لا يخرج هذا المقال عن سابقه في أسباب نزوله؛ فهو إجابة عن سؤال الباحث نفسه الذي كان ردّ فعله وراء إنتاج المقال السابق. والسؤال المثار من قِبَله هو: إلى أيّ حد يُمْكِن التنظير لمفهوم وعي العزاء الذي ورد في هيئة العبارة الآتية: «هل هو وعي العزاء الذي يتبقّى لنا، ونحن نرى إلى هويتنا من خلال مرض الزمان؟». وينبغي في هذا الصدد إثارة أسئلة محدَّدة: ما مرض الزمان؟ وما العزاء وعلاقته بمرض الزمان؟ هل ينبغي البحث في هذين السؤالين من دون مراجعة بعض أسس الفلسفة الغربيّة؛ أي التفكير في إطار فلسفيّ مغاير؟ وإذا كان هذا ممكنًا فهل يسعفنا منظورنا التجديليّ التضافريّ في هذه المغامرة؟
لا يسمح لنا مقال مقتضب بالتوسّع في الأسئلة المثارة. لكن نكتفي- ونحن نحاول الإجابة عنها- بالإشارة فحسب على أمل توسيع النظر فيها في مكان آخر. ينبغي أوّلًا تجاوز التوزّع بين علاقة الإرادة بالحقيقة (العقلانية) وعلاقة الإرادة بالقوّة (جورجياس – نيتشه) أو علاقة الإرادة بالكينونة والحياة (هايدغر) نحو علاقة أخرى تُجدَّل فيها العلاقات بالإرادة السابقة؛ ذلك أنّ الفصل بين أشكال هذه العلاقات يصير اصطناعيًّا ما أن نُفكِّر في العلاقة الأصليّة التي هي علاقة الإرادة بالبقاء. ويكمن في صلب هذه العلاقة عالم الرحم الذي غادرناه لنسقط في عالم الخصاصة والنقص، وعدم الكفاية ونشوء الذاكرة، بغاية حمايتنا من الزوال (المخاطر)، ليصير الجهد الإنسانيّ كلّه سعيًا إلى استعادة عالم الرحم رمزيًّا من طريق تلافي النقص وعدم الكفاية، واصطناع الوسائل التي تُمكِّن من تطوير الجسد في علاقته بعالم المخاطر التي تحيط به، بما يضمن بقاءه؛ ومن ثمّة تصير إرادة العلاقة بالبقاء الأساس المفسِّر لوجودنا التاريخيّ، سواء أكان هذا الوجود فرديًّا أم جماعيًّا. وما العقل والقوّة إلا وسيلتان متضافرتان معًا في صيرورة إرادة البقاء هذه، ويتبادلان محتواهما في هذا النطاق، أمّا الكينونة فما هي إلّا الغاية من علاقة الإرادة بالبقاء، التي تتمثَّل في تلافي النقص وعدم الكفاية. وربّما كان المتعالي في شتّى صوّره مرتبطًا بمقاومة الزوال، وتقديم العزاء تجاه مرض الزمان.
ليست الهوية في نهاية المطاف سوى تعرّف الاستمرار بكونه نزوعًا نحو البقاء، بما يعنيه هذا من تجديل بين بقاء صورة ما للذات وبقائها الحيّ في الوجود، وبين الشكل بوصفه مجموع وحدات إشاريّة تُعيِّن تفرّد الفرد وضمان استمرار النوع في الذات المفرَّدة بيولوجيًّا (الجسد) وثقافيًّا (الانتماء إلى الحياة داخل سياق اجتماعيّ وثقافيّ محدَّد). لكنّ سريان الهوية لا يحدث على هذا النحو الحيويّ vitale فحسب، بل يتمّ أيضًا على نحو رمزيّ. وربّما كان هذا البعد الرمزيّ أقوى وأشدّ بروزًا في الأعمال التي نقوم بها في الحياة. وينبغي قراءة بُعْد الهوية الرمزيّ هذا- منظورًا إليها من خلال علاقة الإرادة بالبقاء- من زاوية التزمّن الذي هو مجال مرض الزمان. والمقصود بهذا التحوّل القائم على التوتّر بين الاندفاع الذي هو أساس كلّ قوّة ومظهر كلّ عمل ونفاد احتياطه؛ أي التوتّر بين الداخل (النفسيّ- الفكريّ- اليوتوبيّ) الذي لا يعترف بالزمان والواقع مجال التزمّن الذي يسلب الذات بالتدريج كلّ أشكال الحماية بما فيها الذاكرة. ومن ثمّة تُصاغ الهوية باستمرار من خلال التوتّر بين ما كُنّاه وما صرنا إليه على أرضية الاستمرار بوصفه نزوعًا نحو البقاء، وما ينتج عن هذا من محاولة لا واعية لنسيان الزوال تتّخذ هيئة عزاء. والعزاء هنا ليس سوى استبدال وهميّ لمرض الزمان بصحّة رمزية هي منتجة رمزيًّا. كيف ذلك؟
إنّنا ما أن ندرك أنّنا مورّطون في مرض الزمان، وأنّ مأساتنا هي البقاء في الوجود، ننشئ رمزيًّا القوقعة التي نظنّ أنّها موئل حماية بالنسبة إلينا، والتي توفِّر لنا على الأقلّ- إذا لم تضمن لنا الحماية الدائمة- إمكان البقاء الرمزيّ في الوجود، وما الوجود هنا سوى الآثار التي هي امتداد لنا في الآخرين الذين نعايشهم، أو الذين سيأتون في زمان غير زماننا. وتُعَدُّ الصورة التي نحبّ أن تكُون لنا عند الآخر شكلًا لهذه القوقعة التي هي الهوية الرمزية التي نبنيها بوساطة تشكيل ما نريد أن نكون عليه عبر الزمان الواقعيّ المعيش. إذا تهدّمت الصورة- القوقعة تهدّمت هويتنا الرمزيّة التي نتلقّاها صدى يأتي في هيئة تقريظ أو تمجيد أو تثمين. إنّ التفاوت بين الصورة – القوقعة (الهوية الرمزيّة) كما تصوّرناها وتجلّيها في الواقع هو ما ينتج البعد المأساويّ للهوية. ولا شكّ أنّنا نقضي العمر كلّه في الدفاع عن هذه الصورة- القوقعة حتّى نحقّق الحماية تجاه مرض الزمان (الزوال وخيانة ذاكرة الآخرين لنا). ويرِد- هنا- الاعتراف والتعرّف بوصفهما شكلين لفاعلية هذه الصورة. إنّ بقاء هذه الأخيرة يُعَدُّ شكلًا رمزيًّا للبقاء الفيزيقيّ في الوجود. وهي جوهر العزاء الذي نُقدِّم للنفس في مواجهة مرض الزمان الذي هو الإحساس بالزوال بوصفه قَدَرًا عموميًّا: المستشفيات والصحّة والصيدلة هي أشكال عموميّة لهذا القَدَر لأنّها تؤخِّر أثره النهائيّ فقط، وتُقدِّم لنا عزاء مُؤقَّتًا؛ أي قَدْرًا من البقاء المؤقَّت؛ فما ينبغي أن يلفّه النسيان هو هذا الذي يمضي وينفد من احتياطي البقاء لدى الكائن، وهو محتوى كلّ طفرة هوياتيّة. إنّني أقبل- في الوقت الذي أرى فيه الآخر في حالة تغيّر عاصف: فقدان الكثير من احتياطي البقاء (القوّة)- التغيّر نفسه، لأنّه يُخرجَن ويُجسَّد في الآخر الذي يكُون مماثلًا لي في المصير العام. هذا القبول هو وعي العزاء تجاه مرض الزمان. لكنّ وعي العزاء يتجلّى أكثر في العلاقة بالجسد الرمزيّ، لا الجسد الفيزيقيّ؛ الذي هو مصوغ من وحدات رمزيّة تُشكِّل الصورة- القوقعة التي تُعَدُّ رحمًا رمزيًّا بغاية حمايتنا من الزوال ومرض الزمان. ويصير الذِّكْر هو الغاية التي تُنشِّط هذا الجسد الرمزي، ويُمثِّل الشكل الأمثل للوعي بالعزاء الذي يكمن خلف التفرّد الهوياتيّ، والذي تُعبِّر عنه الأعمال العظيمة التي تتّخذ هيئة بطولة أو قدرة ليستا متاحتيْن للجميع. ويُمْكِن فهم وعي العزاء الذي يكمن خلف الملحمة وبعض الحكايات الشعبيّة هنا؛ حيث تخيَّل القدرة على مغالبة مرض الزمان (الذي يلحق بالجسد الفرديّ والاجتماعيّ). كما يُمْكِن عدُّ فعل الكتابة بوصفها جسدًا رمزيّا متفرّدا استبدالًا للجسد الفيزيقيّ والقدرة والبطولة الفيزيقيّتين ووعيَ عزاء تجاه الزوال.
٭ أكاديمي وأديب مغربي
لا يسمح لنا مقال مقتضب بالتوسّع في الأسئلة المثارة. لكن نكتفي- ونحن نحاول الإجابة عنها- بالإشارة فحسب على أمل توسيع النظر فيها في مكان آخر. ينبغي أوّلًا تجاوز التوزّع بين علاقة الإرادة بالحقيقة (العقلانية) وعلاقة الإرادة بالقوّة (جورجياس – نيتشه) أو علاقة الإرادة بالكينونة والحياة (هايدغر) نحو علاقة أخرى تُجدَّل فيها العلاقات بالإرادة السابقة؛ ذلك أنّ الفصل بين أشكال هذه العلاقات يصير اصطناعيًّا ما أن نُفكِّر في العلاقة الأصليّة التي هي علاقة الإرادة بالبقاء. ويكمن في صلب هذه العلاقة عالم الرحم الذي غادرناه لنسقط في عالم الخصاصة والنقص، وعدم الكفاية ونشوء الذاكرة، بغاية حمايتنا من الزوال (المخاطر)، ليصير الجهد الإنسانيّ كلّه سعيًا إلى استعادة عالم الرحم رمزيًّا من طريق تلافي النقص وعدم الكفاية، واصطناع الوسائل التي تُمكِّن من تطوير الجسد في علاقته بعالم المخاطر التي تحيط به، بما يضمن بقاءه؛ ومن ثمّة تصير إرادة العلاقة بالبقاء الأساس المفسِّر لوجودنا التاريخيّ، سواء أكان هذا الوجود فرديًّا أم جماعيًّا. وما العقل والقوّة إلا وسيلتان متضافرتان معًا في صيرورة إرادة البقاء هذه، ويتبادلان محتواهما في هذا النطاق، أمّا الكينونة فما هي إلّا الغاية من علاقة الإرادة بالبقاء، التي تتمثَّل في تلافي النقص وعدم الكفاية. وربّما كان المتعالي في شتّى صوّره مرتبطًا بمقاومة الزوال، وتقديم العزاء تجاه مرض الزمان.
ليست الهوية في نهاية المطاف سوى تعرّف الاستمرار بكونه نزوعًا نحو البقاء، بما يعنيه هذا من تجديل بين بقاء صورة ما للذات وبقائها الحيّ في الوجود، وبين الشكل بوصفه مجموع وحدات إشاريّة تُعيِّن تفرّد الفرد وضمان استمرار النوع في الذات المفرَّدة بيولوجيًّا (الجسد) وثقافيًّا (الانتماء إلى الحياة داخل سياق اجتماعيّ وثقافيّ محدَّد). لكنّ سريان الهوية لا يحدث على هذا النحو الحيويّ vitale فحسب، بل يتمّ أيضًا على نحو رمزيّ. وربّما كان هذا البعد الرمزيّ أقوى وأشدّ بروزًا في الأعمال التي نقوم بها في الحياة. وينبغي قراءة بُعْد الهوية الرمزيّ هذا- منظورًا إليها من خلال علاقة الإرادة بالبقاء- من زاوية التزمّن الذي هو مجال مرض الزمان. والمقصود بهذا التحوّل القائم على التوتّر بين الاندفاع الذي هو أساس كلّ قوّة ومظهر كلّ عمل ونفاد احتياطه؛ أي التوتّر بين الداخل (النفسيّ- الفكريّ- اليوتوبيّ) الذي لا يعترف بالزمان والواقع مجال التزمّن الذي يسلب الذات بالتدريج كلّ أشكال الحماية بما فيها الذاكرة. ومن ثمّة تُصاغ الهوية باستمرار من خلال التوتّر بين ما كُنّاه وما صرنا إليه على أرضية الاستمرار بوصفه نزوعًا نحو البقاء، وما ينتج عن هذا من محاولة لا واعية لنسيان الزوال تتّخذ هيئة عزاء. والعزاء هنا ليس سوى استبدال وهميّ لمرض الزمان بصحّة رمزية هي منتجة رمزيًّا. كيف ذلك؟
إنّنا ما أن ندرك أنّنا مورّطون في مرض الزمان، وأنّ مأساتنا هي البقاء في الوجود، ننشئ رمزيًّا القوقعة التي نظنّ أنّها موئل حماية بالنسبة إلينا، والتي توفِّر لنا على الأقلّ- إذا لم تضمن لنا الحماية الدائمة- إمكان البقاء الرمزيّ في الوجود، وما الوجود هنا سوى الآثار التي هي امتداد لنا في الآخرين الذين نعايشهم، أو الذين سيأتون في زمان غير زماننا. وتُعَدُّ الصورة التي نحبّ أن تكُون لنا عند الآخر شكلًا لهذه القوقعة التي هي الهوية الرمزية التي نبنيها بوساطة تشكيل ما نريد أن نكون عليه عبر الزمان الواقعيّ المعيش. إذا تهدّمت الصورة- القوقعة تهدّمت هويتنا الرمزيّة التي نتلقّاها صدى يأتي في هيئة تقريظ أو تمجيد أو تثمين. إنّ التفاوت بين الصورة – القوقعة (الهوية الرمزيّة) كما تصوّرناها وتجلّيها في الواقع هو ما ينتج البعد المأساويّ للهوية. ولا شكّ أنّنا نقضي العمر كلّه في الدفاع عن هذه الصورة- القوقعة حتّى نحقّق الحماية تجاه مرض الزمان (الزوال وخيانة ذاكرة الآخرين لنا). ويرِد- هنا- الاعتراف والتعرّف بوصفهما شكلين لفاعلية هذه الصورة. إنّ بقاء هذه الأخيرة يُعَدُّ شكلًا رمزيًّا للبقاء الفيزيقيّ في الوجود. وهي جوهر العزاء الذي نُقدِّم للنفس في مواجهة مرض الزمان الذي هو الإحساس بالزوال بوصفه قَدَرًا عموميًّا: المستشفيات والصحّة والصيدلة هي أشكال عموميّة لهذا القَدَر لأنّها تؤخِّر أثره النهائيّ فقط، وتُقدِّم لنا عزاء مُؤقَّتًا؛ أي قَدْرًا من البقاء المؤقَّت؛ فما ينبغي أن يلفّه النسيان هو هذا الذي يمضي وينفد من احتياطي البقاء لدى الكائن، وهو محتوى كلّ طفرة هوياتيّة. إنّني أقبل- في الوقت الذي أرى فيه الآخر في حالة تغيّر عاصف: فقدان الكثير من احتياطي البقاء (القوّة)- التغيّر نفسه، لأنّه يُخرجَن ويُجسَّد في الآخر الذي يكُون مماثلًا لي في المصير العام. هذا القبول هو وعي العزاء تجاه مرض الزمان. لكنّ وعي العزاء يتجلّى أكثر في العلاقة بالجسد الرمزيّ، لا الجسد الفيزيقيّ؛ الذي هو مصوغ من وحدات رمزيّة تُشكِّل الصورة- القوقعة التي تُعَدُّ رحمًا رمزيًّا بغاية حمايتنا من الزوال ومرض الزمان. ويصير الذِّكْر هو الغاية التي تُنشِّط هذا الجسد الرمزي، ويُمثِّل الشكل الأمثل للوعي بالعزاء الذي يكمن خلف التفرّد الهوياتيّ، والذي تُعبِّر عنه الأعمال العظيمة التي تتّخذ هيئة بطولة أو قدرة ليستا متاحتيْن للجميع. ويُمْكِن فهم وعي العزاء الذي يكمن خلف الملحمة وبعض الحكايات الشعبيّة هنا؛ حيث تخيَّل القدرة على مغالبة مرض الزمان (الذي يلحق بالجسد الفرديّ والاجتماعيّ). كما يُمْكِن عدُّ فعل الكتابة بوصفها جسدًا رمزيّا متفرّدا استبدالًا للجسد الفيزيقيّ والقدرة والبطولة الفيزيقيّتين ووعيَ عزاء تجاه الزوال.
٭ أكاديمي وأديب مغربي