د. يوسف حطّيني - قصيدةُ العطر...

إلى جان باتيست غرونوي بطل رواية "العطر"





لعلّكَ يا صاحبي ما انتبهتَ
إلى وخْزِ رائحةٍ عابرَهْ
لعلّكَ في رعشةِ الموتِ
غادرتَ دون اكتراثٍ
إلى ضفّةِ الآخرَهْ
لعلّكَ لم تنتبهْ في ازدحامِ الجياعِ
إلى وهْجِ جرحٍ ينزّ برائحةِ النفيِ
في عتمةٍ سّادِرَهْ
أنا ذلك الجرح يا صاحبي
إذْ ولدتُ هناكَ
بعيداً على شاطئ القهرِ
طفلاً تعذّبُهُ طعنة غائرهْ
وما كانَ لي مثل كلّ الديوكِ،
وكلِّ البراغيثِ، كلِّ الطيورِ
وكل النباتاتِ
أن أتنسّمَ رائحةَ الفجرِ
في بلدتي الطّاهرهْ
ولا أنّ أشمّ شوارعَ يافا
وكرملَ حيفا
ولا شهقةَ الشمعِ في النّاصرهْ
فقد شرّدتني المراكبُ
في غربةِ العُمْرِ
أعمى أصمّ وأبكمَ
حتّى أعيشَ بلا ذاكرَهْ
2 ـ
خَشِيتُ الطفولةَ،
كانَ حليبُ الإعاشةِ
يملأُ أنفي بذاكرةِ الذُّلِّ
أذكرُ نوحَ البواكي عليَّ
كأن رياحَ النَّوى هبَّتِ البارِحَهْ
على مثلِ تلكَ الطّفولةِ،
يا جانُ،
تنتحبُ النَّائحَهْ
تفرّستُ ضوعَ الهَبَاءِ
أشمُّ خلايايَ
أرعبني أنْ أعيشَ بلا رائحَهْ
أنا الولدُ المتجذّر في عينِ ماهلَ
كيْفَ أعيشُ بلا عَبَقِ البيلَسَانْ؟
وهل نَزَعُوا من دمي نَرْجِسَ الرّامِ
كيلا تمرَّ على خاطري عَسْقلانْ؟
كأني بقايا دخَانْ...
أتذكُرُ يا صاحبي
حينَ جاءَكَ أخوتُكَ "الطّيبونَ"
لكي يكتُمُوا العطرَ فيكَ
لكي يسرقُوا فضّةَ الضَّوْءِ
مِنْ زُرْقَةِ الكَهْرَمَانْ؟
أما زلتَ تذكرُ رائحةَ الغيظِ
بينَ أصابِعِهم يا صديقْ؟
أنا لم أزلْ أتنشّقُ أصواتَهُم
حينَ دَسُّوا الخديعةَ
في كأسِ يعقوبَ
عاريةً مِنْ ظلالِ البريقْ
وظلّتْ روائحُ ذيّالك الجُبِّ
تنخَزُ روحي
ولكنّني ما ضَلَلْتُ الطّريقْ
3 ـ
توضأتُ إثرَ المكيدة من ماءِ عكّا
لجأت لذكرى المغارةِ في بيت لحمٍ
تنشّقْتُ رائحةَ الغارِ في التّيهِ
سبعَ سنينْ
لكي أَجْمَعَ العطرَ من غفوةِ الحالمينْ
وأختصرَ الرّاحَ في خمرةٍ
جمّعتها شفاهُ الأنينْ
مزجتُ أريجَ دمَ الشّهداءِ
برائحةِ الأرضِ
ثمّ دلفتُ إلى لوتَسٍ قد تناثَرَ
من روح جدّي
وحمّمتُ أيامَهُ البائساتِ
بعطرِ الخُزامى
وثمّة خُبيزةٌ في ضُّلوعِ اليتامَى
أضفتُ لها سوسناً
كي أقاربَ رائحةَ العشقِ
في شجرِ السّنديانْ
وجمّعت ضوعَ البنفسجِ
في نكهةِ الزعفرانْ
ولم أنسَ نفحةَ صفصافةٍ
نسيت ظلّها في اغتراب المكانْ

لديّ إذاً في دمي
وطنٌ من عبيرٍ
يطلُّ على صهوةِ الرّيحِ
من غيمةٍ جارحهْ
وما زلتُ أبحثُ
في جسدٍ أنهكته العواصفُ
عن حُزْنِ نايٍ يغنّي لرائحةِ الحزنِ
في دمعتي المالحَهْ


ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
(*) جان باتيست غرونوي: بطل رواية "العطر" التي كتبها الألماني باتريك زوسكند، نفّذ جرائم قتل متتالية ضدّ أجمل فتيات مدينة غراس؛ حتى يستخلص من أجسادهنّ أكثر العطور الطبيعية اكتمالاً .





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى