه بدمه ما زال حاضرا وفاعلا ومؤثرا، رغم تعدد وتنوع الأعداء الذين يعملون للقضاء عليه.
"شرابي" والقراءة
القراءة من الأفعال التي تلازم المثقف، دونها يصاب يالظمأ، ويمكن أن يُقضى عليه وعلى دوره، يشير "شرابي" إلى دور القراءة في حياته بقوله: "أمضيت الفصل الأول كله في الدرس والمطالعة، تسع أو عشر ساعات في اليوم، كنت أجلس للقراءة وأستمر فيها دون مقاطعة أحد، وهكذا تعلمت القراءة الجدية" ص135، فالقراءة تمثل الشيء/الحاجة الوحيدة التي لا يمكن أن يشبع منها الإنسان، لأنه كلما قرأ علم أنه بحاجة إلى مزيد من المعرفة، فيرى نفسه (جاهل) ولا يعرف إلا القليل.
علاقة "شرابي" بالقراءة والكتاب علاقة روحية، علاقة أم بابنها: "كنت دائما أعود إلى كتبي.
رويدا تحول الكتاب بالنسبة إلي إلى شيء حي، إلى صديق حميم إلى ضرورة حيوية" ص136و137، فالكتاب الذي يُقرأ، ويُوضع عليه الملاحظات، يمسي جزء من كيان القارئ، لهذا لا يمكن استبدله بنسخة أخرى إذا ما فقد، لأنه يمثل ذكريا حميمة بالنسبة له، حيث امضى وقتا جميلا مع صديقه الكتاب.
"شرابي" والكتابة
الكتابة فعل يحتاج إلى العديد من المقومات، منها الصبر والجلد، والدقة فيما يقدمه الكاتب لجمهوره، يتحدث "شرابي" عن الكتاب بقوله: "كتابة مقال أو إعداد محاضرة يستغرق أياما وأسابيعا من العمل المستعر، أما تأليف كتاب فيتطلب أشهرا من الانقطاع التمام على مدى سنوات، فقد استغرق إنجاز كتابي "المثقفون العرب والغرب" ست سنوات، وهو لا يتعدى المائة والخمسين صفحة" ص131، وهذا ما جعل كتب "شرابي" حية وحاضرة ومؤثرة حتى اليوم، رغم مروت عقود على إنجازها، فالكتاب عندما يعد بشكل جيدا يبقى حيا وحاضرا بين القراء والمتلقين.