بلهفة فتحتْ النافذة .. بدأتْ تستمع لصوتِ المطرِ .. فهي تعرف عشقه له حد الجنون.
تذكرتْ الليلة التي راقصها فيها بينما المطر الجسور انساب عبر الثياب ليتخلل جسديهما .. ترك قبلة على شفتيها المكتنزتين بعد إزاحته خصلات شعرها التي غطت وجهها .. وبلغة لا يفهمها سوى القلب أخبرها كم يعشقها! كيف إن روحها الروح التي يعيش ويتنفس بها.
أحاطتْ رقبته بذراعيها الطويلتين البيضاويتين لتخبره كم هو مجنون؟!
التفتتْ نحو الساعة الجدارية التي شاركتها القلق عليه .. لم يزل على موعد وصوله عشر ساعات.
غيابه يمنح الزمن عذرًا للتباطؤ، فتجد نفسها بين سنديان الشوق و مطرقة الحنين.
لا تجد ملاذًا سوى سطح الدار ليكون أمينًا على دموعها تترجى الله في عودته سالمًا.
فهي من دونه مثل كوكب وحيد في مجرة!
وهي تقطع الممر باتجاه مكتبه .. سمعت صوتًا يهمس باسمها .. كل شيء في الغرفة ينتظره مثلها، أوراقه التي أوصاها ألا تعبث بها، أقلامه المرتبة بشكل يثير الانتباه، اللوحة الجدارية لامرأة فوق رأسها قبعة سوداء وفي أذنيها قرطًا على شكل فراشة، مكتبته الكبيرة، المجلات والصحف التي نشرت له قصصه والتي رصها بطريقة لطالما أثارت إعجابها، صورتها التي وضعها قريبة من منفضة السجائر، حينما سألته ذات مرة عن السبب، أجابها: أنتما الاثنان قد أدمنتكما عشقًا، لكن أنتِ سيدة لحظاتي الوحيدة من العمر!
تركت كرسيه يحتضنها كما كان يفعل حين يستفزه عطرها، أغمضت عينيها لتستنشق رائحةَ جسده الذي ما زال عالقًا في زوايا المكان.
رنين الهاتف وصوته الذي جاءها من بلاد بعيدة يسألها:
- هل أنتِ بخير؟
أجابت:
- لن أكون أبدًا بخير، حين تبتعد عني!
عقدت الدهشة لسانه، في تلك اللحظة شعر إنه أمام مشاعر لم يختبرها من قبل، امرأة أعادت ترتيب كل شيء في حياته، بل اخترقتها كما تخترق الشمس ظلمة الليل، فأنارت ما كان معتمًا فيه.
يكفيها أنه اختارها من بين العشرات وقطع كل علاقاته وأوقف كل مغامراته وقد دثر ذكرياته،
وأنه فضلها على دينه، فكانت له دينًا.
غدت كتابه وغدا عاصمتها ومدنها وقراها، ودستورها، أما هي، فقد وقفت الدموع بينها وبين الكلمات.
في تلك اللحظة، خرجت تتفقد طيوره الكثيرة التي امتلأت بها الأقفاص، ابتسمت حين تذكرت أنها كتمت غيرتها من ذلك الطائر غريب الألوان الذي استحوذ على جُلَّ اهتمامه، لكنه يفهم ما بها. أنهى تلك المعركة لصالحها بعناق وقبلة لتغدو بعدها الكلمات كأوراق الخريف المتساقطة.
وهي تربت بحنان على ظهر كلبه، شعرت به يشاركها إحساس الفقد والغربة.
أسندت جسدها النحيل لجذع الشجرة التي يأوي إليها حين يلم به شيء من الحزن، فتكتفي بالنظر إليه من بعيد، فالوحدة كانت من طقوس الحزن لديه متيقنة من عودته إليها مذعورًا، فيغفو تحت ظلال أثدائها كما يغفو طفل في حضن أمه.
أنتصف الليل ومعه أنتصف كل شيء بعودته، حين يحضر يغدو الزمن ما قبل وما بعد.
هذه المرة لم تكن حاضرة في استقباله ..
كل شيء صامت هذا المساء، الأبواب، الممرات، أثاث البيت وجدرانه. ألقى بجسده على كرسيها المفضل محدقًا في السقف الرمادي الذي فتح له أبواب اللا نهاية، دخان سيجارته الأزرق الذي ملأ الغرفة أخذه بعيدًا، للأماسي القرمزية التي جمعتهما سوية.
وهو يرى وجهها القمري المشّرب بحمرة الشمس عند المغيب، المتلألئ تحت ضياء الشموع، أدرك أن الحب يأتي على جرعات، بينما الغياب يباغتنا دفعة واحدة.
نظر في المرآة فلم يرَ سوى قلبه، أبعدوا عنه كل شيء يذكره بها، ظنوا أنهم بذلك يمدون يد النسيان إليه، لم يدركوا أنه في كل ليلة، بأجنحة الأحلام الجبارة، تحج روحه إليها وتطوف، فيعود كعصفور يرتعش في ليلة ممطرة.
وضع رأسه على الوسادة التي منذ رحيلها وهي تهدهد الوحدة، كأنّ ذكريات مائة عام تشاركه ليلة واحدة كل ليلة، نظر إلى ما يحيط به، أصبحت الأرض منفاه، نهاره أشد عتمة من لياليه.
رحلت بالحياة لتتركه مع عبقها الذي لم يزل عالقًا بثيابها وبثيابه، لذلك فهو كثيرًا ما يقسم بثيابه الشتوية.
تركته بحواس مضطربة وذاكرة لا تعرف النوم، أما الحزن، فيهوي بمطرقته بكل ما أوتي من قوة على صدره ليئن، فيتألق دمعه في العيون.
ذهبت لتترك له خريفًا طويلًا وسريرًا باردًا خاليًا من الحلم، غادرت بجسدها دون الروح بينما تركته جسدًا بلا روح.
نظر إلى الساعة التي توقفت منذ رحيلها ..
أمسك بالقلم ليكتب:
أيتها الماضي الحاضر، غيابكِ كموج البحر، وقلبي هو الساحل ..
لا يفترقان، لكن لن يلتقيا!
تذكرتْ الليلة التي راقصها فيها بينما المطر الجسور انساب عبر الثياب ليتخلل جسديهما .. ترك قبلة على شفتيها المكتنزتين بعد إزاحته خصلات شعرها التي غطت وجهها .. وبلغة لا يفهمها سوى القلب أخبرها كم يعشقها! كيف إن روحها الروح التي يعيش ويتنفس بها.
أحاطتْ رقبته بذراعيها الطويلتين البيضاويتين لتخبره كم هو مجنون؟!
التفتتْ نحو الساعة الجدارية التي شاركتها القلق عليه .. لم يزل على موعد وصوله عشر ساعات.
غيابه يمنح الزمن عذرًا للتباطؤ، فتجد نفسها بين سنديان الشوق و مطرقة الحنين.
لا تجد ملاذًا سوى سطح الدار ليكون أمينًا على دموعها تترجى الله في عودته سالمًا.
فهي من دونه مثل كوكب وحيد في مجرة!
وهي تقطع الممر باتجاه مكتبه .. سمعت صوتًا يهمس باسمها .. كل شيء في الغرفة ينتظره مثلها، أوراقه التي أوصاها ألا تعبث بها، أقلامه المرتبة بشكل يثير الانتباه، اللوحة الجدارية لامرأة فوق رأسها قبعة سوداء وفي أذنيها قرطًا على شكل فراشة، مكتبته الكبيرة، المجلات والصحف التي نشرت له قصصه والتي رصها بطريقة لطالما أثارت إعجابها، صورتها التي وضعها قريبة من منفضة السجائر، حينما سألته ذات مرة عن السبب، أجابها: أنتما الاثنان قد أدمنتكما عشقًا، لكن أنتِ سيدة لحظاتي الوحيدة من العمر!
تركت كرسيه يحتضنها كما كان يفعل حين يستفزه عطرها، أغمضت عينيها لتستنشق رائحةَ جسده الذي ما زال عالقًا في زوايا المكان.
رنين الهاتف وصوته الذي جاءها من بلاد بعيدة يسألها:
- هل أنتِ بخير؟
أجابت:
- لن أكون أبدًا بخير، حين تبتعد عني!
عقدت الدهشة لسانه، في تلك اللحظة شعر إنه أمام مشاعر لم يختبرها من قبل، امرأة أعادت ترتيب كل شيء في حياته، بل اخترقتها كما تخترق الشمس ظلمة الليل، فأنارت ما كان معتمًا فيه.
يكفيها أنه اختارها من بين العشرات وقطع كل علاقاته وأوقف كل مغامراته وقد دثر ذكرياته،
وأنه فضلها على دينه، فكانت له دينًا.
غدت كتابه وغدا عاصمتها ومدنها وقراها، ودستورها، أما هي، فقد وقفت الدموع بينها وبين الكلمات.
في تلك اللحظة، خرجت تتفقد طيوره الكثيرة التي امتلأت بها الأقفاص، ابتسمت حين تذكرت أنها كتمت غيرتها من ذلك الطائر غريب الألوان الذي استحوذ على جُلَّ اهتمامه، لكنه يفهم ما بها. أنهى تلك المعركة لصالحها بعناق وقبلة لتغدو بعدها الكلمات كأوراق الخريف المتساقطة.
وهي تربت بحنان على ظهر كلبه، شعرت به يشاركها إحساس الفقد والغربة.
أسندت جسدها النحيل لجذع الشجرة التي يأوي إليها حين يلم به شيء من الحزن، فتكتفي بالنظر إليه من بعيد، فالوحدة كانت من طقوس الحزن لديه متيقنة من عودته إليها مذعورًا، فيغفو تحت ظلال أثدائها كما يغفو طفل في حضن أمه.
أنتصف الليل ومعه أنتصف كل شيء بعودته، حين يحضر يغدو الزمن ما قبل وما بعد.
هذه المرة لم تكن حاضرة في استقباله ..
كل شيء صامت هذا المساء، الأبواب، الممرات، أثاث البيت وجدرانه. ألقى بجسده على كرسيها المفضل محدقًا في السقف الرمادي الذي فتح له أبواب اللا نهاية، دخان سيجارته الأزرق الذي ملأ الغرفة أخذه بعيدًا، للأماسي القرمزية التي جمعتهما سوية.
وهو يرى وجهها القمري المشّرب بحمرة الشمس عند المغيب، المتلألئ تحت ضياء الشموع، أدرك أن الحب يأتي على جرعات، بينما الغياب يباغتنا دفعة واحدة.
نظر في المرآة فلم يرَ سوى قلبه، أبعدوا عنه كل شيء يذكره بها، ظنوا أنهم بذلك يمدون يد النسيان إليه، لم يدركوا أنه في كل ليلة، بأجنحة الأحلام الجبارة، تحج روحه إليها وتطوف، فيعود كعصفور يرتعش في ليلة ممطرة.
وضع رأسه على الوسادة التي منذ رحيلها وهي تهدهد الوحدة، كأنّ ذكريات مائة عام تشاركه ليلة واحدة كل ليلة، نظر إلى ما يحيط به، أصبحت الأرض منفاه، نهاره أشد عتمة من لياليه.
رحلت بالحياة لتتركه مع عبقها الذي لم يزل عالقًا بثيابها وبثيابه، لذلك فهو كثيرًا ما يقسم بثيابه الشتوية.
تركته بحواس مضطربة وذاكرة لا تعرف النوم، أما الحزن، فيهوي بمطرقته بكل ما أوتي من قوة على صدره ليئن، فيتألق دمعه في العيون.
ذهبت لتترك له خريفًا طويلًا وسريرًا باردًا خاليًا من الحلم، غادرت بجسدها دون الروح بينما تركته جسدًا بلا روح.
نظر إلى الساعة التي توقفت منذ رحيلها ..
أمسك بالقلم ليكتب:
أيتها الماضي الحاضر، غيابكِ كموج البحر، وقلبي هو الساحل ..
لا يفترقان، لكن لن يلتقيا!