وهو يجلس الآن في ركن الغرفة، ينظر إلى جهاز التلفاز، يُحملق في الفراغ.. يرى شريطا معاكسا لما يُعرض على الشاشة.. يرى نفسه شابا في مقتبل العمر.. يحلم بأن يعيش كل الناس من حوله وضعا أفضل..
يحمل حقيبة، ويذهب إلى المدرسة.. يتعلم.. يدرس.. يفهم أحسن.. تسقط بين يديه كتب تحمل أفكارا جديدة تُعلم الناس كيف تتحول الأحلام إلى واقع..
احبّ هند.. هند عندما تضع رأسها على كتفه، يُغمض عينيه، ويشعر بانهما يتحولان إلى ملائكة تطير بأجنحة بيضاء، ويُنجبان أطفالا يملؤون العالم ضجيجا..
العين التي لا تنام تُعلن الحرب على هذا الصنف من الكتب والأحلام.. تبقى مفتوحة لا يُغمض لها جفن.. تَخيّل عينا لا ترمش ولا تنام.. عينا حمراء بجفنين منتفخين.. لا بد أن تكون مخيفة ومرعبة.. تحرق الكتب والأجنحة البيضاء، وتتربص بالأحلام الكبرى، وترمي بالأطفال الصغار إلى جرّ عربات القمامة..
بعدها تمتد الأيادي الطويلة، تخطفه قبل بزوغ الفجر، وترمي به في أقبية تحت الأرض.. دهاليز تشبه القبور..
في هذا الوقت، الملاهي والعُلب الليلية تختفي أيضا تحت الأرض، قبل أن تصعد الطوابق، وتستوي مع المطاعم والفنادق، وتنتشر مثل الجراد الذي كان يأكل حتى اعمدة الهاتف..
تشتد العواصف.. تتمزق الأشرعة.. يصمد في وجه الإعصار.. هذه الأقبية السفلية تشبه أعماق المحيطات المظلمة.. من يدخل إليها مفقود، ومن يخرج منها مولود..
جربوا فيه كل أصناف التعذيب، واجتاز الامتحان الأول بجروح عميقة.. جينات الكبرياء الانساني التي تجري في الدم تمنعه، من أن يحني الرأس..
الآن مروا إلى المرحلة الموالية.. لا بد من عرضه على القضاء.. الملف اكتمل، والحكم جاهز..
من بائع الفحم الذي تكفل بمراقبته في الحي إلى أعلى سلطة في اغتيال الاحلام، كل المحاضر تشهد بأنه حاول التآمر على النظام..
بعد كل هذه السنين يتوقف عند هذه التهمة..
قالت زوجة العربي بائع الفحم لأمه:
ـ يقول العربي بأن ابنك شغلته السياسة، وأراد قلب النظام..
كم ضحكَا عندما اخبرته امه بأنها ردت على الجارة:
ـ تعرفين أن ابني لا يستطيع تحريك الدجاجة عن بيضها..
وأنت لا تملك مدافع وبنادق ودبابات.. ولا يسند ظهرك جنود ومقاتلون.. ولا تتوفر على دعم دولي وصحف وأجهزة مخابرات.. ولا تملك أرصدة في الخارج..
كل ما في الأمر أنك قرأت بعض الكتب، وتأثرت بأفكار، وحضرت القليل من الاجتماعات.. ثم بدأت تحلم بأن يعيش كل الناس في وضع أحسن.. أن يسكنوا أحسن.. يأكلوا أحسن.. يشربوا أحسن.. يلبسوا أحسن .. يُعالجوا أحسن في حالة المرض.. يتعلم أبناؤهم أحسن.. يجدون عملا أحسن..
عرضوا عليك المناصب العليا، ودفاتر الشيكات، والسكن في أحياء الخمسة نجوم، وسيارات لنقل الأطفال إلى المدرسة، وسائق يتجول بهند لتتفرج على واجهة المتاجر الراقية..
اعطوك مهلة للتفكير.. بدا أن رأسك عنيد..
الآن أصبح الحكم جاهزا..
وأنت تحلم بأن يزرع الناس معا، ويحصدون معا
أقرّوا بأنك تجاوزت الخطوط الحمراء..
أنت تريد أن يضعوا حديدة حامية، ويسملوا العين التي لا تنام..
أجزم القاضي بأنك رجل خطير.. عميل لقوى خارجية.. تزرع الفوضى، وتهدد الأمن العام للبلد.. ولا بد من وضعك خلف القضبان حتى ترشى عظامك، ويبرد رأسك ويلين..
مرت السنوات تجري بسرعة.. وها أنت الآن تنظر إلى التلفاز، وتسمع أخبارا غريبة، تشعر كأنها شفرة حلاقة تُمزق ما تبقى من جلد رقيق فوق صدرك حتى تجرح العظام..
طابور طويل من شباب تائه.. كل حلمه أن يحظى بجرعة من صورة لتوقيع نسخة من (رواية) لكاتب تخرّج من آبار النفط والغاز، لنشر اللايف على صفحته في الأنستغرام..
قالت فتاة لصحافي أبله:
ـ هذا الكاتب مدهش، ينقلني إلى عالم وردي.. عندما تقرأ له، تشعر وكأن مخدرا يسري في عروقك، يحلق بك بعيدا عن كل صداع قد يصيب الرأس، أو حزن يخيم على القلب..
فتحت الهاتف وأضافت:
ـ أنظرّ.. الآلاف يدخلون مثل الجراد إلى صفحتي.. ويعبرون عن دهشتهم، وإعجابهم بما أقدمت عليه.. سعيدة بأن يتقاسم معي العالم هذه اللحظة.. اليوم هو الأجمل في حياتي..
قلت لنفسك، وكادت تسقط دمعة من عينك:
ـ يا إلهي كيف سقط زمن الأحلام الكبرى في غفلة منا، وحلّ محله زمن الهروب إلى أودية الضباع للبحث عن أوهام وبقايا من طعام القمامة؟!..
مراكش 16 ماي 2024
يحمل حقيبة، ويذهب إلى المدرسة.. يتعلم.. يدرس.. يفهم أحسن.. تسقط بين يديه كتب تحمل أفكارا جديدة تُعلم الناس كيف تتحول الأحلام إلى واقع..
احبّ هند.. هند عندما تضع رأسها على كتفه، يُغمض عينيه، ويشعر بانهما يتحولان إلى ملائكة تطير بأجنحة بيضاء، ويُنجبان أطفالا يملؤون العالم ضجيجا..
العين التي لا تنام تُعلن الحرب على هذا الصنف من الكتب والأحلام.. تبقى مفتوحة لا يُغمض لها جفن.. تَخيّل عينا لا ترمش ولا تنام.. عينا حمراء بجفنين منتفخين.. لا بد أن تكون مخيفة ومرعبة.. تحرق الكتب والأجنحة البيضاء، وتتربص بالأحلام الكبرى، وترمي بالأطفال الصغار إلى جرّ عربات القمامة..
بعدها تمتد الأيادي الطويلة، تخطفه قبل بزوغ الفجر، وترمي به في أقبية تحت الأرض.. دهاليز تشبه القبور..
في هذا الوقت، الملاهي والعُلب الليلية تختفي أيضا تحت الأرض، قبل أن تصعد الطوابق، وتستوي مع المطاعم والفنادق، وتنتشر مثل الجراد الذي كان يأكل حتى اعمدة الهاتف..
تشتد العواصف.. تتمزق الأشرعة.. يصمد في وجه الإعصار.. هذه الأقبية السفلية تشبه أعماق المحيطات المظلمة.. من يدخل إليها مفقود، ومن يخرج منها مولود..
جربوا فيه كل أصناف التعذيب، واجتاز الامتحان الأول بجروح عميقة.. جينات الكبرياء الانساني التي تجري في الدم تمنعه، من أن يحني الرأس..
الآن مروا إلى المرحلة الموالية.. لا بد من عرضه على القضاء.. الملف اكتمل، والحكم جاهز..
من بائع الفحم الذي تكفل بمراقبته في الحي إلى أعلى سلطة في اغتيال الاحلام، كل المحاضر تشهد بأنه حاول التآمر على النظام..
بعد كل هذه السنين يتوقف عند هذه التهمة..
قالت زوجة العربي بائع الفحم لأمه:
ـ يقول العربي بأن ابنك شغلته السياسة، وأراد قلب النظام..
كم ضحكَا عندما اخبرته امه بأنها ردت على الجارة:
ـ تعرفين أن ابني لا يستطيع تحريك الدجاجة عن بيضها..
وأنت لا تملك مدافع وبنادق ودبابات.. ولا يسند ظهرك جنود ومقاتلون.. ولا تتوفر على دعم دولي وصحف وأجهزة مخابرات.. ولا تملك أرصدة في الخارج..
كل ما في الأمر أنك قرأت بعض الكتب، وتأثرت بأفكار، وحضرت القليل من الاجتماعات.. ثم بدأت تحلم بأن يعيش كل الناس في وضع أحسن.. أن يسكنوا أحسن.. يأكلوا أحسن.. يشربوا أحسن.. يلبسوا أحسن .. يُعالجوا أحسن في حالة المرض.. يتعلم أبناؤهم أحسن.. يجدون عملا أحسن..
عرضوا عليك المناصب العليا، ودفاتر الشيكات، والسكن في أحياء الخمسة نجوم، وسيارات لنقل الأطفال إلى المدرسة، وسائق يتجول بهند لتتفرج على واجهة المتاجر الراقية..
اعطوك مهلة للتفكير.. بدا أن رأسك عنيد..
الآن أصبح الحكم جاهزا..
وأنت تحلم بأن يزرع الناس معا، ويحصدون معا
أقرّوا بأنك تجاوزت الخطوط الحمراء..
أنت تريد أن يضعوا حديدة حامية، ويسملوا العين التي لا تنام..
أجزم القاضي بأنك رجل خطير.. عميل لقوى خارجية.. تزرع الفوضى، وتهدد الأمن العام للبلد.. ولا بد من وضعك خلف القضبان حتى ترشى عظامك، ويبرد رأسك ويلين..
مرت السنوات تجري بسرعة.. وها أنت الآن تنظر إلى التلفاز، وتسمع أخبارا غريبة، تشعر كأنها شفرة حلاقة تُمزق ما تبقى من جلد رقيق فوق صدرك حتى تجرح العظام..
طابور طويل من شباب تائه.. كل حلمه أن يحظى بجرعة من صورة لتوقيع نسخة من (رواية) لكاتب تخرّج من آبار النفط والغاز، لنشر اللايف على صفحته في الأنستغرام..
قالت فتاة لصحافي أبله:
ـ هذا الكاتب مدهش، ينقلني إلى عالم وردي.. عندما تقرأ له، تشعر وكأن مخدرا يسري في عروقك، يحلق بك بعيدا عن كل صداع قد يصيب الرأس، أو حزن يخيم على القلب..
فتحت الهاتف وأضافت:
ـ أنظرّ.. الآلاف يدخلون مثل الجراد إلى صفحتي.. ويعبرون عن دهشتهم، وإعجابهم بما أقدمت عليه.. سعيدة بأن يتقاسم معي العالم هذه اللحظة.. اليوم هو الأجمل في حياتي..
قلت لنفسك، وكادت تسقط دمعة من عينك:
ـ يا إلهي كيف سقط زمن الأحلام الكبرى في غفلة منا، وحلّ محله زمن الهروب إلى أودية الضباع للبحث عن أوهام وبقايا من طعام القمامة؟!..
مراكش 16 ماي 2024