يُرجع الباحثون مبدأ الفصل بين الأنواع أو الأجناس الأدبية، في الأساس، إلى أرسطو، فقد كان “يلاحظ في عصره وعلى ضوء الأدب اليوناني القديم، أنَّ فنون الأدب ينفصل بعضها عن بعض انفصالاً تامًا، حتى لنراه يحوّل هذه الملاحظة إلى قاعدة عامة أخذ بها الكلاسيكيون في القرن السابع عشر الميلادي، وأصبحت من المبادئ الرئيسية للمذهب الكلاسيكي الذي كان إنتاجه أوضح وأكبـر ما يكون في فنون المسرح الشعري” (1). بيد أنَّ هذا المبدأ تعرّض لهجوم عنيف من الرومانسيين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، معتمدين على مسرح شكسبير الذي لم يعترف بالفصل بين التراجيديا والكوميديا، وظل هذا الهجوم متواصلاً حتى بلغ ذروته عند الإيطالي بنيديتو كروشه (Benedetto Croce)، وفي هذا قال الناقد كارلو كاسولا (Carlo Cassola): “سادت نظريات بنيديتو كروشه الجمالية في إيطاليا خلال فترة ما بين الحربين. أحد المعتقدات الأساسية لتلك الجمالية هو رفض نظرية الأشكال أو الأجناس الأدبية. لقد تشاطرنا جميعًا هذه الفكرة؛ ولهذا فقد اقتنعنا بأنه لا يوجد فرق جوهري بين قصة قصيرة ورواية، حتى بين النثر والشعر”. (2)
وإذا كانت هذه المقولة دالة على وجود إجماع لدى النقاد على عدم التفرقة الجوهرية بين القصة القصيرة والرواية، فإنَّ من المهم أن نعي أنها – على فرض دقّتها –تتحدث عن النقاد في مدة زمنية ما، وهذه المدة سرعان ما تصرّمت وتصرّم معها هذا الإجماع، لنجد بعدها نقاداً يفرّقون بين هذين الفنّين ويعدّونهما نوعين أدبيين مختلفين وإن كانا سرديين، بل لنجد من النقاد من يذهب إلى أنَّ التفرقة بين هذين النوعين هي من القضايا البَدَهية الواضحة، فـ”يختلف فن القصة عن الروايات والملاحم كاختلافها عن دردشة الهاتف” (3).
العلاقة بين القصة القصيرة والرواية، إذن، لم تكن، على امتداد تاريخهما الأدبي، علاقةً سطحية ذات بُعد أحادي واضح، وإنما هي علاقة إشكالية تتراوح بين الالتقاء والانفصال في الجوهر. لكن هذا كله حين نتحدث عن هذه العلاقة من منظور النقد الأدبي والنقاد، فماذا إذا أردنا أن نتحدث من منظور الكتابة الإبداعية والمبدعين الأدباء؟
نود أن نعرض في هذه الدراسة لهذا الجانب تحديدًا، فنتعرف علاقة القصة القصيرة العمانية المعاصرة بعالم الرواية، فهل سعت هذه القصة لمقاربة هذا العالم أو الالتقاء به في أي صورة من الصور؟
سنحاول أن نجيب اعتمادًا على مجموعة هلال البادي المعنونة: “لا يجب أن تبدو كرواية!” على أن تتبعها بعدئذ مجموعات عمانية أخرى نضعها تحت المجهر للاختبار، لتكون الصورة أقرب إلى التكامل.
إننا هنا أمام نتاج إبداعي يحمل عنوانًا ثانويًا صغيرًا هو “قصص”، وهو يحمل لقارئه دلالةً على أنه مقبل على قراءة مجموعة من القصص القصيرة جُمعت في إصدار واحد وفق العادة المتبعة بين الأدباء. لكن هذا العنوان الثانوي يعلوه عنوان رئيسي غير مألوف، هو: “لا يجب أن تبدو كرواية!” (4)، وهو يجأر بأنَّ المؤلف هلالاً البادي ينطلق في تجربته الإبداعية المتمثلة في هذا النتاج الأدبي من وعي حاد بالاختلاف النوعي الأدبي بين القصة القصيرة والرواية؛ لذا كان لزاماً على مجموعته القصصية هذه ألاّ تظهر للقراء في صورة رواية، مهما بدا هذا الأمر – بدلالة علامة التعجب الموضوعة في نهاية العنوان – غريباً غير مألوف.
وإذا أراد القارئ أن يتقدم لقراءة القصص، قابله الفهرست الذي يحمل عنوانًا لا يقلّ غرابة: “القصص حيث لن تبدو كرواية”. كتابة محتويات هذا الإصدار الأدبي في صورة قصص متفرقة هي التي تتكفل بمنع ظهورها في صورة رواية، هكذا هي دلالة عنوان الفهرست، ولولا هذا التقسيم الشكلي لكان هذا الإصدار رواية، أو أقرب ما يكون إليها.
إننا، إذن، أمام عمل أدبي يسعى مبدعه إلى جعله منتميًا، إلى القصة القصيرة، لكنه يحمل في داخله هاجساً واضحاً بأنَّ عمله هذا وثيق الصلة بالرواية، وبأنه إن لم يتولّ القيام بإجراءات تحول دون الولوج في عالم الرواية لصار عمله روائيًا، أو كاد. الاختلاف النوعي في المستوى النظري عند المؤلف لا يترافق، إذن، مع اختلاف في المستوى الفعلي التطبيقي بين القصة القصيرة والرواية؛ ولهذا تكون هذه القصص القصيرة عرضة لأن تغدو رواية! وهنا ينبري أمامنا السؤال الملحّ الذي لا محيص عن التوقف لديه: ما الأسباب التي تجعل قصص هذه المجموعة القصصية شديدة الاتصال بعالم الرواية؟ وبعبارة أخرى: هل يجد قارئ هذه المجموعة القصصية نفسه أمام سمات أدبية فنية هي إلى الرواية أقرب منها إلى القصة القصيرة؟
إنَّ هذه الدراسة محاولة للإجابة عن هذا السؤال، وهي بهذا تسعى إلى ملاحقة أهم ملامح إشكالية التداخل بين القصة القصيرة والرواية وفق ظهورها في “لا يجب أن تبدو كرواية!”.
أسباب الإشكالية:
يمكن لقارئ هذا الإصدار الأدبي أن يلحظ فيه هذه السمات التي من شأنها أن تجعله وثيق الصلة بعالم الرواية:
1- كثرة الأحداث والتفصيلات والتعليلات، “فالقصة تتضمن – عادة – حادثة واحدة، تدور حول شخصية أو أشخاص معدودين، أما الرواية فتقوم على حادثة أساسية واحدة، تتفرع عنها حوادث أخرى” (5)، وبتعبير آخر: إنَّ القصة القصيرة “يجب أن تكون أكثر تركيزًا، ويمكنها أن تكون أكثر خيالية، ولا تثقلها (كما تجبر الرواية) الحقائق والتوضيح والتحليل” (6).
يلحظ قارئ “لا يجب أن تبدو كرواية!” أنَّ القصة القصيرة الواحدة قد تشتمل على حدث رئيس تتفرع عنه حوادث أخرى، ففي القصة الأولى “هي ليست كل الحكاية” من الملاحظ أنَّ ثمة حدثًا مركزيًا هو موت الشخصية الرئيسة، ثم هناك أحداث جزئية كثيرة، ترتبط بحياته وعلاقاته ونوع الحياة التي كان يحياها ثم سبب موته وما يرتبط به. ولمّا كان المؤلـف واعيًا بأنَّ القصة القصيـرة “جنس أدبي محكـم لا يسمح بالفضول أو التزيد” (7)، دعاه هذا إلى أن يتدخل بحزم، صارخًا:
“لا لا لا، لا يجب أن تبدو كرواية! إنها قصة قصيرة فحسب!” (8).
هنا تواجهنا الجملة التي اتخذتها المجموعة القصصية عنوانًا لها، دون أن تكون عنوانًا لقصة معينة من قصصها. إنها جملة دالة على وعي المؤلف بأنَّ قصته تشتمل على تفصيلات كثيرة، من شأنها أن تقودها إلى عالم الرواية، ومع هذا فقد بقيت هذه التفصيلات، وما أدى تدخل المؤلف إلا إلى مزيد منها!
والشيء نفسه يستطيع القارئ أن يجده في قصص أخرى أيضًا، كقصة “حادث” مثلاً (9)، ففيها حدث مركزي هو حادث تصادم بين سيارتين، وفيها أحداث جزئية وتفصيلات منوعة ترتبط بالواقع النفسي الذي كانت تعيشه الشخصية الرئيسة، وما في هذا الواقع من معاناة عاطفية مع المرأة التي أرادها شريكة لحياته. وفي قصة “إهانة” (10)، نحن أمام مدير متسلّط يكرهه موظفوه أشد ما يكون الكره، وهذه الكراهة تجعل كلاً منهم يرسم لنفسه مخططًا خاصًا به لأجل إهانة مديره هذا، ومن هنا تدخل بنا القصة في قضايا وتفصيلات صغرى مختلفة.
2- قسمة القصة الواحدة مقاطع ذوات عنوانات مختلفة، وقد تبدو هذه السمة جزئية يسيرة، لا تتجاوز الشكل الأدائي الظاهر، لكنها في حقيقتها ذات دلالة كبيرة وواضحة، فالأصل في القصة القصيرة أن تكون وحدة واحدة ملتئمة شكلاً ومضمونًا، “وهذا هو أول مستلزمات القصة، أي أن الخبر الذي ترويه يجب أن تتصل تفاصيله أو أجزاؤه بعضها مع البعض بحيث يكون لمجموعها أثرًا (كذا) أو معنى كليًا” (11)، وهذا يستدعي في الحقيقة أن تكتب في صورة نص لا تبدو له أجزاء منفصلة تحتاج إلى ما يربط بينها. بيد أننا نجد في “لا يجب أن تبدو كرواية!” قصصًا تتكون الواحدة منها من مجموعة من المقاطع المنفصلة التي يحمل كل منها عنوانًا مختلفًا أو رقمًا منفصلاً، كما هي الحال في القصص الآتية: من حكايات الرمل والريح، وحادث، وعلى مربعات ممشى رمادي، وفي الغد، وإهانة، وطراوة جرح. وهذا يجعل هذه القصص أقرب إلى أن تكون – في شكلها الظاهر –روايات تحمل في داخلها فصولاً ذوات عناوين أو أرقام مختلفة.
3- بطء حركة السرد أو غيابها أحيانًا، تشترك القصة القصيرة مع الرواية في أهمية السرد بالنسبة لكل منهما، فنحن “نتفق جميعًا على أن ركن الرواية الرئيس هو السرد القصصي” (12)، وكذلك الحال فيما يتعلق بالقصة القصيرة. بيد أنَّ اتصاف الرواية، عادةً، بالطول والاتساع يجعل كاتبها في مندوحة من أمره تعطيه المجال رحبًا لأنْ يبطئ من سرعة حركة السرد، أو لأنْ يوقفها في بعض جوانب الرواية إن أراد، وليس كذلك الأمر مع القصة القصيرة، فهذه تُعرف بالإيجاز والقصر، فليس أمامها إلا أن تجعل السرد يتحرك ليوصل القارئ إلى المقصد في غير ما مكث أو تأخير.
إنَّ قارئ “لا يجب أن تبدو كرواية!” قد يشعر بأنَّ المؤلف يتعمد أن يبطئ من حركة سرد الأحداث أحيانًا، وربما تغيب هذه الحركة غيابًا تامًا في أحيان أخرى، فتستحيل القصة خواطر وأفكارًا وهواجس متفرقة، وهذا يجعل القصص وثيقة الشبه من جهة السرد بالروايات.
وإذا أراد القارئ أن يلتمس سببًا أو أسبابًا لما انتاب حركة السرد من بطء أو غياب، فإنه واجدٌ بعض ذلك في مدى رغبة المؤلف في نقل تأملات الشخوص القصصية وخلجاتها النفسية ذات الطابع الشعري، كما هي الحال في قصة “من حكايات الرمل والريح” – وهي لا حكاية فيها بالمعنى المتعارف على الرغم من عنوانها الخادع –وكذلك الأمر مع قصة “أدوار” ذات السرد الخافت الذي يكاد لا يبين.
وواضح أنَّ إلحاح المؤلف على نقل ما في نفوس الشخصيات من أفكار وخواطر (مونولوج) منبجس من رغبته الوثيقة في تحليل هذه الشخصيات والكشف عن دواعي سلوكها، لكن هذا الصنيع إنما يناسب الرواية؛ ذلك أنَّ “الروائي يهيمن على الحياة السرية كلها” (13)، أما القصة القصيرة فهي لا تحتاج إلى كل هذا الاستغراق النفسي والاستبطان التحليلي الذي يبطئ السرد أو يلغيه، بل إنَّ من النقاد من يميل إلى التفريط كثيرًا في هذا الجانب فيقول: “لا أشعر أن القصة القصيرة يمكن أو يجب أن تستخدم في تحليل الشخصية أو تطويرها، إن الصورة المتكاملة عمل أكثر ملاءمة للروائي” (14).
وقد تطغى هذه الرغبة الجامحة في التحليل النفسي على المؤلف فتجره إلى الوقوع في شَرَك التقريرية والمباشرة، فيجد القارئ أمامه عبارات وجملاً تثقل القصة بحكم ومواعظ وإرشادات ليس لها ما يسّوغها، من مثل:
“أصبحت الحاجة يا عزيزي هي من يحوجنا لبعضنا البعض (كذا)، هي من يجعلنا نتزاور ونتعارف ونضحك في وجوه بعضنا البعض (كذا) دون ابتسام حقيقي… نرسم الضحكة ونزيف وجوهنا لكي ننول (كذا) ما نريده لهذه التي لا تسمى… ولذلك لا عجب يا رفيقي أن غالبنا صار يتقن حرفة التمثيل أكثر من الممثلين أنفسهم…” (15).
ولعل من أسباب بطء حركة السرد أو غيابها أيضًا، ميل المؤلف أحيانًا إلى الوصف. والوصف – بطبيعته –يستلزم التوقف عن السرد، فهو “يشكل استراحة في وسط الأحداث السردية” (16). نجد مثل هذا الوصف في القصة الأولى “هي ليست كل الحكاية” :
“كنت في عالم بائس: دخان يملأ المكان، ضوضاء تغلفه صبح مساء، قاذفات يحمن في الأجواء، صافرات، سافرات، هتك، خنادق تحفر ويكثر أمثالي آنذاك… (17).
كما نجده أيضًا في قصة “ليلة ثم القبض علينا”:
“كانت بزته العسكرية ممزقة وملطخة بكثير من الوحل الدامي، قاتمة كالإشارة الحمراء التي أفقنا عليها آنذاك! إشارة لونها صارخ عادة، لكنها اليوم تذكر بالدم فقط، ومملوءة بالقتامة من أثر الأيام والريح الغابرة…” (18).
إنَّ من الواضح في المثالين المتقدمين أنَّ الكاتب لا يأتي بأوصافه جزافًا، أو لإضفاء مسحة من الواقعية عليها، أو لملء فراغ ما، فأوصافه، في الغالب، تأتي لخدمة بنية القصة وإيضاح شيء مما يرتبط بالشخصية أو الحدث أو الحبكة. لكنَّ كون الوصف ذا وظيفة خاصة في القصة لا يتنافى مع كونه مؤديًا إلى إيقاف حركة السرد أو إبطائها في أقل تقدير (19).
_____________
الهوامش :
(1) محمد مندور: الأدب وفنونه، دار المطبوعات العربية، بيروت، د.ت، ص20.
(2) سوزان لوهافر: الاعتراف بالقصة القصيرة، ترجمة محمد نجيب لفتة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1990م، ص25.
(3) المرجع نفسه، ص20.
(4) هلال البادي: لا يجب أن تبدو كرواية!، وزارة التراث والثقافة، مسقط، 2006م.
(5) عزيزة مريدن: القصة والرواية، دار الفكر، دمشق، 1980م، ص73.
(6) سوزان لوهافر: الاعتراف بالقصة القصيرة، ص21.
(7) الطاهر أحمد مكي: القصة القصيرة، دراسة ومختارات، ط2، دار المعارف، القاهرة، 1978م، ص75.
(8) هلال البادي: لا يجب، ص17.
(9) م.ن، ص33-38.
(10) م.ن، ص63-67.
(11) رشاد رشدي: فن القصة القصيرة، ط3، دار العودة، بيروت، 1984م، ص17.
(12) إ.م. فورستر: أركان الرواية، ترجمة موسى عاصي، جروس برس، طرابلس، لبنان، 1994م، ص23.
(13) م.ن، ص66.
(14) سوزان لوهافر: الاعتراف، ص21، وهي تنقل هذا عن إليزابيث بووين.
(15) هلال البادي: لا يجب، ص30.
(16) حميد لحمداني: بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، ط2، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، 1993م، ص79.
(17) هلال البادي: لا يجب، ص14.
(18) م.ن، ص46.
(19) ومن هنا قد لا نتفق مع العبارة القائلة: “فالأوصاف في القصة لا تصاغ لمجرد الوصف، بل لأنها تساعد الحدث على التطور، لأنها في الواقع جزء من الحدث نفسه” (رشاد رشدي: فن القصة القصيرة، ص97).
فكون الأوصاف تساعد الحدث لا يعني كونها جزءًا من الحدث نفسه، بل إنَّ مفعولها مضاد لمفعوله ومعارض له. وبعبارة أخرى: الأوصاف قد تعمل على كشف جوانب قاتمة أو غائمة من الحدث، لكنها في الوقت نفسه تبطئ من سيرورة حركته الخارجية.
_______
د.إحسان بن صادق اللواتي
أستاذ مشارك في قسم اللغة العربية وآدابها كلية الآداب والعلوم الاجتماعية جامعة السلطان قابوس
* نشر في الوطن - عمان
وإذا كانت هذه المقولة دالة على وجود إجماع لدى النقاد على عدم التفرقة الجوهرية بين القصة القصيرة والرواية، فإنَّ من المهم أن نعي أنها – على فرض دقّتها –تتحدث عن النقاد في مدة زمنية ما، وهذه المدة سرعان ما تصرّمت وتصرّم معها هذا الإجماع، لنجد بعدها نقاداً يفرّقون بين هذين الفنّين ويعدّونهما نوعين أدبيين مختلفين وإن كانا سرديين، بل لنجد من النقاد من يذهب إلى أنَّ التفرقة بين هذين النوعين هي من القضايا البَدَهية الواضحة، فـ”يختلف فن القصة عن الروايات والملاحم كاختلافها عن دردشة الهاتف” (3).
العلاقة بين القصة القصيرة والرواية، إذن، لم تكن، على امتداد تاريخهما الأدبي، علاقةً سطحية ذات بُعد أحادي واضح، وإنما هي علاقة إشكالية تتراوح بين الالتقاء والانفصال في الجوهر. لكن هذا كله حين نتحدث عن هذه العلاقة من منظور النقد الأدبي والنقاد، فماذا إذا أردنا أن نتحدث من منظور الكتابة الإبداعية والمبدعين الأدباء؟
نود أن نعرض في هذه الدراسة لهذا الجانب تحديدًا، فنتعرف علاقة القصة القصيرة العمانية المعاصرة بعالم الرواية، فهل سعت هذه القصة لمقاربة هذا العالم أو الالتقاء به في أي صورة من الصور؟
سنحاول أن نجيب اعتمادًا على مجموعة هلال البادي المعنونة: “لا يجب أن تبدو كرواية!” على أن تتبعها بعدئذ مجموعات عمانية أخرى نضعها تحت المجهر للاختبار، لتكون الصورة أقرب إلى التكامل.
إننا هنا أمام نتاج إبداعي يحمل عنوانًا ثانويًا صغيرًا هو “قصص”، وهو يحمل لقارئه دلالةً على أنه مقبل على قراءة مجموعة من القصص القصيرة جُمعت في إصدار واحد وفق العادة المتبعة بين الأدباء. لكن هذا العنوان الثانوي يعلوه عنوان رئيسي غير مألوف، هو: “لا يجب أن تبدو كرواية!” (4)، وهو يجأر بأنَّ المؤلف هلالاً البادي ينطلق في تجربته الإبداعية المتمثلة في هذا النتاج الأدبي من وعي حاد بالاختلاف النوعي الأدبي بين القصة القصيرة والرواية؛ لذا كان لزاماً على مجموعته القصصية هذه ألاّ تظهر للقراء في صورة رواية، مهما بدا هذا الأمر – بدلالة علامة التعجب الموضوعة في نهاية العنوان – غريباً غير مألوف.
وإذا أراد القارئ أن يتقدم لقراءة القصص، قابله الفهرست الذي يحمل عنوانًا لا يقلّ غرابة: “القصص حيث لن تبدو كرواية”. كتابة محتويات هذا الإصدار الأدبي في صورة قصص متفرقة هي التي تتكفل بمنع ظهورها في صورة رواية، هكذا هي دلالة عنوان الفهرست، ولولا هذا التقسيم الشكلي لكان هذا الإصدار رواية، أو أقرب ما يكون إليها.
إننا، إذن، أمام عمل أدبي يسعى مبدعه إلى جعله منتميًا، إلى القصة القصيرة، لكنه يحمل في داخله هاجساً واضحاً بأنَّ عمله هذا وثيق الصلة بالرواية، وبأنه إن لم يتولّ القيام بإجراءات تحول دون الولوج في عالم الرواية لصار عمله روائيًا، أو كاد. الاختلاف النوعي في المستوى النظري عند المؤلف لا يترافق، إذن، مع اختلاف في المستوى الفعلي التطبيقي بين القصة القصيرة والرواية؛ ولهذا تكون هذه القصص القصيرة عرضة لأن تغدو رواية! وهنا ينبري أمامنا السؤال الملحّ الذي لا محيص عن التوقف لديه: ما الأسباب التي تجعل قصص هذه المجموعة القصصية شديدة الاتصال بعالم الرواية؟ وبعبارة أخرى: هل يجد قارئ هذه المجموعة القصصية نفسه أمام سمات أدبية فنية هي إلى الرواية أقرب منها إلى القصة القصيرة؟
إنَّ هذه الدراسة محاولة للإجابة عن هذا السؤال، وهي بهذا تسعى إلى ملاحقة أهم ملامح إشكالية التداخل بين القصة القصيرة والرواية وفق ظهورها في “لا يجب أن تبدو كرواية!”.
أسباب الإشكالية:
يمكن لقارئ هذا الإصدار الأدبي أن يلحظ فيه هذه السمات التي من شأنها أن تجعله وثيق الصلة بعالم الرواية:
1- كثرة الأحداث والتفصيلات والتعليلات، “فالقصة تتضمن – عادة – حادثة واحدة، تدور حول شخصية أو أشخاص معدودين، أما الرواية فتقوم على حادثة أساسية واحدة، تتفرع عنها حوادث أخرى” (5)، وبتعبير آخر: إنَّ القصة القصيرة “يجب أن تكون أكثر تركيزًا، ويمكنها أن تكون أكثر خيالية، ولا تثقلها (كما تجبر الرواية) الحقائق والتوضيح والتحليل” (6).
يلحظ قارئ “لا يجب أن تبدو كرواية!” أنَّ القصة القصيرة الواحدة قد تشتمل على حدث رئيس تتفرع عنه حوادث أخرى، ففي القصة الأولى “هي ليست كل الحكاية” من الملاحظ أنَّ ثمة حدثًا مركزيًا هو موت الشخصية الرئيسة، ثم هناك أحداث جزئية كثيرة، ترتبط بحياته وعلاقاته ونوع الحياة التي كان يحياها ثم سبب موته وما يرتبط به. ولمّا كان المؤلـف واعيًا بأنَّ القصة القصيـرة “جنس أدبي محكـم لا يسمح بالفضول أو التزيد” (7)، دعاه هذا إلى أن يتدخل بحزم، صارخًا:
“لا لا لا، لا يجب أن تبدو كرواية! إنها قصة قصيرة فحسب!” (8).
هنا تواجهنا الجملة التي اتخذتها المجموعة القصصية عنوانًا لها، دون أن تكون عنوانًا لقصة معينة من قصصها. إنها جملة دالة على وعي المؤلف بأنَّ قصته تشتمل على تفصيلات كثيرة، من شأنها أن تقودها إلى عالم الرواية، ومع هذا فقد بقيت هذه التفصيلات، وما أدى تدخل المؤلف إلا إلى مزيد منها!
والشيء نفسه يستطيع القارئ أن يجده في قصص أخرى أيضًا، كقصة “حادث” مثلاً (9)، ففيها حدث مركزي هو حادث تصادم بين سيارتين، وفيها أحداث جزئية وتفصيلات منوعة ترتبط بالواقع النفسي الذي كانت تعيشه الشخصية الرئيسة، وما في هذا الواقع من معاناة عاطفية مع المرأة التي أرادها شريكة لحياته. وفي قصة “إهانة” (10)، نحن أمام مدير متسلّط يكرهه موظفوه أشد ما يكون الكره، وهذه الكراهة تجعل كلاً منهم يرسم لنفسه مخططًا خاصًا به لأجل إهانة مديره هذا، ومن هنا تدخل بنا القصة في قضايا وتفصيلات صغرى مختلفة.
2- قسمة القصة الواحدة مقاطع ذوات عنوانات مختلفة، وقد تبدو هذه السمة جزئية يسيرة، لا تتجاوز الشكل الأدائي الظاهر، لكنها في حقيقتها ذات دلالة كبيرة وواضحة، فالأصل في القصة القصيرة أن تكون وحدة واحدة ملتئمة شكلاً ومضمونًا، “وهذا هو أول مستلزمات القصة، أي أن الخبر الذي ترويه يجب أن تتصل تفاصيله أو أجزاؤه بعضها مع البعض بحيث يكون لمجموعها أثرًا (كذا) أو معنى كليًا” (11)، وهذا يستدعي في الحقيقة أن تكتب في صورة نص لا تبدو له أجزاء منفصلة تحتاج إلى ما يربط بينها. بيد أننا نجد في “لا يجب أن تبدو كرواية!” قصصًا تتكون الواحدة منها من مجموعة من المقاطع المنفصلة التي يحمل كل منها عنوانًا مختلفًا أو رقمًا منفصلاً، كما هي الحال في القصص الآتية: من حكايات الرمل والريح، وحادث، وعلى مربعات ممشى رمادي، وفي الغد، وإهانة، وطراوة جرح. وهذا يجعل هذه القصص أقرب إلى أن تكون – في شكلها الظاهر –روايات تحمل في داخلها فصولاً ذوات عناوين أو أرقام مختلفة.
3- بطء حركة السرد أو غيابها أحيانًا، تشترك القصة القصيرة مع الرواية في أهمية السرد بالنسبة لكل منهما، فنحن “نتفق جميعًا على أن ركن الرواية الرئيس هو السرد القصصي” (12)، وكذلك الحال فيما يتعلق بالقصة القصيرة. بيد أنَّ اتصاف الرواية، عادةً، بالطول والاتساع يجعل كاتبها في مندوحة من أمره تعطيه المجال رحبًا لأنْ يبطئ من سرعة حركة السرد، أو لأنْ يوقفها في بعض جوانب الرواية إن أراد، وليس كذلك الأمر مع القصة القصيرة، فهذه تُعرف بالإيجاز والقصر، فليس أمامها إلا أن تجعل السرد يتحرك ليوصل القارئ إلى المقصد في غير ما مكث أو تأخير.
إنَّ قارئ “لا يجب أن تبدو كرواية!” قد يشعر بأنَّ المؤلف يتعمد أن يبطئ من حركة سرد الأحداث أحيانًا، وربما تغيب هذه الحركة غيابًا تامًا في أحيان أخرى، فتستحيل القصة خواطر وأفكارًا وهواجس متفرقة، وهذا يجعل القصص وثيقة الشبه من جهة السرد بالروايات.
وإذا أراد القارئ أن يلتمس سببًا أو أسبابًا لما انتاب حركة السرد من بطء أو غياب، فإنه واجدٌ بعض ذلك في مدى رغبة المؤلف في نقل تأملات الشخوص القصصية وخلجاتها النفسية ذات الطابع الشعري، كما هي الحال في قصة “من حكايات الرمل والريح” – وهي لا حكاية فيها بالمعنى المتعارف على الرغم من عنوانها الخادع –وكذلك الأمر مع قصة “أدوار” ذات السرد الخافت الذي يكاد لا يبين.
وواضح أنَّ إلحاح المؤلف على نقل ما في نفوس الشخصيات من أفكار وخواطر (مونولوج) منبجس من رغبته الوثيقة في تحليل هذه الشخصيات والكشف عن دواعي سلوكها، لكن هذا الصنيع إنما يناسب الرواية؛ ذلك أنَّ “الروائي يهيمن على الحياة السرية كلها” (13)، أما القصة القصيرة فهي لا تحتاج إلى كل هذا الاستغراق النفسي والاستبطان التحليلي الذي يبطئ السرد أو يلغيه، بل إنَّ من النقاد من يميل إلى التفريط كثيرًا في هذا الجانب فيقول: “لا أشعر أن القصة القصيرة يمكن أو يجب أن تستخدم في تحليل الشخصية أو تطويرها، إن الصورة المتكاملة عمل أكثر ملاءمة للروائي” (14).
وقد تطغى هذه الرغبة الجامحة في التحليل النفسي على المؤلف فتجره إلى الوقوع في شَرَك التقريرية والمباشرة، فيجد القارئ أمامه عبارات وجملاً تثقل القصة بحكم ومواعظ وإرشادات ليس لها ما يسّوغها، من مثل:
“أصبحت الحاجة يا عزيزي هي من يحوجنا لبعضنا البعض (كذا)، هي من يجعلنا نتزاور ونتعارف ونضحك في وجوه بعضنا البعض (كذا) دون ابتسام حقيقي… نرسم الضحكة ونزيف وجوهنا لكي ننول (كذا) ما نريده لهذه التي لا تسمى… ولذلك لا عجب يا رفيقي أن غالبنا صار يتقن حرفة التمثيل أكثر من الممثلين أنفسهم…” (15).
ولعل من أسباب بطء حركة السرد أو غيابها أيضًا، ميل المؤلف أحيانًا إلى الوصف. والوصف – بطبيعته –يستلزم التوقف عن السرد، فهو “يشكل استراحة في وسط الأحداث السردية” (16). نجد مثل هذا الوصف في القصة الأولى “هي ليست كل الحكاية” :
“كنت في عالم بائس: دخان يملأ المكان، ضوضاء تغلفه صبح مساء، قاذفات يحمن في الأجواء، صافرات، سافرات، هتك، خنادق تحفر ويكثر أمثالي آنذاك… (17).
كما نجده أيضًا في قصة “ليلة ثم القبض علينا”:
“كانت بزته العسكرية ممزقة وملطخة بكثير من الوحل الدامي، قاتمة كالإشارة الحمراء التي أفقنا عليها آنذاك! إشارة لونها صارخ عادة، لكنها اليوم تذكر بالدم فقط، ومملوءة بالقتامة من أثر الأيام والريح الغابرة…” (18).
إنَّ من الواضح في المثالين المتقدمين أنَّ الكاتب لا يأتي بأوصافه جزافًا، أو لإضفاء مسحة من الواقعية عليها، أو لملء فراغ ما، فأوصافه، في الغالب، تأتي لخدمة بنية القصة وإيضاح شيء مما يرتبط بالشخصية أو الحدث أو الحبكة. لكنَّ كون الوصف ذا وظيفة خاصة في القصة لا يتنافى مع كونه مؤديًا إلى إيقاف حركة السرد أو إبطائها في أقل تقدير (19).
_____________
الهوامش :
(1) محمد مندور: الأدب وفنونه، دار المطبوعات العربية، بيروت، د.ت، ص20.
(2) سوزان لوهافر: الاعتراف بالقصة القصيرة، ترجمة محمد نجيب لفتة، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1990م، ص25.
(3) المرجع نفسه، ص20.
(4) هلال البادي: لا يجب أن تبدو كرواية!، وزارة التراث والثقافة، مسقط، 2006م.
(5) عزيزة مريدن: القصة والرواية، دار الفكر، دمشق، 1980م، ص73.
(6) سوزان لوهافر: الاعتراف بالقصة القصيرة، ص21.
(7) الطاهر أحمد مكي: القصة القصيرة، دراسة ومختارات، ط2، دار المعارف، القاهرة، 1978م، ص75.
(8) هلال البادي: لا يجب، ص17.
(9) م.ن، ص33-38.
(10) م.ن، ص63-67.
(11) رشاد رشدي: فن القصة القصيرة، ط3، دار العودة، بيروت، 1984م، ص17.
(12) إ.م. فورستر: أركان الرواية، ترجمة موسى عاصي، جروس برس، طرابلس، لبنان، 1994م، ص23.
(13) م.ن، ص66.
(14) سوزان لوهافر: الاعتراف، ص21، وهي تنقل هذا عن إليزابيث بووين.
(15) هلال البادي: لا يجب، ص30.
(16) حميد لحمداني: بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، ط2، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء، 1993م، ص79.
(17) هلال البادي: لا يجب، ص14.
(18) م.ن، ص46.
(19) ومن هنا قد لا نتفق مع العبارة القائلة: “فالأوصاف في القصة لا تصاغ لمجرد الوصف، بل لأنها تساعد الحدث على التطور، لأنها في الواقع جزء من الحدث نفسه” (رشاد رشدي: فن القصة القصيرة، ص97).
فكون الأوصاف تساعد الحدث لا يعني كونها جزءًا من الحدث نفسه، بل إنَّ مفعولها مضاد لمفعوله ومعارض له. وبعبارة أخرى: الأوصاف قد تعمل على كشف جوانب قاتمة أو غائمة من الحدث، لكنها في الوقت نفسه تبطئ من سيرورة حركته الخارجية.
_______
د.إحسان بن صادق اللواتي
أستاذ مشارك في قسم اللغة العربية وآدابها كلية الآداب والعلوم الاجتماعية جامعة السلطان قابوس
* نشر في الوطن - عمان