التقيت محمد شكري في صيف 1972 بشارع باستور بطنجة، يروي الروائي المغربي محمد برادة عن انطباعه الأولي في حق رجل نسجت حوله الكثير من الأقوال والحكايات، فمن خلال الحديث معه، يحمل شكري في أعماقه إنسانية الإنسان، رزين في حواره وعقلاني في حججه، وأكثر جرأة في كتاباته عندما يزيح النقاب عن المكبوت والمسكوت عنه، يحكي عن ماضي الطفولة، ذكريات الأمس البعيد والقريب، حكايات واقعية مفعمة بألم الوجدان، كل ما ترسخ في الذهن من طفولة بائسة، يلم شكري بالجزئيات والتفاصيل، وكل ما تحمله الذاكرة من صور وذكريات، يعري بأسلوبه الخاص الواقع المر، ويشكو همه للزمان، ويعاني من ضيق الحال . يلومه البعض عن مضمون كتاباته لما تحتويه من جرأة وخدش للحياء، وهو الرجل الذي عاش التشرد والصعلكة في دروب طنجة، وأكل من القمامة. تقلب شكري في الأزمنة ونال منه الألم والمعاناة الكثير من الكدمات والجروح النفسية، إنه يسخر من أولئك الذين يطالبونه أن يكتب ما هو رزين، كيف يكتب الكاتب وهو يعتصر من شدة الصور القابعة في الأعماق، صور ذهنية وذكريات من رحم المعاناة، هل يكتب عن الفراشات والزهور أو يرسم ملامح الأمل للمستقبل أو ينسج الحكاية على مقياس السرديات المعاصرة، عندما يتوارى الكاتب خلف الأحداث، ويعمل على تحريكها أو يتركها تنمو لذاتها إلى حيث يسير السرد، وتتجه الحكاية بدون نهايات قطعية أو القول بانتصار الخير على الشر، والنهاية الوردية للشخصيات والأبطال . الكتابة حرقة، وتعبير عن الرفض والتمرد لكل الصور النابعة من هموم الذات والمعيش .
شخصية شكري الإنسان، رجل كما يصفه محمد برادة، صريح وتلقائي، يكتب بألم وحرقة عن المكان والزمان ، تجربة ذاتية غنية في مدينة طنجة المليئة بالصخب، وأشكال النفاق الاجتماعي، دونها شكري في رواية "الخبز الحافي" ورواية "الشطار"، صيته بلغ للكل بترجمة أعماله، ومن خلال جرأته في القول والكتابة بدون حرج وبدون موانع، إنه يعبر عن أزمة المجتمع، أزمة الأسرة، أزمة العلاقات الاجتماعية، في غمار السرد يحكي عن اليومي والصراع من أجل رغيف العيش، واقع الحال في زمن العبور والضيق، يكتب عن مرحلة من تاريخ المغرب، وهجرة العائلة من الريف نحو طنجة، في زمن اشتدت فيه المصائب والمحن، براءة الطفولة حالت دون العيش بانسجام في الواقع، حيث عاش شكري في كنف مجتمع لا يرحم، ونال نصيبا من القهر والمعاناة، زمن الأخطاء كما ينعته شكري، والخبز الحافي اختزال كامل لإبداع الرجل الذي عشق الكتابة التي أصبحت بديلا عن الانتحار والقلق السوداوي، تجربته في الكتابة تنفيس عن العقد التي اكتوى بنارها دون التخلص منها حتى لازمته في كل لحظة من حياته، الأب القاسي والفقر، والصعلكة حولت حياته لجحيم حتى انعدمت المقاومة، ودخل شكري في عالم العربدة والسكر، فكانت كلماته وأقواله تعبير عن سخطه العارم وكراهيته للآخر، لم يعد ما هو أجمل كما قال شكري من الصمت، حياته محدودة جغرافيا وفكريا، أسوار المدينة ومقاهي طنجة، وزيف العلاقات، والتنقل نحو تطوان والرباط أحيانا. يبحث شكري الإنسان عن ذاته بدون كلل، ولا نتيجة سوى التعبير بكلمات شديدة وصادقة، شعور بالاغتراب والضياع .
يتنقل شكري بأسلوبه ليروي الحكاية بأدق تفاصيلها، وتستوعب ذاكرته الأشياء التي لازالت عالقة في ذهنه عن الأشخاص والأحداث، هناك جراح خفية، وبؤس ومعاناة يلمسها صديقه الروائي محمد برادة، ويكرر في رسائله دعوة شكري للإقلاع عن حياة الرتابة والقلق، رسائل الأخوة والصداقة بين شكري وبرادة، تعبير عن المحبة والتقدير المتبادلين، يحكي شكري في رسائله عن الهواجس والآلام، وعن المرض العضال الذي يعتبره نفسيا وليس عضويا . قتل المجتمع في شكري المغامر المعنى الحقيقي للوجود، الرماد ينطوي على جراحات وانطفاء، لا يخلو من صدق وافتتان بالموت، والورد تعبير عن المحبة الصادقة بين شكري وبرادة، العيش في كنف الحياة ومقاومة الألم بالكتابة والإبداع ، ورد ومحبة وصفاء تلك التي نلمسها في بعض العلاقات الإنسانية، لا نحكم على المجتمع بالشر، ولا ننتهي للعدمية والعيش في صمت نهائي، ينصح برادة شكري بالرحيل المؤقت في ثنايا الكتاب والكتابة، والرحيل عن المكان، الخروج من طنجة والسفر حتى يكتشف عوالم مثيرة وجميلة. يكتب برادة عن الأمكنة التي زارها، بيروت والقاهرة وتونس وطشقند وباريس، السفر من أجل الاستجمام، والمشاركة في الندوات الأدبية والعودة مرة أخرى للرباط، مسارات الأديب في دروب مختلفة ومتعددة، فرصة للقاء والتواصل، والتعرف على الثقافات، غياب المغامرة يؤدي بنا للتمرد والعبث، مأساتنا أننا نعبر عن الحرمان الذي ينقصنا، وعن الأمل الذي يراودنا، والقول بصوت مسموع أن وجودنا هو اختيار لنمط حياتنا، نختار الناس، ونمط العيش المفيد والممتع عندما نتمكن من تكسير الحواجز، والعبور بالذات نحو فضاء أرحب للعيش، تلك رسالة يرددها برادة كنصيحة لشكري للخروج من النفق الضيق، أما الكتابة فهي خير وسيلة للتعبير عن الممكن والمستحيل .
يحكي برادة لشكري عن الزيارات المنتظمة، ويحاول تقديم المواساة، والتحفيز أكثر على الكتابة، إنها طوق نجاة كما يقول، والتوازن والانسجام يعيد للذات بريقها وللحياة معنى، سافر واعبر البوغاز، وتخلص من الأوهام والرتابة، شكري بدوره يرد، ويصل صوته بأنين عندما يشتكي من المرض الذي اعتبره عصابيا، يشتكي من ضيق الحال، وقلة الإمكانيات المادية، وصعوبة الانتقال من مكان لآخر، يقيم في طنجة ويشكو منها في نفس الوقت، لم يعد في المدينة سوى الصرافين في السوق السوداء، ومقاولي العمارات الجديدة لتبييض الأموال والمخدرات، مدينة الهروب والمأوى، والمدينة التي شكلت مادة للحكاية والسرد . لم يتنصل شكري لانتمائه الريفي، ولم يعري عورة المدينة بكاملها بناء على صورة قاتمة، لكن اليومي والملل، وهذا الامتلاء بالغضب والقرف ساهما في انطباع الصورة السلبية عن المكان والناس، حياة السكر والمرور بالدروب والشوارع والتسكع وقلة المال، من الأشياء المألوفة في سرديات شكري، حياة مليئة بالمعاناة والانكسار، ذات بكدمات وجروح غائرة، والتخلي عن الكتابة بدعوى أن دور النشر أصبحت مقفلة، والمجلات لا تهتم سوى بالبطولات، وتنصيب الحواجز في حق الإبداع والمبدعين، قول لا يدع مجالا للشك من قبل محمد برادة، كلها عوائق وحواجز لكن عندما نعثر على كاتب رزين، وإنسان يعشق الكتابة والتغيير، ذلك مكسب كبير للرواية المغربية .
تمنى شكري معانقة إنسان لم يولد بعد، يكشف المبدع عن ذاته بكونه وحيدا في زمانه، بمعنى لا يريد أن يكون نسخة من أحد، لا يجامل في الكتابة، ولا يعبر عن المرئي بأسلوب اللباقة والكياسة، الكلمات الممنوعة موجودة في قاموسه، نتاج للغة السائدة واليومي مع الناس، حتى أصبحت الكلمات المتداولة تنقل بالحرفي وبدون تحفظ، لذلك قيل إن الخبز الحافي خدش للحياة، يتضمن كلمات ساقطة من رجل ماجن تجاوز الحدود المرسومة في الكتابة الروائية، ونسخ حرفي للواقع المعاش، ما قاله الطاهر بن جلون في حق شكري أن سيرته الذاتية رواها لبول بولز، وأنه مجرد حكواتي رغم ترجمته الخبز الحافي للفرنسية، عتاب ونقد من شكري الذي يكتب عن هموم الذات لكاتب خارج المكان، برادة الصديق الحميم لشكري يقدم النصح، قرأ في الصميم تجارب شكري في الحياة، إنسانية الكاتب وصدق مشاعره أعمق من الآراء المكونة عن شكري الإنسان السقيم بأمراض الحياة، يكتب شكري رسائل الود، ويعبر عن ما يخالجه من شعور واعتراف، ويزيد من همومه عندما يسكب عليها لغة التباكي والحسرة، ويعلق هذا الفشل على ذاته والمجتمع معا، فلا ينسى الماضي الأليم، ينسى شكري بالألحان، ملاذه الموسيقى بألوانها الشرقية والغربية، حاضرة في حياته، علاج للصمت الرهيب ودواء للنسيان، العاهرات والحشيش والخمر كذلك. فكل السكارى تنكروا لي إلا الذين مازالوا يثملون من خمرتي كما يقول في إحدى الرسائل، اعترافات شكري عن حاله والتفكير في الانتحار مرات متعددة، استهلك شكري ذاته، ونال منه المرض العصابي، تراجعت أنامله عن الكتابة، يعود برادة من جديد حتى يذكره بقيمة الكتابة والاطلاع على جديد شكري في عالم التأليف، وخدمته في تسهيل عملية النشر لإبداعه الذي ينم عن خالص الود بين الرجلين، تعاون محمود بين الأدباء، مضمونه، رسائل اعتراف متبادلة تتجاوز السرديات والإبداع، يندرج الاعتراف ضمن الفضيلة والسمو الأخلاقي .
رغبة الروائي المغربي للخروج من عالم الضيق نحو فضاء أرحب، سعادة محمد برادة عند سماع شكري يتحدث عبر قناة ميدي1 ، طريقة شكري جيدة في الحديث عن عوالم وأشخاص من مختلف المجالات، سعادة برادة عندما عاد شكري للكتابة وتخطى الألم، أما السكر والثرثرة في مقاهي طنجة والمتعة الحسية وعالم البغاء سرعان ما تتحول إلى رماد ، ونحن نريد أن نجعل من الحياة وردة نشم أريجها ونبتهج بعطرها، تلك الحياة كما يريدها الإنسان بعيدا عن الرتابة والصعلكة، وقريبة من النشوة والمتعة الفكرية والوجدانية، ينبغي أن يكون التمرد مقبولا يؤدي للإبداع، وبذلك ينتصر الكاتب على عدو خفي ولا مرئي. فالكتابة ليست شيئا يعطى مرة واحدة، إنها نوع من المكابدة، وألم في سبيل إخراج عصارة الأفكار من الأعماق، والتعبير عن الممكن بلغة فياضة، وأسلوب شاعري يبلغ مداه العقول والقلوب، ويؤثر في السلوك والحياة الاجتماعية، تلك الكلمات المفعمة بالود كانت بلسما وترياقا ضد الرتابة والبؤس الداخلي الذي لازمه في حياته، وهذا الكسل اللذيذ الذي تحول إلى هوس بالكتابة، ورغبته في التأليف والنشر، عندما يكتب شكري رسالة لصديقه برادة يسرد الأحوال، ويشكو من ديونه المتراكمة، والمرض المزمن والقرف المستمر من كل شيء، سوداوية الحياة حولت حياة شكري إلى جحيم، الثقة في الذات انهارت، والثقة في الآخر تلاشت، لم يعد شكري يأبه بكل ما هو جميل .
يخرج برادة مرة أخرى برسالة مضمونها التحفيز والخروج للعالم، والعيش كما يريد الإنسان لأن الحياة قصيرة، والمكوث في مدينة معينة يعني أن العالم صغيرة في عين من يعيش على الخيال والسرد من عوالم متعددة، برادة الذي سافر في أمكنة متعددة، وتزوج وانتقل من هنا إلى هناك، تارة يقدم الاعتذار عن حضور أمسية أدبية ولقاءات، وتارة أخرى يستجيب ويسافر، ويعود متجدد النشاط والحيوية، سعادته عندما تتسع دائرة الأدباء، ويزيد عطاء المفكرين المغاربة، ويزداد الخيال سعة في الإبداع والتأليف، وعندما يفند بعض المضامين أو العناوين الخاصة بشكري من خلال رواية معينة، يحاول إعطاء فكرة، ويترك الاختيار للروائي بدون الانتقاص من عمله، وبأسلوبه اللبق يترك بصمة وأثرا في أفكار شكري لعله يهتدي للصواب، أو تغيير فكرة تستدعي هذا التغيير، مضمون الرسائل يحيل على إنسانية الروائي المغربي، الحامل للهم والقلق لذاته والآخر، هذا الاغتراب الذي نلمسه أحيانا في ذاتية الروائي وسيرته الذاتية مرده للحكاية الممزوجة بالواقعية والخيال، ولعل برادة كان صريحا في بعض رسائله خصوصا عند إطلاعه على الأدب الروسي الذي يستحق اهتماما أكبر حتى نخرج من شرنقة الرواية الواقعية، أي التحول بالرواية نحو السرد غير المتصل. نحو الرواية الجديدة .
الممتع في الرسائل عودة شكري للكتابة والإنصات مرة أخرى لذاته، فكانت الرسائل تعبير عن الصداقة المتينة والاعتراف بشكري الإنسان، وعبقريته في الكتابة حتى لو طال النقد المضمون والشكل، ذلك إغناء للتجربة المغربية، ومحاولة ترميمها بالنقد البناء، ورد ورماد، حوار عفوي وصريح بين الأدباء خارج سياق تقييم النصوص الأدبية. رحل شكري عن عالمنا وترك مؤلفات وصورة عن كاتب متمرد على تقاليد الكتابة الروائية، كاتب مهووس بعشق الكتابة، والتعبير عن المنسي والمكبوت، تاركا انطباعا ومواقف صادقة عن حياته وظروف عيشه، وذلك الزمان الذي قاده للتعبير ونسج الحكاية من صميم المعاناة.
شخصية شكري الإنسان، رجل كما يصفه محمد برادة، صريح وتلقائي، يكتب بألم وحرقة عن المكان والزمان ، تجربة ذاتية غنية في مدينة طنجة المليئة بالصخب، وأشكال النفاق الاجتماعي، دونها شكري في رواية "الخبز الحافي" ورواية "الشطار"، صيته بلغ للكل بترجمة أعماله، ومن خلال جرأته في القول والكتابة بدون حرج وبدون موانع، إنه يعبر عن أزمة المجتمع، أزمة الأسرة، أزمة العلاقات الاجتماعية، في غمار السرد يحكي عن اليومي والصراع من أجل رغيف العيش، واقع الحال في زمن العبور والضيق، يكتب عن مرحلة من تاريخ المغرب، وهجرة العائلة من الريف نحو طنجة، في زمن اشتدت فيه المصائب والمحن، براءة الطفولة حالت دون العيش بانسجام في الواقع، حيث عاش شكري في كنف مجتمع لا يرحم، ونال نصيبا من القهر والمعاناة، زمن الأخطاء كما ينعته شكري، والخبز الحافي اختزال كامل لإبداع الرجل الذي عشق الكتابة التي أصبحت بديلا عن الانتحار والقلق السوداوي، تجربته في الكتابة تنفيس عن العقد التي اكتوى بنارها دون التخلص منها حتى لازمته في كل لحظة من حياته، الأب القاسي والفقر، والصعلكة حولت حياته لجحيم حتى انعدمت المقاومة، ودخل شكري في عالم العربدة والسكر، فكانت كلماته وأقواله تعبير عن سخطه العارم وكراهيته للآخر، لم يعد ما هو أجمل كما قال شكري من الصمت، حياته محدودة جغرافيا وفكريا، أسوار المدينة ومقاهي طنجة، وزيف العلاقات، والتنقل نحو تطوان والرباط أحيانا. يبحث شكري الإنسان عن ذاته بدون كلل، ولا نتيجة سوى التعبير بكلمات شديدة وصادقة، شعور بالاغتراب والضياع .
يتنقل شكري بأسلوبه ليروي الحكاية بأدق تفاصيلها، وتستوعب ذاكرته الأشياء التي لازالت عالقة في ذهنه عن الأشخاص والأحداث، هناك جراح خفية، وبؤس ومعاناة يلمسها صديقه الروائي محمد برادة، ويكرر في رسائله دعوة شكري للإقلاع عن حياة الرتابة والقلق، رسائل الأخوة والصداقة بين شكري وبرادة، تعبير عن المحبة والتقدير المتبادلين، يحكي شكري في رسائله عن الهواجس والآلام، وعن المرض العضال الذي يعتبره نفسيا وليس عضويا . قتل المجتمع في شكري المغامر المعنى الحقيقي للوجود، الرماد ينطوي على جراحات وانطفاء، لا يخلو من صدق وافتتان بالموت، والورد تعبير عن المحبة الصادقة بين شكري وبرادة، العيش في كنف الحياة ومقاومة الألم بالكتابة والإبداع ، ورد ومحبة وصفاء تلك التي نلمسها في بعض العلاقات الإنسانية، لا نحكم على المجتمع بالشر، ولا ننتهي للعدمية والعيش في صمت نهائي، ينصح برادة شكري بالرحيل المؤقت في ثنايا الكتاب والكتابة، والرحيل عن المكان، الخروج من طنجة والسفر حتى يكتشف عوالم مثيرة وجميلة. يكتب برادة عن الأمكنة التي زارها، بيروت والقاهرة وتونس وطشقند وباريس، السفر من أجل الاستجمام، والمشاركة في الندوات الأدبية والعودة مرة أخرى للرباط، مسارات الأديب في دروب مختلفة ومتعددة، فرصة للقاء والتواصل، والتعرف على الثقافات، غياب المغامرة يؤدي بنا للتمرد والعبث، مأساتنا أننا نعبر عن الحرمان الذي ينقصنا، وعن الأمل الذي يراودنا، والقول بصوت مسموع أن وجودنا هو اختيار لنمط حياتنا، نختار الناس، ونمط العيش المفيد والممتع عندما نتمكن من تكسير الحواجز، والعبور بالذات نحو فضاء أرحب للعيش، تلك رسالة يرددها برادة كنصيحة لشكري للخروج من النفق الضيق، أما الكتابة فهي خير وسيلة للتعبير عن الممكن والمستحيل .
يحكي برادة لشكري عن الزيارات المنتظمة، ويحاول تقديم المواساة، والتحفيز أكثر على الكتابة، إنها طوق نجاة كما يقول، والتوازن والانسجام يعيد للذات بريقها وللحياة معنى، سافر واعبر البوغاز، وتخلص من الأوهام والرتابة، شكري بدوره يرد، ويصل صوته بأنين عندما يشتكي من المرض الذي اعتبره عصابيا، يشتكي من ضيق الحال، وقلة الإمكانيات المادية، وصعوبة الانتقال من مكان لآخر، يقيم في طنجة ويشكو منها في نفس الوقت، لم يعد في المدينة سوى الصرافين في السوق السوداء، ومقاولي العمارات الجديدة لتبييض الأموال والمخدرات، مدينة الهروب والمأوى، والمدينة التي شكلت مادة للحكاية والسرد . لم يتنصل شكري لانتمائه الريفي، ولم يعري عورة المدينة بكاملها بناء على صورة قاتمة، لكن اليومي والملل، وهذا الامتلاء بالغضب والقرف ساهما في انطباع الصورة السلبية عن المكان والناس، حياة السكر والمرور بالدروب والشوارع والتسكع وقلة المال، من الأشياء المألوفة في سرديات شكري، حياة مليئة بالمعاناة والانكسار، ذات بكدمات وجروح غائرة، والتخلي عن الكتابة بدعوى أن دور النشر أصبحت مقفلة، والمجلات لا تهتم سوى بالبطولات، وتنصيب الحواجز في حق الإبداع والمبدعين، قول لا يدع مجالا للشك من قبل محمد برادة، كلها عوائق وحواجز لكن عندما نعثر على كاتب رزين، وإنسان يعشق الكتابة والتغيير، ذلك مكسب كبير للرواية المغربية .
تمنى شكري معانقة إنسان لم يولد بعد، يكشف المبدع عن ذاته بكونه وحيدا في زمانه، بمعنى لا يريد أن يكون نسخة من أحد، لا يجامل في الكتابة، ولا يعبر عن المرئي بأسلوب اللباقة والكياسة، الكلمات الممنوعة موجودة في قاموسه، نتاج للغة السائدة واليومي مع الناس، حتى أصبحت الكلمات المتداولة تنقل بالحرفي وبدون تحفظ، لذلك قيل إن الخبز الحافي خدش للحياة، يتضمن كلمات ساقطة من رجل ماجن تجاوز الحدود المرسومة في الكتابة الروائية، ونسخ حرفي للواقع المعاش، ما قاله الطاهر بن جلون في حق شكري أن سيرته الذاتية رواها لبول بولز، وأنه مجرد حكواتي رغم ترجمته الخبز الحافي للفرنسية، عتاب ونقد من شكري الذي يكتب عن هموم الذات لكاتب خارج المكان، برادة الصديق الحميم لشكري يقدم النصح، قرأ في الصميم تجارب شكري في الحياة، إنسانية الكاتب وصدق مشاعره أعمق من الآراء المكونة عن شكري الإنسان السقيم بأمراض الحياة، يكتب شكري رسائل الود، ويعبر عن ما يخالجه من شعور واعتراف، ويزيد من همومه عندما يسكب عليها لغة التباكي والحسرة، ويعلق هذا الفشل على ذاته والمجتمع معا، فلا ينسى الماضي الأليم، ينسى شكري بالألحان، ملاذه الموسيقى بألوانها الشرقية والغربية، حاضرة في حياته، علاج للصمت الرهيب ودواء للنسيان، العاهرات والحشيش والخمر كذلك. فكل السكارى تنكروا لي إلا الذين مازالوا يثملون من خمرتي كما يقول في إحدى الرسائل، اعترافات شكري عن حاله والتفكير في الانتحار مرات متعددة، استهلك شكري ذاته، ونال منه المرض العصابي، تراجعت أنامله عن الكتابة، يعود برادة من جديد حتى يذكره بقيمة الكتابة والاطلاع على جديد شكري في عالم التأليف، وخدمته في تسهيل عملية النشر لإبداعه الذي ينم عن خالص الود بين الرجلين، تعاون محمود بين الأدباء، مضمونه، رسائل اعتراف متبادلة تتجاوز السرديات والإبداع، يندرج الاعتراف ضمن الفضيلة والسمو الأخلاقي .
رغبة الروائي المغربي للخروج من عالم الضيق نحو فضاء أرحب، سعادة محمد برادة عند سماع شكري يتحدث عبر قناة ميدي1 ، طريقة شكري جيدة في الحديث عن عوالم وأشخاص من مختلف المجالات، سعادة برادة عندما عاد شكري للكتابة وتخطى الألم، أما السكر والثرثرة في مقاهي طنجة والمتعة الحسية وعالم البغاء سرعان ما تتحول إلى رماد ، ونحن نريد أن نجعل من الحياة وردة نشم أريجها ونبتهج بعطرها، تلك الحياة كما يريدها الإنسان بعيدا عن الرتابة والصعلكة، وقريبة من النشوة والمتعة الفكرية والوجدانية، ينبغي أن يكون التمرد مقبولا يؤدي للإبداع، وبذلك ينتصر الكاتب على عدو خفي ولا مرئي. فالكتابة ليست شيئا يعطى مرة واحدة، إنها نوع من المكابدة، وألم في سبيل إخراج عصارة الأفكار من الأعماق، والتعبير عن الممكن بلغة فياضة، وأسلوب شاعري يبلغ مداه العقول والقلوب، ويؤثر في السلوك والحياة الاجتماعية، تلك الكلمات المفعمة بالود كانت بلسما وترياقا ضد الرتابة والبؤس الداخلي الذي لازمه في حياته، وهذا الكسل اللذيذ الذي تحول إلى هوس بالكتابة، ورغبته في التأليف والنشر، عندما يكتب شكري رسالة لصديقه برادة يسرد الأحوال، ويشكو من ديونه المتراكمة، والمرض المزمن والقرف المستمر من كل شيء، سوداوية الحياة حولت حياة شكري إلى جحيم، الثقة في الذات انهارت، والثقة في الآخر تلاشت، لم يعد شكري يأبه بكل ما هو جميل .
يخرج برادة مرة أخرى برسالة مضمونها التحفيز والخروج للعالم، والعيش كما يريد الإنسان لأن الحياة قصيرة، والمكوث في مدينة معينة يعني أن العالم صغيرة في عين من يعيش على الخيال والسرد من عوالم متعددة، برادة الذي سافر في أمكنة متعددة، وتزوج وانتقل من هنا إلى هناك، تارة يقدم الاعتذار عن حضور أمسية أدبية ولقاءات، وتارة أخرى يستجيب ويسافر، ويعود متجدد النشاط والحيوية، سعادته عندما تتسع دائرة الأدباء، ويزيد عطاء المفكرين المغاربة، ويزداد الخيال سعة في الإبداع والتأليف، وعندما يفند بعض المضامين أو العناوين الخاصة بشكري من خلال رواية معينة، يحاول إعطاء فكرة، ويترك الاختيار للروائي بدون الانتقاص من عمله، وبأسلوبه اللبق يترك بصمة وأثرا في أفكار شكري لعله يهتدي للصواب، أو تغيير فكرة تستدعي هذا التغيير، مضمون الرسائل يحيل على إنسانية الروائي المغربي، الحامل للهم والقلق لذاته والآخر، هذا الاغتراب الذي نلمسه أحيانا في ذاتية الروائي وسيرته الذاتية مرده للحكاية الممزوجة بالواقعية والخيال، ولعل برادة كان صريحا في بعض رسائله خصوصا عند إطلاعه على الأدب الروسي الذي يستحق اهتماما أكبر حتى نخرج من شرنقة الرواية الواقعية، أي التحول بالرواية نحو السرد غير المتصل. نحو الرواية الجديدة .
الممتع في الرسائل عودة شكري للكتابة والإنصات مرة أخرى لذاته، فكانت الرسائل تعبير عن الصداقة المتينة والاعتراف بشكري الإنسان، وعبقريته في الكتابة حتى لو طال النقد المضمون والشكل، ذلك إغناء للتجربة المغربية، ومحاولة ترميمها بالنقد البناء، ورد ورماد، حوار عفوي وصريح بين الأدباء خارج سياق تقييم النصوص الأدبية. رحل شكري عن عالمنا وترك مؤلفات وصورة عن كاتب متمرد على تقاليد الكتابة الروائية، كاتب مهووس بعشق الكتابة، والتعبير عن المنسي والمكبوت، تاركا انطباعا ومواقف صادقة عن حياته وظروف عيشه، وذلك الزمان الذي قاده للتعبير ونسج الحكاية من صميم المعاناة.