معتمرا قبعة سوداء، وسترة ضيقة، وسروال جينـز، وحذاء رياضيا ذا علامة عالمية شهيرة، ومتأبطا عددا من كتبه، اخترق الرجل الستيني بخفة شاب في العشرين خان الخليلي، مارا من أمام مسجد "الإمام الحسين"، ليدخل زقاقا ضيقا تحفه محلات مكتظة بالناس والسياح، ويقف بقرب بناية قديمة تنتشر على جانبيها موائد وكراس، وتعلو جدارها المرايا الموشات بالخشب والأربيسك، ولافتة كتب عليها: "مقهى الفيشاوي".
تأمل اللافتة برهة، ثم دلف داخلا من باب المقهى. كان قد سمع عنه كثيرا، وقصده اليوم بغية لقاء "الأستاذ".
كان يعرف أن الغرفة الثانية هي التي تهمه، فلا شأن له بغرفة "الباسفور" المبطنة بالخشب المطعم بالأبنوس، وذات الكنب العربي المكسو بالجلد الطوبي، ولا شأن له بغرفة "القافية" حيث يتبارى متكلمو الحواري الشعبية، ويتنافسون حول الأفضل بينهم.
الذي يهمه من هذا المقهى هو غرفة "التحفة" بالذات.
الغرفة حيث يجلس الفنانون، وحيث الأثاث مزين بالصدف والخشب المزركش، وحيث تنتشر المرايا العملاقة، والعاج والأربيسك الذي يخبل التفكير، ويهيم بنا في اللامحدود وفي المطلق، وحيث الكنب المكسو بالجلد الأصفر، وحيث كان يجلس في زاوية من زواياه المعتمة، والمعبقة بالدخان وروائح البخور "الأستاذ" محفوفا بحواريه الحرافيش، يتبادلون الضحك والنكات.
حين وقف عليهم كالقدر المحتوم، والذي ليس منه هروب، تطلعت الوجوه إليه وصمتوا للحظة.
تطلع إليه "الأستاذ" مبتسما، ولم يسأله.. لكن "الرشيد" (هكذا قدم نفسه إليهم) ببجاحة قذف عشرة كتب من تأليفه، وبدون إذن ولا "إحِمْ ولا دَسْتور"، بدأ يتحدث عن نفسه، وعن كتاباته الحداثية العميقة، وعن سياسة الإقصاء واللامبالاة الممارسة على منتوجه الفكري والأدبي، وعن الإحساس بالقهر الذي يستبد به...
أخذ "الأستاذ" نفسا أو نفسين من نرجيلته، وقال للحرافيش:
ـ "لم يجانب "نجيب سرور" الصواب حين تحدث عن المقهى باعتباره مجتمعا قائما بذاته، مجتمعا كاملا متكاملا، له حكماء وبروتوكولات".
ثم رمق "الرشيد" بطرف عينه وواصل:
ـ "القعدة ليست هي فقط ما يأتي بي إلى هذا المقهى.. أنا أجلس هنا لأحيا.. بل لأعيش الحياة بكل عنفوانها.. من هنا أطل على ذاتي وعلى الناس، أكركر الشيشة، أتنسم رائحتها، ورائحة العطور والقهوة المطحونة بعناية فائقة، ورائحة الحارة الشعبية.. أتأمل من يمر في الشارع وأستمتع بـ "الست" وهي تصدح "فكروني"، وأترنم بالربابة بعد "المغربية"، وأستمتع بطعم الشاي الأسود... هل تستمتعون بالشاي؟"
قال "جمال الغيطاني":
ـ "ومن لا يستمتع بالشاي في حضرة مولانا؟"
صب "يوسف القعيد" الشاي في الكؤوس، من الإبريق المعدني المزركش بالتوركواز والأبيض، فيما ناول "نجيب سرور" كأسا "للرشيد" وهو يقول:
ـ "اشرب.. اشرب. من شرب من شاي مولانا بلغ منبع الأسرار."
ارتشف "الرشيد" من كأسه، فيما كان "الأستاذ" يتطلع إليه.. سأله:
ـ ماذا قرأت؟
قال:
ـ "الأب غوريو"..
قال:
ـ وماذا تقرأ؟
قال:
ـ "النسيبة بيت"..
قال:
ـ ثم ماذا؟
قال:
ـ "الجلد المسحور"..
قال له:
ـ اقرأ لنا بعض ما كتبت.
فقرأ...
لم يعقب "الأستاذ"، نظر نحو حرافيشه، وقال:
ـ هل سمعتم بحكاية الإسكافي الذي غير حرفته، وقرر أن يصبح حطاباً؟
نظر "القعيد" مستنجداً بـ "الغيطاني" فهو أعمقهم اطلاعاً على التراث، وعلى كتب الأولين والآخرين، وعلى حكايات المتصوفة والزهاد والصالحين. لكن "الغيطاني" فتش في ذاكرته ولم يتوفق في العثور على هذه الحكاية.. فنظر بدوره إلى "نجيب سرور" الذي كان أكثرهم التصاقاً بأساطير الإغريق والفرنجة، وحكايات الهنود والمايا.. ولم يحصل على جواب. ثم عادوا إلى "الأستاذ" بخفي حنين.
ـ لا يا أستاذ.
أجابوا بصوت واحد.
قال:
"يحكى، والله أعلم، أنه في زمن من الأزمان أصاب البلاد وباء لم يعرفوا مصدره، فانتشر الموت والجوع في الشوارع.. لم يعد هناك مدخول للعباد، ليشتروا ملابس لأجسادهم العارية، وأحذية لأقدامهم الحافية، فاستغنوا عنها في مقابل لقمة عيش سائغة.
حينها كسدت حرفة الإسكافية..
كان ذلك مباشرة بعد عام الجوع، في قاهرة المعز.. حيث حكى الجبرتي عنه في كتابه: "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، وحكى عنه المقريزي في كتابه: "إغاثة الأمة بكشف الغمة"، وأورد حكايات تقشعر لها الأبدان، عن أفراد أمسك بهم العسس ينبشون القبور الحديثة، ويفرون بذراع طفل أو رِجْل امرأة.
في ذلك الوقت فكر إسكافي أن يغير حرفته بحرفة أكثر فائدة ومردودية، تعينه على إعالة أطفاله، ووقايتهم من قلة ذات اليد، وقلة ذات الماء، وقلة ذات الغذاء.
فكر وتدبر، وبعد أن استقر على رأي قرر؛ سيصبح حطاباً.
توجه إلى ورشة، وطلب تشغيله.. تفحصه المشرف على الورشة بعينين ثاقبتين.. كان الرجل ربعة، أصلع، قوي البنية، عريض المنكبين، مفتول العضلات، خشن الملمس، ويستطيع أن يتحمل قساوة هذه المهنة.
استخدمه بدينارين في اليوم، شريطة أن يظهر همته. أخذ "الربعة" فأسه، ونزل على الأشجار الكثيفة التي أمامه بقوة، يقتطع الأولى، والثانية والعاشرة... وقبل أن تغرب الشمس كان قد أتى على عشرين شجرة بالتمام والكمال.
ابتهج المشرف على العمل من العدد الذي احتطبه الرجل، وأثنى عليه.
في صباح الغد استيقظ الإسكافي بنشاط، وأخذ الفأس بهمة، وبدأ العمل على أمل أن يحتطب أكثر.. لكن ما كاد اليوم ينتهي حتى أدرك أنه احتطب أقل من سبع عشرة شجرة. في البداية استغرب للأمر، لكنه رَدَّ ذلك للتعب الذي لحقه أمس.. ربما لو نام مبكرا، واستيقظ قبل الآخرين لاستعاد نشاطه وقوته.
وهكذا كان. في الغد غادر الكوخ قبل الآخرين، والتحق بالغابة. لكن في المساء لم يقتطع أكثر من نصف العدد. وفي اليوم الذي تلاه تكرر نفس الشيء. إلى أن استفحل الأمر في اليوم الخامس.. لقد قضى اليوم كله يقتطع شجرتين فقط.
حزن كثيرا، كيف سيشرح لمشغله ما يحدث.. لقد فعل كل ما في وسعه كي يكون الأفضل، وكلما حاول أكثر.. كلما اقتطع أقل. لم يعد يفهم شيئا..
حين ذهب يتأسف للمشرف، سأله الأخير:
ـ منذ متى لم تشحذ فأسك؟"
التفت "الأستاذ" نحو "الرشيد"، ابتسم ابتسامة أبانت نواجده.. لم يفهم صاحبنا المغزى، فقال له:
ـ منذ متى لم تشحذ فأسك يا صديقي؟
تأمل اللافتة برهة، ثم دلف داخلا من باب المقهى. كان قد سمع عنه كثيرا، وقصده اليوم بغية لقاء "الأستاذ".
كان يعرف أن الغرفة الثانية هي التي تهمه، فلا شأن له بغرفة "الباسفور" المبطنة بالخشب المطعم بالأبنوس، وذات الكنب العربي المكسو بالجلد الطوبي، ولا شأن له بغرفة "القافية" حيث يتبارى متكلمو الحواري الشعبية، ويتنافسون حول الأفضل بينهم.
الذي يهمه من هذا المقهى هو غرفة "التحفة" بالذات.
الغرفة حيث يجلس الفنانون، وحيث الأثاث مزين بالصدف والخشب المزركش، وحيث تنتشر المرايا العملاقة، والعاج والأربيسك الذي يخبل التفكير، ويهيم بنا في اللامحدود وفي المطلق، وحيث الكنب المكسو بالجلد الأصفر، وحيث كان يجلس في زاوية من زواياه المعتمة، والمعبقة بالدخان وروائح البخور "الأستاذ" محفوفا بحواريه الحرافيش، يتبادلون الضحك والنكات.
حين وقف عليهم كالقدر المحتوم، والذي ليس منه هروب، تطلعت الوجوه إليه وصمتوا للحظة.
تطلع إليه "الأستاذ" مبتسما، ولم يسأله.. لكن "الرشيد" (هكذا قدم نفسه إليهم) ببجاحة قذف عشرة كتب من تأليفه، وبدون إذن ولا "إحِمْ ولا دَسْتور"، بدأ يتحدث عن نفسه، وعن كتاباته الحداثية العميقة، وعن سياسة الإقصاء واللامبالاة الممارسة على منتوجه الفكري والأدبي، وعن الإحساس بالقهر الذي يستبد به...
أخذ "الأستاذ" نفسا أو نفسين من نرجيلته، وقال للحرافيش:
ـ "لم يجانب "نجيب سرور" الصواب حين تحدث عن المقهى باعتباره مجتمعا قائما بذاته، مجتمعا كاملا متكاملا، له حكماء وبروتوكولات".
ثم رمق "الرشيد" بطرف عينه وواصل:
ـ "القعدة ليست هي فقط ما يأتي بي إلى هذا المقهى.. أنا أجلس هنا لأحيا.. بل لأعيش الحياة بكل عنفوانها.. من هنا أطل على ذاتي وعلى الناس، أكركر الشيشة، أتنسم رائحتها، ورائحة العطور والقهوة المطحونة بعناية فائقة، ورائحة الحارة الشعبية.. أتأمل من يمر في الشارع وأستمتع بـ "الست" وهي تصدح "فكروني"، وأترنم بالربابة بعد "المغربية"، وأستمتع بطعم الشاي الأسود... هل تستمتعون بالشاي؟"
قال "جمال الغيطاني":
ـ "ومن لا يستمتع بالشاي في حضرة مولانا؟"
صب "يوسف القعيد" الشاي في الكؤوس، من الإبريق المعدني المزركش بالتوركواز والأبيض، فيما ناول "نجيب سرور" كأسا "للرشيد" وهو يقول:
ـ "اشرب.. اشرب. من شرب من شاي مولانا بلغ منبع الأسرار."
ارتشف "الرشيد" من كأسه، فيما كان "الأستاذ" يتطلع إليه.. سأله:
ـ ماذا قرأت؟
قال:
ـ "الأب غوريو"..
قال:
ـ وماذا تقرأ؟
قال:
ـ "النسيبة بيت"..
قال:
ـ ثم ماذا؟
قال:
ـ "الجلد المسحور"..
قال له:
ـ اقرأ لنا بعض ما كتبت.
فقرأ...
لم يعقب "الأستاذ"، نظر نحو حرافيشه، وقال:
ـ هل سمعتم بحكاية الإسكافي الذي غير حرفته، وقرر أن يصبح حطاباً؟
نظر "القعيد" مستنجداً بـ "الغيطاني" فهو أعمقهم اطلاعاً على التراث، وعلى كتب الأولين والآخرين، وعلى حكايات المتصوفة والزهاد والصالحين. لكن "الغيطاني" فتش في ذاكرته ولم يتوفق في العثور على هذه الحكاية.. فنظر بدوره إلى "نجيب سرور" الذي كان أكثرهم التصاقاً بأساطير الإغريق والفرنجة، وحكايات الهنود والمايا.. ولم يحصل على جواب. ثم عادوا إلى "الأستاذ" بخفي حنين.
ـ لا يا أستاذ.
أجابوا بصوت واحد.
قال:
"يحكى، والله أعلم، أنه في زمن من الأزمان أصاب البلاد وباء لم يعرفوا مصدره، فانتشر الموت والجوع في الشوارع.. لم يعد هناك مدخول للعباد، ليشتروا ملابس لأجسادهم العارية، وأحذية لأقدامهم الحافية، فاستغنوا عنها في مقابل لقمة عيش سائغة.
حينها كسدت حرفة الإسكافية..
كان ذلك مباشرة بعد عام الجوع، في قاهرة المعز.. حيث حكى الجبرتي عنه في كتابه: "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، وحكى عنه المقريزي في كتابه: "إغاثة الأمة بكشف الغمة"، وأورد حكايات تقشعر لها الأبدان، عن أفراد أمسك بهم العسس ينبشون القبور الحديثة، ويفرون بذراع طفل أو رِجْل امرأة.
في ذلك الوقت فكر إسكافي أن يغير حرفته بحرفة أكثر فائدة ومردودية، تعينه على إعالة أطفاله، ووقايتهم من قلة ذات اليد، وقلة ذات الماء، وقلة ذات الغذاء.
فكر وتدبر، وبعد أن استقر على رأي قرر؛ سيصبح حطاباً.
توجه إلى ورشة، وطلب تشغيله.. تفحصه المشرف على الورشة بعينين ثاقبتين.. كان الرجل ربعة، أصلع، قوي البنية، عريض المنكبين، مفتول العضلات، خشن الملمس، ويستطيع أن يتحمل قساوة هذه المهنة.
استخدمه بدينارين في اليوم، شريطة أن يظهر همته. أخذ "الربعة" فأسه، ونزل على الأشجار الكثيفة التي أمامه بقوة، يقتطع الأولى، والثانية والعاشرة... وقبل أن تغرب الشمس كان قد أتى على عشرين شجرة بالتمام والكمال.
ابتهج المشرف على العمل من العدد الذي احتطبه الرجل، وأثنى عليه.
في صباح الغد استيقظ الإسكافي بنشاط، وأخذ الفأس بهمة، وبدأ العمل على أمل أن يحتطب أكثر.. لكن ما كاد اليوم ينتهي حتى أدرك أنه احتطب أقل من سبع عشرة شجرة. في البداية استغرب للأمر، لكنه رَدَّ ذلك للتعب الذي لحقه أمس.. ربما لو نام مبكرا، واستيقظ قبل الآخرين لاستعاد نشاطه وقوته.
وهكذا كان. في الغد غادر الكوخ قبل الآخرين، والتحق بالغابة. لكن في المساء لم يقتطع أكثر من نصف العدد. وفي اليوم الذي تلاه تكرر نفس الشيء. إلى أن استفحل الأمر في اليوم الخامس.. لقد قضى اليوم كله يقتطع شجرتين فقط.
حزن كثيرا، كيف سيشرح لمشغله ما يحدث.. لقد فعل كل ما في وسعه كي يكون الأفضل، وكلما حاول أكثر.. كلما اقتطع أقل. لم يعد يفهم شيئا..
حين ذهب يتأسف للمشرف، سأله الأخير:
ـ منذ متى لم تشحذ فأسك؟"
التفت "الأستاذ" نحو "الرشيد"، ابتسم ابتسامة أبانت نواجده.. لم يفهم صاحبنا المغزى، فقال له:
ـ منذ متى لم تشحذ فأسك يا صديقي؟