كتب كثير من الأدباء في الخصومة التي حدثت بيني وبين الرافعي، أو بيني وبين شوقي رحمهما الله، فلم أجد فيما كتبوه مدعاة إلى التعقيب أو المناقشة، وآثرت السكوت عليه.
وقرأت للأستاذ الصديق صاحب الرسالة مقالاً عن رأي الرافعي فيّ وفي الدكتور طه حسين، فرأيت فيما رواه عن الرافعي رحمه الله مذهباً من الخصومة الأدبية يتبعه كثيرون في الشرق خاصة، ويأباه كثيرون ولا سيما في البلاد الغربية. فكتبت هذا المقال لأبين به خطتي في خصومة الأدب أو خصومة الرأي على الإجمال، وألمع به إلى موضع الاستقامة وموضع الانحراف فيما قيل حول هذا الموضوع.
وكنت أعلم أن الرافعي يقول عني أحياناً غير ما يكتب. روى ذلك الأديب الكبير محمد السباعي، ورواه صديقنا الكاتب المبين الأستاذ البرقوقي صاحب البيان، وكله في جملته يوافق ما رواه الأستاذ الزيات في مقال الرسالة؛ ومنه حرص الرافعي على كتمان هذه الشهادة!
ولم هذا الاختلاف بين السر والجهر، أو بين القول الخاص والقول العام؟
هذا هو أيضاً موضع الاختلاف بين خطتي في الخصومة الأدبية والخطة التي كان يؤثرها الرافعي وبعض الأدباء.
فأنا أقول الرأي بلهجة وأقوله بلهجة أخرى، وهذا قصارى ما أستبيح من الفرق بين الرضى والغضب والصداقة والخصومة.
أما الرأي في لبابه فلا يتغير ولا يتناقض، ولا يسعني أن أجهر بغير ما أكتم، وإن كنت لا أدين نفسي بنفخ الأبواق ودق الطبول تعظيماً لمن هجّيراه أن يتناولني بالتصفير.
روى صديقنا الزيات عن الرافعي أنه قال: (أما العقاد فإني أكرهه وأحترمه؛ أكرهه لأنه شديد الاعتداد بنفسه قليل الإنصاف لغيره. ولعله أعلم الناس بمكاني من الأدب؛ ولكنه ينفسّ علي قوة البيان فيتجاهلني حتى لا أجري معه في عنان).
وهذا كلام فيه صواب وفيه خطأ. ونستطيع أن نتفق على موقعه من الصواب وموقعه من الخطأ إذا توخينا الإنصاف.
فماذا كان رأيي الذي كتبته في الرافعي وأدبه؟
إنني كتبت عنه مرات أن له أسلوباً جزلاً، وأن له صفحات من بلاغة الإنشاء تسلكه في الطبقة الأولى من كتاب العربية للمنشئين.
وقلت إلى جانب ذلك أنني أنكر عليه فلسفة البحث وصحة المنطق ودقة القياس.
فهل كان في وسعي أن أرى في أدب الرافعي غير هذا الرأي أو أشهد له غير هذه الشهادة؟
كان في وسعي نعم أن أقولها بلهجة غير التي كتب بها عني وكتبت بها عنه.
ولكن هل كان في وسعي بعد قراءة أرسطو وأفلاطون وأبن سينا وكان وشوبنهور وهيوم أن أحسب الرافعي من كبار المناطقة مع حسباني إياه من كبار المنشئين؟
هبنا توافينا على المودة ولم نفترق في الخصومة؛ فهل كنت أستطيع أن أسيغ القضايا المنطقية التي كان رحمه الله يستكثر منها ويمعن في الاتكاء عليها، وهي لا تحتمل الاتكاء؟
فأنا قد شهدت له بالبلاغة الإنشائية وأنكرت عليه الفلسفة المنطقية، لأنني أستطيع أن أسلكه مع الجاحظ وعبد الحميد، ولا أستطيع أن أسلكه مع كانت وابن سينا وهيوم.
ومن الذي يستطيع غير ذلك ولو كان من أصدق الأصدقاء؟ بل من الذي يستطيع أن يدحض الأمثلة التي ذكرتها ورددت إليها إنكاري عليه ملكة البحث الفلسفي والمنطق الصحيح؟
فمثل من تلك الأمثلة قول الأستاذ في الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب إن الحيوان لا ينطق من اللغة الإنسانية إلا بما فيه معنى الطعام (وبذلك تأتي لبعض الألمانيين أن ينطق كلبه بألفاظ خالصة من اللغة الألمانية، ولكنها في الجملة من حاجات الكلب الطبيعية كالأكل والشرب فلا تخرج عن معنى الإحساس أيضاً).
فقلت له إن كلمة الخبز بالألمانية تقابلها ألف كلمة في لغات الناس كافة تؤدي معنى الخبز وتختلف في لفظها أبعد اختلاف، وعلى هذا يجوز أن ينطق الكلب بكل كلمة تجري على لسان الآدمي لأن اختلاف الكلمات في لغة واحدة ليس بأصعب على الحيوان من اختلاف ألف كلمة بمعنى الخبز في جميع اللغات.
فهل هذا قياس صحيح؟ وهل هذا بحث في أسرار اللغات؟
وقلت له أن كلمة (سمك) تؤدي معنى الطعام، ولكن السين والميم والكاف تدخل في اصطلاح المهندسين والفلكيين. فلماذا لا ينطق الكلب بلغة الرياضة العليا كما ينطق بلغة الطعام؟
ومثل آخر من تلك الأمثلة أنه تعرض لرأي ابن الراوندي في إعجاز القرآن إذ يقول: (إن المسلمين احتجوا لنبوة نبيهم بالقرآن الذي تحدى به النبي، فلم تقدر العرب على معارضته، فيقال لهم أخبرونا لو ادعى مدع لمن تقدم من الفلاسفة مثل دعواكم في القرآن، فقال: الدليل على صدق بطليموس أو أقليدس أن أقليدس أدعى أن الخلق يعجزون أن يأتوا بمثل كتابه أكانت نبوته تثبت؟).
تعرض الرافعي لكلام ابن الراوندي، فماذا قال في الرد عليه؟. . . إنه لم يكشف المغالطة الظاهرة فيه وهي أن أقليدس لم يخترع الحقائق التي أوردها في كتابه، وليس في طاقته هو نفسه أن يبتدع كتاباً آخر أو يزيد قضية واحدة على تلك القضايا، فالعجز يشمله كما يشمل الآخرين، والدعوى لا تظهر فضلاً له غير فضل الاهتداء إلى الحقائق الموجودة قبله والتي لا يد له هو في إيجادها بأي معنى من معاني الإيجاد.
لم يكتشف الرافعي هذه المغالطة الظاهرة، بل راح يقول: (لعمري أن مثل هذه الأقيسة التي يحسبها ابن الراوندي سبيلاً من الحجة وباباً من البرهان لهي في حقيقة العلم كأشد هذيان عرفه الطب قط. وإلا فأين كتاب من كتاب، وأين وضع من وضع، وأين قوم من قوم، وأين رجل من رجل؟ ولو أن الإعجاز كان في ورق القرآن وفيما يخط عليه، لكان كل كتاب في الأرض ككل كتاب في الأرض، ولا طرد ذلك القياس كله على وصفه كما يطرد القياس عليه في قولنا: كل حمار يتنفس، وابن الراوندي يتنفس، فابن الراوندي يكون ماذا؟).
كذلك خيل إلى الرافعي (رحمه الله) أنه رد على ابن الراوندي وما زاد على أنه وصفه بأنه حمار. فمن شاء أن يحسب هذا قياساً فليفعل وله حكمه على عقله. أما أن يحكم على العقول جميعاً بأن نقيس الآراء كما يقيسها، فذلك هو الشذوذ.
وقد نذكر هنا المثل الثالث والرابع والخامس والأمثلة الكثيرة لو كنا نريد الإحصاء والاستقصاء، ولكننا نريد التدليل ولا نبغي غيره. وفيما تقدم الكفاية.
فالذي قلته في أدب الرافعي هو الذي اعتقدته، بل هو الذي لا أقدر على اعتقاد رأي غيره إلا أن أنسى كل ما عرفت من كتب البحث والقياس.
والذي قلته في قياس الرافعي لا يقدر الصديق على أن ينفيه أو يقول بنقيضه؛ إلا أن تكون الصداقة على غير الحق والإنصاف ولو قنع مني الرافعي بأن أشهد له بالبلاغة وأن أنقد قياسه وبحثه على النحو الذي تقدم لما كانت خصومة ولا كان جدال.
ولكنه أعتد رأيي فيه تجاهلاً وقلة إنصاف، وزاد فاعتده من العداوة ورصد له ما يرصد للأعداء. وهذا هو أصل الخلاف.
أما ما قيل ولا يزال يقال عن الخصومة الأدبية بيني وبين شوقي رحمه الله فبودي مرة أن أقرأ كاتباً واحداً يقول: (إنك نقدت الشاعر في (كذا) وإن (كذا) هذه خطأ أقيم عليه الدليل، وهذا هو الدليل).
بودي أن أقرأ هذا لكاتب واحد من الذين يخالفونني في الرأي وينهجون في النقد غير النقد الذي أنتحيه.
ولكنهم جميعاً لا يزيدون على الصياح والاستهوال ثم الصياح والاستهوال: يا خلق الله الحقونا. . . يا خلق الله أسمعوا وأعجبوا. . . يا خلق الله تعالوا فانظروا من يقول أن شوقيا ليس بشاعر عظيم.
وهذا كل ما يقال، وهذا كل ما يعاد، ولا مناقشة لرأي ولا استشهاد بمثال.
ومنهم من يقولَّني ما لم أقل ويخرج صارخاً على خلق الله ليزعم أنني عظمت الشعراء جميعاً إلا شوقَّيا وحده، فقد خصصته بقلة التعظيم أكذلك حصل؟. . . لا. كذلك لم يحصل!
وكل ما هنالك أنني يحق لي أن آكل الجميز الجيد وأن أعيب التفاح الذي يعاب. والجميز بعد ذلك هو الجميز، والتفاح هو التفاح!
وأعجب العجب أن يبلغ الادعاء بهؤلاء أن يغلقوا كل باب للرأي غير رأيهم فلا يخالفهم أحد إلا إذا كان تأويل المخالفة الوحيد تِرَة شخصية أو قلة إنصاف!
ولو أنهم طلبوا الحقيقة لسهل عليهم أن يعرفوا أن طريقتنا تباين طريقة شوقي، وأن اختلاف المقاييس بيننا وبينه معقول وطبيعي ومردود إلى أسبابه التي لا نغضي عنها لو أردنا الإغضاء.
وأن ترة شخصية بيننا وبين شوقي لم تكن على حال من الأحوال. وليس في مقدور أحد أن يذكر سبباً لها لو اتجهت ظنونه إليها.
فكل ما قلناه في أدب شوقي فهو رأينا الذي أعتقدناه، ولا نحب أن يشير أحد إلى اللهجة التي قلنا بها، فإن بيان أسبابها وتسويغ موقعها لا يعسران علينا، ولا يخفيان على من يعلم أو يريد أن يعلم. . . فالإيجاز في هذه الإشارة أولى من الإفاضة فيها.
وبعد فالخصومة الأدبية لها مذهبان: مذهب الإيمان بالفضل وإخفائه على عمد، ومذهب الرأي الذي يتفق عليه الأصدقاء والخصوم وإن اختلفا في لهجة الأداء وعبارة الثناء.
وهذا هو مذهبنا الذي ندين به ونجري عليه في كل ما اختصمنا فيه. . . وعلى الذين يرموننا بقلة الإنصاف أن يرونا مبلغ إنصافهم لنا، إن كانوا. . . منصفين!
عباس محمود العقاد
مجلة الرسالة - العدد 361
بتاريخ: 03 - 06 - 1940
وقرأت للأستاذ الصديق صاحب الرسالة مقالاً عن رأي الرافعي فيّ وفي الدكتور طه حسين، فرأيت فيما رواه عن الرافعي رحمه الله مذهباً من الخصومة الأدبية يتبعه كثيرون في الشرق خاصة، ويأباه كثيرون ولا سيما في البلاد الغربية. فكتبت هذا المقال لأبين به خطتي في خصومة الأدب أو خصومة الرأي على الإجمال، وألمع به إلى موضع الاستقامة وموضع الانحراف فيما قيل حول هذا الموضوع.
وكنت أعلم أن الرافعي يقول عني أحياناً غير ما يكتب. روى ذلك الأديب الكبير محمد السباعي، ورواه صديقنا الكاتب المبين الأستاذ البرقوقي صاحب البيان، وكله في جملته يوافق ما رواه الأستاذ الزيات في مقال الرسالة؛ ومنه حرص الرافعي على كتمان هذه الشهادة!
ولم هذا الاختلاف بين السر والجهر، أو بين القول الخاص والقول العام؟
هذا هو أيضاً موضع الاختلاف بين خطتي في الخصومة الأدبية والخطة التي كان يؤثرها الرافعي وبعض الأدباء.
فأنا أقول الرأي بلهجة وأقوله بلهجة أخرى، وهذا قصارى ما أستبيح من الفرق بين الرضى والغضب والصداقة والخصومة.
أما الرأي في لبابه فلا يتغير ولا يتناقض، ولا يسعني أن أجهر بغير ما أكتم، وإن كنت لا أدين نفسي بنفخ الأبواق ودق الطبول تعظيماً لمن هجّيراه أن يتناولني بالتصفير.
روى صديقنا الزيات عن الرافعي أنه قال: (أما العقاد فإني أكرهه وأحترمه؛ أكرهه لأنه شديد الاعتداد بنفسه قليل الإنصاف لغيره. ولعله أعلم الناس بمكاني من الأدب؛ ولكنه ينفسّ علي قوة البيان فيتجاهلني حتى لا أجري معه في عنان).
وهذا كلام فيه صواب وفيه خطأ. ونستطيع أن نتفق على موقعه من الصواب وموقعه من الخطأ إذا توخينا الإنصاف.
فماذا كان رأيي الذي كتبته في الرافعي وأدبه؟
إنني كتبت عنه مرات أن له أسلوباً جزلاً، وأن له صفحات من بلاغة الإنشاء تسلكه في الطبقة الأولى من كتاب العربية للمنشئين.
وقلت إلى جانب ذلك أنني أنكر عليه فلسفة البحث وصحة المنطق ودقة القياس.
فهل كان في وسعي أن أرى في أدب الرافعي غير هذا الرأي أو أشهد له غير هذه الشهادة؟
كان في وسعي نعم أن أقولها بلهجة غير التي كتب بها عني وكتبت بها عنه.
ولكن هل كان في وسعي بعد قراءة أرسطو وأفلاطون وأبن سينا وكان وشوبنهور وهيوم أن أحسب الرافعي من كبار المناطقة مع حسباني إياه من كبار المنشئين؟
هبنا توافينا على المودة ولم نفترق في الخصومة؛ فهل كنت أستطيع أن أسيغ القضايا المنطقية التي كان رحمه الله يستكثر منها ويمعن في الاتكاء عليها، وهي لا تحتمل الاتكاء؟
فأنا قد شهدت له بالبلاغة الإنشائية وأنكرت عليه الفلسفة المنطقية، لأنني أستطيع أن أسلكه مع الجاحظ وعبد الحميد، ولا أستطيع أن أسلكه مع كانت وابن سينا وهيوم.
ومن الذي يستطيع غير ذلك ولو كان من أصدق الأصدقاء؟ بل من الذي يستطيع أن يدحض الأمثلة التي ذكرتها ورددت إليها إنكاري عليه ملكة البحث الفلسفي والمنطق الصحيح؟
فمثل من تلك الأمثلة قول الأستاذ في الجزء الثاني من تاريخ آداب العرب إن الحيوان لا ينطق من اللغة الإنسانية إلا بما فيه معنى الطعام (وبذلك تأتي لبعض الألمانيين أن ينطق كلبه بألفاظ خالصة من اللغة الألمانية، ولكنها في الجملة من حاجات الكلب الطبيعية كالأكل والشرب فلا تخرج عن معنى الإحساس أيضاً).
فقلت له إن كلمة الخبز بالألمانية تقابلها ألف كلمة في لغات الناس كافة تؤدي معنى الخبز وتختلف في لفظها أبعد اختلاف، وعلى هذا يجوز أن ينطق الكلب بكل كلمة تجري على لسان الآدمي لأن اختلاف الكلمات في لغة واحدة ليس بأصعب على الحيوان من اختلاف ألف كلمة بمعنى الخبز في جميع اللغات.
فهل هذا قياس صحيح؟ وهل هذا بحث في أسرار اللغات؟
وقلت له أن كلمة (سمك) تؤدي معنى الطعام، ولكن السين والميم والكاف تدخل في اصطلاح المهندسين والفلكيين. فلماذا لا ينطق الكلب بلغة الرياضة العليا كما ينطق بلغة الطعام؟
ومثل آخر من تلك الأمثلة أنه تعرض لرأي ابن الراوندي في إعجاز القرآن إذ يقول: (إن المسلمين احتجوا لنبوة نبيهم بالقرآن الذي تحدى به النبي، فلم تقدر العرب على معارضته، فيقال لهم أخبرونا لو ادعى مدع لمن تقدم من الفلاسفة مثل دعواكم في القرآن، فقال: الدليل على صدق بطليموس أو أقليدس أن أقليدس أدعى أن الخلق يعجزون أن يأتوا بمثل كتابه أكانت نبوته تثبت؟).
تعرض الرافعي لكلام ابن الراوندي، فماذا قال في الرد عليه؟. . . إنه لم يكشف المغالطة الظاهرة فيه وهي أن أقليدس لم يخترع الحقائق التي أوردها في كتابه، وليس في طاقته هو نفسه أن يبتدع كتاباً آخر أو يزيد قضية واحدة على تلك القضايا، فالعجز يشمله كما يشمل الآخرين، والدعوى لا تظهر فضلاً له غير فضل الاهتداء إلى الحقائق الموجودة قبله والتي لا يد له هو في إيجادها بأي معنى من معاني الإيجاد.
لم يكتشف الرافعي هذه المغالطة الظاهرة، بل راح يقول: (لعمري أن مثل هذه الأقيسة التي يحسبها ابن الراوندي سبيلاً من الحجة وباباً من البرهان لهي في حقيقة العلم كأشد هذيان عرفه الطب قط. وإلا فأين كتاب من كتاب، وأين وضع من وضع، وأين قوم من قوم، وأين رجل من رجل؟ ولو أن الإعجاز كان في ورق القرآن وفيما يخط عليه، لكان كل كتاب في الأرض ككل كتاب في الأرض، ولا طرد ذلك القياس كله على وصفه كما يطرد القياس عليه في قولنا: كل حمار يتنفس، وابن الراوندي يتنفس، فابن الراوندي يكون ماذا؟).
كذلك خيل إلى الرافعي (رحمه الله) أنه رد على ابن الراوندي وما زاد على أنه وصفه بأنه حمار. فمن شاء أن يحسب هذا قياساً فليفعل وله حكمه على عقله. أما أن يحكم على العقول جميعاً بأن نقيس الآراء كما يقيسها، فذلك هو الشذوذ.
وقد نذكر هنا المثل الثالث والرابع والخامس والأمثلة الكثيرة لو كنا نريد الإحصاء والاستقصاء، ولكننا نريد التدليل ولا نبغي غيره. وفيما تقدم الكفاية.
فالذي قلته في أدب الرافعي هو الذي اعتقدته، بل هو الذي لا أقدر على اعتقاد رأي غيره إلا أن أنسى كل ما عرفت من كتب البحث والقياس.
والذي قلته في قياس الرافعي لا يقدر الصديق على أن ينفيه أو يقول بنقيضه؛ إلا أن تكون الصداقة على غير الحق والإنصاف ولو قنع مني الرافعي بأن أشهد له بالبلاغة وأن أنقد قياسه وبحثه على النحو الذي تقدم لما كانت خصومة ولا كان جدال.
ولكنه أعتد رأيي فيه تجاهلاً وقلة إنصاف، وزاد فاعتده من العداوة ورصد له ما يرصد للأعداء. وهذا هو أصل الخلاف.
أما ما قيل ولا يزال يقال عن الخصومة الأدبية بيني وبين شوقي رحمه الله فبودي مرة أن أقرأ كاتباً واحداً يقول: (إنك نقدت الشاعر في (كذا) وإن (كذا) هذه خطأ أقيم عليه الدليل، وهذا هو الدليل).
بودي أن أقرأ هذا لكاتب واحد من الذين يخالفونني في الرأي وينهجون في النقد غير النقد الذي أنتحيه.
ولكنهم جميعاً لا يزيدون على الصياح والاستهوال ثم الصياح والاستهوال: يا خلق الله الحقونا. . . يا خلق الله أسمعوا وأعجبوا. . . يا خلق الله تعالوا فانظروا من يقول أن شوقيا ليس بشاعر عظيم.
وهذا كل ما يقال، وهذا كل ما يعاد، ولا مناقشة لرأي ولا استشهاد بمثال.
ومنهم من يقولَّني ما لم أقل ويخرج صارخاً على خلق الله ليزعم أنني عظمت الشعراء جميعاً إلا شوقَّيا وحده، فقد خصصته بقلة التعظيم أكذلك حصل؟. . . لا. كذلك لم يحصل!
وكل ما هنالك أنني يحق لي أن آكل الجميز الجيد وأن أعيب التفاح الذي يعاب. والجميز بعد ذلك هو الجميز، والتفاح هو التفاح!
وأعجب العجب أن يبلغ الادعاء بهؤلاء أن يغلقوا كل باب للرأي غير رأيهم فلا يخالفهم أحد إلا إذا كان تأويل المخالفة الوحيد تِرَة شخصية أو قلة إنصاف!
ولو أنهم طلبوا الحقيقة لسهل عليهم أن يعرفوا أن طريقتنا تباين طريقة شوقي، وأن اختلاف المقاييس بيننا وبينه معقول وطبيعي ومردود إلى أسبابه التي لا نغضي عنها لو أردنا الإغضاء.
وأن ترة شخصية بيننا وبين شوقي لم تكن على حال من الأحوال. وليس في مقدور أحد أن يذكر سبباً لها لو اتجهت ظنونه إليها.
فكل ما قلناه في أدب شوقي فهو رأينا الذي أعتقدناه، ولا نحب أن يشير أحد إلى اللهجة التي قلنا بها، فإن بيان أسبابها وتسويغ موقعها لا يعسران علينا، ولا يخفيان على من يعلم أو يريد أن يعلم. . . فالإيجاز في هذه الإشارة أولى من الإفاضة فيها.
وبعد فالخصومة الأدبية لها مذهبان: مذهب الإيمان بالفضل وإخفائه على عمد، ومذهب الرأي الذي يتفق عليه الأصدقاء والخصوم وإن اختلفا في لهجة الأداء وعبارة الثناء.
وهذا هو مذهبنا الذي ندين به ونجري عليه في كل ما اختصمنا فيه. . . وعلى الذين يرموننا بقلة الإنصاف أن يرونا مبلغ إنصافهم لنا، إن كانوا. . . منصفين!
عباس محمود العقاد
مجلة الرسالة - العدد 361
بتاريخ: 03 - 06 - 1940