لأول مرة في حياته فكر الدكتور علي محمود أن يكتب قصة قصيرة، ولأنه لم يكن قد جرب كتابة القصص القصيرة أو الطويلة من قبل، احتار في الأمر، وأخذ يروح ويجيء في غرفة مكتبه المكتظة بالكتب وهو في حيرة شديدة من أمر هذه الرغبة الغريبة التي انتابته في هذا العمر، وهو الذي أوشك على بلوغ الستين، ولم يعرف لذلك أي معنى سوى خاطر مر بذهنه وكان معناه يرمي إلى الشك في جدوي صنعته التي قضى في احترافها عمره كله كمؤرخ للموسيقى.
قال: هل معنى ذلك أن كتابة القصة أجدى لحياتي؟ وكمؤرخ محترف للموسيقى كان كلما احتار عاد إلى زرياب يستنطق حياته المليئة بالـعبرر والموسيقى، بأخذ يبحث عن كتاب كان هو نفسه قد ألفه عن المغني الأشهر ابن القرن التاسع الميلادي الذي أبعده أستاذه في الغناء من بغداد غيرة منه ليعيش في القيروان، ويثبت جدارته هناك أيضا، فقربه الخليفة منه وأهداه عددا من الجواري، أن من بينهن جارية أشبه بجهاز التسجيل في حياتنا المعاصرة، حتى أنه كان كلما خطرت بباله فكرة، وهو في منتصف الليل، أيقظها لتشهد ميلاد اللحن الذي يؤديه على العود وتحفظه وتعيده عليه في اليوم التالي، هو ومجموعة الموسيقيين، من ذاكرتها العجيبة التي لا تخطيء، ليشتغلوا عليه.
لكنه لم يعثر على كتابه، وإنما عثر على موسوعة «مغني العرب» حيث كان يعرف أن مؤلف الموسوعة حكى حكاية طريفة عن جارية أخرى من جواري زرياب (كان الخليفة قد أهداها له هي أيضا) لكنها لم تكن مغنية أو عازفة، بل كانت مختصة بصناعة الحلوى لزرياب وضيوفه، وعلى رأسهم الخليفة الذي كان يأتي متخفيا في الليل، ليعب الشراب ويستمع للموسيقي من زرياب وجواريه، ويأكل الحلوى من يد صانعة الحلوى الرقيقة التي جاءت عصر أحد الأيام باكية لزرياب (خاصة أنه كان من المنتظر أن يهل الخليفة مساء هذه الليلة) تشكو إليه من أن مقادير الحلوى قد زلت بها فأضافت الكثير من الماء على الدقيق، وانتهى الأمر بأن صنعت حلوى لم يكن أحد قد صنعها من قبل في التاريخ، فاستطعمها زرياب ووجدها طيبة، فأكل منها بشراهة دفعت رهط الجواري للضحك الذي جلجل في أركان القصر، وإذا بزرياب يغني لما أسماها «الزلابية» ومعه الجواري. قال الدكتور علي محمود في نفسه: أعتقد أن هذه حكاية لطيفة يمكن أن تكتب على هيئة قصة قصيرة.
ولأنه كان يعرف أن كتابة القصص المأخوذة عن أحداث التاريخ الحقيقية أضحت الآن أمرا ممجوجا، خاصة ونحن في القرن الحادي والعشرين، وقصة الزلابية جرت قي القرن التاسع، رأى الدكتور المؤرخ أن عليه أن يدون عناصر قصة الزلابية في ورقة ويذهب لاستشارة نجيب محفوظ، فربما أقره علي فعلته. ولأنه كان يعرف أن محفوظ رجل مجامل جدا، خاصة تجاه من يحاولون كتابة القصص، قال إنه لابد سيقرني على كتابتها، فلم إذن لا أكتبها دون أن أذهب إلى محفوظ أو غيره؟ وبالفعل جلس إلى مكتبه وسحب مجموعة أوراق من رزمة الورق الأبيض النظيف الذي يحب الكتابة عليه، وأمسك بالقلم وأخذ «يشخبط» و»يشخبط» لكنه لم يستطع أن يخط حتى ولو سطرا واحدا عن جارية الزلابية، فقال لم إذن لا أكتب قصة زميلتها صاحبة الذاكرة التي كانت تعوض زرياب عن جهاز الريكوردر الذي لم تكن البشرية قد توصلت إليه بعد، فهي على الأقل اختراع بشري مذهل؟
وعاد للشخبطة من جديد حتى انتهى به الأمر إلى الإغماء، ولم يستطع أن يكتب أي قصة من أي نوع، بل إنه حين أفاق عاهد نفسه، وأسر بالعهد إلى نجيب محفوظ من بعيدد، بأنه لن يحاول مرة أخرى، لا كتابة قصة قصيرة أو طويلة، ولا حتى مجرد التفكير في كتابة أي منهما، وأن عليه أن يعود لمهنته، ويستكمل مسيرته كمؤرخ للموسيقى (فهذا على الأقل هو ما أنفق حياته كلها في عمله) وهو وإن كان أحيانا يضيق به، إلا أنه كان قد وجد فيه، في كثير من اللحظات، سعادة لا توصف، خاصة حين يؤرخ لقصص من نوع قصة الجارية مخترعة الزلابية، أو زميلتها صاحبة الذاكرة الحديدية التي عوضت زرياب عن جهاز الريكوردر، وعوضتنا موسيقى قيل أنها كانت جميلة، وظل الناس يغنونها لعدة قرون، ثم انمحت ولم نعد نسمعها، لأنه لم يكن هناك كثيرون يمتلكون ذاكرة مثل ذاكر تلك الجارية، وجهاز الريكوردر لم يكن قد اخترع بعد.
قال: هل معنى ذلك أن كتابة القصة أجدى لحياتي؟ وكمؤرخ محترف للموسيقى كان كلما احتار عاد إلى زرياب يستنطق حياته المليئة بالـعبرر والموسيقى، بأخذ يبحث عن كتاب كان هو نفسه قد ألفه عن المغني الأشهر ابن القرن التاسع الميلادي الذي أبعده أستاذه في الغناء من بغداد غيرة منه ليعيش في القيروان، ويثبت جدارته هناك أيضا، فقربه الخليفة منه وأهداه عددا من الجواري، أن من بينهن جارية أشبه بجهاز التسجيل في حياتنا المعاصرة، حتى أنه كان كلما خطرت بباله فكرة، وهو في منتصف الليل، أيقظها لتشهد ميلاد اللحن الذي يؤديه على العود وتحفظه وتعيده عليه في اليوم التالي، هو ومجموعة الموسيقيين، من ذاكرتها العجيبة التي لا تخطيء، ليشتغلوا عليه.
لكنه لم يعثر على كتابه، وإنما عثر على موسوعة «مغني العرب» حيث كان يعرف أن مؤلف الموسوعة حكى حكاية طريفة عن جارية أخرى من جواري زرياب (كان الخليفة قد أهداها له هي أيضا) لكنها لم تكن مغنية أو عازفة، بل كانت مختصة بصناعة الحلوى لزرياب وضيوفه، وعلى رأسهم الخليفة الذي كان يأتي متخفيا في الليل، ليعب الشراب ويستمع للموسيقي من زرياب وجواريه، ويأكل الحلوى من يد صانعة الحلوى الرقيقة التي جاءت عصر أحد الأيام باكية لزرياب (خاصة أنه كان من المنتظر أن يهل الخليفة مساء هذه الليلة) تشكو إليه من أن مقادير الحلوى قد زلت بها فأضافت الكثير من الماء على الدقيق، وانتهى الأمر بأن صنعت حلوى لم يكن أحد قد صنعها من قبل في التاريخ، فاستطعمها زرياب ووجدها طيبة، فأكل منها بشراهة دفعت رهط الجواري للضحك الذي جلجل في أركان القصر، وإذا بزرياب يغني لما أسماها «الزلابية» ومعه الجواري. قال الدكتور علي محمود في نفسه: أعتقد أن هذه حكاية لطيفة يمكن أن تكتب على هيئة قصة قصيرة.
ولأنه كان يعرف أن كتابة القصص المأخوذة عن أحداث التاريخ الحقيقية أضحت الآن أمرا ممجوجا، خاصة ونحن في القرن الحادي والعشرين، وقصة الزلابية جرت قي القرن التاسع، رأى الدكتور المؤرخ أن عليه أن يدون عناصر قصة الزلابية في ورقة ويذهب لاستشارة نجيب محفوظ، فربما أقره علي فعلته. ولأنه كان يعرف أن محفوظ رجل مجامل جدا، خاصة تجاه من يحاولون كتابة القصص، قال إنه لابد سيقرني على كتابتها، فلم إذن لا أكتبها دون أن أذهب إلى محفوظ أو غيره؟ وبالفعل جلس إلى مكتبه وسحب مجموعة أوراق من رزمة الورق الأبيض النظيف الذي يحب الكتابة عليه، وأمسك بالقلم وأخذ «يشخبط» و»يشخبط» لكنه لم يستطع أن يخط حتى ولو سطرا واحدا عن جارية الزلابية، فقال لم إذن لا أكتب قصة زميلتها صاحبة الذاكرة التي كانت تعوض زرياب عن جهاز الريكوردر الذي لم تكن البشرية قد توصلت إليه بعد، فهي على الأقل اختراع بشري مذهل؟
وعاد للشخبطة من جديد حتى انتهى به الأمر إلى الإغماء، ولم يستطع أن يكتب أي قصة من أي نوع، بل إنه حين أفاق عاهد نفسه، وأسر بالعهد إلى نجيب محفوظ من بعيدد، بأنه لن يحاول مرة أخرى، لا كتابة قصة قصيرة أو طويلة، ولا حتى مجرد التفكير في كتابة أي منهما، وأن عليه أن يعود لمهنته، ويستكمل مسيرته كمؤرخ للموسيقى (فهذا على الأقل هو ما أنفق حياته كلها في عمله) وهو وإن كان أحيانا يضيق به، إلا أنه كان قد وجد فيه، في كثير من اللحظات، سعادة لا توصف، خاصة حين يؤرخ لقصص من نوع قصة الجارية مخترعة الزلابية، أو زميلتها صاحبة الذاكرة الحديدية التي عوضت زرياب عن جهاز الريكوردر، وعوضتنا موسيقى قيل أنها كانت جميلة، وظل الناس يغنونها لعدة قرون، ثم انمحت ولم نعد نسمعها، لأنه لم يكن هناك كثيرون يمتلكون ذاكرة مثل ذاكر تلك الجارية، وجهاز الريكوردر لم يكن قد اخترع بعد.