مولود بن زادي - رحيل الكاتب سامي مايكل: الأدبُ وسيلةٌ للنضالِ والتواصلِ والتقاربِ بين الشعوبِ

شهدت بلاد الرافدين حضارات إنسانية متعددة. فعلى ضفاف نهر الدجلة والفرات، وعلى مدى آلاف السنين، عاش
مسلمون ومسيحيون ويهود جنبا إلى جنب. وإن اختلفت أصولهم ومعتقداتهم، جمعتهم لغةٌ واحدةٌ وثقافةٌ مشتركة. عاشوا
معا في وحدة ووئام وانسجام إلى أن اندلع النزاع العربي الإسرائيلي في عام 1948، فانجلى الأمن واستشرى الانقسام
في نسيج المجتمع، واضطر كثير ممن كانوا يعرفون باسم "يهود العراق" إلى الرحيل عن أرض كانت بالنسبة لهم الوطن
الأم والهجرة إلى محيط جديد لا يعرفون عنه سوى القليل. كان من هؤلاء مثقفون وكتاب أمثال سامي مايكل الذي توفي
في الفاتح من شهر أبريل/نيسان عن عمر يناهز 97 عاماً.




أثر الوطن العربي في شخصيته

ولد سامي ميخائيل في بغداد عام 1926 ونشأ في أسرة يهودية ثرية. تلقى تعليمه في مدرسة شمش اليهودية، قالت عنها
الكاتبة فيرد لي في مقال نشرته صحيفة هآرتس عام 2017، "المدرسة الثانوية اليهودية التي التحق بها كانت واحدة من
أعرق المؤسسات التعليمية في بغداد؛ حيث درس الأولاد والبنات معًا في جو علماني حديث".
وقد ساهم التنوع المحيط به في صقل شخصيته، وتوجيه أفكاره، وبناء مواقفه، وإلهامه وإرشاده في مشوار الكتابة. يتجلّى
ذلك في اختيار الثيمات وبناء الشخصيات في أعماله الروائية. ولعل رواية "بوق في الوادي" الصادرة عام 2003 خير
نموذج. تتناول الرواية قصة حب مستحيل بين امرأة عربية مسيحية تدعى هدى ومهاجر يهودي روسي اسمه أليكس.
وقد ساهمت تجاربه الطويلة في المجتمع العربي في انفتاحه، ومنحته قدرة فائقة على الكتابة عن العرب واليهود،
والتقريب بينهم، وهو ما سجله الكاتب الإسرائيلي الشهير ديفيد غروسمان، "كان لدى مايكل قدرة قوية على كسر الصور
النمطية 'نحن وهم'".
بقيت الأمور على ما يرام إلى أن تم الإعلان عن تأسيس دولة إسرائيل في يوم 14 مايو/أيّار عام 1948. كان من نتائج
ذلك هجرة غير مسبوقة لليهود العراقيين الذين شعروا أنه لم يعد مرغوب فيهم في أرض يحيون فيها منذ ألاف السنين. من
هؤلاء سامي مايكل الذي فرّ من بغداد خوفًا من الاعتقال والإعدام، مثلما ذكر. لجأ في البداية إلى إيران حيث مكث لمدة
عام قبل أن ينتقل إلى إسرائيل. شبّه نفسه، خلال هذه التجربة العسيرة، ب "طفل سقط من سفينة غارقة وجرفته الأمواج
إلى شاطئ معروف".



حنين جارف إلى الماضي

كان عمره 23 عامًا عندما حلّ في مدينة حيفا حيث ظلّ مرتبطًا بثقافته العربية. وقد بلغ اهتمامه بالعربية مبلغا جعله يقدم
على دراسة الأدب العربي في جامعة حيفا، واستمر في الكتابة باللغة العربية. كما أنه استخدم العربية للاسهام بمقالات في
الطبعات العربية لصحيفة الحزب الشيوعي.

وللحياة في المجتمع الجديد، كان عليه أن يتعلم اللغة العبرية. تطلب ذلك وقتا وجهدا، ما أدى به إلى تعليق الكتابة لسنوات
طويلة. وقد سمح له تعلم العبرية وانغماسه في الثقافة الجديدة بأن يصبح من أعظم الكتاب العبريين. لكن ذلك لم ينسه
انتماءه الأصلي العربي، وهو ما أكده غير مرة. قال: "أحيانًا أشعر أن هناك هويتين بداخلي: واحدة عربية من العراق
وأخرى يهودية إسرائيلية".
وقد كان للهوية العربية أثر بارز في كثير من الكتاب اليهود الوافدين من البلاد العربية. وإن تحوّل هؤلاء إلى الكتابة
بالعبرية، فإنّ العربية ظلت لغتهم الأم. ولم يكتب هؤلاء بلغة المجتمع المتداولة، بل راحوا يدمجون اللغة العربية في
نصوصهم بأشكال مختلفة، ولجأ بعضهم إلى الترجمة للتعبير عن مشاعره وأفكاره.
وفضلا عن اللغة، تجلى أثر البيئة العربية في المواضع والثيمات التي اختارها هؤلاء مقارنة بزملائهم المحليين.
إضافة إلى تصوير الواقع الجديد وما واجهه الوافدون العرب الجدد من مصاعب وظلم، اهتم مايكل أيضا بتصوير ماضيه،
وعرض ذكرياته الحلوة والمرة في أرض عربية ظلت محفورة في قلبه إلى آخر لحظة من عمره. وهو ما نلمسه في
مختلف أعماله وأكدته الكاتبة شولاميت بينة المقيمة في الدنمارك، "لقد عبّر كتاب سامي ميخائيل بعنوان 'عاصفة بين
أشجار النخيل' عن حنينه إلى وطنه الأم العراق، وأيام شبابه عندما كان يجدف على نهر دجلة. كان مستقبل العراق ومن
فيه من يهود العراق آنذاك واعدا. لقد منح هذا الرجل اليهود صوتاً للتعبير عن ألمهم وحسرتهم وخيبة أملهم في وطن
عراقي خان مواطنيه اليهود الذين كان لهم دور نشط في تطوير وبناء عراق المستقل."

نضال اليهود العرب لأجل المساواة

وبالكتابة بالعبرية، أصبح مايكل الصوت الأدبي المعبر عن "الآخر" في إسرائيل والشرق الأوسط. وإن كانت رواياته،
التي فاق عددها اثني عشر كتابًا، من نسج الخيال، إلاَّ أنها صوّرت الواقع تصويرا صادقا. ونحن نجول في عالم مؤلفاته،
نرى شخصياته اليهودية العربية وهي تصارع لأجل الحياة في بيئة جديدة مخيبة للآمال، عاملتها باحتقار وإذلال، مفضّلة
اليهود الغربيين على اليهود الشرقيين الوافدين من الوطن العربي. المهاجرون الجدد في عالم روايات سامي مايكل أشبه
بزوارق صغيرة تائهة تتقاذفها أمواج الأحداث السياسية والتاريخية العاتية، ومنها حروب إسرائيل الماضية مع الدول
العربية واحتلال الأراضي الفلسطينية. خيبة أمله في بلده الجديد واضحة في كتاباته: "لقد جئت من بلد متخلف إلى بلد
متقدم. لكن في إسرائيل.. فوجئت بمواقف متعالية ورفض تجاه الأجانب."
وقد وثّق خيبة الأمل هذه كثيرون أمثال نانسي إي. بيرج، أستاذة الدراسات اليهودية والإسلامية والشرق أوسطية في
جامعة واشنطن، التي قالت عنه، “عندما جاء إلى إسرائيل، لم يكن يُنظر إليه على أنه مساوٍ للمهاجرين الأوروبيين، وكان
عليه أن يحارب ذلك”.
ولم يصدر التمييز هذا عن مسؤولين وصناع القرار فحسب، بل أيضاً عن مثقفين إسرائيليين أمثال الشاعر الإسرائيلي
ناتان زاك الذي أبلغ القناة العاشرة الإسرائيلية في شهر يونيو/حزيران 2010 أنه يلوم اليهود الشرقيين، الذين هاجر
آباؤهم وأجدادهم إلى إسرائيل من الدول الإسلامية، لكونهم أقل شأنا من اليهود الأوروبيين. قال، "إن دمج أفراد من
خلفيات متباينة مثير للسؤال. تنحدر إحدى المجموعات من أرقى ثقافة في أوروبا الغربية، بينما تنحدر المجموعة
الأخرى من الكهوف."

روايات تصوّر واقعا قاسيا

روايات سامي مايكل تعزف أوتار الذكريات الشخصية التي عاشها الكاتب في البيئة العربية. يتجلى ذلك في رواية "حفنة
من الضباب" (1979) التي تصوِّر نظام الحياة في بغداد في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي حيث كان يسود
التنوع العرقي والتسامح الديني قبل تدهور الوضع وتعرض اليهود للاضطهاد والطرد في أعقاب استقلال دولة إسرائيل.
نلمس ذكريات بلاد الرافدين أيضا في رواية "فيكتوريا" (1995) التي ترصد حياة والدته في الحي اليهودي ببغداد
وهيمنة الذكور على شؤون المجتمع والتحديات التي تواجهها المرأة في المجتمع الأبوي.
وترصد روايات سامي أيضا مآسي الواقع في البيئة الجديدة التي لم ترْقَ إلى تطلعات المهاجرين العرب. فروايته الأولى
بعنوان "متساويون وأكثر مساواة" (1974) تعكس خيبة أمل أفراد الجالية اليهودية في بغداد عند وصولهم إلى إسرائيل
حيث فوجئوا بالانقسام الاجتماعي وعدم المساواة والظلم، وهو ما أحسن مايكل تصويره على صفحات كتابه، "لقد كانوا
يتوقعون ترحيبا حارا مماثلا لذلك الذي حظي به المهاجرون من أصول أوروبية. وإذا بهم يضعون العائلة رفقة وافدين
يهود جدد آخرين من أصول عربية في مخيم عبور قذر”.
وتتجلى ملامح الشخصية الواقعية في أدب سامي مايكل أيضا في رواية "ملجأ" (1977) حيث يصوّر الكاتب مظاهر
الحياة في إسرائيل في أعقاب حرب أكتوبر/تشرين الأوّل عام 1973. ترصد الرواية مأساة طالب لجوء يهودي من
أصول عراقية يصاب بالإحباط عندما يكتشف أنه مواطن من الدرجة الثانية في المجتمع الإسرائيلي. وتتناول رواية "بوق
في الوادي" الصادرة عام 2003 قصة حب بين امرأة عربية مسيحية ومهاجر يهودي روسي. يسلط الكاتب من خلالها
الضوء على التحديات والصور النمطية التي يواجهها أفراد من خلفيات ثقافية ودينية مختلفة في مجتمع تطبعه الانقسامات
والأحكام المسبقة.

يرحل اليوم سامي مايكل مخلفا أثرا أدبيًا يشهد على التزامه الثابت بمبادئ الحرية والعدالة والمساواة. سيُذكر إلى الأبد
على أنه كان صوتًا قويًا منددا بالتمييز والانقسام داخل المجتمع.
لم يكن مايكل عملاقًا أدبيًا فحسب، بل أيضًا جسرًا بين أممٍ وشعوبٍ جارة مزقتها أجيال من الحروب. وكان همزةَ وصلٍ
بين اليهود والعرب، وبين الشرق والغرب. ومايكل بلا ريب من أفضل نماذج التأقلم والاندماج والانتقال في الكتابة من
لغة إلى أخرى. فقد استطاع هذا الرجل بفضل ذكائه ومثابرته من إتقان اللغة العبرية والكتابة بها والارتقاء بها إلى منزلة
أحد أفضل الكتاب العبريين في هذا العصر.
ورغم اندماجه في البيئة الجديدة وتأثره بالبيئة الغربية إلاّ أنه بقي وفيا لماضيه وبيئته العربية. ورغم الانقسام والصراع
المتقد منذ أجيال، لم ينحرف عن مبادئه. قال ذات مرة، "إني على حياد، وهمزة وصل بين الجانبين. يصعب عليّ أن أقول
إنني أنتمي إلى الثقافة الشرقية أو الغربية."
لم يخطئ مايكل في ذلك، فهويته صُقلت في شوارع بغداد وحيفا معا. فهذا الرجل، مثلما أشارت صحيفة هآرتس كان
ينظر إلى نفسه على أنه شخص مزوج الوطن الأم، وهو من ردد، "أمي البيولوجية هي العراق، وأمي بالتبني هي
إسرائيل. وإني أنتمي إلى كلاهما”.
يؤكد ذلك ارتباطه العميق بوطنين وعالمين معا، ما يشهد على قدرته الخارقة على تجاوز الحدود الجغرافية والحواجز
الثقافية والتحليق بعيدا في فضاء العالمية التي لا تفرق بين هذا وذاك لعرق أو لون أو وطن أو دين.
التفاعلات: هجيرة نسرين بن جدو

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...