(2)
مرَّةً أُخرى، على ضوءِ ما استجدَّ من «جديدٍ» منذ صدورِ الشكلِ الأولِ من هكذا مقالٍ «شديدِ»، إنه لَعَيْنُ السُّفُولِ العلميِّ غامرًا غَمْرًا غَمِيرًا على كلٍّ من المستويَيْن الكمِّي والكيفي قبل كلِّ شيءٍ، هذا السُّفُولِ العلميِّ الذي يتجلَّى جليًّا في فحواءِ الانحطاط الثقافي بالحرف وبالمجاز: وتلك حقيقة صارخة وفاضحة من حقائق الصحافة العربية «الرسمية» التي لم تعد تحتاج إلى أيما إثبات دامغ، أو حتى غير دامغ، في هذه الأيام العصيبة من زماننا العربي السليب.. فعلى سبيل مثال آخر، في اليوم الرابع عشر من شهر حزيران (يونيو) عامَ 2023، صدر أيضا في صحيفة «القدس العربي» الغنية عن التعريف بـ«استقلالها السياسي» المصطَنعِ بكلٍّ من المعنيين النفاقي والازدواجي، وبانتهاكها اللاإنساني واللاأخلاقي الزَّرِيِّ لحقوق القراء والقارئات في التعليق تصعيدا، ناهيك عن تَبَجُّحِهَا الزائف والمُفْتَرى الأشدِّ زِرَايَةً بنشر «أجود» التقارير الصحفية من حيث الموضوعية والعمق وما إلى ذلك، صدر تقريرٌ صحفيٌّ منضودٌ باقتضاب على شاكلة مقال إنبائيٍّ من مقالات «الرأي الثقافي أو شبه الثقافي» بدوره هو الآخر، ومسرودٌ بذات الاقتضاب تحت العنوان التعريفي المباشر سائرًا بالسياق الموائمِ، هكذا: «بين الإنسان الكامل والإنسان المتفوق»، وذلك بعد إجراءِ شيءٍ من التقويم الرقمي والترقيمي في الوضع الاصطلاحي في عبارة العنوان بالذات.. والمقرِّرُ الصحافيُّ الذي تجشَّم عناءَ هذين التنضيد والتسريد المقتضبين، محمد جميح، إنما هو بادِّعائهِ كاتبٌ لاتقليديٌّ و«شاعرٌ تقليديٌّ» يكتب في ذات الصحيفة منذ زمن ليس بالقصير بَتًّا، إلا أن إشكاليَّتَهُ الكتابيةَ التي لا يبدو أنه يُدرِكُهَا فعليًّا، من حيثُ جانبُهَا الفحوائيُّ في توخِّي الموضوعِ المُؤَاتي على وجه التحديد، هي أنه غالبا ما يورِّط نفسَهُ في الكلام عن مواضيعَ ليست من حدود اختصاصهِ العلميِّ قطعا ولا حتى من حدود اقتنائهِ المعرفيِّ تبعا، مِمَّا يُوقِعُهُ بين أخذٍ وردٍّ ذاتِيَّيْنِ في الكثيرِ من أشراكِ اللبسِ والالتباسِ والمغالطة.. ففي متن التقرير الصحفي المعني هذا، يُبْدَأُ بالكلام المتوازي على فكرةِ البحثِ الدؤوبِ عن نموذجِ مَنْ يُشَارُ إليهِ وضعا عربيا تَسْيِيليًّا بـ«الإنسان الأعلى» Übermensch حسبَ وضعهِ الأصلي في اللغةِ الألمانيةِ (من لدن فريدريك نيتشه عامَ 1883)، أو Superman حسبَ وضعهِ الفصلي في اللغةِ الإنكليزيةِ (من لدن جورج بيرنارد شو عامَ 1903)، هذا النموذج الذي تمَّ تعريفُهُ في عبارةِ العنوانِ كيفَمَا اتَّفَقَ بـ«الإنسان الكامل» أو حتى بـ«الإنسان المتفوق» كيمَا تُبَيَّنَ غاياتُ ذلك البحثِ الدؤوبِ في التعويضِ النفسيِّ والاجتماعيِّ إزاءَ عُقَدٍ دائيَّةٍ مترسِّخةٍ تَزَمُّنِيًّا، كعقدةِ النقص وعقدة الدُّون وعقدة العجز وما شابه (يُنظر تقريرُ محمد جميح المعنيُّ: «بين الإنسان الكامل والإنسان المتفوق»، من إصدار «القدس العربي» يوم 14 حزيران (يونيو) عام 2023)..
وبعد هذا الاستعراض الاصطلاحي المصطنَع، فيما يبدو، يُؤتى كذاك بالكلام المتوازي الآخر على فكرة المقابل الصوفي لدى محيي الدين ابنِ عربي (1165-1240) بالعَيْن، إذ رأى، في جملةِ ما رأى، أن ثَمَّ نموذجا لـ«الإنسان الكامل» شبيها بالإطار الذي يحدِّد صورَ الكمال الإنساني في تجلياته الجسدية كُلًّا، واصطلح عليه بـ«الحقيقة المحمدية» كمثال جامع بين الصورة الإنسانية والخلافة الإلهية.. واعتمد ابنُ عربي في هذا أحاديثَ تخصُّ وجودَ الإنسان روحا في «عالم الذر» قبلَ أن تتنزَّلَ في جسدها، نحو: «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» إيحاءً بكينونة «الروحية المحمدية» قبل آدم، وقبل أن تولد «الشخصية المحمدية» التي ولدت بالطبع بعد آدم بحقب مديدة.. من هنا، يأتي تسييسُ مفهومِ «الإنسان الكامل» بوصفهِ «خليفة الله» حيث «خلق الله آدم على صورته» في أول تنزيل للحقيقة المحمدية أو للإنسان الكامل، قبلَ أن تتنزَّلَ في شخصيةِ النبي كرابطٍ بين الله والخلق.. ورغمَ أنَّ ابنَ عربي لم يهدفْ قطُّ إلى تسييس المصطلح المعني، إلَّا أنَّ فِرَقًا إسلاميةً معيَّنةً قد قصدت هكذا تسييسا في واقع الحالِ، كبعض أئمة الشيعة الذين رأوا «نيابة المهدي» عن الله ومن ثم نيابة «الولي الفقيه» عن المهدي، وكبعض خلفاء السنة الذين رأوا أنهم «خلفاء الله» تحديدا.. معَ أن مصطلحَ «الخليفة» مُسَمِّيًا ذا المنصبِ الأول في الدولة الإسلامية قد أشار إلى «خليفة رسول الله» وليس خليفة الله، كحال أبي بكر الصديق ومن بعده عمر بن الخطاب (الذي كان له أن يتلقَّبَ بـ«خليفة خليفة رسول الله» لكن اللقبَ لطولهِ قد اسْتُعِيضَ عنه بـ«أمير المؤمنين»).. ثم جاء من وسطٍ جغرافيٍّ آخَرَ فريدريك نيتشه (1844-1900) بفكرته المثلى عن «الإنسان المتفوق»، التي شابهت فكرةَ ابن عربي عن «الإنسان الكامل» كانعكاس لطموح الإنسان إلى الكمال فيما يظهر، لكنها اختلفت جذريًّا من افتراضِ أن هذا الإنسانَ خلاصةُ «انتخابٍ طبيعيٍّ» ليس له في ذاك إلا أن يجسد مبدأ «البقاء للأقوى» بحسب مفهوم تشارلز داروين (1809-1882).. وهكذا، يتبدَّى إنسان نيتشه ككائن مادِّيٍّ ينأى بنفسه عن الأخلاق التقليدية نَأْيًا ويميل بها إلى عامل القوة مَيْلًا، حَالًّا بذاك مَحَلَّ الإلٰهِ في المقام الأول – على الخلاف من إنسان ابن عربي الذي يتجلَّى كأيقونٍ روحيٍّ يتنزَّلُ في شكلٍ بشريٍّ ليكونَ نائبا لله وواصلا بين الله والبشر.. ففي حين يبرِّرُ هذا الإنسانُ الأخيرُ كثيرا من التوجهات الدينية (الإسلامية) التي بالغت في تقديس الأئمَّة إلى حَدِّ الإلٰه المعصومِ تحقيقا لمنافعَ سياسيةٍ واقتصاديةٍ، فإن الإنسانَ الأولَ (إنسانَ نيتشه) من طرفهِ يخوِّلُ هدمَ التطلُّعاتِ الدينية (المسيحية) كي يُنهيَ استغلالَ حَدِّ الإله المصلوبِ إنجازا لمآربَ سلطويةٍ وثرويةٍ – ناهيك، بالطبع، عن تخويلهِ (اللامقصودِ أو حتى اللاواعي) لبروزِ تلك النزعاتِ العنصريةِ التي اقترنت بالإيمانِ المطلق، أو بالكاد، بسيدودة العنصر الآري الألماني على سائر العناصر الأخرى..
هكذا استعراضٌ اصطلاحيٌّ مصطنَعٌ، إذن، لَمُسْتَنِدٌ في جُلِّهِ إلى نصِّ التقريرِ الصحفيِّ الآنفِ الذِّكْرِ وذلك بعد إجراءِ شيءٍ من التسلسلِ المنطقيِّ للأفكار والتوثيقِ التأريخيِّ للأعلام والتبيانِ الأسلوبيِّ للعبارات.. ففيما لَهُ مِسَاسٌ بعبارةِ التصديرِ الرئيسيةِ، يستخلص الكاتب المعنيُّ مِمَّا سبقَ كلِّهِ بأن فكرة ابن عربي عن «الإنسان الكامل» غالبا ما اسْتُغِلَّتْ لغايات سياسية طائفية باسم إحياء الله، بينما فكرة نيتشه عن «الإنسان المتفوق» فقد اسْتُغِلَّتْ لغايات سياسية عنصرية باسم مَوَاتِ الإلٰه، وانبثقت عن كلٍّ من هٰتين الفكرتَيْنِ بالتالي حَمِيَّاتٌ مُدَمِّرةُ شتَّى لم تزلْ تبعاتُهَا ملموسةً ومحسوسةً في هذا الزمان الكئيب.. قد يكون الكاتب المعنيُّ مصيبا بعضَ الشيءِ في عرضِ فكرة ابن عربي عن «الإنسان الكامل» ولا ريب، بيدَ أن هذا العرضَ لا يبدو ذا صلة فعلية بفكرة نيتشه عن الاصطلاح الألماني Übermensch أصلا، أو المقابل الإنكليزي Superman فصلا، هذا الاصطلاح الذي يترجمه الكاتبُ المعنيُّ غلطا بـ«الإنسان المتفوق»، إذ ليس لهذا الاصطلاح أي مساس لغوي بمعنى «التفوّق» لا من قريب ولا من بعيد.. حتى أن كون هذا الإنسان النيتشوي بمعنى من المعاني تطورا عن سيرورة «الانتخاب الطبيعي» أو تجسيدا لصيرورة «البقاء للأصلح (لا الأقوى)» بحسب المفهوم الدارويني كما ذُكر، لا يمكنُ لهُ أن يُؤخذَ ها هنا إلا على مستوى نفسانيٍّ معيَّن، أو حتى على أيِّما مشابهٍ عرفانيٍّ آخَرَ.. باختصار شديد، «الإنسان الأمثل» (وهو المقابلُ العربيُّ الأقربُ، فيما يتبدَّى) إنما هو وسطٌ نفسانيٌّ أو عرفانيٌّ بين الله والإنسان إلا أنه بتفرُّدهِ وتميُّزهِ المُدْرَكَيْن بأرقى تجلٍّ من تجلِّياتِ الكمون والإبداع لا يطابق أيًّا منهما بَتًّا، فلا هو ذلك الكائنُ المقدَّسُ إلى درجة اللاهوت السماويِّ ولا هو ذلك الكائنُ المدنَّس إلى دركة الناسوت الأرضيِّ أو حتى الدنيويِّ – كل هذا قد تعلَّمتُه من أستاذي القدير غياث المرزوق استئناسا بتحليل مسرحية جورج بيرنارد شو، «الإنسان (الماثل) والإنسان الأمثل» Man and Superman، أيام دراستي في جامعات الدنمارك في الأيام الخوالي.. ومما يدحض الفحوى من تيك الترجمة العربية المتوخَّاةِ غلطا ، أن يتواجدَ «الإنسانُ المتفوق» عينُه باحتمال شديد على أرض الواقع الحرفيِّ طافحًا علمًا وما يقتضيهِ، وأن لا يتواجدَ «الإنسانُ الأمثلُ» إلى حَدِّ الاستحالةِ في هذا الواقع بالمقابلِ غَلمًا وما يبتنيه.. فما البالُ، والمَآلُ هنا، من أولئك المتأسلمين الأدعياء من المَهَنَةِ العُتْفِ وهم يطفحون جهلًا على جهلٍ حينما يستشهدون بكل جهلٍ بنصِّ الحديث المذكور آنفًا، «خلق الله آدم على صورته»، وحينما يصرِّحون بكل جهلٍ بأنَّ ضميرَ الهاء المتصل في «صورته» إنما يعود إلى آدم وليس إلى الله حسبما يفهمون بكل جهل من القاعدة النحويةِ المعنيَّةِ في السياق، لو كانوا يدركون شيئا من تدليلِ الحديث الآخَرِ، «خلق الله آدم على صورةِ الرحمٰن»، ومن تفنيدهِ الجازم لكل ما أدلوا بهِ بكل جهلٍ في ذات السياق – هٰؤلاءِ متأسلمونَ أدعياءُ من مَهَنَةٍ عُتْفٍ يطفحون جهلًا على جهلٍ ليس لهم إلَّا إغداقُ المدائحِ كالإمَّعَات، وليس لهم إلَّا اللُّهاثُ على الهوامشِ كالبغايا المسترجلات؟؟..
***
كوبنهاغن (الدنمارك)،
29 آذار (مارس) 2024
-----------
ملاحظة هامة
هذه المقالات التي يتمُّ إعدادُها في مجال النقد الإعلامي والصحافي تحديدا إنما كانت، وما زالت، تصدر تباعا في المركز الإعلامي الفلسطيني المتميِّز، «الإعلام الحقيقي» Real Media، هذا المركزِ الكائنِ في حي الرمال من مدينةِ غَزَّةَ الأَبِيَّةِ بالذات.. ولكنْ، إذ يعترينا القلقُ الشديدُ والحزنُ الأشدُّ من هول القتل والدمار اللذين يُمَارَسَا بحقِّ أخواتنا وإخوتنا من الشعب الغَزِّيِّ الكُمَيْتِ الهُمَامِ من طرف أنجاس العدو الصهيوني الهمجي الإجرامي هو الآخَرُ على مدى خمسةِ أشهرٍ أو يزيدُ من الزمان، يبدو أن مركز «الإعلام الحقيقي» هذا قد توقَّف عن إصدار موادِّهِ الإعلامية والصحافية حتى إشعارٍ آخَرَ منذ اندلاع «طوفان الأقصى» المُزَلْزِلِ في اليوم السابع من شهر تشرين الأول (أكتوبر) من العام الفائت 2023.. وكلُّنا، في هذا، أملٌ وتطلُّعٌ وتشوُّفٌ على أحرَّ من الجَمْرِ في عودة هذا المركز الفريد إلى نشاطه المعتاد في المستقبل القريب – وإنَّهُ لَسَمِيعٌ مُجِيب
آصال أبسال
مرَّةً أُخرى، على ضوءِ ما استجدَّ من «جديدٍ» منذ صدورِ الشكلِ الأولِ من هكذا مقالٍ «شديدِ»، إنه لَعَيْنُ السُّفُولِ العلميِّ غامرًا غَمْرًا غَمِيرًا على كلٍّ من المستويَيْن الكمِّي والكيفي قبل كلِّ شيءٍ، هذا السُّفُولِ العلميِّ الذي يتجلَّى جليًّا في فحواءِ الانحطاط الثقافي بالحرف وبالمجاز: وتلك حقيقة صارخة وفاضحة من حقائق الصحافة العربية «الرسمية» التي لم تعد تحتاج إلى أيما إثبات دامغ، أو حتى غير دامغ، في هذه الأيام العصيبة من زماننا العربي السليب.. فعلى سبيل مثال آخر، في اليوم الرابع عشر من شهر حزيران (يونيو) عامَ 2023، صدر أيضا في صحيفة «القدس العربي» الغنية عن التعريف بـ«استقلالها السياسي» المصطَنعِ بكلٍّ من المعنيين النفاقي والازدواجي، وبانتهاكها اللاإنساني واللاأخلاقي الزَّرِيِّ لحقوق القراء والقارئات في التعليق تصعيدا، ناهيك عن تَبَجُّحِهَا الزائف والمُفْتَرى الأشدِّ زِرَايَةً بنشر «أجود» التقارير الصحفية من حيث الموضوعية والعمق وما إلى ذلك، صدر تقريرٌ صحفيٌّ منضودٌ باقتضاب على شاكلة مقال إنبائيٍّ من مقالات «الرأي الثقافي أو شبه الثقافي» بدوره هو الآخر، ومسرودٌ بذات الاقتضاب تحت العنوان التعريفي المباشر سائرًا بالسياق الموائمِ، هكذا: «بين الإنسان الكامل والإنسان المتفوق»، وذلك بعد إجراءِ شيءٍ من التقويم الرقمي والترقيمي في الوضع الاصطلاحي في عبارة العنوان بالذات.. والمقرِّرُ الصحافيُّ الذي تجشَّم عناءَ هذين التنضيد والتسريد المقتضبين، محمد جميح، إنما هو بادِّعائهِ كاتبٌ لاتقليديٌّ و«شاعرٌ تقليديٌّ» يكتب في ذات الصحيفة منذ زمن ليس بالقصير بَتًّا، إلا أن إشكاليَّتَهُ الكتابيةَ التي لا يبدو أنه يُدرِكُهَا فعليًّا، من حيثُ جانبُهَا الفحوائيُّ في توخِّي الموضوعِ المُؤَاتي على وجه التحديد، هي أنه غالبا ما يورِّط نفسَهُ في الكلام عن مواضيعَ ليست من حدود اختصاصهِ العلميِّ قطعا ولا حتى من حدود اقتنائهِ المعرفيِّ تبعا، مِمَّا يُوقِعُهُ بين أخذٍ وردٍّ ذاتِيَّيْنِ في الكثيرِ من أشراكِ اللبسِ والالتباسِ والمغالطة.. ففي متن التقرير الصحفي المعني هذا، يُبْدَأُ بالكلام المتوازي على فكرةِ البحثِ الدؤوبِ عن نموذجِ مَنْ يُشَارُ إليهِ وضعا عربيا تَسْيِيليًّا بـ«الإنسان الأعلى» Übermensch حسبَ وضعهِ الأصلي في اللغةِ الألمانيةِ (من لدن فريدريك نيتشه عامَ 1883)، أو Superman حسبَ وضعهِ الفصلي في اللغةِ الإنكليزيةِ (من لدن جورج بيرنارد شو عامَ 1903)، هذا النموذج الذي تمَّ تعريفُهُ في عبارةِ العنوانِ كيفَمَا اتَّفَقَ بـ«الإنسان الكامل» أو حتى بـ«الإنسان المتفوق» كيمَا تُبَيَّنَ غاياتُ ذلك البحثِ الدؤوبِ في التعويضِ النفسيِّ والاجتماعيِّ إزاءَ عُقَدٍ دائيَّةٍ مترسِّخةٍ تَزَمُّنِيًّا، كعقدةِ النقص وعقدة الدُّون وعقدة العجز وما شابه (يُنظر تقريرُ محمد جميح المعنيُّ: «بين الإنسان الكامل والإنسان المتفوق»، من إصدار «القدس العربي» يوم 14 حزيران (يونيو) عام 2023)..
وبعد هذا الاستعراض الاصطلاحي المصطنَع، فيما يبدو، يُؤتى كذاك بالكلام المتوازي الآخر على فكرة المقابل الصوفي لدى محيي الدين ابنِ عربي (1165-1240) بالعَيْن، إذ رأى، في جملةِ ما رأى، أن ثَمَّ نموذجا لـ«الإنسان الكامل» شبيها بالإطار الذي يحدِّد صورَ الكمال الإنساني في تجلياته الجسدية كُلًّا، واصطلح عليه بـ«الحقيقة المحمدية» كمثال جامع بين الصورة الإنسانية والخلافة الإلهية.. واعتمد ابنُ عربي في هذا أحاديثَ تخصُّ وجودَ الإنسان روحا في «عالم الذر» قبلَ أن تتنزَّلَ في جسدها، نحو: «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» إيحاءً بكينونة «الروحية المحمدية» قبل آدم، وقبل أن تولد «الشخصية المحمدية» التي ولدت بالطبع بعد آدم بحقب مديدة.. من هنا، يأتي تسييسُ مفهومِ «الإنسان الكامل» بوصفهِ «خليفة الله» حيث «خلق الله آدم على صورته» في أول تنزيل للحقيقة المحمدية أو للإنسان الكامل، قبلَ أن تتنزَّلَ في شخصيةِ النبي كرابطٍ بين الله والخلق.. ورغمَ أنَّ ابنَ عربي لم يهدفْ قطُّ إلى تسييس المصطلح المعني، إلَّا أنَّ فِرَقًا إسلاميةً معيَّنةً قد قصدت هكذا تسييسا في واقع الحالِ، كبعض أئمة الشيعة الذين رأوا «نيابة المهدي» عن الله ومن ثم نيابة «الولي الفقيه» عن المهدي، وكبعض خلفاء السنة الذين رأوا أنهم «خلفاء الله» تحديدا.. معَ أن مصطلحَ «الخليفة» مُسَمِّيًا ذا المنصبِ الأول في الدولة الإسلامية قد أشار إلى «خليفة رسول الله» وليس خليفة الله، كحال أبي بكر الصديق ومن بعده عمر بن الخطاب (الذي كان له أن يتلقَّبَ بـ«خليفة خليفة رسول الله» لكن اللقبَ لطولهِ قد اسْتُعِيضَ عنه بـ«أمير المؤمنين»).. ثم جاء من وسطٍ جغرافيٍّ آخَرَ فريدريك نيتشه (1844-1900) بفكرته المثلى عن «الإنسان المتفوق»، التي شابهت فكرةَ ابن عربي عن «الإنسان الكامل» كانعكاس لطموح الإنسان إلى الكمال فيما يظهر، لكنها اختلفت جذريًّا من افتراضِ أن هذا الإنسانَ خلاصةُ «انتخابٍ طبيعيٍّ» ليس له في ذاك إلا أن يجسد مبدأ «البقاء للأقوى» بحسب مفهوم تشارلز داروين (1809-1882).. وهكذا، يتبدَّى إنسان نيتشه ككائن مادِّيٍّ ينأى بنفسه عن الأخلاق التقليدية نَأْيًا ويميل بها إلى عامل القوة مَيْلًا، حَالًّا بذاك مَحَلَّ الإلٰهِ في المقام الأول – على الخلاف من إنسان ابن عربي الذي يتجلَّى كأيقونٍ روحيٍّ يتنزَّلُ في شكلٍ بشريٍّ ليكونَ نائبا لله وواصلا بين الله والبشر.. ففي حين يبرِّرُ هذا الإنسانُ الأخيرُ كثيرا من التوجهات الدينية (الإسلامية) التي بالغت في تقديس الأئمَّة إلى حَدِّ الإلٰه المعصومِ تحقيقا لمنافعَ سياسيةٍ واقتصاديةٍ، فإن الإنسانَ الأولَ (إنسانَ نيتشه) من طرفهِ يخوِّلُ هدمَ التطلُّعاتِ الدينية (المسيحية) كي يُنهيَ استغلالَ حَدِّ الإله المصلوبِ إنجازا لمآربَ سلطويةٍ وثرويةٍ – ناهيك، بالطبع، عن تخويلهِ (اللامقصودِ أو حتى اللاواعي) لبروزِ تلك النزعاتِ العنصريةِ التي اقترنت بالإيمانِ المطلق، أو بالكاد، بسيدودة العنصر الآري الألماني على سائر العناصر الأخرى..
هكذا استعراضٌ اصطلاحيٌّ مصطنَعٌ، إذن، لَمُسْتَنِدٌ في جُلِّهِ إلى نصِّ التقريرِ الصحفيِّ الآنفِ الذِّكْرِ وذلك بعد إجراءِ شيءٍ من التسلسلِ المنطقيِّ للأفكار والتوثيقِ التأريخيِّ للأعلام والتبيانِ الأسلوبيِّ للعبارات.. ففيما لَهُ مِسَاسٌ بعبارةِ التصديرِ الرئيسيةِ، يستخلص الكاتب المعنيُّ مِمَّا سبقَ كلِّهِ بأن فكرة ابن عربي عن «الإنسان الكامل» غالبا ما اسْتُغِلَّتْ لغايات سياسية طائفية باسم إحياء الله، بينما فكرة نيتشه عن «الإنسان المتفوق» فقد اسْتُغِلَّتْ لغايات سياسية عنصرية باسم مَوَاتِ الإلٰه، وانبثقت عن كلٍّ من هٰتين الفكرتَيْنِ بالتالي حَمِيَّاتٌ مُدَمِّرةُ شتَّى لم تزلْ تبعاتُهَا ملموسةً ومحسوسةً في هذا الزمان الكئيب.. قد يكون الكاتب المعنيُّ مصيبا بعضَ الشيءِ في عرضِ فكرة ابن عربي عن «الإنسان الكامل» ولا ريب، بيدَ أن هذا العرضَ لا يبدو ذا صلة فعلية بفكرة نيتشه عن الاصطلاح الألماني Übermensch أصلا، أو المقابل الإنكليزي Superman فصلا، هذا الاصطلاح الذي يترجمه الكاتبُ المعنيُّ غلطا بـ«الإنسان المتفوق»، إذ ليس لهذا الاصطلاح أي مساس لغوي بمعنى «التفوّق» لا من قريب ولا من بعيد.. حتى أن كون هذا الإنسان النيتشوي بمعنى من المعاني تطورا عن سيرورة «الانتخاب الطبيعي» أو تجسيدا لصيرورة «البقاء للأصلح (لا الأقوى)» بحسب المفهوم الدارويني كما ذُكر، لا يمكنُ لهُ أن يُؤخذَ ها هنا إلا على مستوى نفسانيٍّ معيَّن، أو حتى على أيِّما مشابهٍ عرفانيٍّ آخَرَ.. باختصار شديد، «الإنسان الأمثل» (وهو المقابلُ العربيُّ الأقربُ، فيما يتبدَّى) إنما هو وسطٌ نفسانيٌّ أو عرفانيٌّ بين الله والإنسان إلا أنه بتفرُّدهِ وتميُّزهِ المُدْرَكَيْن بأرقى تجلٍّ من تجلِّياتِ الكمون والإبداع لا يطابق أيًّا منهما بَتًّا، فلا هو ذلك الكائنُ المقدَّسُ إلى درجة اللاهوت السماويِّ ولا هو ذلك الكائنُ المدنَّس إلى دركة الناسوت الأرضيِّ أو حتى الدنيويِّ – كل هذا قد تعلَّمتُه من أستاذي القدير غياث المرزوق استئناسا بتحليل مسرحية جورج بيرنارد شو، «الإنسان (الماثل) والإنسان الأمثل» Man and Superman، أيام دراستي في جامعات الدنمارك في الأيام الخوالي.. ومما يدحض الفحوى من تيك الترجمة العربية المتوخَّاةِ غلطا ، أن يتواجدَ «الإنسانُ المتفوق» عينُه باحتمال شديد على أرض الواقع الحرفيِّ طافحًا علمًا وما يقتضيهِ، وأن لا يتواجدَ «الإنسانُ الأمثلُ» إلى حَدِّ الاستحالةِ في هذا الواقع بالمقابلِ غَلمًا وما يبتنيه.. فما البالُ، والمَآلُ هنا، من أولئك المتأسلمين الأدعياء من المَهَنَةِ العُتْفِ وهم يطفحون جهلًا على جهلٍ حينما يستشهدون بكل جهلٍ بنصِّ الحديث المذكور آنفًا، «خلق الله آدم على صورته»، وحينما يصرِّحون بكل جهلٍ بأنَّ ضميرَ الهاء المتصل في «صورته» إنما يعود إلى آدم وليس إلى الله حسبما يفهمون بكل جهل من القاعدة النحويةِ المعنيَّةِ في السياق، لو كانوا يدركون شيئا من تدليلِ الحديث الآخَرِ، «خلق الله آدم على صورةِ الرحمٰن»، ومن تفنيدهِ الجازم لكل ما أدلوا بهِ بكل جهلٍ في ذات السياق – هٰؤلاءِ متأسلمونَ أدعياءُ من مَهَنَةٍ عُتْفٍ يطفحون جهلًا على جهلٍ ليس لهم إلَّا إغداقُ المدائحِ كالإمَّعَات، وليس لهم إلَّا اللُّهاثُ على الهوامشِ كالبغايا المسترجلات؟؟..
***
كوبنهاغن (الدنمارك)،
29 آذار (مارس) 2024
-----------
ملاحظة هامة
هذه المقالات التي يتمُّ إعدادُها في مجال النقد الإعلامي والصحافي تحديدا إنما كانت، وما زالت، تصدر تباعا في المركز الإعلامي الفلسطيني المتميِّز، «الإعلام الحقيقي» Real Media، هذا المركزِ الكائنِ في حي الرمال من مدينةِ غَزَّةَ الأَبِيَّةِ بالذات.. ولكنْ، إذ يعترينا القلقُ الشديدُ والحزنُ الأشدُّ من هول القتل والدمار اللذين يُمَارَسَا بحقِّ أخواتنا وإخوتنا من الشعب الغَزِّيِّ الكُمَيْتِ الهُمَامِ من طرف أنجاس العدو الصهيوني الهمجي الإجرامي هو الآخَرُ على مدى خمسةِ أشهرٍ أو يزيدُ من الزمان، يبدو أن مركز «الإعلام الحقيقي» هذا قد توقَّف عن إصدار موادِّهِ الإعلامية والصحافية حتى إشعارٍ آخَرَ منذ اندلاع «طوفان الأقصى» المُزَلْزِلِ في اليوم السابع من شهر تشرين الأول (أكتوبر) من العام الفائت 2023.. وكلُّنا، في هذا، أملٌ وتطلُّعٌ وتشوُّفٌ على أحرَّ من الجَمْرِ في عودة هذا المركز الفريد إلى نشاطه المعتاد في المستقبل القريب – وإنَّهُ لَسَمِيعٌ مُجِيب
آصال أبسال