إذا كان الطريقُ إلى إيثاكا أجمل من إيثاكا، فإنَّ الطريقَ إلى دمشقَ ليس أجملَ من دمشق.
المدينةُ تشبهُ التجاعيدَ، ملتفةٌ على بعضها البعض كأجسادِ المنسيين في زنازين العالمِ الثالثِ، نافرةٌ كذاكرةً مثقوبةٍ، واضحةٌ كملابس العيد، فضائحيةٌ كخيوطِ سجادةٍ فارسيةٍ، طالما سحرتني هذه المدينةُ بالتراكمِ، طبقةٌ تضاجعُ طبقةً تضاجعها أُخرى، تتوالدُ بلا حَبَلٍ، مدينةٌ تلبسُ البرقعَ في وجهها وتكشفُ عن ساقيها السمراوين، المدينةُ تقطعني حين أراودها عن نفسي جيئةً وذهاباً كل يومٍ، أقطعُها كما يقطعُ عرابو ثورةِ البروليتاريا رؤوسَ الطبقاتِ المخمليةِ بدايةً، ثم رؤوسَ الأصدقاءِ لاحقاً، أقطعُها بصبرِ جملٍ، بهمةِ كلاشنكوف، وشهوةِ جرادةٍ أمام حقلٍ في الصباحِ.
المدينةُ تشبهُ الذكرياتِ، مبهمةٌ، ولكنها تدغدغُ الحقيقةَ بحياءٍ، تُثْقِلُ نومنا بمزيدٍ من الشهوةِ، وصحونا بمزيدٍ من الأسئلةِ، ومثل جنازةِ الغرباءِ في المدنِ الغريبةِ، تثيرُ الشفقةَ دونَ أنْ تصافحَ يدَ الحزنِ، تئنُّ في الليلِ كأنها مصابةٌ بالترحالِ وتخدشُ جلدَ أحاديثنا بأظافرَ من حنينٍ مبهمٍ، ثم تندسُ إلى جانبنا في الفراشِ، كنَّا حين نصحو في منتصفِ الموتِ على صوتِ نشيجها، تغطي رأسَها بالوسادةِ، فتنكسرُ الأحلامُ.
المدينةُ تشبهُ السياحَ، بنزقهم، بكاميراتهم الديجتال وصنادلهم التي لا تعرفُ لغةَ الأرصفةِ في شمالهم الباردِ، بمرحهم المجمركِ ولفافاتِ حشيشهم التي ينكرونها وتنكرهم حين يعودون إلى بلادِ الثلجِ، تشبههم بلونهم البرونزي المزيفِ وقد شربتْ عظامهم الشمسَ وفيتامين 'د' وكاميراتهم المدينة.
المدينةُ تشبه بائعي اليانصيب بوجوههم الميتة، وتقاريرهم لفروع المخابراتِ بعد غلاءِ الخبزِ، تشبههم وهم يزرعونَ الأحلامَ على الطرقاتِ، متوعدين العابرين بالملايين وأطفالهم يرضعون الماءَ ويربحون الجوع.
المدينةُ تشبهُ أبوابَها السبعةَ، مشرعةٌ بلا رقيبٍ كأسرَّةِ العاهراتِ، مغلقةٌ بلا بصيصٍ كقبورِ الموتى.
المدينةُ تشبهُ دمشق.
هنا تستلقي المدينةُ على ظهرها، الشمسُ تلدغُ جلدَها فتزدادُ شحوباً، والضجةُ تذهبُ إلى نهاياتها، من أولِ النهرِ إلى منتصفِ الروحِ، تشدُّ حبلَ مشيمتها الذي لم ينقطعْ، وترمي فقراءَها إلى الأطرافِ، فقراؤها الذين كلما حاولوا أنْ يحبوها سقطوا تحت عجلاتِ اتساعها، هذه الخدوشُ التي تسكنُ جلدها هي طرقاتُها المتشابكةُ بعنايةٍ لا إلهيةٍ، وتلكَ الغيمةُ السوداءُ التي تلفُّ جيدها إنما هي نتيجةُ تردُدِها المزمنِ أمامَ التوقفِ عن التدخينِ، يا إلهي، كيف لي أنْ أتسلقَ نهدَها المطلَّ على تجاعيدها، تستلقي عليه البيوتُ الرماديةُ من سفحهِ إلى الحلمةِ بهندسةِ التراكمِ منذ اكتشافِ اللذةِ صدفةً بين رجلٍ وامرأةٍ وحتى الحضارة، لا أصدقُ كيف يمكن لنهدٍ أن يُسمى جبلاً دون مجازٍ، ودربٌ شقَّها الذين مروا دون أن يُحبوا أعداءَهم، لا تزالُ كشاهدةِ القبرِ تبثُ التاريخَ، هنا تستلقي المدينةُ طازجةً وكأنها لم تسبقِ الأبجديةَ بعدةِ كوارثَ، تحيطها أسوارٌ لا تشبهُ الحصارَ، وتكادُ إنْ أنصتَّ قيلاً تسمعُ رجعَ صدىً خافتٍ لمنتصبي القامةِ الذين شربوا ماءَها وبعضهم تسللَ بحكمِ الوراثةِ إلى دمكَ المصابِ بالأغاني، إنها المقبرةُ الأولى التي احتفل الناسُ بها كدليلٍ على الذكرياتِ، أمرُّ بها غريباً عني فتمرُّ بي غريبةً عن ملامحي، أُبصرها في وجوهِ غرباءَ انتموا إليها فنتماهى في حضرةِ التوهمِ، هي القديمةُ مثل مستحاثةٍ وأنا الجديدُ مثل نهايةِ التاريخِ، أمسكُ ثوبها كطفلٍ وتمسكُ قلبي كامرأةٍ فنرتكبُ القصيدةَ، أنا الحالمُ يصطادُ الشعرَ وهي الواقعيةُ تنجبُ الأطفالَ ولا تربيهم، أنا الفاني وهي الأزليةُ الباقيةُ، أنا القدريُّ المشبعُ بالغيبياتِ وهي الواقعيةُ الملحدةُ، لا عزاءَ لي ولا ضيرَ عليها سوى أننا صُدفةً عاشقان.
نازلاً في الطريقِ إلى خصرها، أتقاطعُ مع الشكِّ، هو سائرٌ نحو كمالِ اليقينِ وأنا أكادُ ألامس الظنَّ من حافتهِ الملساء، أكسرُ حصالةَ الوقتِ وأخرجُ منها ثلاثةَ أيامٍ وبضعَ ساعاتٍ هي لحظاتُ الفرحِ الذي جمعتها خلالَ حياتي التي لا تزال على قيدِ الحياةِ، ثقلُ بندقيةِ الكلاشنكوف التي أورثني إياها شيوعيٌ مرَ صدفةً بجانبِ جرحي لا يزالُ يثقلُ كتفي الأيمن، ولذا أصبحَ كتفي الأيسرُ أعلى وأكثرَ شموخاً، وازدادَ وَحْلُ أيامي رخاوةً وإيذاناً بالغوصِ البطيءِ، أما شجرةُ البرتقالِ التي يتكررُ ظهورُهَا في حلمي بطعمها الذي يشبهُ طعمَ غزةَ مع ميلانٍ خفيفٍ نحو حموضةٍ تشبهُ هواءَ دمشق، فتفسيرها عصيٌ على الويكيبيديا، وليس عصياً على ابن العربي، في آخرِ الدربِ المفضي إلى 'الزقاقِ المستقيمِ' أرافقُ حنانيا إلى بيت يهوذا، نتمشى مبهورين بالتفاصيلِ التي تتساقطُ من السماءِ بسبب أخطاءَ فنيةٍ في هندسةِ الربِّ، نلتقي الشهداءَ الذين ينتظرونَ في الردهةِ من يجيبُهم عن أسئلتهم الوجودية عن معنى حشرهم وأعدائهم في قاعةٍ واحدةٍ تحت شعار كلنا شهداءُ، هذه المدينةُ تأكلُ لحمَ أخيها وتتجشأُ ازدحاماً، هذه المدينةُ مسورةٌ بالحكايا ودعاءِ المنكوبين بالورعِ، هذه المدينةُ لم تقطعْ حبلَ مشيمةٍ يصلُها بالموتِ، إنها تشحذُ سكينها كلَّ ليلةٍ على أملِ المجزرةِ القادمةِ، ليت لي دفءَ محركِ سيارةٍ في شتائكِ الحزين أو برودةَ قبرٍ في صيفكِ المرِّ أيتها الصحراءُ الاسمنتيةُ، أيتها المدينةُ التي تشربُ الشايَ على أنغامِ المعركةِ، وترقصُ رقصةَ الهزيمةِ على جثثِ أبنائها الضالين، آمين.
ليسَ في جعبتي متسعٌ من الضوءِ لأوزعَهُ على عميانِ 'مترلينك'، الأسوارُ تحيطُ المعنى داخلَ روحي كما تحيطُ المدينةُ ذكرياتي، آه يا روحي المؤمنةُ، آه يا جسدي الملحدُ، سأعترفُ الآن بخطيئتي الأصليةِ، إنَّ جميعَ قصائدي التي غرزتُها في لحمِ أيامكم كسكينٍ صدئةٍ، ليست قصائدي، لقد سرقتها من المنسيين وفاقدي الذاكرةِ، وجمعتُها من أسرةِ المشافي البيضاءِ وأنين المعذبين، إنها ذاكرةُ النساءِ المسفوكةُ أمام ذكورةِ الله، غرغراتُ الذين ماتوا برداً في منتصفِ الأغنيةِ، إنها الحلمُ حين يكونُ مجرداً من الحالمين، نعم، إنها ليست قصائدي، إنها ذكرياتٌ متحجرةٌ لأناسٍ عاشوا قبل زمنٍ سحيقٍ، لا نعرفُ أسماءَهم ولكننا نحملهم في ملامحنا الباهتة، أمنياتٌ لم تتحققْ، وضحكاتٌ مستعملةٌ، إنها ليست قصائدي، إنها أنفاسُ الغرقى والمشنوقين، والأرواحُ التي سالتْ من ثقوبٍ صغيرةٍ أحدثتها البنادق
ô
إنها ليست قصائديô
لـ ـيـ ـسـ ـت قـ ـصـ ـا ئـ ـد ي.
'
لستُ أنا فقط،
جميعنا غرباءُ،
وإلا كيف تفسرون المدينة؟
'
الشاعرُ الذي التقيتهُ ذاتَ خمارةٍ في دمشق،
ô
ô
أكلهُ الذئب.
من أولِ الجسدِ إلى تخومِ الشهوةِ، يسَّاقطُ الليلُ جرحاً جرحاً، فأحتمي بالضوءِ، النساءُ المتخفياتُ بجلابيبهنَّ يذكرنني بذكورةِ العالمِ، فأتعكزُ على أنوثةٍ كي أنجو، والتعبُ الذي يسيلُ خلفَ المارةِ يشدُني إلى القاعِ، هذه المدينةُ لا تشبهُ الفرحَ، لكنَّ فيها غموضاً يصيبُنا بسعادةٍ عابرةٍ، لا تشبهُ الموتَ لكنها محكومةٌ بالنهاياتِ، هي الظلمُ الموزعُ بعدالةٍ فاضحةٍ، حلمُ المرأةِ بالانعتاقِ، تنهيدةُ الله، ورأسُ يوحنا الذي يركضُ في ليالينا باكياً، هي التحالفُ بين القصيدةِ والجلادِ، بين رائحةِ الأسوارِ طازجةً ونكهةِ الأزقة التي تفضي إلى البدايةِ، إنها الشامُ، عرسُ الدمِ الذي لا ينتهي، رقصةُ سالومي التي تمطرُ أياماً على أيامنا، النهايةُ التي تبدأُ الآن، صلاةُ أمي المبللةُ بالأساطيرِ، المآذنُ التي تلامسُ أصابعَ الله، لصوتها طعمٌ يشبهُ لون الشعرِ، ولجسدها تضاريس الخطيئةِ، إنها الشامُ التي انجبتني وسقطتْ برصاصةِ قناصٍ، فولدنا معاً، أشدُها نحوي فتنكسرُ الأغنيةُ، تشدُني نحوها فتؤلمني القصيدةُ، {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الشامَ إلا وأنتم سُكارى فإنها مجبولةٌ بالنعاسِ}، لها الأغاني المقتولةُ وتفاصيلُ النبوةِ ورائحةُ الوحيِ، ولنا التصوفُ تحت سُرَتها عراةً، نحن أبناؤها العاقون الذين ضاعوا في الشمالِ، وهي أمُّنا التي لم ترضعْنا سوى الخوفِ، فورثنا سورةَ الشعراءِ، إنها الشامُ، تفاحةُ الضوءِ وسفرُ الحزنِ ورسائلُ ابن العربي التي لم تصلْ بعدُ.
المدينةُ تشبهُ التجاعيدَ، ملتفةٌ على بعضها البعض كأجسادِ المنسيين في زنازين العالمِ الثالثِ، نافرةٌ كذاكرةً مثقوبةٍ، واضحةٌ كملابس العيد، فضائحيةٌ كخيوطِ سجادةٍ فارسيةٍ، طالما سحرتني هذه المدينةُ بالتراكمِ، طبقةٌ تضاجعُ طبقةً تضاجعها أُخرى، تتوالدُ بلا حَبَلٍ، مدينةٌ تلبسُ البرقعَ في وجهها وتكشفُ عن ساقيها السمراوين، المدينةُ تقطعني حين أراودها عن نفسي جيئةً وذهاباً كل يومٍ، أقطعُها كما يقطعُ عرابو ثورةِ البروليتاريا رؤوسَ الطبقاتِ المخمليةِ بدايةً، ثم رؤوسَ الأصدقاءِ لاحقاً، أقطعُها بصبرِ جملٍ، بهمةِ كلاشنكوف، وشهوةِ جرادةٍ أمام حقلٍ في الصباحِ.
المدينةُ تشبهُ الذكرياتِ، مبهمةٌ، ولكنها تدغدغُ الحقيقةَ بحياءٍ، تُثْقِلُ نومنا بمزيدٍ من الشهوةِ، وصحونا بمزيدٍ من الأسئلةِ، ومثل جنازةِ الغرباءِ في المدنِ الغريبةِ، تثيرُ الشفقةَ دونَ أنْ تصافحَ يدَ الحزنِ، تئنُّ في الليلِ كأنها مصابةٌ بالترحالِ وتخدشُ جلدَ أحاديثنا بأظافرَ من حنينٍ مبهمٍ، ثم تندسُ إلى جانبنا في الفراشِ، كنَّا حين نصحو في منتصفِ الموتِ على صوتِ نشيجها، تغطي رأسَها بالوسادةِ، فتنكسرُ الأحلامُ.
المدينةُ تشبهُ السياحَ، بنزقهم، بكاميراتهم الديجتال وصنادلهم التي لا تعرفُ لغةَ الأرصفةِ في شمالهم الباردِ، بمرحهم المجمركِ ولفافاتِ حشيشهم التي ينكرونها وتنكرهم حين يعودون إلى بلادِ الثلجِ، تشبههم بلونهم البرونزي المزيفِ وقد شربتْ عظامهم الشمسَ وفيتامين 'د' وكاميراتهم المدينة.
المدينةُ تشبه بائعي اليانصيب بوجوههم الميتة، وتقاريرهم لفروع المخابراتِ بعد غلاءِ الخبزِ، تشبههم وهم يزرعونَ الأحلامَ على الطرقاتِ، متوعدين العابرين بالملايين وأطفالهم يرضعون الماءَ ويربحون الجوع.
المدينةُ تشبهُ أبوابَها السبعةَ، مشرعةٌ بلا رقيبٍ كأسرَّةِ العاهراتِ، مغلقةٌ بلا بصيصٍ كقبورِ الموتى.
المدينةُ تشبهُ دمشق.
هنا تستلقي المدينةُ على ظهرها، الشمسُ تلدغُ جلدَها فتزدادُ شحوباً، والضجةُ تذهبُ إلى نهاياتها، من أولِ النهرِ إلى منتصفِ الروحِ، تشدُّ حبلَ مشيمتها الذي لم ينقطعْ، وترمي فقراءَها إلى الأطرافِ، فقراؤها الذين كلما حاولوا أنْ يحبوها سقطوا تحت عجلاتِ اتساعها، هذه الخدوشُ التي تسكنُ جلدها هي طرقاتُها المتشابكةُ بعنايةٍ لا إلهيةٍ، وتلكَ الغيمةُ السوداءُ التي تلفُّ جيدها إنما هي نتيجةُ تردُدِها المزمنِ أمامَ التوقفِ عن التدخينِ، يا إلهي، كيف لي أنْ أتسلقَ نهدَها المطلَّ على تجاعيدها، تستلقي عليه البيوتُ الرماديةُ من سفحهِ إلى الحلمةِ بهندسةِ التراكمِ منذ اكتشافِ اللذةِ صدفةً بين رجلٍ وامرأةٍ وحتى الحضارة، لا أصدقُ كيف يمكن لنهدٍ أن يُسمى جبلاً دون مجازٍ، ودربٌ شقَّها الذين مروا دون أن يُحبوا أعداءَهم، لا تزالُ كشاهدةِ القبرِ تبثُ التاريخَ، هنا تستلقي المدينةُ طازجةً وكأنها لم تسبقِ الأبجديةَ بعدةِ كوارثَ، تحيطها أسوارٌ لا تشبهُ الحصارَ، وتكادُ إنْ أنصتَّ قيلاً تسمعُ رجعَ صدىً خافتٍ لمنتصبي القامةِ الذين شربوا ماءَها وبعضهم تسللَ بحكمِ الوراثةِ إلى دمكَ المصابِ بالأغاني، إنها المقبرةُ الأولى التي احتفل الناسُ بها كدليلٍ على الذكرياتِ، أمرُّ بها غريباً عني فتمرُّ بي غريبةً عن ملامحي، أُبصرها في وجوهِ غرباءَ انتموا إليها فنتماهى في حضرةِ التوهمِ، هي القديمةُ مثل مستحاثةٍ وأنا الجديدُ مثل نهايةِ التاريخِ، أمسكُ ثوبها كطفلٍ وتمسكُ قلبي كامرأةٍ فنرتكبُ القصيدةَ، أنا الحالمُ يصطادُ الشعرَ وهي الواقعيةُ تنجبُ الأطفالَ ولا تربيهم، أنا الفاني وهي الأزليةُ الباقيةُ، أنا القدريُّ المشبعُ بالغيبياتِ وهي الواقعيةُ الملحدةُ، لا عزاءَ لي ولا ضيرَ عليها سوى أننا صُدفةً عاشقان.
نازلاً في الطريقِ إلى خصرها، أتقاطعُ مع الشكِّ، هو سائرٌ نحو كمالِ اليقينِ وأنا أكادُ ألامس الظنَّ من حافتهِ الملساء، أكسرُ حصالةَ الوقتِ وأخرجُ منها ثلاثةَ أيامٍ وبضعَ ساعاتٍ هي لحظاتُ الفرحِ الذي جمعتها خلالَ حياتي التي لا تزال على قيدِ الحياةِ، ثقلُ بندقيةِ الكلاشنكوف التي أورثني إياها شيوعيٌ مرَ صدفةً بجانبِ جرحي لا يزالُ يثقلُ كتفي الأيمن، ولذا أصبحَ كتفي الأيسرُ أعلى وأكثرَ شموخاً، وازدادَ وَحْلُ أيامي رخاوةً وإيذاناً بالغوصِ البطيءِ، أما شجرةُ البرتقالِ التي يتكررُ ظهورُهَا في حلمي بطعمها الذي يشبهُ طعمَ غزةَ مع ميلانٍ خفيفٍ نحو حموضةٍ تشبهُ هواءَ دمشق، فتفسيرها عصيٌ على الويكيبيديا، وليس عصياً على ابن العربي، في آخرِ الدربِ المفضي إلى 'الزقاقِ المستقيمِ' أرافقُ حنانيا إلى بيت يهوذا، نتمشى مبهورين بالتفاصيلِ التي تتساقطُ من السماءِ بسبب أخطاءَ فنيةٍ في هندسةِ الربِّ، نلتقي الشهداءَ الذين ينتظرونَ في الردهةِ من يجيبُهم عن أسئلتهم الوجودية عن معنى حشرهم وأعدائهم في قاعةٍ واحدةٍ تحت شعار كلنا شهداءُ، هذه المدينةُ تأكلُ لحمَ أخيها وتتجشأُ ازدحاماً، هذه المدينةُ مسورةٌ بالحكايا ودعاءِ المنكوبين بالورعِ، هذه المدينةُ لم تقطعْ حبلَ مشيمةٍ يصلُها بالموتِ، إنها تشحذُ سكينها كلَّ ليلةٍ على أملِ المجزرةِ القادمةِ، ليت لي دفءَ محركِ سيارةٍ في شتائكِ الحزين أو برودةَ قبرٍ في صيفكِ المرِّ أيتها الصحراءُ الاسمنتيةُ، أيتها المدينةُ التي تشربُ الشايَ على أنغامِ المعركةِ، وترقصُ رقصةَ الهزيمةِ على جثثِ أبنائها الضالين، آمين.
ليسَ في جعبتي متسعٌ من الضوءِ لأوزعَهُ على عميانِ 'مترلينك'، الأسوارُ تحيطُ المعنى داخلَ روحي كما تحيطُ المدينةُ ذكرياتي، آه يا روحي المؤمنةُ، آه يا جسدي الملحدُ، سأعترفُ الآن بخطيئتي الأصليةِ، إنَّ جميعَ قصائدي التي غرزتُها في لحمِ أيامكم كسكينٍ صدئةٍ، ليست قصائدي، لقد سرقتها من المنسيين وفاقدي الذاكرةِ، وجمعتُها من أسرةِ المشافي البيضاءِ وأنين المعذبين، إنها ذاكرةُ النساءِ المسفوكةُ أمام ذكورةِ الله، غرغراتُ الذين ماتوا برداً في منتصفِ الأغنيةِ، إنها الحلمُ حين يكونُ مجرداً من الحالمين، نعم، إنها ليست قصائدي، إنها ذكرياتٌ متحجرةٌ لأناسٍ عاشوا قبل زمنٍ سحيقٍ، لا نعرفُ أسماءَهم ولكننا نحملهم في ملامحنا الباهتة، أمنياتٌ لم تتحققْ، وضحكاتٌ مستعملةٌ، إنها ليست قصائدي، إنها أنفاسُ الغرقى والمشنوقين، والأرواحُ التي سالتْ من ثقوبٍ صغيرةٍ أحدثتها البنادق
ô
إنها ليست قصائديô
لـ ـيـ ـسـ ـت قـ ـصـ ـا ئـ ـد ي.
'
لستُ أنا فقط،
جميعنا غرباءُ،
وإلا كيف تفسرون المدينة؟
'
الشاعرُ الذي التقيتهُ ذاتَ خمارةٍ في دمشق،
ô
ô
أكلهُ الذئب.
من أولِ الجسدِ إلى تخومِ الشهوةِ، يسَّاقطُ الليلُ جرحاً جرحاً، فأحتمي بالضوءِ، النساءُ المتخفياتُ بجلابيبهنَّ يذكرنني بذكورةِ العالمِ، فأتعكزُ على أنوثةٍ كي أنجو، والتعبُ الذي يسيلُ خلفَ المارةِ يشدُني إلى القاعِ، هذه المدينةُ لا تشبهُ الفرحَ، لكنَّ فيها غموضاً يصيبُنا بسعادةٍ عابرةٍ، لا تشبهُ الموتَ لكنها محكومةٌ بالنهاياتِ، هي الظلمُ الموزعُ بعدالةٍ فاضحةٍ، حلمُ المرأةِ بالانعتاقِ، تنهيدةُ الله، ورأسُ يوحنا الذي يركضُ في ليالينا باكياً، هي التحالفُ بين القصيدةِ والجلادِ، بين رائحةِ الأسوارِ طازجةً ونكهةِ الأزقة التي تفضي إلى البدايةِ، إنها الشامُ، عرسُ الدمِ الذي لا ينتهي، رقصةُ سالومي التي تمطرُ أياماً على أيامنا، النهايةُ التي تبدأُ الآن، صلاةُ أمي المبللةُ بالأساطيرِ، المآذنُ التي تلامسُ أصابعَ الله، لصوتها طعمٌ يشبهُ لون الشعرِ، ولجسدها تضاريس الخطيئةِ، إنها الشامُ التي انجبتني وسقطتْ برصاصةِ قناصٍ، فولدنا معاً، أشدُها نحوي فتنكسرُ الأغنيةُ، تشدُني نحوها فتؤلمني القصيدةُ، {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الشامَ إلا وأنتم سُكارى فإنها مجبولةٌ بالنعاسِ}، لها الأغاني المقتولةُ وتفاصيلُ النبوةِ ورائحةُ الوحيِ، ولنا التصوفُ تحت سُرَتها عراةً، نحن أبناؤها العاقون الذين ضاعوا في الشمالِ، وهي أمُّنا التي لم ترضعْنا سوى الخوفِ، فورثنا سورةَ الشعراءِ، إنها الشامُ، تفاحةُ الضوءِ وسفرُ الحزنِ ورسائلُ ابن العربي التي لم تصلْ بعدُ.