منى محمّد صالح - حلمٌ على حجرِ إسفين...

الصدى لا يصدر صوتاً، تمتم ياسين، وهو يسوق كلماته سباباً يحاصر الأشباح، خفافيش الظلام، رُماة الحصى السهام، الملوثين بوسمِ الفجيعة سوطاً يرتفع باعتدالٍ قاسٍ، على أشلاءِ حياة مؤجلة، ومواسمٍ لن تأتى أبداً!
الواحدة بعد منتصف الليل، الصمت والهدوء ينسابان ببطءٍ كفحيحِ أفعى عمياء، في أرجاء الغرفة الصغيرة، التي تحف جدرانها البيضاء لوحات مائية عُلقت بإهمالٍ، وعلى الجانب الآخر من الباب الموارب امتدت أرفف خشبية عريضة اكتظت بالكتب، وصندوق فارغ من ورق الكرتون القديم، كان بجانب السرير الوحيد في الغرفة، وقد وُضعت بداخلة بعض الصور ورسائل قديمة، وثمة ضوء من لمبة النيون كان يتسرب من رواق الممر الطويل المؤدى إلى غرفة المعيشة.
لا شيء يتنفس حيّز المكان، إلا من مجموعة متفرقة من السناجيب البريّة، تصدر أصواتاً متحشرجة بين الحين والآخر، تأتى من غابة الصنوبر الكثيفة التي تبعد بضعة أمتار من حديقة المنزل الصغير المعزول على سفح جبلٍ عالٍ في الساحل الغربي في بلدة ليون النرويجية، حيث برودة الشتاء تقتل حيتانها!
جلس، ياسين على كرسي هزاز قرب سياج المدفأة الحديدية المتّقدة، باسطاً قدميه في تراخٍ فاتر يلتمس الدفء، ينظر من زجاج النافذة العريضة في عزلته المنتقاة، ولا نديماً غير هذى السهول الثلجية البيضاء باتساعها اللانهائي، تمتد أمامه على مدِ البصر، وبقايا زجاجة قديمة يُعاقر مُرّها، وغربة خشوعها الموحشة.
تأرجح في قعدته، يرقب حركة الريح بالخارج وهي ترمى بأوراق الشجر اليابسة التي كانت تتساقط على أرضية الحديقة المُشذّبة بعنايةٍ مُمِلة، وكأن نجاراً صقّل جيدها. كان ياسين مستعداً للمساومةِ بخيباتٍ أخرى من إرثِ الشيطان، يخرج مارداً أحوص، يرمّم الريح، يغطى يُتم القصائد، والاحتمالات المخفوقة بارتدادِ الذات المضطربة، تحفها يد المنون، دون وداع ندِىٌ، أوعوسجة تنبري كعصا موسى، تأتيهم من خلف البحر باليابسة.. عسى ولعلَّ!
كان الحزن يعاود صحوّة الطازج، بخدر ٍلذيذ، يغيّب ملوحة وحدته، والبدايات الاُولى تتزاحم في بذخٍ متألق كزهرِ الحقول الربيعية، يرخى لقاؤهما الأخير ظلاً من الدُفلى*
- آه‍... ليتها الآن هنا، نحقق مُعجزات الله في الأرضِ!
كان شفق الفتها البرونزي يسرى كدفقٍ دافئ، يسترخى على تخومِ روح أنهكتها مواسم النزوح المنزلق، بحثاً عن محضِ مسافات، أو زمن يماثل في ضيائِه لون الشمس، من أولِ البحر إلى آخرِ الجبل، في بلادٍ يأسرها الفقد، انكسار الروح، وثنائية الوجع تتجمهر بين زمنين، تراود الأرواح، تمحو من العين والقلب بهجة الحياة.
بيني وبينُكِ آلاف القصائد
وارخبيلات* المدافن
بيننا زمرة عسكر..
واُغنيات الانتصار
حصار بلادٌ تُضمدُ جُرحها ليومٍ يأتي.. ولا يأتي!،
والليل هنا لا تومض أنجمه، ونحن ندور في فلكِ البقاء، تطحننا الرغبات الهاربة من مسالخِ الأجل المؤجل، والبحر يزحف نحونا، يملأ أعطافنا ماءٌ وطين، لغةٌ تفرُّ من صهيلها، تدوّن قائمة الأسماء في رتلِ المراثي ثم تهوى كجسدٍ في لُجّةِ القاع، يغطيها لزوجة الوحل الطحلبي.
أعرفُ أنني أسوق خيبتي بانكسار ينحدر مثلنا، خطاً استوائياً دون تلفُّتٍ حنون، يكفّن أثر الغائبين في سديمِ الحصار، وجلّادهُمُ يصطفون شاهدين على وزِرهُم، يراهنون على أحياءِ موتاهم.
كيف نخرج من استوائية المكان المُحتقَّنة بالخرابِ، ويأس الهاربين من نبشِ الهواء طلقاً، يحتضنون رمقهم الأخير في ذهولٍ صامت، يتبعهم ظلهم كأخيلةٍ تبرز من هياكل اَلْعَسَس والمدن المقفرة، إلى غربةِ الحِداد، وأنت تسكنين البحر دوني، مرقداً مخملياً، يغطيك وشاحك المزركش الليلي.
لا جدوى من المحاولة الان، والوخز هُنا يتصاعد بانبثاقٍ سافر للجرحِ!.
دعيني أغادر سجود مقلتيكِ
أطلق على سمائكِ الحمامات النوارس،
وفي القلبِ تنام اُغنيتي
يا مرآةً تشفُّ شغاف الوهن فيّ،
تغوص في سُرّةِ الجسد
كنواةٍ تنفلق إلى زُنبقتينِ مُختلفتين،
وتلتقيان في نزقٍ إلاهىٌ
لينمو كل هذا الجلالُ في قلبي!
ليت على الجدرانِ الآن ظِلكِ، يقيني من لسعة هذا الجنون الآيل للسقوطِ، ضجيج السكون داخلي، الوخيزات الخارجة من الجسد، وكأن المسامات فيها تغيّر دورة فرزها من ماءِ الملحُ إلى دمٍ.!
وأهتفُ باسمُكِ؛
مريماً،
من ليِّ غيرُكِ لـ أحِبّ،
وأعشقُ حُلماً، انفلت عقيقة في ذاكرةِ لقاؤنا الحلو الأخير؟
حاملاً طعم رائحة الحقول البعيدة هناك، طمي التراب على ضفاف نهر عنسبا!
أعيدي لدمِي بذور الساحل والسهل،
لأنمو نبياً أخضراً في هدبِ عينيكِ
كيف أنبّتنا الشوك بتولا،
مجدلية الندى، فرحاً خرافياً،
وامتطينا فرس الحلم،
ثم تركناه هُناك وحيداً
يلد أنجماً، لا تليق أن تنطفئ!
أحس، ياسين بقلبه ينسلخ من مكانه كقطنٍ مندوف، وتأكد أنه تأخر كثيراً في وداعها الذي حملته الأمواج بعيداً معها، لتبدأ الأشياء وتنتهي في مساحةِ زمنٍ واحد.
التقيا دون تخطيط مسبق، كانت الفكرة تنمو كعدوى محمومةِ السريان، تنتقل بسرعة إلى عُزلةِ الرؤوس المُطحنة بالشقاءِ، دون أن يدري أحد بأمر الآخر، أو بما يدور بخلدِه. الهروب من جحيم ساوا* معسكرا التجنيد الإجباري، السخّرة المطلية بالنكلِ العالق كنقّارِ الخشب في عقرِ الجحيم، عبودية الأقلقلوت* اللحَد، التي تسحق إنسانيتهم، تحصد دنوَّ العمر على مهلٍ، أحلامهم أفراح الصبا، الخوف الذي يسبر أغوار القبور، يقرع دابر الحياة نحو حوافِها المُسنّنة، ولا أحد يأمن ظله هناك!
الموت له شكلٌ واحد، تتعدد روائحه، فاختارا موتاً أرحم، مسكوناً بالغياب، مرهوناً بالموتِ وعطاياه، في رحيلٍ أحادي دون إياب.
وتدور كرنفالات الريح كأنها موسومة بالقدرِ، وجدا نفسيهما في حافلةٍ صغيرة، مكدّسة بالأجسادِ البشرية، المتراصة في تلاصقٍ محموم، والإعياءُ البادي على سيماءِ الوجوه الصغيرة ينطق بالقهرِ وفواصله المُوجعة، خواء الصمت العاوي في ضجة الرؤوس المثقلة، يهوى كوتدِ إسفين بين الحُلم واحتضار اللحظة الآتية.
تقاربت المسافة بينهما منذ الوهلةِ الأولى. كانا يقفان معاً على عتبةِ اُفقٍ، يبدو بعيداً بينهما، يبحثان عبثاً عن نهايته حيث التقيا في مركز الاحتجاز المؤقت، في مدينة طبرق* إلى حين ترحيلهم من جديد إلى سجن أجدابيا* على مشارف الحدود الصحراوية الليبية، بعد أن تمَّ اصطيادهم في رحلةِ بحثهم اليائسة عن سفينة نوح، ليلحقوا بركبها من كل زوجين إثنين، تعبر بهم مياه البحر المتوسط، حيث جنة الله الموعودة بغربة الروح في غيبوبةِ تمَامِها السحيق.
وسّع لها مكاناً بجانبه، والأجساد تتدافع بتعبٍ واضح مع حركة الحافلة وهي تشق سكون الطريق الساحلي الليبي المقفر في طريقها إلى سجن أجدابيا.
ألقى عليها نظرة حانية، مُرحباً بها في حسرةٍ لم يفلح في إخفائها، راعه هول اليأس الذي يلفُّ ملامحها الوديعة متسائلاً:
- ما الذي أتى بها إلى هذا المكان اللعين؟
ابتلع مرارته، وكأنه يشفق على نفسه.
احتضنت عيناها الزهريتان ابتسامته الصغيرة التي ارتَّسمت على وجهه الأسمر النحيل، رغم مرارة المشهد:
- مرحبا، إسمي مريم.
ردّت عليه بصوت منخفض، أضاءت عيناها من جديد، وهِىَ تعدّل من وضع وشاحها المزركش الليلكي على خصلاتِ شعرها الناعم. نبضٌ رفيف علق بين الأنفاس المُتصاعدة بالقلقِ والخوفِ.
جلست بقربه والشبح يغادر ظله بينهما، استوائية المكان تحفر أخاديداً تخفف وطأها مثل نسيمٌ رطب، يفلت نبض اللغة الصامتة حدّ الاحتواء، ليبقيا معاً في حضرةِ غربتهما الموعودة بدلافين الختام.
استبدَّ بهما اليأس في رحلة المتاهات المسيجة بحصادٍ يتتالى عليهم بالتقسيط، وغيمٌ حزينٌ يطارد سرب فراشات المساء:
- لو كان لنا أجنحةً!
وتابعت مريم التحديق في سماءِ العدم، بعينين دامعتين لن يحس بهما إلّا الإنسان المهدود داخلها. تراخى الانكسار بأسداله السوداء عليها، لم يكن هُناك سوى الريح تحمل صدى صوتها الحزين في ارتدادٍ مقهور، وقبل أن تكمل دورة حزنها تجاسرت بالسؤال:
- ما الذي يجبرهم على القيامِ بهذا العمل البائس؟
وأضافت في تحدٍ جميل:
- إن اصطيادنا بهذا الامتهان المرهون بالقنصِ سوف يزيد بؤسهم شواهقاً من الإثم، ويُوحّد اُسطورة الجُرح الأصيل.
تجرع، ياسين ما تبقى من زجاجته الفارغة دفعةً واحدة، ومسح شفتيه الجافتين بطرفِ كمِ قميصه، كان دفء مريم الآسر يعمه، يتكاثف بالوجع المتبّل، مُلوحة تجتاح الداخل المُنهك، يتبعثر دون ترتيب، وهُوَ يتابع بحّلقته من زجاج النافذة العريضة.
كانت الريح تكنس آخر ما تبقى من أوراق الشجر المصفرّة اليابسة على أرضية الحديقة المسفّلتة، لتبدو أكثر لمعاناً وبؤساً من ذي قبل. وسفينة نوح تنوء بثقلها، تحتطب بالأسماءِ العابرة من تحت التراب، ولا دخانٌ سوى ظلام العالم الطافي من حولهما.
وكأني أسمعُ مطراً بالخارجِ يهطل، صوتُكِ الشجي، يأتيني حُنُوّاً عارياً:
- لا تفلتني... لا تفلتني!
يستنهضُ بُعداً مفقوداً، يشبه نُطفة الذكريات الغارقة في حميميتها كثيراً، وأنتِ تلوذين بى، أبعد من العينِ وأقرب إلى القلبِ.
كُنّا في عزلةٍ تامه، الماءُ يعلو نُواح الريح في تصادمها مع الأجساد المتناثرة على حوافِ الشهيق الأخير، ونحن نفتش عن أسماء من رحلوا، جثثاً تواجه قاتليها، غربان السماء السوداء تحلق فوقنا تنعق في انتظار اللحظة الحاسمة، للرقصِ على إيقاعاتِ العُرس الجماعي.
ترتادني الآن أسماء مُدنى الحزينة
ثقوباً من الضوء،
تحاور عيناي صوراً من الذاكرة
تشبه اسمُكِ
والراحلين إلى دَمِي
يستعدون الآن للرقص بين موجةٍ واُخرى!
بدا ياسين مرهقاً في ارتخاء الجسد المسجى داخله، وصفير الريح بالخارجِ يعصف به من كل الاتجاهات، لا بحر يتنفس فلق الصباح، أو طائر أسطوري يرفرف بيارقِ الأعلام البيضاء إيذاناً بعبور جنة الله الموعودة بغربةِ الروح.
احتضن جسدها المرتعش في آخر لحظة وداع قصير لم يكتمل، جرفته المياه بقوة معها، في محاولة يتيمة لإنقاذها والصعود معاً إلى خواءِ العالم المثقوب.
كان هذا مثل كابوسٍ حيّ ينوص في غيمةٍ عمياء، ويعود بهما إلى مخارجِ الأرواح لتخترق السماء والأرض، عباب البحر يكتسح اليابسة ليقبر الأخضر.. ولا أثر لعصا موسى!
ارتفع صوت مريم مرفرفاً في فضاءِ الغرفة الصامتة، بتشابكٍ صافٍ نضر، مثل عينيها الزهريتين، رؤى تبلورت داخله مُوحّدة وشاملة، لتتكوّر بجلالها تحت نير الدهشة التي اعترته.
بدأت أمامه أشجار الصنوبر من بعيد، وكأنها تحمل لون من ذهبِ الشمس، ساطعاً يشق ظلام عُزلته.
أحس ياسين بالنبضِِ الرفيف يحبو إليه دافئاً من جديد، وكأنها مريم هُناك، قد أقبلت والصباحُ في يدها.
تذّكر ظل الأرض في عينيها، مُلوحة ضحكهما تذوب بين أزقة الرمال والصدى، التماسهما للدفء معاً، عصافيرٌ صغيرة تفرد أجنحتها، تحلق باهية في عُلوِ سماءٍ زرقاء، مثل قلب ينضح نبضاً جديداً، يرشده إلى قبرِ شهيد، وحلم ينبت حبقاً على حجرِ إسفين!



- هوامش:
ـــــــــــــــ
• ساوا: مدينة تبعد 315 كلم عن العاصمة الأريتيرية أسمرا ومعقل لمعسكر الخدمة العسكرية الإجبارية.
• أقلقلوت: اسم يُطلق على الخدمة الوطنية الإلزامية.
الدُفلى: زهر نباتى من فصيلة الدّفْلِيات.
• أرخبيلات: إشارة إلى أرخبيل - الغولاغ، معسكرات السخّرة التي كشفت فظاعة المعتقلات السوفيتية.
• طبرق: مدينة ليبية تبعد عن طرابلس بمسافة تقدر بِـ 1500 كلم.
• أجدابيا: مدينة تقع شرق ليبيا يتمركز فيها سجن أجدابيا الجنائي.
• إسفين: لجمع أسافين، خشبة أو حديدة على شكلِ وَتدٍ غليظ الرأس تستعمل لفلقِ الخشب.

منى محمّد صالح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى