عباس محمود العقاد - الفكر و (السلطة)

جاءتني هذه الرسالة من الأديب صاحب الإمضاء أجتزئ منها بما يأتي للتعقيب عليه. قال حضرته:

(. . . ما قصدت بهذه الرسالة إلا إلى استجلاء نقطة دقيقة في حياة الإنسان المفكر. وهي الصلة في شخص الكاتب بين العقل الكبير مصدر الآراء النافعة التي يرسمها القلم البليغ وبين الطموح إلى السلطة التي هي وسيلة تنفيذ تلك الآراء الداعية إلى الهداية والإصلاح. ولا أعرف مدى طموحك وما تريد. غير أني أعلم أنك تحمل عقلاً كبيراً وشخصية قوية، ومن اجتمعت له الشخصية المؤثرة والعقل النفاذ، لابد أن يكون عنصر حب السلطة والقيادة من أقوى عناصر طبعه. . . لقد جاهدت كثيراً في ميدان الصحافة والأدب، ثم بلغت مرتبة نائب، فهل هذا منتهى جهدك؟ يبدو لي أنك تبلورت في مركزك الأخير!

(قد تقول إنك لم تسع إلى منصب القيادة الإدارية مكتفياً بالقيادة الفكرية والأدبية، وقد تقول إن الرجل ذا الفكر الحر لا يمكن أن يطمع في السيطرة والسيادة؛ ولكن هذه بالذات هي النقطة التي أريد أن أبحثها معك. فهل يستطيع الكاتب النابغة أن يعمل كما يكتب، أم إن مهنة الكتابة والأدب تقتل فيه القدرة على العمل والتنفيذ؟ يبدو لي أن الكتابة تقضي تدريجياً على قوة البناء والتنفيذ في نفس الرجل، وتنمي بدلاً منها قوة سلبية - إن جاز التعبير - حتى إذا اختمر في رأسه مشروع أو فكرة عجز عن إبرازه إلا على الورق. وقد يعزي الكاتب نفسه بأنه يعمل عملاً إيجابياً من حيث تنوير عقول الغير، ولكن هذه غير العمل المباشر الذي يسعد المرء به عند تطبيق فكرة أو تنفيذ مشروع

(وقد كان ديزرائيلي كما تعلم أديباً وكاتباً، وكان يقرض الشعر قبل أن يخوض ميدان السياسة؛ ولكنه كان يقول: إن الشعر هو صمام الأمان لنفسي، غير أني أريد أن أفعل ما أقول. وكان ديزرائيلي من أقدر وأبرع رجال الحكم الذين عرفتهم إنجلترا في تاريخها الطويل

(إني أعتقد أن مصر بحاجة إلى رئيس حكومة من هذا النوع الرجال من الأدباء بطبعهم ذوي العقول النابغة. فما رأيك؟ أرجو أن أسمع رأيك، ولو كبدك ذلك كتابة رسالة إليَّ، أ مقال (للرسالة) فإني من قرائها المدمنين، ولك مني ألف تحية. . .

(الإسكندرية)

المخلص

الياس إبراهيم بدوي

والمسوغ الوحيد عندي للتعقيب على هذه الرسالة هو أن أتخذ منها موضوعاً لدراسة نفسية، وإن تناول هذا الموضوع شخصي فيما يتناوله من أطرافه وشعابه

فمكان الخطأ في رأي الكاتب - على ما أرى هو اعتقاده أن (السلطة) نهاية كل قدرة، وأن السلطة والقدرة شيئان من معدن واحد، أو شيئان لا ينفصلان

ولبيان هذا الخطأ نسأل: لماذا يطلب الإنسان السلطة؟ وجواب هذا السؤال أنه يطلب السلطة لسبب من هذه الأسباب الأربعة: أولها أن تسخير الناس طبيعة فيه كالطبيعة التي تشاهد في رأس القطيع بين الحيوانات الاجتماعية، وفي هذه الحالة تكون السلطة عنده بمثابة الوظيفة الحيوية أو التركيب البدني الذي لا علاقة له بقوى الفكر والروح. إنسان يسود لأنه لابد أن يسود، كالقوة المادية الدافعة التي لابد أن تدفع غيرها، فلا شأن لها بالتفكير ولا بالضمير

وثاني هذه الأسباب أن الإنسان يطلب السلطة ليشعر بالامتياز، وفي هذه الحالة يكون هذا الإنسان ناقصاً بين النقص إن لم يشعر بالامتياز من غير سلطة، ويكون ناقصاً بيّن النقص إن كان سبيله الوحيد إلى الشعور بامتيازه أن يرى إنساناً يقصده في حاجة، ويرى إنساناً آخر يقف مكتوفاً بين يديه، ويرى إنساناً ثالثاً يطيعه وإنساناً رابعاً يخشاه. فإن امتياز الفكر والروح يتحقق لصاحبه ولو ير بعينيه مظهراً من هذه المظاهر، كما أن هذه المظاهر تسقط عن صاحبها متى زالت عنه السلطة وزال عنه الأمل في العودة إليها، فلا يقصده بالحاجة من كان يقصده بها، ولا يقف مكتوفاً بين يديه من كان يقف بين يديه هذه الوقفة، ولا يطيعه أو يخشاه من كان يريه الطاعة والخشية، ولا يحس يومئذ شيئاً من الامتياز الذي أضافته السلطة إليه ثم زال عنه بزواله

أما صاحب الامتياز الحق فهو يشعر به ولو لم يشعر به غيره، كصاحب الجسم القوي يأكل أكل ذوي المعدات القوية ويعدو عدو أصحاب السيقان القوية، ويقاوم عوارض الجو كما يقاومها أصحاب البنية القوية، ولو لم يعلم أحد أنه بهذه المنزلة من قوة البدن. بل إنه ليأكل ذلك الأكل ويعدو ذلك العدو ويقاوم تلك المقاومة ولو اعتقد أناس أنه ضعيف ممعود

وإن صاحب الامتياز الحق ليشعر بامتيازه ويزداد شعوراً به حين ينظر إلى الممتازين الذين يقوم امتيازهم على مظاهر الخشية والرجاء والركوع والانحناء، فلا يحب أن يبادلهم ما هم فيه، ولا يهون عليه أن يفقد من حريته ورقته ومتعة عقله ما يفقده هؤلاء للوصول إلى (السلطة) التي تناط بها تلك المظاهر

أيظن الأديب كاتب الرسالة أن الدينار الذهب يتضاءل بين يدي الورقة الزائفة ذات العشرة الدنانير؟ أيظن أن رواج هذه الورقة التي لا تساوي نصف درهم يغض من قدر المعدن الأصيل الذي لا زيف فيه؟ إن الطريق السهل لأحرى بالاتباع، وأسهل الطريقين هنا هو احتقار الذين تروج بينهم الورقة الزائفة ويعمون عن الذهب الصحيح. فذلك أسهل من الإعجاب بالورقة الزائفة، ومن مجاراة الغافلين في غفلتهم والجاهلين في جهالتهم، ومن نسيان القيم الصحيحة ذهاباً مع قيم الطلاء الذي يتراءى على وجوه الأشياء، ومن فقدان الوقت والأمانة والمتعة الفكرية والنفسية التي لابد من فقدها في كل سعي إلى لبانة من هذا القبيل

والسبب الثالث الذي يحفز الإنسان إلى طلب السلطة هو اتقاء شرور السلطة والأمان من سيطرة الغالبين، فهو يتقلد سلاحهم ليدفعهم به لا لأنه يحب ذلك السلاح وينزع إلى الضرب به لغير اضطرار

والسبب الرابع الذي تطلب السلطة من أجله هو الانقلاب الاجتماعي الذي لا يتم بغير قوة مشروعة أو غير مشروعة؛ فيطلبها صاحب المذهب الاجتماعي ليستخدم سلطان الحكومة في إصلاح ما يحتاج عنده إلى الإصلاح

تلك هي الأسباب الأربعة التي تغري المرء بطلب السلطة فيما أراه

فإذا شاء بعض القراء أن نمد المشرحة قليلاً لنضع عليها حالة نفسية محققة في مواجهة كل سبب من هذه الأسباب فإليهم خلاصة هذه الحالة النفسية مع الإيجاز

فالرجل الذي يطلب السلطة لأنها وظيفة حيوية أو تركيب بدني هو رجل محسود في رأي كثير من الناس، ولكني أنا لا أحسده ولا أشعر بإكباره، لأن قوته من قبيل القوى التي تحسب بعدّاد، وتقاس بمقاييس العضل والأوصال، وتخرج من نطاق الفكر والضمير

والرجل الذي يطلب السلطة ليشعر بامتيازه حين يخشاه من يخشى ويطيعه من يطيع، هو كذلك رجل محسود في رأي كثير من الناس، ولكني أنا أرثي له واستصغر همومه، وأرى أنه يشغل عقله ونفسه بالحواشي والظواهر التي تزول بزوال السلطة وتنتقل إلى غيره بانتقالها، فليست هي من أصالة الخلق ولا من حقائق الطباعة والملكات

والرجل الذي يطلب السلطة ليتقي بها السلطة هو رجل معقول مفهوم، ولكني أراه مسرفاً في طلبه إذا ترك ما خلق له وشغل حياته بالبحث عن سلاح قد يحتاج إليه وقد يستغني عنه كل الاستغناء، لأن طلب السلطة شغل شاغل لا يجتمع مع التفرغ للمتعة الفكرية والذوقية، وسبيلي الذي أوثره في هذا الصدد أن أرسم لحياتي الخاصة وحياتي الروحية حقوقاً لا أقبل المساس بها أقل مساس، فإن تركت لي تلك الحقوق فذاك، وإن اعتدى عليها معتد فيومئذ أرجع إلى سلاحي فلا أدعه حتى أدع ذلك المعتدي نادماً على ما جناه

أما طلب السلطة للإصلاح فله موضعان: موضع الهدم في المجتمع الذي لم يبق فيه ما يقيمه على أساس؛ ولا اختيار في هذا الموضع لأحد من الناس، لأنه إنما يفرض نفسه فرضاً على المصلحين، إما برسالة دينية أو بانقلاب يأتي في أوانه، وهو لا يأتي ولم يأت قط إلا في أعقاب الحروب والهزائم الكبار

والموضع الثاني موضع الإصلاح الحكومي وهو عمل نافع لا شك فيه، ولكنه يقتضي التفرغ له من البداية، ولا يعالج في فترة بعد فترة، ولا مناوبةً منتظمة بين الأدب والإدارة. وأكبر ما يأتي به المصلح في هذا الباب ليس بأكبر من فكرة أدبية أو ثمرة فنية يتفرغ لها الأديب جهد ما يتاح له التفرغ في بلادنا الشرقية، فإن إصلاح سنة أو سنتين لن يكون في نهايته غير إصلاح مرحلة قصيرة من مراحل الحياة البشرية في أمة واحدة، ولكن الثمرة الفنية حقيقة خالدة لذاتها ولو لم يكتب لها البقاء

وقد ذكر كاتب الرسالة اسم ديزرائيلي نموذجاً للأدباء والكتاب الذين يريدون أن يعملوا ما يقولون؛ فهل لكاتب الرسالة أن يذكر لنا ما هي الفكرة الأدبية التي عملها ديزرائيلي في أيام حكمه؟ وهل له أن يذكر لنا مثلاً آخر من الأدباء والكتاب الذين يعملون أدبهم في مناصب الحكومة؟

فما طلب ديزرائيلي الحكم ليعمل فيه ما يفكر فيه الأديب أو الشاعر أو القاص أو الفنان، ولكنه طلبه ليدفع به الهوان الذي كان يلقاه بين البيئات الأوربية، وليكره من يزدرونه على أن يحسبوا حسابه ويرجعوا إليه. ولو ازدراني أحد لرجعت إلى نفسي أسألها: لماذا يزدريني هذا الأحد؟ فإن كان لسبب حق فالحكم لا يدفعه عني، وإن كان لسبب من هذه الأسباب العارضة، فأنا إذن أولى بأن أزدري ذلك الأحد، وهو على خطأ وأنا على صواب

وقال كاتب الرسالة: (لقد جاهدت كثيراً في ميدان الصحافة والأدب ثم بلغت مرتبة نائب. فهل هذا منتهى جهدك؟ يبدو لي أنك تبلورت في مركزك الأخير!)

فالذي يقرأ هذا الكلام يخيل إليه أن كرسي النيابة نهاية طريق لي أو مرحلة على الأقل في تلك الطريق

على أن الحقيقة فيما أرى أن كرسي النيابة تعريجه في منعطف الطريق الذي أسير فيه، وأعني به طريق الأدب والكتابة. وكل ما ألتزم به على هذا الكرسي أن أخدم الدائرة التي أنوب عنها، وقد فعلت؛ ولي أن أقول إن نائباً آخر لم يفعل لدائرته الانتخابية خيراً مما أفعل. وإلى جانب ذلك أؤدي عملي في النيابة على الوجه الذي أراه، ولا أستبيح لنفسي أن أتخلف عن جلسات المجلس إلا لعذر قاهر سواء كان لي كلام في الجلسة أو لم يكن لي فيها كلام

تلك هي الصورة الصحيحة لمكان النيابة من حياتي العامة، وسأعود من تلك التعريجة راضياً مغتبطاً في اليوم الذي تأذن لي فيه حالة الأدب بيننا نحن الشرقيين أن أفرغ للكتابة و (العمل) الأدبي الذي أرتضيه

وصفوة القول أنني أعز الأدب هذا الإعزاز لأنه منحة لا يعطينها إنسان، فلن أعلق حياتي ولا قيمتي بمنحة يعطينها أحد من الناس ولو كانت الشهرة الأدبية التي قد يخيل إلى قوم أنها بغية المتمني وغاية الغايات، فإن جاءت الشهرة غير ممنونة ولا مبخوسة فقد سعت إلي وما سعيت أليها، وإن أبت أن تجئ على ما أختار فلست أخطو إليها خطوة. . . فكيف بالوظيفة والمنصب وما إلى هذه الأشياء؟

عباس محمود العقاد


مجلة الرسالة - العدد 401
بتاريخ: 10 - 03 - 1941

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...